الأبعاد التربوية المتضمنة في كتاب الأذكار للنووي
يوسف حسن سليمان أبو معمر
رسالة ماجستير
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ التربية الإسـلامية هـي التنظيـم النفـسي والاجتماعي الذي يؤدي إلى اعتناق الإسلام وتطبيقه في حياة الفرد والجماعة في كل مجـالات الحياة، وتقوم على أساس العبودية الله عز وجل، ولكتاب الأذكار للنووي موقعاً خاصَّاً في تهذيب النفس وتقويم السلوك وتربية الفرد التربية الإسلامية الصحيحة، بل إن كتب النووي كلها تقع في أجمل موقع من تقدير القراء والمسلمين عامتهم وخاصتهم، ولا شك أن الذكر بأبعاده التربوية يضطرنا إلى كتاب معتمد في هذا المجال، لذلك وقع الاختيار على كتاب (الأذكار) للإمام النووي.
ويقول عنه حاجي خليفة في كشف الظنون :كتاب في الحديث للإمام النووي هو كتـاب مفيـد مشهور بأذكار النووي في مجلد مشتمل على ثلاثمائة وستة وخمسين باباً، ابتـدأ فيـه بالـذكر الأمور الإنسانية من أول الاستيقاظ من النوم إلى نومه في الليل ويعبر عن ذلـك بينهمـا بعمـل اليوم والليلة ثم ختم بباب الاستغفار.
وقد بين الإمام النووي في مقدمة كتاب الأذكار هدفه من تأليفه؛ فقال: "وقد صنف العلماء رضي االله عنهم في عمل اليوم والليلة والدعوات والأذكار كتباً كثيرة معلومـة عنـد العارفين ولكنها مطولة بالأسانيد والتكرير، فضعفت عنها همم الطالبين، فقصدت تـسهيل ذلـك علـى الراغبين فشرعت في جمع هذا الكتاب مختصرا مقاصد ما ذكرته تقريباً للمتعننتين، فأردت مساعدة أهل الخير بتسهيل طريقه والإشارة إليه وإيضاح سلوكه والدلالة عليه".
ولا شك أن الأذكار لها دورها الكبير في غرس وتعزيز القيم الإسلامية الرفيعة، وكذلك فإن الأذكار من أهم اللبنات التي تبني الشخصية المؤمنة من خلال تقوية مفهوم الولاء والبراء، وزرع الإيمان الكامل وتعميق التوحيد الذي يسهم فـي تحصين النفس البشرية من الأوهام والتخيلات الزائفة، والتي منبعها ضعف الإيمان بالله عز وجل.
وتكمن أهمية كتاب الأذكار فيما يلي:
1-أنه من أشهر كتب الإمام النووي وأكثرها انتشاراً بين جمهور المسلمين والقراء.
2-كونه جامعاً لأذكار اليوم والليلة، بل للأذكار عموماً، مع تضمنه مسائل فقهية متعلقة بذلك.
3-اعتماد الإمـام النووي في أكثر أحاديثه على الكتب المشهورة زيادة في الضبط والثقة.
4-أنه صنفه للذاكرين والعوام وطلبة العلم مع الاختصار وترك التكرير، ليسهل حفظه والانتفاع بما فيه.
5-اهتمام العلماء بشرحه، وأشهرها شرح ابن علان المكي الشافعي المتوفى سنة (1057 هـ)، والذي سماه (الفتوحات الربانية)، وشرحه غيـر واحد والمذكور أهمها.
وهذه دراسة علمية هدفت إلى التعرف إلى المفهوم الشامل للأذكار وعلى الأبعاد التربوية المصاحبة لها، وذلـك من خلال ما جمعه الإمام النووي في كتابه المعروف بكتاب الأذكار النووية ممثلة فـي الأبعـاد العقائدية، والجهادية، والاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية، من خلال استخدام المنهج الأصولي، وأسلوب تحليل المحتوى، ومـن ثـم استنباط الأبعاد التربوية من خلال شروح الأحاديث النبوية الواردة في كتاب الأذكار.
تلخيص الكتاب:
الذكر في حياة المسلم له آثار و أبعاد تربوية تشمل مجالات عديدة في حيـاة المـسلم، وهي تتضمن من وجهة نظر الباحث في خمسة أبعاد هي: البعد العقائدي والبعـد الجهادي والبعد الاجتماعي والبعد الاقتصادي والبعد النفسي.
أولاً: البعد العقائدي:
الذكر شفاء للقلوب، واستحضار معنى الموت والحياة، والانقياد التام الله وافـراد العبودية لله، واستحضار نعم االله عز وجل ، وحسن التوكل علي االله في كل مقاصد الحياة، والاستعانة بالله في قضاء الحوائج، رد الحول والقوة الله، واحتساب الأجر عند الله، وتقوية الإيمان بالله، وطلب العون في صلاح الدين والدنيا من االله، والمبادرة في التوبة والاستغفار، وتجديد الإيمـان بالله في كل وقت وحين.
ثانياً: البعد الجهادي:
تم استخلاص النتائج التالية :
استحباب سؤال االله الشهادة، وحث الإمام أمير السرية على تقوى الله، وثناء الإمام علـى مـن ظهرت منه براعة في القتال، و استحباب إظهار الصبر والقوة، وما يقول إذا ظهـر المسـلمون وغلبوا عدوهم، وجواز دعاء الإنسان على من ظلم المسلمين أو ظلمه وحده، وما يدعو بـه إذا خاف إنساناً أو غيره.
ثالثاً: البعد الاجتماعي:
إفشاء السلام وإشاعته بين الناس، والاستئذان والاستئناس بأهل البيت قبل الدخول، واستحباب التهنئة بالمولود الجديد، والتواصل اللفظي في التعبيـر عـن المحبـة، وتعزيز التعارف بين المسلمين، وما يقول لمن أزال عنه أذى، وضرورة الوفـاء بالعهد والوعد الذي يقطعه على نفسه، والتبسم في وجه أخيك المسلم، والنهي عن إظهار الشماتة بالمسلم، وتحريم احتقار المـسلمين والسخرية مـنهم، والرفق بالضعفاء والتبسط لهم، واستحباب أن يدعو المرء لمن أفطر عنـدهم، ودعـاء المدعو أو الضيف لأهل الطعام إذا ما فرغ من أكله، واستحباب طلب الوصية من أهل العلم وأهل الخير.
رابعاً: البعد الاقتصادي:
الحرص على خير اللباس والزينة، ورد الفضل الله تعالى على كل نعمة ومنة فضل، والاكتفاء بالرزق الحلال، وتقدير قيمة النعمة المحافظة عليها، وتجنب الوقوع في الفاقة والعوز، وتأمين االله تعالى على النفس والمال.
خامساً:البعد النفسي :
تم استخلاص النتائج التالية :
طرد الفزع من النفس واستبدال بالأمن والطمأنينة، والتخلص من الهم والحزن، والانقياد إلـى أمر الله عز وجل، والتوكل على االله في كل أمر والاستعانة به على الصبر على البلاء، وطـرد القلق بالاستغفار، واليقين أن الشافي هو الله جل جلاله.
ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة، مايلي:
1-الذكر في الإسلام عبادة تشمل ذكر اللسان وذكر الجوارح، يقوم بها الإنسان المؤمن بالله عز وجل فيتخلص من الغفلة والنسيان، والذكر هو قول القلب، وحضور القلب خـشوعاً، وإخلاصاً وصدقاً، ويكون في عمل صالح مشروع، ويكون المنطوق مأثوراً.
2-أهم الأبعاد التربوية العقائدية للذكر على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع: الذكر شفاء للقلوب، والإيمان بأن االله هو المحيي والمميت، والانقياد التام الله وإفراد االله بالعبودية، وإحياء النفس من الغفلة، والتوكل على االله في كل مقاصد الحياة، والاستعانة بـالله فـي قـضاء الحوائج، ورد الحول والقوة الله، واحتساب الأجر عند االله، وتقوية الإيمان بالله، وطلب العون في صلاح الدين والدنيا من االله، والمبادرة إلى التوبة والاستغفار، وتجديد الإيمان بالله في كـل وقت وحين.
3-الأبعاد التربوية الجهادية للذكر على صعيد الفـرد وعلى صعيد المجتمـع، أبرزها: استحباب سؤال الشهادة ،وحث الإمام أمير السرية على تقوى الله، وثنـاء الإمـام علـى مـن ظهرت منه براعة في القتال، واستحباب إظهار الصبر والقوة، ودعاء المسلمين إذا ظهروا على عدوهم، ودعاء الإنسان على من ظلم المسلمين أو ظلمه وحده، وما يدعو به المسلم إذا خاف ناساً أو غيره.
4-الأبعاد التربوية الاجتماعية للذكر على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمــع، أهمها: ذكـر اسم االله والسلام على أهل البيت قبل دخوله، والتهنئة بالمولود الجديد، واستحباب إخبار الرجل من يحبه بان يحبه، وما يقول لمن أزال عنه أذى، وضـرورة الوفـاء بالعهـد والوعد الذي يقطعه على نفسه، والتبسم في وجه أخيه المسلم، والنهي عـن إظهـار الـشماتة بالمسلم، وتحريم احتقار المسلمين وتحقيرهم، وعدم انتهار الفقراء والضعفاء، واسـتحباب أن يدعو المرء لمن أفطر عندهم، ودعاء المدعو أو الضيف لأهل الطعام إذا ما فرغ مـن أكلـه،واستحباب طلب الوصية من أهل العلم وأهل الخير.
5-من أبرز الأبعاد التربوية الاقتصادية للذكر على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع: تمني الخير في كل أمر جديد ، ورد الفضل إلى الله تعالى على كل نعمة ومنـة وفـضل، والقناعـة بالرزق الحلال، والمحافظة على النعمة من الزوال ،والتعوذ بالله من الحاجـة أي الفقـر وقلـة الرزق، وتأمين االله تعالى على النفس والمال.
6-من أظهر الأبعاد التربوية النفسية للذكر على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع: طـرد الفزع من النفس واستبدال الأمن والطمأنينة به، والتخلص من الهم والحزن، والانقياد إلى أمر االله عز وجل، والتوكل على االله في كل أمر، والاستعانة به في الصبر على البلاء، وطرد القلق بالاستغفار، واليقين أن الشافي هو االله جل جلاله.
التعريف بالإمام النووي (نقلاً عن الدراسة):
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته ولقبه ونسبته:
اسمه: هو يحيى بن شرف بن مُرِي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزام الحزامي النَّووي الحوراني، الدمشقي، الشافعي.
كنيته: أبو زكريا، كانت العرب تكني الرجل بأحد أولاده، وجاءت كنية إمامنا على غير القياس ، وقد يكنى الصبي في الصغر تفاؤلاً بأن يعيش ويصير له ولد يسمى بذلك الاسم، كما ورد في الأثر عن أنس ٍرضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا ،وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: ( يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ). (متفق عليه).
وكنية الإمام النووي ( رحمه الله) بأبي زكريا ليست من هذين النوعين، بل هي من نوع آخر وهو من تكنية أُولي الفضل، وإن لم يولد له تأدباً، وهي سنة محمودة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف عن الإمام النووي أنه كان لا يكني نفسه كما ورد في رسائله، لكنَّه كان يحثُ على ذلك، فقال في المجموع: "ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء سواء أكان له ولد أم لا، وسواء كُني بولده أو بغيره، وسواء كُني الرجل بأبي فلان أو بأبي فلانة، وسواء كُنيت المرأة بأم فلان أو أم فلانة"، واشتهرت كنيته عند من تحدث عنه، وإنما لم يفعل ذلك لِما جُبل عليه من الفضل والتواضع وإنما كُنْيَّ بأبي زكريا لأنَّ اسمه يحيى ، والعرب تكني من كان كذلك بأبي زكريا، ويوسف بأبي يعقوب، وإسماعيل بأبي إبراهيم، وغيره.
لقـبه: وأمَّا لقبه فقد لقب بمحيي الدين، وقد اشتهر تلقيبه بذلك في حياته، فلا يكاد يذكر اسمه إلا مقروناً بلقبه، مع أنه كان يكره أن يلّقب به، وصح عنه أنه قال: (لا أجعل في حلٍّ من لقبني محيي الدين) وهذا دليل على تواضعه.
نسبته: أما نسبته فقد تعددت ، فمن حيث عمود النسب ، ينتهي إلى جده حِزام المذكور، وكان بعض أجداده يزعم أنها نسبة إلى والد الصحابي الجليل حكيم بن حزام رضي الله عنه، وأما نسبته إلى البلد ، فهو ينسب إلى حوران، لأن (نوى) بلدة من أعمال حوران وينسب إلى (نوى) لأنها بلدته التي ولد فيها ونشأ، وفيها مات ودفن . وينسب إلى دمشق مدينة العلم التي رحل إليها عام (649هـ) لطلب العلم، وبقي فيها إلى قبيل وفاته بقليل، ويُنسبُ إلى الشافعيّ نسبةً إلى مذهبه، وأصبح محرراً للمذهب ومهذبه ومحققه ومرتبه .
ثانياً- ولادته :
ولد الإمام النووي في العشر الأوسط من المحرم سنة (631هـ) بمدينة (نوى) على الصحيح المشهور ولا خلاف في ذلك .
ثالثاً- أسرته:
لم تسعفنا المصادر التي ترجمت له بمعلومات تاريخية عن أسرته و مكانتها العلمية سوى ما نقل عن تلميذه ابن العطار الذي قال: حِزام جده نزل في الجولان بقرية (نوى) على عادة العرب، فأقام فيها ورزقه الله ذرية إلى أن صار منهم خلق كثير، كما نقل الإمام السخاوي (رحمه الله) عن ابن العطار قوله: كانت أسرة النووي أسرة بسيطة تعيش حياة عادية،فأبوه كان يتعيش على دشكان يبيع ويشتري فيه، وكان النووي يساعده فيه قبل أن يخرج لطلب العلم، فهذا يدل على أنَّ أسرته كانت متواضعة كباقي الأسر العربية.
أما عن صلاح أبيه فقد نقل الإمام السخاوي عن ابن العطار أيضاً قوله: الشيخ الزاهد الورع وليُّ الله ، وقال عنه الإمام اليونيني:كان من الصالحين مقتنعاً بالحلال يزرع له أرضاً يقتات منها هو وأهله، وكان يُمَونُ الشيخ محيي الدين منها مؤنته وقتاً بوقت ولا يأكل من عند غير أبيه لِما يعلمه من صلاحه واستعماله الحلال الخالص، وبلغ من زهده وورعه أنه لما مات ولده الشيخ محيي الدين النووي أنفق كتبه التي صنفها في مختلف العلوم الإسلامية سواءً المكتوبة بخطه أم التي اشتراها بماله، وهي تساوي جملة كبيرة، بل جعلها عند تلميذه ابن العطار لينتفع بها المسلمون .
هكذا عاش الرجل الصالح، وهكذا هيأ حياة صالحة لأولاده، فغرس فيهم الورع والتقوى وغذاهم بالحلال ،فتمخضت الأسرة الكريمة، فأنجبت إماماً وعلماً من الأعلام ذاع صيته في البلاد الإسلامية، فتشرفت به وتشرف بها ، أما مصادرنا التاريخية بخصوص بقية أسرته فلم أجد عنهم فيها شيئاً سوى بعض الإشارات، منها ما قاله الإمام اليونيني: إنَّ له أخوة وإنهم عاشوا بعد أبيهم أيضاً وإنَّ منهم كباراً وصغاراً ، ولم يُعلم عنهم شيء آخر
رابعاً-نشأته :
عاش الإمام النووي (رحمه الله) مدة طفولته وصباه في كنف والده، وكان يعمل مع أبيه في دكانه الذي يتعيش منه، وتحت رعايته في مدينة (نوى)، وكان أبوه مستور الحال مبارك له في رزقه، يعيش في ستر وخير وبركة ، وكان مشهوداً له بالصلاح منذ طفولته، وما يدل عليه قول تلميذه ابن العطار: ذكر لي بعض الصالحين الكبار انه ولد وكتب من الصادقين، ثم ينشأ نشأة العلماء الكرام الذي تحفه رعاية الله سبحانه وتعالى، فمنذ صغره وهو ابن سبع سنين يداوم على قراءة القرآن، وهذا ما ذكره ابن العطار إذ قال: "ونشأ بنوى وقرأ القرآن، فلما بلغ سبع سنين، ـ وكانت ليلة السابع والعشرين من رمضان ـ قال والده: كان نائماً إلى جنبي، فانتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبتِ ما هذا النور الذي قد ملأ الدار فاستيقظ أهله ولم يروا شيئا،ً فعرفت أنها ليلة القدر"،هكذا إذن كانت نشأته منذ الصغر، وهكذا كانت رعاية الوالد الصالح لأبنه، وتستمر حياته بين كثرة التلاوة للقرآن الكريم والذكر لله سبحانه وتعالى كما ذكر ذلك الإمام اليونيني إذ قال:" كان كثير التلاوة للقرآن العزيز،والذكر لله تعالى معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه" ،ويبقى هذا حاله قبل أن يشد الرحال إلى طلب العلم قاصداً مدينة دمشق.
خامساً- رحلاته:
لم يكن الإمام النووي (رحمه الله) كثير الترحال،كما هو شأن غيره من العلماء، بل كانت رحلاته محدودة جداً، والذي يهمنا من رحلاته هذه هي رحلته العلمية لأذكر من خلالها سيرته العطرة في طلبه وتَلَقيه العلم وحرصه على الوقت .
1- رحلته إلى دمشق:
في عام (649 هـ) صحب الوالد ولده تلقاء مدينة العلم والعلماء في بلاد الشام مدينة دمشق،وكانت محج العلماء وطلبة العلم ،ومن هنا بدأت رحتله العلمية، ثم سكن المدرسة الرواحية ،وبقي فيها سنتين تقريباً ، ثم شَمّرَ عن ساعد الجد في طلب العلم .
طريقة تلقيه العلم:
لما وصل إلى دمشق قصد الجامع الأموي ليلتقي هناك الشيخ خطيب وإمام الجامع الشيخ جمال الدين عبد الكافي الرَّبعي الدمشقي .قال السخاوي : "وما أن اجتمع إليه حتى عرَّفه مقصده، ورغبته في طلب العلم ، فأخذه وتوجه به إلى حلقة مفتي الشام الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري (ت 690هـ) المعروف بابن الفركاح، فقرأ عليه دروساً وبقي يلازمه مدة". قال الذهبي: ذكر شيخنا أبو الحسن بن العطار: أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحا، درسين في الوسيط ودرساً في المهذب ودرساً في الجمع بين الصحيحين ودرساً في صحيح مسلم ودرساً في اللمع لابن جني ودرساً في إصلاح المنطق ودرساً في التصريف ودرساً في أصول الفقه ودرساً في أسماء الرجال ودرساً في أصول الدين.
هذه هي همّة طالب العلم الذي امتدت إليه رعاية الله سبحانه وتعالى، فبارك له في فهمه وعلمه ووقته وغيرها من الأمور، ومنها البركة التي حلت عليه بعد رجوعه من الحج عام (651هـ) كما قال والده(رحمه الله): "ولما توجهنا للرحيل من نوى أخذته الحمى إلى يوم عرفة، قال: ولم يتأوه قط، فلما عدنا إلى نوى ونزل هو إلى دمشق صب الله عليه العلم صباً"، ولم يكتفِ بهذا الكم من الدروس، بل كان كما قال ( رحمه الله): وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الإمام العالم الزاهد الورع أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشافعي(650هـ) ولازمته فأعجب بي لما رأى من اشتغالي وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة وجعلني معيد الدرس في حلقته لأكثر الجماعة، وقال أيضاً:"وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة"، هذا عن دروسه، أمّا عن طريقة حفظه فيذكر لنا الشيخ ابن العطار عن شيخه :قال الشيخ : حفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظت ربع المهذب في باقي السنة.
حرصه على الوقت:
كان ( رحمه الله) حريصاً كل الحرص على وقته الذي كرسه في الاشتغال بالعلم وذكر عنه: "انه كان لا يضيع وقتا في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظة أو مطالعة، وانه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين قبل اشتغاله بالتصنيف ومجاهدة النفس "، وكان معرضاً عن شواغل الحياة وملاذِّها "وقد صرف أوقاته كلها في الخير، فبعضها للتأليف وبعضها للتعليم وبعضها للصلاة وبعضها للتلاوة بالتدبر وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ثم اشتغل بالتصنيف والاشتغال والإفادة والمناصحة للمسلمين وولاتهم مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وإن كان بعيداً والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في علمه وكل شؤونه حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً بأنواعه كلها من صحيحة وسقيمة وغريب ألفاظه ومعانيه واستنباط فقهه، حافظاً لمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين واختلاف العلماء ووفاقهم واجتماعهم وإجماعهم سالكا طريق السلف". هكذا كانت رحلة الإمام النووي (رحمه الله) في طلبه للطلب ، فكان له من المنزلة ما كان عليه بين العلماء وطلبة العلم وعامتهم.
2ـ رحلته إلى مكة المكرمة (شرفها الله):
ذكرت لنا المصادر التي ترجمت للإمام النووي أنه حج بيت الله الحرام، وزار نبيه صلى الله عليه وسلم مرتين، فأما المرة الأولى فكانت سنة 651هـ، وأما بخصوص حجته الثانية فلم أجد من صرح بوقتها سوى ما قيل: "فلما توفي شيخه ازداد اشتغاله بالعلم والعمل وحج مرة أخرى" لكنني ومن خلال وقوفي على كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" وجدته قد صرح بهذا من خلال ما نص عليه في القسم الثاني(اللغات) مادة (خنثى) عند جوابه على سؤال قوله: (وقد وقع هذا الخنثى في البقر فجاءني جماعة أثق بهم يوم عرفة سنة أربع وسبعين وستمائة .... ) وهذا ما ذهبت إليه لم يسبقني إليه أحد ممن ترجم له ولله الحمد.
3-رحلته إلى بيت المقدس:
ذكر ابن العطار (رحمه الله): أنَّ الإمام النووي سافر إلى بيت المقدس قبل وفاته بشهرين، وقال: "وجرى لي معه وقائع ورأيت منه أموراً تحتمل مجلدات، فسار إلى نوى وزار القدس والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى" .
سادساً-عبادته وزهده وورعه :
لم تكن المكانة العلمية التي وصل إليها الإمام النووي على هذا القدر لو لم يكن من المتقين تصديقاً لقوله تعالى ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه) سورة البقرة / من الآية 282، فقد تميزت عبادته بصفاء العقيدة وسعة العلم ، وكثرة الإطلاع ، فقد نقل ابن العطار ثناء أحد العلماء عليه "كان الشيخ محيي الدين سالكاً منهاج الصحابة ولا اعلم أحداً في عصرنا سالكاً منهاجهم غيره" ،فقد ثبت عنه أنه كان صائم الدهر قائم الليل لا يضيع له وقت إلاّ في الاشتغال بعلم أو عبادة.
وذكر الإمام اليونيني فقال: "كان كثير التلاوة للقرآن العزيز، والذكر لله تعالى معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه" ،ونقل ابن العطار عن أحد علماء الحنابلة قال: "كنت ليلةً في جامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قوله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون) سورة الصافات/ من الآية 24 مراراً بحزن وخشوع حتى حصل عندي من ذلك ما الله به عليم" ،هذا شيء يسير لبيان حاله في العبادة .
زهده: أما عن زهده ، فقد أعرض عن الدنيا بملذاتها وزخرفها، فلم يغتر بها وتركها وراءه وجعل حظَّه منها كزاد الرَّاكب أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر تلميذه ابن العطار عن أحد العلماء قوله : "عذلت الشيخ في تضييق عيشه في أكله ولباسه وجميع أحواله وقلت له أخشى عليك مرضا يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده فقال إن فلانا صام وعبد الله حتى اخضر عظمه قال: فعرفت انه ليس له غرض في المقام في هذه الدار ولا يلتفت إلى ما نحن فيه … وقال أيضاً: ورأيت رجلاً من أصحابه قشر خيارة ليطعمه إياها فامتنع من أكلها وقال: أخشى أن ترطب وتجلب النوم، وعنه أيضاً أنه قال: "وكان لا يجمع بين إداميّن ولا يأكل اللحم إلاّ عندما يتوجه إلى نوى" ، هكذا كان حال إمامنا لقد ترك جميع ملذات الدُّنيا من المأكل والمشرب إلاّ ما يأتيه من أبيه من كعك يابس وتين حوراني ، ولم يلبس من الثياب إلاّ المرقعة، وصدقه هذا جعله رأساً في الزهد قدوة في الورع إماماً في العلم
ورعه: لقد كان الإمام النووي (رحمه الله) علماً ونموذجاً صالحاً اجتمعت فيه صفات السلف الصالح في سلوكه وعلمه وتقواه كما قال الإمام السبكي: "ما اجتمع بعد التابعين المجموع الذي في النووي ولا التيسير الذي تيسر له"، ومن ورعه قال ابن العطار: "كان لا يأكل من فاكهة دمشق، فسألته عن ذلك فقال: دمشق كثيرة الأوقاف وأملاك من هو تحت الحِجْر شرعاً، والتصرف في ذلك لا يجوز إلاّ على وجه الغبطة والمعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها خلاف بين العلماء، ومن جوزها شرط الغبطة والناس لا يفعلونها إلاّ على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك فكيف تطيب نفسي لأكل ذلك".
وكان لا يأخذ من أيِّ جهة مالاً، ولا يتناول طعاماً، ولا يقبل شيئاً من أحد.
قال السخاوي نقلاً عن الذهبي: "إنه ترك جميع الجهات الدنيوية ، فلم يكن يتناول من جهة من الجهات درهماً فرداً، وأنه ما أخذ للأشرفية فيما بلغني جامِكيَّتة بل اشترى بها كتباً ووقفها " ورحم الله الإمام اليونيني إذ قال: "والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدُّنيا، وعظم ديانته وورعه " .
سابعاً-وفاته:
عاش إمامنا حياة فضيلة كُرِّست لطاعة الله وخدمة دينه ،حتى إذا جاء يوم الأربعاء الرابع والعشرون من شهر رجب سنة(676هـ) انتقل الإمام العالم العابد الزاهد التقي وحيد عصره وزمانه إلى جوار ربه عزَّ وجل ، ولكن هذه سنة الله في خلقه إذ قال سبحانه وتعالى (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) سورة المنافقون/الآية 11.
وذكر الإخباريون أنَّ صدره كان يجيش ببعض الأمارات الدالة على دنوّ أجله . قال ابن العطار : "وكنت جالسا بين يديه قبل انتقاله بشهرين، وإذا بفقير قد دخل عليه، وقال الشيخ فلان من بلاد صرخد يسلم عليك، وأرسل معي هذا الإبريق لك، فقبله وأمرني بوضعه في بيت حوائجه فتعجبت منه لقبوله، فشعر بتعجبي، وقال أرسل اليَّ بعض الفقراء زنبيلا وهذا إبريق فهذه آله السفر… ثم بعد أيام يسيرة كنت عنده، فقال قد أذن لي في السفر فقلت : كيف آذن لك ؟ قال: بينما أنا جالس هاهنا ـ يعني ببيته بالمدرسة الرواحية وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبل القبلة ـ إذ مرَّ علي شخص في الهواء من هنا ومر كذا يشير من غربي المدرسة إلى شرقيها وقال: قم سافر لزيارة بيت المقدس، ثم قال : قم حتى نودع أصحابنا وأحبابنا، فخرجت معه إلى القبور التي دفن فيها بعض شيوخه فزارهم، وبكى ثم زار أصحابه الأحياء" وذهب لزيارة بيت المقدس والخليل، وعاد بعدها إلى نوى ومرض هناك في بيت والده.
وقال ابن العطار: "بلغني مرضه، فقدمت من دمشق لعيادته ففرح بي وقال: ارجع إلى أهلك وودعته وقد أشرف على العافية يوم السبت العشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة وتوفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب، ودفن صبيحتها بنوى"، ووصل خبر وفاته إلى دمشق في ليلة الجمعة، قال:"فبينا أنا نائم تلك الليلة وإذا بمناد ينادي بجامع دمشق الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع، فصاح الناس لذلك النداء، فاستيقظت فبلغنا ليلة الجمعة موته وصُلِيَّ عليه بجامع دمشق، وتأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً، ومنهم من توجه إلى قبره في نوى.
وقال السيوطي: فهو رضي الله عنه شهيد، جمع بين مرتبتي العلم والشهادة نفعنا الله به"، ورثاه كثير من العلماء بأشعارهم ولا يسع المقام لذكرها، فرحم الله الإمام النووي، وأسكنه فسيح جناته وأسال الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا به يوم القيامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق