الفصيحة العجما في الكلام على حديث "أحبب حبيبك هوناً ما"
تاليف الشيخ الأديب
أحمد بن عبد اللطيف البربير الحسني البيروتي
( ١١٦٠- ١٢٢٦ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذه رسالة لطيفة، اشتملت على معانٍ شريفة، بيَّن فيها مؤلفها معنى هذا الأثر النبوي، فأظهر فصاحته، ووشحه بالنثر والشعر والنكت، وحلّاهُ بجميل الآثار والقصص، وجعل شرحه له على أبواب اللغة والنحو والأدب، فتراه يرقى في مدارج المحبين، وأخرى يسير على طريقة الأدباء، وأخرى على نهج المتكلمين، وجاء بالخاتمة على طريقة المُحدِّثين، ولا يخلو الكتاب من نظر.
الحديث رواية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا»
-------------------
تخريج الحديث (انظر ص 7 - 9)، وخلاصته:
ورد هذا الحديث من رواية أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعلي وموقوفاً عليه وعبدالله بن عمر، رضي الله عنهم جميعاً، ومن مرسل زيد بن أسلم.
أ- أما حديث أبي هريرة :
فقد أخرجه الترمذي في الجامع (٤/ ٣٦٠)، برقم (١٩٩٧) ، وتمام في فوائده (١٥٤٥) ، وابن حبان في المجروحين (١/ ٣٤٧) ، وابن عدي في الكامل (٢ / ٧١٢)، والبيهقي في الشعب ( ٦٥٩٦)، وابن جرير في تهذيب الآثار (١/ ٢٢٣)، رقم: (٤٨٣)، وأبو الشيخ في الأمثال (١١٤)، من حديث سويد بن عمرو الكلبي عن حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن -أبي هريرة - أراه رفعه - قال : فذكره .
وقال الترمذي عقبه: «هذا حديث غريب، لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا، رواه الحسن بن أبي جعفر - وهو حديث ضعيف أيضاً - بإسناد له عن علي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والصحيح عن علي موقوف من قوله».
وأعله ابن حبان بسويد بن عمرو، قال: "وكان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية، لا يجوز الاحتجاج به"، وقد ردَّ الأثمة كلامه ولم يقبلوه، ويينوا ثقة سويد، انظر « الميزان » (٣٦٢٤) و« التقريب » (٢٦٩٤).
وقال العراقي في تخريج الإحياء (٢/ ١٨٦) عن إسناد الترمذي: ورجاله ثقات، رجال مسلم، لكن الراوي تردد في رفعه، وكذا قال في «رسالته في الرد على الصغاني».
ورواه تمام في « فوائده » ( رقم: ١٥٤٣)، وأبو الحسن الحربي في «الفوائد المنتقاة» - كما في « غاية المرام » (رقم : ٤٧٢) - والخطيب في «تاريخه» (١١ / ٤٢٧ -٤٢٨)، وابن عدي في « الكامل » (٢ / ٧١١)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية » (٢/ ٢٥) من حديث الحسن بن دينار عن ابن سيرين.
وأعلاه - ابن عدي وابن الجوزي - بالحسن بن دينار وهو متفق على ضعفه، والجمهور على ترك حديثه
ب- وأما حديث عبدالله بن عمرو:
فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» ( ٢ / ق ١٢) ، و«الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٨/ ٩١)، وقال الهيثمي: وفيه محمد بن كثير الفهري، وهو ضعيف.
وتفرد به محمد بن كثير ، كما قال الطبراني، وفي سنده أيضاً ابن لهيعة وأبو قبيل صدوق يهم .
ج- وأما حديث علي:
فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (١٣٢٨) من طريق عبيد الكندي، وأحمد في «فضائل الصحابة» (١/ ٣٣٦ - ٣٣٧ ) رقم: (٤٨٤)، وابن جرير في «تهذيب الآثار» ( ١ / ٢٢٢ ) رقم: (٤٨٢) من طريق إبراهيم النخعي.
والبيهقي في «الشعب» (٩٥٩٣)، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (١/ ٢٢٢)، رقم: (٤٨٠) من طريق أبي البختري.
وابن جرير في «تهذيب الآثار» (١/ ٢٢١ -٢٢٢) رقم (٤٧٨)، والبيهقي في «الشعب» (٦٥٩٤) من طريق هبيرة.
وأبو نعيم - كما في «اللسان (٤/ ١٣٥) من طريق أبي الدنيا المعمر ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (١/ ٢٢٢) رقم: (٤٧٩ ، ٤٨١ ) بإسنادين من طريق مولى لقرظة بن وهب وشيخه مجهول، كلهم عن علي موقوفاً من قوله.
ورواه أيوب عن حميد بن عبدالرحمن عن علي واختلف عليه، فرواه حماد عنه ووقفه، أخرجه البيهقي في «الشعب » (٦٥٩٥) .
ورواه الحسن بن أبي جعفر عنه فرفعه، أخرجه أيضا البيهقي في «الشعب» (٦٥٩٧)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (١١٣)، والدارقطني في «الأفراد »(ق ٣٦ / أ - الأطراف) ،وتمام في «الفوائد »-(رقم: ١٥٤١ و ١٥٤٢) .
قال ابن حبان في «المجروحين » ( ١ / ٣٤٧ و٣٤٨): وهو خطأ فاحش.
وأشار البيهقي في "السنن" (٥/ ٢٦١) إلى أن هاروت بن إبراهيم الأهوازي رواه عن ابن سيرين عن حميد بن عبدالرحمن عن علي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال : «والمحفوظ الموقوف» .
ورواية هارون ظفرت بها في « فوائد تمام » رقم: (١٥٣٩، ١٥٤٠)، و« المختارة» للضياء (١ / ف ١٥٧) .
وقد صحح وقفه جماعة من الأئمة، منهم - سوى ابن حبان، والبيهقي - وابن طاهر - كما في « فيض القدير » ( ١ / ١٧٧)، والذهبي - في « الميزان » (٢ / ٢٥٣)، وابن عساكر ، كما نقل عنه الألباني في « غاية المرام » ( رقم : ٤٧٢) .
ورواه كذلك مسدد - كما قال البوصيري - بسند صحيح (هامش المطالب» ( ٣ / ٩)) .
د- وأما حديث ابن عمر :
فقد أخرجه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" (٢ / ف ١١ ) - كما في « مجمع الزوائد » ( ٨ / ٩١) وتمام في « الفوائد» ( رقم : ١٥٤٦)، والقضاعي في مسند الشهاب" ( رقم : ٧٣٩ )، والقزويني في « التدوين » ( ٣ / ١٨ - ١٩ ) من طريق عباد بن العوام عن، جميل بن زياد، عن ابن عمر .
قال الطبراني: ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عباد.
وقال الهيثمي: وفيه جميل بن زيد، وهو ضعيف.
وأخرجه ابن حبان في «المجروحين» (٢/ ١٥٢)، وفي إسناده أبو الصلت الهروي، قال الحافظ في «التقريب ( ص : ٣٥٥ ): « صدوق له مناكير ».
وقال العراقي في «رسالته في الرد على الصغاني في إيراده لبعض الأحاديث الشهاب للقضاعي في رسالته « الدر الملتقط في تبيين الغلط» والحكم عليها بالوضع » ( رقم: ١٠) : وقد ورد من حديث عبد الله بن عمر وعبدالله بن عمرو ولا يصح من حديثهما»
وقد أورد هذا المتن الشوكاني في "الفوائد المجموعة" ( ٧٦٥ )، ونقل قول الصغاني في « الدرر الملتقط »( رقم : ٣٩ ) فيه : « موضوع»!!
ورد عليه العراقي في رسالته (رقم: ١٠)، وكذلك أورده صاحب «أسنى المطالب» (٦٠ ) وقال: «ضعيف جداً، يعني مرفوعاً، وأما مرسل زيد بن أسلم ، فقد أخرجه ابن وهب في «الجامع» ( ٣٥ ) حدثنا ابن سمعان - واسمه عبدالله بن زيد ، وهو كذاب - عن
زيد بن أسلم وغيره مرفوعاً (وانظر: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام).
-------------------
الشرح الإجمالي للحديث:
قوله (أحبب حبيبك هوناً ما): أي مقتصداً معتدلاً، لا إفراط فيه.
قوله (عسى أن يكون بغيضك يوماً ما): أي لربما انقلب هذا الحُبُّ بُغضاً بتغيُّر الزمان والأحوال، فلا تكون قد أسرفت على نفسك في حُبِّه، فتندم عليه إذا أبغضته.
قوله (وأبغض بغيضك هوناً ما) أي بُغضاً معتدلاً لا إفراط فيه.
وقوله (عسى أن يكون حبيبك يوماًما) إذ ربما ينقلب هذا البغض والعداوة حُباً، فلا تكون قد أسرف في بُغضه، فتستحي منه إذا أحببته.
وكما قال أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب: "لا يكُن حُبُّك كَلَفاً (شديداً)، ولا بُغضكَ تلفاً". وكما قيل:
حبُّ التناهي غَلَطْ ... خَيرُ الأمورِ الوَسَطْ
--------------------
الشرح المُفصَّل للحديث:
و(أحبب) الأمر هنا إرشادي، لا أمر ندب؛ لأن المقصود نفع المخاطب في الدنيا، وهو عامٌ لكل من يصلح للمخاطبة.
والفرق بين الندب والإرشاد: أن الندب مطلوبٌ لثواب الآخرة، والإرشاد مطلوب لمنافع الدنيا، ولا يتعلق به ثوابٌ البتة؛ لأنه فعلٌ متعلقٌ بغرض الفاعل، ومصلحته، ونرجو له أن يُثاب إن قصد الامتثال.
(حبيبك) من صيغ العموم؛ لأنه مُفرد مُضاف، ولكنه من العام الذي أُريد به الخصوص؛ فيخرج بذلك كلمن وجبت محبته من الذات العلية، والأنبياء والملائكة، فحُبُّ هؤلاء واجبٌ، وكُلٌّ بحسبه. و(الحب) هو ميل القلب المشتمل على الرقة واللطافة والصفاء.
(هوناً): أي سهلاً ليناً رفيقاً، بسكينةٍ ووقار، وهذا يتناسب مع طبيعة المؤمن.
(ما): إما زائدة للتأكيد، أو صفة للنكرة التي قبلها، (أيُّ هوِّنٍ)، وقيل: هي نكرة، وبدلٌ مما قبلها، أي أحبب حبيبك حُبَّاً متوسطاً، والغرض من (ما) هنا التقليل والتحقير.
(عسى أن يكون بغيضك): عسى هذه من أفعال المقاربة، وهي فعلٌ ماضٍ جامد، وفيه ترجٍّ وطمع، أي ربما كان بغيضك.
(وأبغض بغيضكَ) بهمزة القطع لأنه رباعي، (عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).
الخلاصة:
عامل حبيبكَ معاملة مَنْ لا يخرج عن حدِّ المحبَّة، ولا تعامله معاملة مَنْ يخرج عن حدّها بحيث تطلعه على عُجَرك وبُجَرك وسرائرك وضمائرك وذخائرك، فلربما استحالت صداقته عداوة ومرّ ما كنتَ تعهده فيه من الحلاوة.
-----------------
بلاغة الحديث:
الطباق بين قوله: "حبيبك" و"بغيضك" و"أحبب" و"أبغض".
الاشتقاق بين "أحبب" و"حبيبك" و"أبغض" و"بغيضك".
الِإتيان بلفظة لا يقوم غيرُها مقامها، وهي في الحديث لفظ: "ما".
الانسجام والِإيجاز.
الموازنة والمقابلة بين قوله: "أحبب حبيبك" و"أبغض بغيضك".
---------------------------------------
ما يؤخذ على المُصنِّف رحمه الله:
(١) تفريطه في قضايا الحُب وزعمه أن المبالغة فيها مشكور، وفاعله ولو تجاوز الحد معذور، وسيما في محبة الأنبياء والملائكة، وحتى في مسألة حُبِّ الله، التي أخرجها المتصوفة إلى قضايا التمثيل، والعشق الإلهي [انظر: ص ٣٦].
(٢) إيراده بعض الأحاديث التي لا أصل لها، مثل قوله في الحديث القدسي: "يا دُنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه"، [انظر: ص ٣٦].
(٣) تأثُّره بمذاهب المتصوفة، وإكثاره من النقل عن الغلاة منهم في أشعارهم وأحوالهم، وحكاياتهم؛ كابن عربي، وعمر بن الفارض، وعبد الغني النابلسي، ولذا نرى متابعة المحقق في الحواشي، وأمر هؤلاء لا يخفى على أحد [ص ٣٧، ٤٠، ٤٢].
(٤) ما ذكره عن تيمورلنك أنه كان من المُحبِّين، والصحيح أنه كان من الظالمين الذين استباحوا دماء الناس، وأما محبته آل بيت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آله فلن تنفعه مع ما فعله من إراقة الدماء، كما لا يتصور أن يميل الِإمام الجرجاني وهو من هو في علماء الإِسلام إلى هذا الظالم ويحبه ويقدمه. [انظر: ص ٤٤].
(٥) وقد وصف الحُبَّ بالداء وانه وسواس، واختار كونه عمَىً، وعشقاً للصُّور، وتلذُّذٌ بالمحبوب سماعاً أو رؤيةً، وكونه اختياريٌّ ابتداءً واضطراريٌّ انتهاءً كاستعمال الأفيون!، فهذا وصفٌ قبيح، لا يليق [انظر: ص ٤٥].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق