مورد الصادي في مولد الهادي
شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد
الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي (ت ٨٤٢ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ أكرم الله هذه الأمة بخيرته من خلقه، ومصطفاه من بريته، الذي صنعه الباري على عينه، وأقسم في كتابه بحياته، وأثنى على عظيم خُلقه، فكانت سيرته منارةً من منارات الهداية، يتعلم منها الناس: الأدب، والأخلاق، والأمانة، والصبر، وأمور كثيرة أخرى يطول سردها، وأصدق ما يقال في ذلك:
وفضلُه أعيا الورى عدُّه .. وأفهامهم عن حصره قاصرة
عليه صلى ربي دائماً .. صــلاتـــــــــــه الزاكــــــــية العـــــاطرة
وقد تناول العلماء في كتب (المواليد) شيئاً من سيرته الشريفة، مما يتعلق بولادته، ورضاعه، ونشأته، وشبابه، ورجولته، وكهولته، ودعوته، وجهاده، وهجرته، وصبره، وغزواته، ومكاتباته، ومعاهداته، وصلاته، وصيامه، وحجه، وزكاته.
وهذا المولد الشريف الموجز سبكه الإمام ابن عبد الهادي بيراعه المباركة، فجاء كالدر الثمين، ترتوي من النظر إليه أرواح الصادين، وتعتذي على معانيه قلوب المتحمسين إلى معرفة سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وحكى فيه عن مولده، ورضاعه في ديار حليمة السعدية، ثم حادثة شق صدره، ثم كفالة جده عبد المطلب بعد وفاة أمه، ثم كفالة عمه أبي طالب، ثم قصته مع بحيرا الراهب، ثم زواجه بخديجة، ومجيء جبريل إليه بالوحي والنبوة، ثم الإسراء والمعراج، وعرضه نفسه على القبائل، ثم حادثة الهجرة، والإذن بالقتال، ثم ذكر باهر معجزاته، وعظيم آياته، ومحاسن صفاته، ويتخلل ذلك مقاطع شعرية، ومنظومات رائقة من نفسه.
التعريف بكتب المولد النبوي
هذا الجزء منقول من المبحث الأول من الفصل الثاني: حول دراسة كتاب "المورد الهني في المولد السني" لزين الدين عبد الرحيم العراقي (ت ٨٠٦ هـ)، رسالة ماجستير -منشورة، إعداد الطالب: عمر بن العربي اعميري، ص ٦١- ٦٧.
يعالج هذا النوع من الكتب حدث مولد النبي، وما يتصل به من رضاعه وفطامه. وقد اشتهر هذا النوع من التصنيف عند العلماء بكتب المولد النبوي. وهي: كتب أفردت للمرحلة الأولى من حياة النبي في، وما اتصل بها من إرهاصات وواكبها من دلائل ومعجزات.
وقد تناول العلماء خصوصا أهل المغازي والسير حدث مولد النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء كلامهم عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن أشهرهم:
محمد بن إسحاق (ت ١٥٠ ه)، ومحمد بن عمر الواقدي (ت ٢٠٧ هـ)، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات (ت ٢٣٠ ه).
أما التصنيف في المولد النبوي خاصة؛ فيصعب تحديد أول من حاز قصب السبق فيه.
وقد نسبت كتب إلى بعض العلماء المتقدمين، وفي صحتها نظر؛ بل بعضها إلى الصحابي الجليل حبر الأمة عبد الله بن عباس، ولا أظنه يصح، ومن أوائل من ثبت تصنيفه فيه:
الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي (ت ٢٣٣ هـ)، وبعده الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أي عاصم الشيباني (ت ٢٨٧ هـ)، ثم نشط التأليف في هذا النوع من التصنيف بعد ذلك، وخصوصاً بعد إحداث الاحتفال بالمولد النبوي.
وتأتي أهمية كتب المولد في كونها تعالج هذه المرحلة الزمنية من حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدقة، من خلال جمع الروايات المتعلقة بها، ومحاولة تقدم صورة واضحة متكاملة حول هذا الحدث العظيم، وما رافقه من إرهاصات وواكبه من دلائل ومعجزات، إضافة إلى ما تنطوي عليه من فوائد علمية متنوعة.
ونظراً اختلاف الغايات في تأليف هذه المصنفات؛ فقد تباينت مضامينها ومناهج تصنيفها بين مقتصر على حدث المولد وما رافقه، وبين مطول فيها إلى قرب استيعاب غالب أحداث السيرة.
ومن بين المقتصرين على حدث المولد وما رافقه:
الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت ٧٧٤ هـ) في كتابه: «ذكر مولد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضاعه»، إلا أنه أشار إلى ذكر شيء من شمائله وصفاته.
والإمام الحافظ أبو الفضل العراقي (ت ٨٠٦ هـ)، في كتاب: «المورد الهني في المولد السني».
والعلامة أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي ( ت ٩٧٤ هـ) في كتاب: «إتمام النعمة الكبرى على العالم بمولد سيد ولد آدم».
والشيخ العلامة ملا علي القاري (ت ١٠١٤ ه) في كتاب «المورد الروي في مولد النبي ونسبه الطاهر».
ومن المطولين في ذلك مع ذكر خصائصه وشمائله، والاستطراد الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الكلبي (ت ٦٣٣ هـ) في كتاب: «التنوير في مولد السراج المنير».
والعلامة أبو العباس العزفي (ت ٦٣٣ ه) في كتاب: «الدر المنظم في مولد النبي المعظم».
وأما من حيث المنهج: فقد اختلفت مناهج هذه المصنفات كما يلي:
١ - كتب التزمت منهج المحدثين في تخريج الروايات والأخبار من خلال الإسناد.
وهذا هو المنهج الغالب على مصنفات أهل القرن الثالث من الحدثين الذين ألفوا في المولد النبوي؛ مثل:
أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي (ت ٢٣٣ ه) صاحب (المغازي).
وأبو بكر أحمد بن عمر النبيل أبي عاصم الشيباني، (ت ٢٨٧ ه)، صاحب كتاب (السنة).
٢ - كتب سلكت منهج المحدثين في إخراج الكثير من الروايات بالإسناد، مع العناية بالنقد، لكن وقع فيها استطراد في كثير من الأبواب. مثل: كتاب ابن دحية الكلبي المتقدم ذكره.
قال ابن دحية السبتي في باب مولد النبي بعد أن ساق سنده إلى الإمام مسلم، واستطرد في ذلك: «قال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن غيلان ابن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي». ولهذا الحديث الصحيح طرق».
ومن أمثلة العناية بنقد بعض الروايات:
قال ابن دحية الكلبي: «وحديث حليمة من كنوز محمد بن إسحاق، قد انفرد به، لا يعرف إلا من طريقه، فأعرضت عن إيراده وإن كان أهل السير والخبر... بأن حليمة أرضعته بعد ثويبة ورات له برهانا عظيماً... ».
وكان قد ذهب إلى تجريح ابن إسحاق، وعدم الاعتماد على روايته.
٣ - كتب اكتفت بعزو الحديث إلى مصدره مع ذكر الصحابي راوي الحديث، في الغالب، والرواية بالمعنى، مع عدم الاستطراد.
مثالها: كتاب «ذكر مولد النبي ورضاعه» للحافظ ابن كثير، قال رحمه الله: وثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة الأنصاري، قال: سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي».
٤- مصنفات صاغت قصة المولد بأسلوب أدبي يقترب من الكتابة الأدبية في العرض مع ذكر بعض الأحاديث والأخبار، وإيراد القصائد.
مثاله: كتاب المورد الصادي في مولد الهادي، للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، قال رحمه الله: « ... تركت الخثعمية عبد الله ترك ظبي ظله، وكان ظنها أنها لا تصلح إلا له، لكن أسباب القضاء ببعدها كانت لها مقارنة، وصائح القدر يصيح لا يصلح إلا لآمنة.
كملت به آمنة مذ لفضله ملكت.. وصلحت به لما على حمله حصلت
ولم تشعر بالحمل حتى قيل لها في التوهيم: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها الكريم، وأمرت بما تعوذه من الشيطان إلى أن تم لها من حملها شهران، فتوفي على الراجح أبوه عبد الله، وهذا أبلغ اليتم وأعلاه... الخ.
وهذا المنهج هو الغالب على مؤلفات المتأخرين، لكنها لا تتفق في ترتيب الموضوعات، وكثير منها لا تنتظم في فصول وأبواب؛ حيث لا يجد القارئ عناوين تشعره بالانتقال من موضوع إلى آخر.
وكثير منها تعبر عن هذا الانتقال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: مولد البرزنجي، أو مولد الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المسمى «إسعاف الراغب الشائق».
٥- مؤلفات نظمت المولد النبوي في قصائد شعرية:
مثل: «نظم المنظم في مولد النبي المعظم » لأي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر الوقشي (ت ٦٩٧ ه) نظم فيه الدر المنظم لأبي العباس العزفي في (١٨٥) بيئاً من البحر البسيط، ونظم مولد الحافظ ابن كثير من نظم محمد بن سالم بن حفيظ.
لكن ما يكدر صفو هذه المصنفات، تساهل الكثير من مؤلفيها خصوصا الذين لم يلتزموا منهج المحدثين في نقل الروايات، فرووا الأحاديث الضعيفة والمنكرة؛ بل والموضوعة.
كما نشط الوضاعون والسراق في هذا الباب، فأبدعت قرائحهم العديد من الأخبار المكذوبة على خاتم النبوة والرسالة؛ بل وضعوا مجموعة من الكتب، ثم نسبوها إلى أئمة مشهورين ليسهل رواجها وتداولها بين الناس.
ومن الأئمة الذين نسبت إليهم مصنفات في المولد النبوي، ولا تصح نسبتها إليهم:
١ - الإمام محمد بن عمر الواقدي ( ت ٢٠٧ هـ )، ولا شك أن الواقدي رحمه الله قد تناول مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ضمن مصنفاته وخصوصا في كتاب التاريخ والمغازي والمبعث، وفي كتاب الطبقات.
وقد حفظ لنا تلميذه الإمام الحافظ محمد بن سعد (ت ٢٣٣ ه)، العديد من هذه الروايات في كتابه الطبقات الكبرى.
ولم أجد فيما وقفت عليه من كتب الرجال، والفهارس، والمعاجم، والمشيخات، والبرامج كتابا في المولد للواقدي.
وأقدم من وجدته صرح بنسبة كتاب له فيه العلامة عبد الرحمن الثعالبي (ت ٨٧٥ ه) في كتابه «الأنوار في آيات النبي المختار» (١ /١٥)، كما العلامة السهيلي في الروض الأنف ( ١/ ١٥)، وابن خلدون في تاريخه (٢ / ٣٩٥) إلى الواقدي كتابا بعنوان: (انتقال النور) ولا يبعد أن تكون هذه المصنفات أجزاء من كتب الواقدي المتقدم ذكرها إن صحت نسبتها إليه.
وأما نسخ المولد المنسوبة له وبالخصوص النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية؛ برقم (٧٤)، والمحفوظة بقسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود؛ برقم (٣٨٣٣) فلا تصح نسبتها إليه، قال الدكتور قاسم السامرائي: «لغتها النثرية ولغة الأشعار المتناثرة في النص لا يمكن أن تكون لغة الواقدي؛ فهي أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، والظاهر أنها من تزويرات القصاص والوضاعين لقراءتها في المجالس».
٢ - الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي (ت ٥٤٤ ه)، وقد نسب إليه مصنف في ذلك، قال العلامة عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني: «وجد في مجموع السيد أحمد المكي الجزائري مولد منثور نسب لعياض... وهو مطبوع في دمشق ( ١٩صفحة ) لكن نفسه بعيد عن إنشاء عياض ... وللكتاب نسخة محفوظة بجامعة الإمام محمد بن سعود، رقم: (٥٣٥) قال عنها الدكتور السامرائي: «منحولة على القاضي عياض دون ريب ... وهي قصة أشبه ما تكون بقصة المعراج منها بالمولد ».
٣ - الإمام عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت ٥٩٧ ه) ونسب إليه المولد المسمى «بالعروس»، ولا يصح
وبعضها نسب إلى أكثر من واحد كما هو الحال في « مولد خير البشر»، نسب: إلى محمد بن عمر الواقدي، وإلى الكسائي، وإلى ابن الجوزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق