إنارة الأغوار والأنجاد
بدليل معتقد ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطريق المعتاد
محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب جاء جواباً عن سؤال ورد في كيفية ولادته صلى الله عليه وسلم، ونصُّه: هل أخرج صلى الله عليه وسلم حين الولادة من السبيل المعتاد خروج البشر منه، أو ولد من سرة أمه؟ أو من جنبها؟ أو من غير ذلك؟ قال الشيخ الكتاني: فجزمتُ بالرد والإبطال، والدحض لسيء هذه الأقوال، جازماً قاطعاً مصرحاً، جامعاً، بأنه صلى الله عليه وسلم ولد كما تولد الناس من الفرج، وقد أجمعت على ذلك الأمة، ونطقت به تصانيف أهل الملة.
وقد صدَّق الكتاني جوابه هذا بمطالعة الكتب المؤلفة في السير والموالد والتي تربو على المائة وخمسين مصنفاً بل أكثر، ونقل عن العلماء المعتبرين في هذه القضية ما لا يدع المجال لمجادل أو مماطل، وقد قرّظه له كبار العلماء الأعلام في عصره، وأكَّدوا ما فيه، وقد كتب العلامة أحمد بن شعيب الزموري قصيدةً أثنى فيها على هذا الكتاب، وأنا أوردها في نهاية المقال.
وسبب هذا السؤال أن أحد المتأخرين يدُعى بالشهاب الحلواني (ت 1308 هـ) ادَّعى ولادته صلى الله عليه وسلم من غير موضع الفرج، وأسند ذلك إلى رجلٍ يُدعى بابن سبع في "الشفا له" دون أن يذكر حجةً على ذلك أو برهاناً، ولم يعثر في ذلك على شيء من كتب "ابن سبع"، ولم يوجد قبل الحلواني من أسند ذلك إليه، وقد نسب السيوطي مسائل من خصائصه ولم يُعرج على هذه المسألة، إما لعدم وقوفه عليها، أو لبطلانها، مع ترجيح الأول.
ولا شكَّ أن الحلواني قد أقدم على أمرٍ عظيم، لم يكن له الولوج فيه، أو التعرض إليه، لأنه ثبت في الصحيح أنه (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقد قال الكتاني (ص 39): ومن العجب أن يدعي ذلك واحد بعد مضي أكثر من ألف سنة من مولده صلى الله عليه وسلم، فالأمر كما قال محدث مصر نجم الدين الغيطي في (مولده الحسن)، ونصه: قد أكثر الناس الأخبار والآثار فيما يتعلق بحمله صلى الله عليه وسلم، ومولده ورضاعه وغيرها ولا يصح في ذلك إلا أخبار قليلة. انتهى. وهذا الخبر منها ولا إشكال والمراد نفي الصحة عنه.
ولكن ينبغي عدم التعرض لهذه المسألة بين العوام وضعاف العقول، ولا التنقير فيها بين الجهلة والمبتعدين عن هدي الرسول، لأن التعرض لها خروج عن حدَّ الفضل إلى حد الفضول، ولما يوهمه الكلام في ذلك من الانتقاص والتعريض بالجناب الشريف، ولما قد يجري في حكايتها من بعض الوعاظ من سوء التعبير، ولكن لا ينبغي الاختلاف في كون هذا الوصف جائزاً عليه، ويكفي في ذلك العلم بأنه صلى الله عليه وسلم بشر من البشر، وأنه خرج من الموضع المعتاد.
يقول الكتاني (ص 32): وقد تقرر أن الظواهر إذا تكررت وتكاثرت نزلت منزلة النص، بل أقول وبالله التوفيق ..لسنا بحمد الله نحتاج في هذه المسألة إلى نص جليّ أو ظاهر، فإن الأصل في البشر أنهم يخرجون حالة الولادة من الفرج، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم من البشر، فالأصل أنه أخرج مما يخرج منه أمثاله، والتمسك بالأصل هو الأصل، فلا نخرج عن اعتقاده إلا بنصٍّ قاطع متواتر، ينقض هذا الأصل، ويخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذه الكلية، ولا وجود له. انتهى.
ورتب الكتاني كتابه على بابين:
الباب الأول في نفي حجج من زعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخرج من غير السبيل المعتاد، وأن ذلك يحتاج إلى الإسناد.
الباب الثاني: في إثبات أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخرج مما يخرج النوع الإنساني منه، لا من سرة ولا من غيرها، وقد أورد إجماع العلماء على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولد من المكان المعتاد، ثم ذكر أحاديث بأسانيده تدل على ذلك.
وقد نبه الحافظ العراقي في "ألفيته" في السيرة النبوية على أنه ليس كل ما ورد في السير مقبول، فقال:
وليعلم الطالب أن السيرا .. تجمع ما صحَّ وما قد أنكرا
قال المناوي في "الفتوحات السبحانية": على قوله (وما قد أنكرا) أي ما أنكر جهابذة المحدثين وردوه، بن لم يقفوا عليه بعد التفتيش لا في حديث ولا في أثر صحيح ولا حسن، ولا ضعيف؛ لأهل السير يوردون في كتبها ما لم يقفوا له على إسناد أصلاً، وما ورد من طرق واهية، بل باطلة، ولا يتحاشون من ذلك. (انظر ص 9).
وذلك إنما يقع ممن يجمع السير ليس من أهل الصناعة الحديثية، وأما هم رضي الله عنهم؛ فيتوخون الصحة والضعف على الأقل (كسيرة) الحافظ ابن حجر، فإنه التزم فيها الاقتصار على أصح الروايات، وكذلك ألفيه شيخه العراقي، لقوله عقب البيت السابق:
والقصد ذكر ما أتى أهل السير .. به وإن إسناده لم يعتبر
فإن يكن قد صحَّ غير ما ذكر .. ذكرتُ ما قد صحَّ منه واستطر
أما الأحاديث:
فالأول (ص 21): بإسناده عن إسحاق بن عبد الله، أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لما ولدته: "أخرج من فرجي نورٌ أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفاً ما به قذر.." قال: فقول آمنة هاهنا: أخرج من فرجي صريحٌ في خروجه صلى الله عليه وسلم من فرجها الطاهر.
والثاني (ص 22): ما خرجه أبو نُعيم، عن بريرة، عن مرضعته صلى الله عليه وسلم من بني سعد أن آمنة، قالت: "رأيتُ كأن أخرج من فرجي شهابٌ أضاء له الأرض..".
والثالث والرابع (ص 22، 23): ما خرجه ابن سعد وأحمد والطبراني والبيهقي وأبو نُعيم، عن أبي أمامة، قال: قيل: يا رسول الله ما كان بدء أمرك، قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت أنه أخرج منها نور أضاء به قصور الشام.
وخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله أنهم سألوه… نحوه.
والخامس (ص 23): ما خرجه بإسناده، عن أبي نعيم في كتابه "أعلام النبوة"، عن عثمان بن العاص، قال: أخبرتني أمي أنها حضرت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أضر بها المخاض، قالت: فجعلتُ أنظر إلى النجوم تدلى حتى قلتُ لتقعن عليَّ، فلما وضعت خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى جعلتُ لا أرى إلا نوراً.
قال الكتاني: وهذا الحديث من جنس ما قبله، يؤيد الرواية الأولى، فخرج من فرجي نور، وهي نفسره، والنور الذي أخرج من آمنة هنا هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث قد أشار إلى مجموعها الحافظ العراقي في ألفيته، حين تكلم عن المولد الشريف، فقال:
وقد رأت إذ وضعته نورا .. أخرج منها رأت القصورا
قصور بُصرى قد أضاءت ووقع .. بصره إلى السماء مرتفع
صلى الله عليه وسلم.
وبعض الجامدين يتشبث بقول البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم .. واحكم بما شئت فيه مدحاً واحتكم
في نسبة أمور إليه صلى الله عليه وسلم ناسبت قدره، ككون القمر ليلة انشقاقه دخل من كمه وخرج من الاخر، وكونه أيام اختفائه في الغار أرسل الله البحر بالغار، فالتفت أبو بكر رضى الله عنه مرة فرأى سفينة به مشدودة بوتد بباب الغار، ومثل المسألة المؤلف فيها، فإن من يثبتها يزعم أن كماله صلى الله عليه وسلم يقبلها، ونحن لا ننازع في القبول والإمكان،وإنما ننازع في الثبوت والوقوع، ولله در الإمام خاتمة الحفاظ الشمس الشامي حين قال في سيرته (سبل الرشاد) منكرا لما ذكر من السفينة واتصال البحر ما نصه: هذا ليس ينكر من جهة قدرة الله ولكن لم يرد بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئاً من قبل أنفسنا ولكن ما صح أو حسن قلنا به انتهى.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم لم يخرج من نحو سرة ومثلها فلم يبق إلا انه خرج مما يخرج منه الناس ضرورة، وأنه ولد من أبوين كما يولد البشر فلزم من ذلك أنه تقلبت به أطوار النشأة الطبيعية من كونه: كان منياً طاهراً نزل من صلب أبيه الكريم الطاهر إلى أمه الطاهرة المرضية .. إلى أن خرج إنسانا طاهراً مطيباً مطهراً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله فلم يعتقد فيه رجال أمته وصبيانا ونساؤها وعجائزها إلا أنه بشر مثلهم، ولد كما يولدون، ثم مات كما يموتون، فأعطى البشرية حقها، والملكية رتبتها، وفضل البشر في بشريتهم، وأصحاب الأرواح المقدسة في روحانيتهم، وقد ولد على أتم صفات الكمال، وأنزه سمات التقديس، واعتنت أمته المعصومة من الإجماع على الخطأ بأخباره صبياً وشاباً وكهلاً وشيخاً وأوجبوا على المسلمين المؤمنين به أن يعرفوا أخلاقه وأطواره وأحواله، وتقلبات الدهر به من ولادته إلى موته كما في سيرة ابن فارس وغيرها ولم يذكر أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من تابع التابعين انه ولد من جنب امه ولا اشاروا له، ولا بالإبطال أو التمريض أو التضعيف شدة العناية به التي صرفت لأحواله ومتعلقاته. انتهى.
وأختم بما قاله العلامة أحمد بن شعيب الزموري في نظم معاني هذا الكتاب:
لذ إن أردت معالم الإرشاد .. باضاءة الأغوار والأنجاد
واشدد عليه يد الضنين فإنها .. كنز عزيز لا تراه بنادِ
واستجلِ سر بهائها واسمع لما .. تتلوا عليك وضمهما لفؤادِ
فهي الدليل لدى التجادل عندما.. يقول اللجاج وبغية الإفراد
قد أظهرت بأدلة في مشكلٍ .. ما ترتضيه أجلةُ الأمجادِ
أن الرسول الطاهر المختار قد .. كانت ولادته من المعتادِ
ولما يروم ذو التغفل زيفت .. واستصوبت تفنيده بالبادِ
قالوا بزعم أمه ولدته من .. ثقبٍ بلا ميلٍ ولا إسنادِ
قصدوا بذاك ثبوت معجزةٍ وما .. علموا غنى خير البرايا الهادي
يكفي من الإعجاز معجزةٌ على .. مر الدهور لذاك بالمرصاد
وهي الكتاب كلام خالقنا الذي .. بعث النبيّ بحكمةٍ لعبادِ
فجزى الآلاء مؤلفاً أقوالها .. وحباه بغيته وكل مرادِ
ذاك الإمام الجهبذ الشهم الذي .. أحيا العلوم وقد رأت لبُعادِ
بحر العلوم خزانة الأسرار .. نجل المصطفى المولى أبو الإسعادِ
راوي الحديث وعمدة الإسناد ذو .. الحفظ الكبير وفائق الإيرادِ
صنو الأجلة مَن بدت أنوارهم .. بشما الكمال لحاضرٍ ولبادِ
أعني بذاك القرم السري المرتضى .. مولاي عبد الحي ذا الإمداد
الجامع الخيرات والبركات والفضل .. العميم وشيمة الأسياد
أبقاه ربي في أمانٍ دائمٍ .. وحما مكانته من الأنكادِ
بالمصطفى المختار خير الخلق تاج .. الرسل طه مطلب القُصّاد
صلى عليه وآله وصحابه .. من خصَّه بالفضل والإرشادِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق