أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 أبريل 2023

القول السديد في اجتماع الجمعة والعيد أحمد بن صالح بن على بافضل بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

القول السديد في اجتماع الجمعة والعيد

أحمد بن صالح بن على بافضل

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ الصلاة عمود الدين، وركنه العظيم، وهي أولى ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم جل وعلا، وأوكدها فريضةً هي صلاة الجمعة، وقد وردت بعض الأخبار التي صرّحت بسقوطها عمّن صلى العيد في يومها، وتعددت الأقوال التي حاولت فهم هذا الحديث، فبعضهم أسقطه جملةً لضعفه أولاً، ولمعارضته ما هو قطعي الدلالة ثانياً، وبعضهم أوّله جمعاً بين الأدلة، وبعضهم جعله على ظاهره، حيث لم يظهر له التعارض، أو سلك به وجهاً ارتأى منه أن إعماله أولى من تأويله وإهماله، وذلك بعد أن حسَّنه بشواهده.

وهذه الرسالة الصغيرة الحجم، الكبيرة القدر، تناقش هذه المسألة المهمة، من حيث بيان تلك الأقوال التي أوصلها إلى أربعة أقوال، ودليل كل فريق، ثم بيان الرأي الذي يميل له الباحث، والذي أحب أن أضع خلاصته هنا، وهو: 

أن المسألة خلافية اجتهادية، تحتملها الأدلة، والأولى للمسلم الحريص على زيادة الخير فعل الجمعة، خصوصاً مع قرب المساجد في زمنا هذا، وتوفر وسائل المواصلات.

فالأولى بالمكلفين صلاة الجمعة -حتى ولو أدى به أن يتأخر عن خطبة الجمعة - فقد قيل بأن حضورها فرض كفاية .. غير أن هناك فسحة لأصحاب الأعذار والمشاغل ممن يذبحون الأضاحي، أو ممن يريدون زيارة أقاربهم خارج البلد أن يتركوا الجمعة ويصلون الظهر تقليداً لمذهب الحنابلة. 

وهذا -يعني ترك الجمعة إلى الظهر -لغير الإمام، أما هو فالأولى القول بلزوم الجمعة عليه ليؤم من أراد صلاة الجمعة من الناس.

نصُّ الرسالة

تصوير المسألة: 

اختلف العلماء عند اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد على أربعة أقوال: 

* فقيل: لا تسقط الجمعة بفعل العيد على كل أحد.

* والثاني: تسقط الجمعة على أهل القرى ممن ليسوا في بلد الجمعة ويسمعون النداء.

* وقيل: يسقط وجوب الجمعة ويخير المكلف بين الجمعة والظهر.

* والقول الرابع: يسقط وجوب الجمعة والظهر معاً بفعل العيد.

وبيان هذه الآراء في الآتي:

القول الأول: وجوب الجمعة على كل أحد: 

فلا تسقط الجمعة بفعل العيد مطلقاً، وهو رأي الحنفية وأحد قولي المالكية:

-قال الحصكفي الحنفي: ((ويوم العيد والجمعة؛ فلو اجتمعا لم يلزم إلا صلاة أحدهما، وقيل الأولى صلاة الجمعة، وقيل صلاة العيد كذا في القهستاني -عن التمرتاشي: قلتُ: قد راجعت التمرتاشي فرأيته حكاه عن مذهب الغير وبصورة التمريض فتنبه)).

وقال ابن عابدين -معلقاً -: ((قوله "عن مذهب الغير" أي مذهب غيرنا، أما مذهبنا فلزوم كل منهما، قال في «الهداية» ناقلاً عن «الجامع الصغير»: عيدان اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة والثاني فريضة، ولا يترك واحد منهما)) اهـ.

وهو أحد قولي المالكية، قال في «الذخيرة»: (ولا - تسقط الجمعة -بصلاة العيد إذا كانا في-يومٍ، خلافاً لابن حنبل محتجاً، بما في أبي داود -أنه عليه السلام، قال: «قد اجتمع في يومكم عيدان؛ فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون»، ولنا آية وجوب السعي، ولأنه عمل الانصار في سائر الاقطار، وأما الخارج عن المصر؛ ففي الكتاب: لا يتخلفون، وروى عنه: يتخلفون لإذن عثمان رضي الله عنه لأهل العوالي، ولما في انتظارهم أو رجوعهم من المشقة).

ووجوب الجمعة؛ حتى على من هو خارج البلد -هو المنقول في «المدونة» ونصها: ((كان مالك يقول: لا يضع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة، وقال مالك: ولم يبلغني أن أحداً أذن لأهل العوالي إلا عثمان، ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان، وكان يرى أن من وجبت عليه الجمعة لا يضعها عنه إذن الإمام -وإن شهد مع الإمام -قبل ذلك من يومه ذلك عيداً)).

واستدلوا:

١. بأن الأصل والثابت هو وجوب الجمعة -والأخبار عامة فيها، ولم يرد ما يعارض هذا الأصل، وما أورده المخالف من التخيير لم يثبت، كما أن سقوطها على من هو خارج البلد في أثر عثمان الآتي قد يُراد كم من لا يسمعون النداء -كما فسره الشافعي.

٢. ومن أدلة وجوب الجمعة قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.

٣. وما رواه مسلم في (صحيحه)، عن عَبْدَ اللَّهِ بن عُمر، وأبي هريرة، أنهما سمعا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يقول على أعواد منبره: ((ولينتهينَّ أَقوام عن وَدعِهِمْ الجمعات أو ليختمَنَّ اللَّهَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ من الْغَافِلِينَ)).

٤. وقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالغين المقيمين الذين لا عذر لهم.

فما كان كذلك لا يعارض بأحاديث غير ثابتة، أو على الأقل تكلم فيها.

القول الثاني: رخصة الاكتفاء بالعيد عن الجمعة

وهذا في حق غير الإمام، مع القول وجوب الظهر، ومذهب الحنابلة سقوط وجوب الجمعة عمن صلى العيد، وأيده ابن تيمية، وهو رأي الزيدية أيضاً.

قال ابن قدامة: (وإن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام؛ فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة، وقيل في وجوبها على الإمام روايتان). 

وقال البهوني الحنبلي: (وإذا وقع عيد في يومها -أي الجمعة -سقطت أي الجمعة عمن حضره -أي العيد -مع الإمام في ذلك اليوم... وأما من لم يصل العيد أو صلاهُ بعد الإمام؛ فيلزمه حضور الجمعة فإن اجتمع العدد المعتبر أقيمت، وإلا صلوا ظهراً لتحقق عذرهم، إلا الإمام فلا يسقط عنه حضور الجمعة).

 واستدلوا بـ :

١. ما رواه أبو داود في (سننه)، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه قال: «قد اجتمع في يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَاهُ من الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجْمَعُونَ».

وفي رواية زيد بن أرقم، قال: شهدت مع النبي -صلى الله عليه وسلم -عيدين اجتمعا، فصلى العيد، ثم رخص في الجمعة وقال: «من شاء أن يصلي فليصل».

وقد روي هذا الحديث بأسانيد فيها مقال -قال ابن عبد البر: (وهذا الحديث لم يروه فيما علمت عن شعبة أحدٌ من ثقات أصحابه الحفاظ، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد -وليس بشيء في شعبة أصلاً -وروايته عن أهل بلده أهل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون بقية عن الشاميين وغيرهم وله مناكير، وهو ضعيف ليس ممن يحتج به)

ومما يزيد احتمال ضعفه تقييده في رواية -وإن كانت ضعيفة -بأهل العوالي. قال ابن حجر في (التلخيص): (وَرَوَاهُ البيهقي من حديث سفيان بن عيينة عن عبد الْعَزِيزِ مَوْصُولًا مُفَيَّدًا بِأَهْلِ الْعَوَالِي وَإِسنادُهُ ضَعِيفٌ).

وهذا الحديث نصٌ جليٌّ في المسألة، غير أن في ثبوته -كما قلنا -مقالاً، وقد بين طرقه وعللها عدد من العلماء -منهم ابن الملقن في «البدر المنير».

وأجاد في بيان طرقه، وما فيها من علل فضيلة الشيخ أبو عبد الرحمن فوزي بن عبد الله

محمد الحميدي الأثري في رسالته: قلائد المرجان في تخريج حديث إذا اجتمع عيدان. 

وإن كان النووي قد صرح بأن الحديث جيد الإسناد، فإن أسانيده يصعب تصويبها، ومن ثم حكم الألباني بضعف الحديث إلا أنه قواه بمجموع طرقه -والله أعلم.

القول الثالث: يسقط وجوب الجمعة عمن هو خارج البلد 

بخلاف من هو داخل خطة البلد، أو من هو خارجها- ممن يسمع النداء، وهو قول عند المالكية والمعتمد المقرر عند الشافعية:

قال النووي : ( فرع ... مذهبنا وجوب الجمعة على أهل البلد وسقوطها عن أهل القرى)

واستدلوا:

١. بما جاء في «صحيح البخاري»: (قال أبو عُبيد: ثم شهدت مع عُثْمَان بن عَفَّانَ فَكَانَ ذلك يوم الجمعةِ، فَصَلَّى قبل الخطيةِ ثُمَّ خطب، فقال: يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لَكُمْ فِيه عِيدان فَمَنْ أَحَبُّ أن ينتظر الجمعة من أهْلِ الْعَوَالِي فلينظرُ، وَمَنْ أَحَبُّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَوَلَتُ له).

والعوالي: القرى التي بقرب (من) المدينة من جهة الشرق وأقربها على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وقيل : اثنان.

القول الرابع : سقوط الجمعة والظهر معاً بفعل العيد

وهو مشهور عن عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهما ـ وقال به عطاء.

ورغم تبادر بعُده؛ لأنه يسقط حتى الظهر والتي تجب على المعذور عن الجمعة، ومن ثم قال البغوي في «شرح السنة»: (وأما صنيع ابن الزبير، فإنه لا يجوز عندي أن يحمل إلا على مذهب من يرى تقديم صلاة الجمعة قبل الزوال).

أقول رغم هذا التبادر لبعده إلا أن في الآثار ما يقويه، وسياق كلام النووي في «المجموع» يدل على إقراره بقوته، قال النووي حين قال رحمه الله: (واحتج عطاء- بما رواه هو -قال: ((اجتمع يوم جمعة ويوم عيد على عهد ابن الزبير؛ فقال: عيدان اجتمعا تجمعها جميعا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر)) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، وعن عطاء، قال: ((صلى ابن الزبير في يوم عيد يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا، وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السنة)) رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح على شرط مسلم، واحتج أصحابنا بحديث عثمان وتأولوا الباقي على أهل القرى لكن قول ابن عباس من السنة مرفوع وتأويله أضعف).

الرأي الذي يميل إليه الباحث

يميل جامع هذه الوريقات. -عفا الله عنه -إلى الرأي الثالث القائل بسقوط وجوب الجمعة على من هو خارج البلد، مع القول بأن الرأي الثاني القائل بجواز فعل الظهر بدلاً -عن الجمعة لمن صلى العيد فهو رأي معتبر في الخلاف؛ لقوة احتمال الدليل له كما تقدم؛ فيمكن تقليده خصوصاً لمن اشتغل بزيارة أو ذبح أو غيره.

أما القول الرابع القائل بسقوط الجمعة مع الظهر لمن صلى العيد؛ فرغم احتمال بعض الأدلة له، إلا أنه لم يعمل به فليترك.

ويؤيد مسلكنا هذا الأمور الآتية:

١. قطعية ثبوت فرضية الجمعة، وما قابله من احتمال عدم ثبوت في حديث اجتماع العيد والجمعة والرخصة في تركها، لما في أسانيده من مقال، وقد بين طرقه وعللها عدد من العلماء، منهم ابن الملقن في (البدر المنير)، وقد أجاد في بيان طرقه ـ كما قدمنا ـ وما فيها من علل فضيلة الشيخ أبو عبد الرحمن فوزي بن عبد الله بن محمد الحميدي الأثري في رسالته: (قلائد المرجان في تخريج حَدِيث إِذَا اجْتَمَعَ عِيدان) كما قدمنا قبل صفحات.

٢. رغم أن القول الثاني هو المقرر المشهور عند الله الحنابلة، وابن تيمية رحمه الله -وهو المختار عند اللجنة الدائمة بالسعودية، فقد خالف الشيخ العلامة عبد الله عبد الرحمن الجبرين - رحمه الله ونص فتواه: (إذا اجتمع يوم العيد ويوم الجمعة؛ فالجمهور على وجوب صلاة الجمعة، وعدم سقوطها لأن صلاة العيد سنة والجمعة فريضة، ولعل الأقرب أنه يسقط حضور الجمعة عن أهل القرى النائية الذين يشق عليهم تكرار الحضور لبعد مساكنهم ولا تسقط عن القريب الذي يسمع النداء وليس عليه مشقة).

٢. ما ذكره ابن عبد البر من أن سقوط الجمعة بالعيد مهجور، وهذا أيضاً يجعل رأي ابن الزبير كالمتفق على خلافه.

٣. وثبوت أثر عثمان في «صحيح البخاري» يدل على مرجوحية القول بوجوب الجمعة على كل أحد، ولذلك فقد استدرك في منح الجليل على إمامه مالك - رحمه الله -فقال بعد ذكره حديث السراويل في الحج - : (وقال مالك رضي الله عنه في «الموطأ» في السراويل لم يبلغني هذا ابن عبد السلام، وعندي أن هذا من الأحاديث التي نص الإمام -رضي الله عنه -على أنها لم تبلغه إذا قال أهل الصناعة إنها صحت؛ فيحب على مقلدي الإمام رضي الله عنه العمل بها؛ كهذا الحديث وحديث أذن الإمام لأهل العوالي إذا وافق العيد الجمعة انظر التوضيح وابن غازي).

٤. ومسلك عدم سقوط وجوب الجمعة هو رأي أكثر الفقهاء، والأكثرية وإن لم تكن دليلاً إلا أنها تعطي نوعاً من القوة .. 

والخلاصة أن فالمسألة خلافية اجتهادية تحتملها الأدلة، فالأولى للمسلم الحريص على زيادة الخير فعل الجمعة، خصوصاً مع قرب المساجد في زمنا هذا، وتوفر وسائل المواصلات، فالأولى به صلاة الجمعة حتى ولو أدى به أن يتأخر عن خطبة الجمعة - فقد قيل بأن حضورها فرض كفاية .. غير أن هناك فسحة لأصحاب الأعذار والمشاغل ممن يذبحون الأضاحي، أو ممن يريدون زيارة أقاربهم خارج البلد أن يتركوا الجمعة ويصلون الظهر تقليداً المذهب الحنابلة. وهذا لغير الإمام أما هو فالأولى القول بلزوم الجمعة عليه ليؤم من أراد صلاة الجمعة من الناس.

نسأل الله أن نكون على صواب وأن ينفع بهذا المسطور كاتبه وقارئه آمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

وكتبه الفقير إلى عفو ربه:

أحمد بن صالح بن على بافضل

تريم: اليمن؛ لثمان خلون من ذي الحجة سنة ألف وأربعمائة وثلاثين




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق