أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 29 أكتوبر 2022

أسباب النصر من سورة الأنفال عبد الحميد محمود طهماز بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

أسباب النصر من سورة الأنفال

عبد الحميد محمود طهماز

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ يتناول هذا الكتاب أسباب النصر من خلال وسورة الأنفال التي أنزلها الله تعالى في غزوة بدر الكبرى، وهي الغزوة التي مهدت لبقية الانتصارات التي تلتها بعد ذلك، ولم يقتصر الكتاب على بيان أسباب النصر أو الهزيمة، وإنما تحدث عن تفسير السورة عموماً مع عناوين فرعية مناسبة لكل مقطع، ومراعاة ترتيب الآيات، وبيان أحوال الطغاة والمكذبين، وأسباب زوال النعم، والتحذير من الغدر ونقض العهد، وأن الخدعة تكون في الحرب لا في العهد، وإعداد قوة الرمي والهجوم، والقوة بعد الضعف، وحذرت من الانشغال بالأسرى والغنائم عن مجريات المعركة.

وتناول الكتاب -أيضاً -صوراً من الفداء والوفاء، كما حذرت في آياتها الأخيرة من موالاة الكافرين، وبينت أن الفساد كل الفساد في موالاة الكفرة والمجرمين، وتوجت خاتمة السورة ببيان فضيلة السابقين، والثناء العطر على المهاجرين والأنصار، وبينت مراتب الولاية والنصرة بين المسلمين، وأن الأرحام أولى بكل بر وخير وصلة.

والكتاب مقسم على ثلاثة فصول:

الفصل الأول: بيان الأسباب المباشرة للنصر من خلال عرض ما حدث قبل المعركة، وفي أثنائها.

الفصل الثاني: بيان الأسباب غير المباشرة للنصر، التي ينبغي للأمة أن تسعى دائماً في تحصيلها، لتضمن الحياة الكريمة العزيزة لها.

الفصل الثالث: التحذير من أسباب الهزيمة التي تنعكس آثارها السلبية على حياة الأمة في السلم والحرب.

أسباب النصر التي تعرضت لها السورة

١+٢+٣-تقوى الله عز وجل وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله:  

فوعد أن جعلت الآية أمر الأنفال إلى الله تعالى وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام أمرتهم بثلاثة أمور هامة:  

أولها: تقوى الله تعالى فاتقوا الله بترك الاختلاف والنزاع، فخشيته تعالى ومراقبته تزيل من النفس أسباب الاختلاف والنزاع.  

وثانيها: وأصلحوا ذات بينكم: أي أصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال إلفة ومحبة واتفاق، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات: الآية ١٠)

وقال أيضاً: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمران: الآية ١٠٥).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) رواه البخاري ومسلم.  

وقد حث الإسلام على إصلاح ذات البين، وبين خطورة الاختلاف على الدين فقال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وثالثها: وأطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمران به وينهيان عنه، ويدخل فيه أمر الأنفال، ولا تتحقق طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا بالتزام الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة.  

ووقوع الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بطاعة الله ورسوله، يدل على أهمية الإصلاح وخطورته، فلا تتم التقوى ولا تكتمل الطاعة إلا به.  

وأساس التقوى في ضمير الإنسان ووجدانه، في خوفه من الله تعالى وتعظيمه ومراقبته، وكل ذلك في القلب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى ها هنا» ويشير إلى صدره» رواه مسلم.  

فإذا ما وجد في القلب شيء من أسباب الخلاف والنزاع كالبغضاء والشحناء والحقد والحسد، دل ذلك على ضعف التقوى، وكان سبباً لحرمان المسلم من نفحات رحمة الله تعالى في الأوقات المباركة.  

وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في عدد من الأحاديث النبوية الشريفة، منها «تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم. 

كما دل على أهمية هذه الأوامر الثلاثة قوله تعالى في ختام الآية: {إن كنتم مؤمنين} ٢١: أي إن كنتم مؤمنين حق الإيمان فالتزموا بهذه الأوامر الثلاثة.  

فالمراد الحث على التقوى والطاعة وإصلاح ذات البين والمسارعة إليها، فإن كمال الإيمان يدور على هذه الخصال الثلاث، وهي أيضا أول أسباب النصر وأهمها، فالأمة التي تريد النصر يجب عليها أولاً أن تضم صفوفها وتصلح ذات بينها.  

٤-بين الخوف والرجاء:

ثم بينت الآيات على وجه الاستئناف والحصر الظواهر الدالة على كمال الإيمان وقوته {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}: أي فزعت وخافت تعظيماً لشأنه جل جلاله، وخشية منه  لمجرد ذكره سبحانه.  

ومن المعلوم أن المؤمن كلما ازداد معرفة بالله تعالى وإيماناً به، ازداد تعظيماً له تعالى وخشية منه؛ ولهذا كان رسول الله يقول: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» رواه البخاري ومسلم. 

وكان عليه الصلاة والسلام كثير البكاء، ويقول لأصحابه «لو تعلمون ما أعلم - من جلال الله تعالى وعظمته ـ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا» قال ذلك في خطبة له قال عنها أنس بن مالك رضي الله عنه: ما مثلها قط، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم. رواه البخاري ومسلم

فالخوف من الله تعالى والبكاء من خشيته من علامات الصالحين المخبتين، الذين قال تعالى فيهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} (المائدة: الآية ٨٣).

 وقد عد عليه الصلاة والسلام من الأصناف السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. رواه البخاري ومسلم.

ولا منافاة بين قوله تعالى هنا: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، وبين قوله: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: الآية ٢٨)؛ لأنهما مقامان يجتمعان في قلب المؤمن، مقام تعظيمه وخشيته والخوف منه، ومقام الرجاء برحمته وفضله وإحسانه.

وقد جمع تعالى بينهما في آية واحدة فقال: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فماله من هاد} (الزمر: الآية ٢٣. انظر تفسير الخازن ٥/٣).

وقد يكون الاطمئنان بذكر الله تعالى في ذهاب الهموم والأحزان عن قلب المؤمن عندما يذكر الله تعالى، وذلك بسبب ما يفيض عليه سبحانه من فيوضات كرمه وإحسانه عند ذكره {فـاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة: الآية ١٩٢)، {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} (التوبة: الآية ١٢٤): أي إذا قرئت عليهم آيات القرآن الكريم زادتهم تصديقا بالله تعالى وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

فكل آية من آيات القرآن الكريم تزيد إيمانهم وتقوية بسبب زيادة الدلائل والبراهين، قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} (فصلت: الآية ٤٤ ).

فالقرآن الكريم يثبت الإيمان في قلب المؤمن ويقويه، فهو نور على نور، كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء وعلى ربهم يتوكلون ٢٢} (مختصر تفسير ابن كثير ٢/ ٨٥): أي يعتمدون عليه ويفوضون أمورهم إليه وحده، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، وهم يعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.  

ومن أهم صفات المؤمنين العملية الذين يقيمون الصلاة: أي يؤدونها بشكل صحيح مستقيم كما شرعت، يحافظون على أوقاتها ويحرصون على تحصيل شروطها وإقامة اركانها وسننها وآدابها، مع الخشوع فيها لجلال الله تعالى وحده.  

{ومما رزقناهم ينفقون} الزكاة وسائر الحقوق الواجبة والمستحبة.  

٥-المؤمنون حقاً:  

أولئك المتصفون بهذه الصفات الخمس، وهي الخوف من الله تعالى، والإخلاص له وحده، والتوكل عليه، وإقامة الصلاة، والإنفاق من أموالهم في الوجوه الواجبة والمستحبة {هم المؤمنون حقاً}: أي هم المؤمنون حق الإيمان، الذين بلغوا مرتبة رفيعة في الإيمان والصلاح، ولا يعني هذا أنهم وحدهم المؤمنون.

فالقرآن الكريم نزل  بلسان العرب وهم يقولون: فلان سيد حقا، وفي القوم سادة، وفلان تاجر حقا، وفي القوم تجار، وفلان شاعر حقا، وفي القوم شعراء (ذكره ابن كثير في تفسيره عن عمرو بن مرة، المختصر ٨٥/٢).

ويؤكد هذا المعنى قوله سبحانه بعد ذلك {لهم درجات عند ربهم}: أي لهم مقامات ومنازل رفيعة في الجنة على قدر صدقهم  وصلاحهم، ففي الجنة درجات، كما أن في جهنم دركات، قال تعالى: {هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون} (آل عمران: الآية ١٦٣).

 وقال عليه الصلاة والسلام: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام» رواه الترمذي وحسنه. 

وقال أيضاً: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». رواه البخاري ومسلم.

{ومغفرة}: أي ولهم أيضاً ستراً لذنوبهم وتجاوز عنها، فضلاً منه سبحانه وهذا يدل على أن الإنسان مهما ترقى في درجات الإيمان والصلاح لا يخلو عن بعض الذنوب، ويبقى محتاجا إلى مغفرة الله تعالى وعفوه، فلا ينبغي لأحد أن يعجب بعمله ويغتر بنفسه.  

العير أو النفير  

ثم واجهتهم الآيات الكريمة بما أضمروه في قلوبهم، واختاروه بينما أراد الله تعالى لهم أمرا آخر أجل وأعظم مما اختاروه لأنفسهم، {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} الظفر بالقافلة أو النصر على جيش المشركين.  

{وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}؛ فرغبتهم متوجهة إلى العير، وودادتهم منصبة عليها؛ لأنها لا خطر فيها.  

و الشوكة السلاح أو حدته، وبهذا التعبير بين سبحانه سبب رغبتهم بالعير وكراهتهم للنفير، والحرص على الكسب بدون عناء ومشقة أمر فطري مركوز في جبلة الإنسان يدل على ضعفه ومحدوديته، والصحابة رضي الله عنهم بشر، شأنهم في هذا الأمر كشأن غيرهم من البشر.  

وتدل الآية على كمال علم الله تعالى، وأنه يعلم السر وأخفى، يعلم سبحانه كل ما يهجس في النفس البشرية من خواطر ورغبات وأماني {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير}.

ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويريد الله سبحانه أن يثبت الإسلام ويعزه ويعلي أمره بما أوحى إلى رسوله خؤ وأنزل عليه من الآيات الكريمة التي شرع فيها الجهاد وأمر به .

{ويقطع دابر الكافرين} ٢٧: أي يستأصلهم ولا يبقي منهم أحدا، فالجهاد ماض ما دام للكفر شوكة وقوة في الأرض تمنع انتشار الإسلام، وتحول بينه وبين الناس.  

{ليحق الحق ويبطل الباطل}: أي شرع سبحانه ما شرع من الجهاد والقتال وجمع بين المسلمين والمشركين في بدر على غير ميعاد، لكي يثبت الحق ويعز دينه ويظهره، ويدحض الباطل ويقمعه ويدحره. 

{ولو كره المجرمون} ٢٨: أي ولو كره ذلك المشركون الكافرون، فإرادته تعالى هي الغالبة، ومشيئته سبحانه التامة النافذة، والتسليم لأمره تعالى والانقياد لمشيئته دون أدنى اعتراض من أهم أسباب النصر. 

وهذا يكشف لنا جانبا من جوانب عظمة غزوة بدر، فقد كانت هذه الغزوة البداية لعزة الإسلام وظهوره وارتفاع راياته في جنبات الأرض.  

وكان البدريون من الصحابة رضي الله عنهم طليعة المجاهدين ورواد الجهاد الأول، الذين شقوا الطريق لكل من سار عليه بعد واقتفى آثارهم إلى يوم الدين، فلا عجب أن يكون لهم رضي الله عنهم امتياز على غيرهم حتى قال يبين فضلهم ومكانتهم عند ربهم «اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه أبو داود.

 وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟»، فقال: من أفضل المسلمين» قال: «وكذلك من شهد بدرا من الملائكة عليهم السلام» أخرجه البخاري.  

الدعاء عند اللقاء  

وتابعت الآيات تصف ما حدث قبل المعركة {إذ تستغيثون ربكم}: أي تسألون الله تعالى وتطلبون منه الغوث والنصر.  

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي  الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف، واصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فاأاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: «يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } فأمده الله تعالى بالملائكة»  أحرجه مسلم.

فعلى الأمة التي تريد النصر أن تتوجه إلى الله تعالى بخشوع وخضوع، تدعوه وتسأله النصر، بعد أن تستكمل الأسباب المادية في الإعداد والاستعداد التي أمر تعالى بها كما سيأتي معنا.

وعلى المجاهدين بشكل خاص أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالدعاء عند اللقاء في ميدان المعركة، فالدعاء أقرب إلى الإجابة في هذا الموطن كما فعل النبي تيجو في بدر، وفعله أصحابه أيضاً.  

واستجاب سبحانه وتعالى لهم، وقال: فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين متتابعين، فالاستجابة أعقبت الدعاء، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشد ربه خفق صلى الله عليه وسلم خفقة، وهو في العريش الذي بنوه له ليتخذه مقرا لقيادته، ثم رفع رأسه فقال: «يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرس، يقوده على ثناياه النقع» (سيرة ابن هشام ١٩٦/٢. والنقع: الغبار).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبيه قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».  

ثم خرج عليه الصلاة والسلام من العريش وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر ثم نزل إلي أرض المعركة فأشار إلى مصارع من سيقتل من رؤوس المشركين قائلا: «هذا مصرع فلان، ويضع يده على الأرض، هنهنا وهنهنا.» قال أنس بن مالك راوي الحديث: «فوالله ما ماط أحد منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (رواه مسلم. ما ماط: ما مال ولا عدل).  

البشارة بالنصر:

ولكي تبقى قلوبهم متجهة إليه وحده جل جلاله، فلا يعتمدوا في النصر على غيره قال: {وما جعله إلا بشرى}: أي وما جعل الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم بالنصر، فإن ذلك يشد من عزيمة المقاتل، ويرفع معنوياته، ويزداد ثباتا وإقداماً.

{ولتطمثن به قلوبكم}: أي ولتسكن بهذا الإمداد قلوبكم، فيزول ما كان بها من خوف وقلق بسبب قلة عددهم وكثرة عدوهم.  

وهذا ما تستهدفه برامج التوجيه المعنوي للجنود في العصر الحاضر، فإن قادة الجيوش يحرصون أشد الحرص على رفع معنويات جنودهم بشتى وسائل التوجيه، كما يحرصون على إزاحة الخوف والقلق عن نفوسهم وقلوبهم، فالجندي إذا استبد به الخوف وسيطر عليه القلق لا يثبت في أرض المعركة ولا يصبر على أهوالها، ويعد نجاح القائد في رفع معنويات جنوده سببا هاما من اسباب النصر.  

{وما النصر إلا من عند الله}، فلا تحسبوا أن النصر من الملائكة، إنما النصر من الله تعالى، منوط بمشيئته وحده وقدرته، ومشيئته سبحانه طليقة نافذة، وقدرته كاملة، فلا يحتاج إلى وسائل واسباب. {إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}، {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}. وما شرع الله الجهاد وكلف المؤمنين بأعباء القتال إلا ابتلاء لهم  واختبارا، قال سبحانه: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم}.

كما أن قتل المؤمنين للكافرين في ميدان المعركة أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين}؛ فقتل صناديد قريش كأبي جهل بأيدي المؤمنين أنكى للمشركين من موتهم بقارعة أو صاعقة، وأشفى لصدور المؤمنين.

{إن الله عزيز لا يغلب حكيم}: في تدبيره وشرعه.  

النوم في الميدان:

ومما يدل على حكمته سبحانه وكمال قدرته أنه جعل الصحابة  البدريين ينامون مطمئنين ليلة المعركة كأنهم في بيوتهم وعلى فرشهم لا  

وقد أشارت الآية إلى أمرين هامين، لهما تأثير كبير على سير  المعركة:  

أولهما: ينبغي على أمير الجند أن يحرص على تأمين راحة جنوده النفسية والبدنية قبل المعركة.  

ثانيهما: وعليه ايضاً أن يحسن اختيار الأرض المناسبة للقتال، ويتمكن الجنود من سهولة الحركة وسرعة المناورة، كما تساعد على حمايتهم من عدوهم، وقد فعل النبيذ هذا قبل المعركة، فعندما وصل عليه الصلاة والسلام إلى بدر نزل على أول ماء فيه، فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه: يا رسول الله ارايت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القُلَب، ثم نبني عليه حوضا فنملأ ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله يؤو: «لقد أشرت بالرأي» (سيرة ابن هشام ١٩٢/٢، والقلب: الآبار).

فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وهكذا تمكنوا من الماء وسيطروا عليه، كما ثبت الله تعالى لهم الأرض فأصبح سيرهم عليها سهلا ميسورا.  

مهمة الملائكة في بدر:

ثم بينت الآيات مهمة الملائكة الذين أمد الله بهم المؤمنين في بدر {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} في تأييد المسلمين وتثبيتهم ونصرهم فثبتوا الذين آمنوا ه بما تلقونه في قلوبهم من التبشير بالنصر والتشجيع، وللملك قوة على إلقاء معاني الخير في نفس  الإنسان، كما أن للشيطان قوة على الوسوسة في قلب الإنسان، ويسمى ما يلقي الملك لمة وإلهاماً، وما يلقيه الشيطان وسوسة (انظر: تفسير الخازن ١٨/٣).

ويؤيد ذلك الحديث النبوي الشريف «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة 

فالآية الكريمة توجه المجاهدين إلى ضرب العدو في مقاتلة، وتلفت أنظارهم إلى مواطن الضعف عند عدوهم ليضربوه من خلالها، وهو أمر يحرص عليه كبار القادة العسكريين، قبل المعركة يبحثون بواسطة أجهزة استخباراتهم عن نقاط الضعف عند عدوهم لكي يضربوه من خلالها، دون أن تلحق بقواتهم خسائر كبيرة.  

ذلك: أي هذا الأمر بضربهم على رقابهم ورؤوس اصابعهم بأنهم شاقوا الله ورسوله لأنهم خالفوا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فساروا في شق وطريق يخالف الطريق الذي شرعه الله تعالى وسار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.  

{ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} وما أنزله بهم في بدر شيء قليل من عقابه تعالى وعذابه الذي أعده لهم يوم القيامة.  

ثم توجهت الآيات بالخطاب إلى المشركين تبكيتا لهم وتقريعاً ذلكم العقاب والعذاب فذوقوه اعرفوا طعمه، فهو مقدمة لعذاب أكبر ينتظركم.

{وأن للكافرين عذاب النار} هذا ما أراده وعندما وقف على الحفرة التي ألقيت فيها  مالك أن رسول الله ترك جثث قتلى المشركين في بدر، فعن أنس بن قتلى بدر ثلاثا، ثم اتاهم فقام عليهم، فناداهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد حقا» فقال وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا؟ قال: «والذي عمر: يا رسول الله كيف نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوه». وهذا يدل على أن عذاب القبر حق، وقد ذكر هذا الحديث في صحيح مسلم لإثبات عذاب القبر.  

الثبات عند الضربة الأولى  

وبعد أن تحدثت الآيات الكريمة عما حدث قبل بدء القتال في بدر، التفتت إلى المؤمنين تخاطبهم، تأمرهم بالثبات عند لقاء العدو والشروع بالقتال: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا} مجتمعين متزاحفين بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني في القتال.

{فلا تولوهم الأدبار} فلا تولوهم ظهوركم منهزمين منهم، ولو كانوا أكثر عدداً وعدة منكم، فكلمة زحفا تدل على كثرتهم بحيث يرى الجيش لكثرتهم كأنه يزحف.  

وأهم عنصر في المعركة يحقق النصر الثبات في وجه العدو عند أول اللقاء، قال عليه الصلاة والسلام: «الصبر عند الصدمة الأولى»، وقال أيضاً: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».

ولهذا يعمد القادة المحنكون إلى توجيه أقصى قوتهم إلى عدوهم في الضربة الأولى لكي يشيعوا الذعر والخوف في قلوب جنود العدو، ويحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفه، فالثبات في وجه الضربة الأولى يقرر غالباً نتيجة المعركة بتقدير الله تعالى، فهو أمر خطير وحاسم في المعارك، ولهذا توعدت الآيات الكريمة الذين لا يثبتون في وجه العدو  بأشد أنواع الوعيد.

{ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال}: أي إلا إذا كان يريد الكر بعد الفر، وتظاهر بالفرار أمام العدو ليخدعه ويستدرجه ليتمكن منه، فمخادعة العدو في الحرب أمر جائز ومشروع، قال عليه الصلاة والسلام: «الحرب خدعة». 

{أو متحيزاً إلى فئة} أو ترك القتال لينحاز وينضم إلى جماعة مسلمة من جنود المسلمين محتاجين إلى معونته ومساعدته، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما ترك قتال الفرس في العراق، وانحاز مع بعض جنوده إلى جند المسلمين في بلاد الشام، تنفيذاً لأمر الخليفة أبي بكر رضي الله عنه.  

ويمكن أن يقال في معنى الآية: إنه اضطر إلى الانسحاب من وجه العدو فانسحب انسحابا منظما وانضم إلى ولي أمر المسلمين، ليعيد تنظيم صفوفه ويعود إلى القتال مرة ثانية، ولهذا قال بعض المفسرين: المتحيز الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه، وقد فعل الصحابة رضي الله عنهم في معركة مؤتة مثل هذا الانسحاب أو التحيز، فقد فوجئوا بجموع كثيرة من جيوش الروم تزيد على مائة ألف، بينما كان عدد الصحابة ثلاثة آلاف، ومع ذلك قاتلوهم وثبتوا في وجوههم حتى استشهد أمراؤهم الثلاثة: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.

ولما استلم خالد بن الوليد الإمرة تمكن من الانسحاب والرجوع بالجيش إلى المدينة المنورة وجعل الناس عندما وصلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله، فيقول الرسول جه: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاءالله».

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله نه، فحاص الناس حيصة، فكنت في من حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ قلنا: لو دخلنا المدينة ثم بتنا ثم قلنا: لو عرضنا انفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم؟» فقلنا: نحن الفرارون، فقال: «لا بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» فأتيناه حتى قبلنا يده، وقرأ رسول الله هذه الآية:  {أو متحيزا إلى فئة}.  

فالانسحاب من أرض المعركة جائز في مثل هاتين الحالتين المذكورتين في الآية الكريمة، ويجب أن يكون انسحابا منظما لإعادة الكرة واستئناف القتال، أما إذا كان انسحابا كيفيا، بحيث ينسحب كل جندي كما يحب ويشتهي بدون هدف ولا نظام، فهو الهزيمة المحرمة في الإسلام، والتي ينطبق على من يفعله قوله تعالى: {فقد باء بغضب من الله}: أي رجع وهو متلبس بغضب الله تعالى وآثار سخطه {ومأواه جهنم وبئس المصير}.

قال ابن كثير رحمه الله: إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر؛ لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف الغافلات المحصنات المؤمنات».


تأديب المنتصرين:

وكي لا يصيب المؤمنين زهو المنتصرين وفخرهم وإعجابهم بجهادهم وأنفسهم، أنزل تعالى عليهم مؤدبا لهم ومذكرًا لهم بأنه هو الذي نصرهم، وهو الذي قتل من قتل من أعدائهم: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}: أي لم تقتلوهم بقوتكم، ولكن الله قتلهم بقدرته، وبمعونته وتأييده لكم.

{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}: أي وما كنت الرامي على الحقيقة عندما رميت التراب في وجوههم، ولكن الله هو الذي رمى، لأنه سبحانه هو الذي أوصل التراب والرمال إلى أعينهم.  

وتدل الآية على أن الله تعالى خالق للعبد ولأفعاله، وأن أفعال العبد وإن كانت كسبا له إلا أنها من خلقه سبحانه وبمشيئته وقدرته.

والله تعالى يبتلي عباده بالمحنة والنعمة، وقد ابتلى تعالى المؤمنين بالنصر في بدر {وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً} وكانت نتيجته حسنة طيبة، إذ كانوا رضي الله عنهم أهلاً للنصر الذي أنعم الله تعالى به {إن الله سميع} لأقوالهم {عليم} بأحوالهم.  

ثم بشرهم سبحانه بأن كيد الكافرين ومكرهم صائر إلى الضعف والاضمحلال {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين}؛ لأنه تعالى مع عباده المؤمنين المتقين ينصرهم ويؤيدهم. 

وتأكيداً لهذه الحقيقة التفتت الآيات إلى الكافرين المنهزمين تقرعهم وتتهكم بهم إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وذلك أن أبا جهل دعا مستفتحاً في أول القتال فقال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، أي: اجعله مدحوراً مهزوماً.  

{وإن تنتهوا} عن الكفر ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم {فهو خير لكم} في الدنيا والآخرة، فلقد جاءهم الإسلام بعز الدنيا وسعادة الآخرة. {وإن تعودوا} لمحاربته عليه السلام {نعد} لنصره وتأييده.  

{ولن تغني عنكم فتتكم شيئاً ولو كثرت}: أي مهما كانت الجموع التي تحشدونها كبيرة فلن تنفعكم شيئاً؛ لأنه تعالى مع المؤمنين {وأن الله مع المؤمنين} يؤيدهم وينصرهم.  

طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

وبعد أن بينت الآيات الكريمة الماضية أسباب النصر المباشرة في المعركة والتي يجب تحصيلها قبل القتال وفي أثنائه، شرعت الآيات تبين الأسباب غير المباشرة للنصر، والتي تبقى بها الأمة المسلمة قوية عزيزة {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله}؛ فهو كقوله تعالى في صدر السورة {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}.

وقد أمرت الآية بطاعة الله ورسوله في شأن الأنفال، وأما هذه الآية فقد أمرت بالطاعة العامة الشاملة في جميع شؤون الحياة، ولهذا حذر سبحانه بعدها من الإعراض عن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول بقوله: {ولا تولوا عنه}: أي لا تعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فطاعته طاعة لله تعالى، كما في قوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}؛ فهو المبلغ عن الله تعالى، فطاعته لازمة طاعة الله  تعالى .  

{وأنتم تسمعون} أي طاعته واجبة عليكم بعد أن علمتم ما دعاكم إليه وبعد أن بلغكم رسالة الله تعالى. 

فكل من بلغته رسالة الإسلام أو سمع شيئا من القرآن الكريم وفهم معانيه، قامت عليه الحجة ولزمته الإجابة، وعليه طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويجب على الأمة المسلمة التي تسمع كلام الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار وأن تلتزم بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام باتباع أحكام الكتاب الكريم والتمسك بسنته عليه الصلاة والسلام.

كما يجب عليها أن تعرض عن كل الشرائع الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، فسماع القرآن الكريم يلزم السامع بطاعته سبحانه وطاعة رسوله عليه السلام، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعناه بآذاننا وهم لا يسمعون} بقلوبهم وجوارحهم وسلوكهم، ويعرضون عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه السلام.  

وهذا كان حال المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالسماع والطاعة، بينما هم يضمرون العصيان والمخالفة، قال تعالى فيهم: {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}.

وكذلك كان اليهود أيضاً في المدينة المنورة إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: سمعنا وعصينا، كما جاء في قوله تعالى عنهم: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}. 

وهذا مع الأسف حال كثير من المسلمين في العصر الحاضر، يسمعون كلام الله تعالى ويتظاهرون بالتأثر بمواعظه وزواجره، وفي الوقت نفسه يظلون مصرين على معاصيهم وآثامهم، قال القرطبي رحمه الله: دلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله، فإذا قصر في الأوامر فلم يأتها، واعتمد النواهي واقتحمها فأي سمع عنده وأي طاعة!؟.

ثم أخبر سبحانه أن هؤلاء شر الخلق والخليقة، فقال: {إن شر الدواب عند الله الصم} عن سماع الحق سماع إجابة وخضوع وانقياد البكم عن الإقرار بالحق وإعلان الانقياد له والرضا به {الذين لا يعقلون} أي لا يستعملون عقولهم فيما خلقت من أجله، وهو التمييز بين الحق والباطل، فهؤلاء شر الدواب لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله تعالى فيما خلقها له، وهؤلاء خلقوا لطاعته تعالى وعبادته فكفروا؛ ولهذا شبهتهم بالأنعام في قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون}.

ثم بين تعالى أنه لا خير في هؤلاء وأن نفوسهم قد غلب عليها الخبث والشر فقال: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} سماع الإجابة والخضوع والانقياد، وسماع الفهم والانتفاع {ولو أسمعهم} سماع الانتفاع بعد أن علم أنه لا خير فيهم {لتولوا وهم معرضون}، أي لأعرضوا عن الحق ولم ينقادوا له رغم معرفتهم أنه حق، وهو حال المعرضين عن الحق عنادا واستكبارا كفرعون وملكه، فقد رأوا المعجزات التي أيد الله بها موسى عليه السلام واستيقنوا بدلالتها على صدق موسى ومع ذلك جحدوها {وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}.  

الحياة والجهاد  

ثم كرر تعالى النداء للمؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} بطاعتهما والانقياد لأمرهما {إذا دعاكم} الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المبلغ عن الله تعالى لما يحييكم الحياة الإنسانية الكريمة الطيبة، الحياة العزيزة المنيعة.  

وفي الآية الكريمة دعوة إلى الاستجابة المطلقة لله تعالى ولرسوله عليه السلام، ولكن مجيئها في سياق آيات الجهاد وفي سورة الأنفال التي نزلت بمناسبة غزوة بدر يجعل الدعوة في الآية دعوة مخصوصة إلى الجهاد، فالأمة المجاهدة هي التي تحيا الحياة الحقيقية، الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان الذي كرمه ربه وسخر له كثيراً من مخلوقاته.  

وقد يقول قائل: كيف يكون الجهاد حياة وفيه القتل والموت؟!  

وأقول: القتل بالنسبة للمجاهد في سبيل الله تعالى حياة أعلى وأشرف من الحياة الدنيا، حياة برزخية خاصة يكرم الله تعالى فيها الشهداء بنعيم الجنة {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.

وأما بالنسبة للأمة المسلمة المجاهدة، فالجهاد يعطيها الحيـاة الكريمة العزيزة المنيعة، وبهذا يكون الجهاد حياة للمجاهدين الشهداء، وحياة للمجاهدين الأحياء، ويؤكده انه عندما أراد بعض الأنصار ترك الجهاد والانصراف إلى الاهتمام بمصالحهم الدنيوية بعد أن أعز الله الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً أنزل الله تعالى فيهم قوله الكريم: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.

فالإعراض عن الجهاد والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله هو الهلاك لأنه يؤدي بالأمة إلى الذلة والاستكانة وتمكن عدوها منها.  

وينبغي أن تكون الاستجابة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام عن طواعية واختيار ورغبة ومحبة، لا عن قهر وإكراه وإجبار، ولهذا قال سبحانه: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}؛ فالقلوب بيده سبحانه ولا سلطان للإنسان على قلبه، ولا يستطيع أن يتحكم بعواطفه ومشاعره، فمن علم الله فيهم خيرا وفقهم إلى الاستجابة لدعوة رسوله عليه السلام وشرح صدورهم لذلك، ومن علم أن نفوسهم ودخائلهم يغلب عليها الخبث والشر حال بينهم وبين الاستجابة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، كما جاء في قوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين}.

 وقد سبق أيضاً مثل هذا في قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، فالآية تحرض المؤمنين على المبادرة فورا إلى الاستجابة لدعوة  رسول الله جذ، وتحذرهم من عواقب التثاقل عنها وتأخيرها، وكأنها تقول لهم: مادامت قلوبكم مقبلة على الإيمان، فبادروا إلى تلبية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن القلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء، ولهذا علمنا سبحانه أن ندعوه قائلين {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول تعليماً لنا: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». 

التحذير من الفتن  

ويترتب على مخالفة الرسول وعدم الاستجابة لدعوته، التعرض للفتن والمصائب والنوازل، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب أليم}، فما من فتنة أصابت المسلمين بعده عليه الصلاة والسلام، إلا بسبب مخالفتهم لأمره، أو تركهم لسنته، ولهذا جاء التحذير من الوقوع في الفتن بعد الأمر بالاستجابة لدعوته عليه السلام مباشرة.

قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}: أي اجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية، بإصلاح ذات بينكم، واجتماع كلمتكم على أمر الله، ورد من خالف إلى أمر الله، فطاعة الله ورسوله وقاية من الفتن، بينما المعاصي والآثام أسباب البلاء والفتن، وشرها يصيب العصاة وغيرهم من أبناء المجتمع، لأنهم سكتوا على المعاصي، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.  

قال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا».

 فالله سبحانه يعذب العامة بذنوب الخاصة إذا انتشرت المنكرات والفواحش بينهم، ففي الحديث الشريف عن أم المؤمنين السيدة زينب  رضي الله عنها، قالت: استيقظ رسول الله و محمرا وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج مثل هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قلت: يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: «نعم إذا كثر الخبث».  

وشؤم المعاصي والمنكرات يعم جميع أبناء المجتمع في الدنيا فقط، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله تكو: «إذا أنزل الله بقوم عذابا، اصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم».

فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهورالمعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، ثم ختم سبحانه الآية مؤكداً التحذير من مخالفة أمره، ببيان شدة  عقابه {واعلموا أن الله شديد العقاب}والجدير بالذكر هنا أن انتشار المعاصي وشيوع المنكرات في المجتمع، من أكبر أسباب الهزيمة والتخلف، لأنه يؤدي إلى الانحلال والفوضى والاختلاف.  

مأوى المجاهديـن:

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم نواة الأمة المسلمة، وأول من حمل رسالتها وحفظ أمانتها، وقام على نشرها وتبليغها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجه سبحانه إليهم الخطاب في سياق هذه الآيات، ذكرهم فيه بفضله تعالى عليهم، لكي يعرفوا مدى مسؤوليتهم، وثقل التبعة الملقاة عليهم {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض أرض مكة تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم} في المدينة المنورة، وجعلها لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم، كما جعلها قاعدة انطلاق وارتكاز لكم في جهادكم، ولهذا قال بعد ذلك: {وأيدكم بنصره} في بدر، وفي غيرها من الغزوات والمعارك.  

وتدل الآية على أهمية الأرض التي تكون للمجاهدين بمثابة قاعدة الانطلاق لهم في جهادهم، كما تكون حصنا لهم يتحصنون به ويأوون إليه.  

ولهذا كان يه يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج عندما كان في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، يبحث عن مأوى يتخذه مع أصحابه قاعدة انطلاق لتبليغ رسالة الإسلام ونشره بين الناس، وما أنزل الله تعالى آيات الجهاد وكلف المسلمين به حتى وجد النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة والمأوى في المدينة المنورة، فالمأوى وقاعدة الانطلاق ونقطة الارتكاز، ضرورة من ضروريات الجهاد، ينبغي للمجاهدين أن يحصلوها قبل الشروع في الجهاد. {ورزقكم من الطيبات} بالغنائم التي أحلها لكم، كما مر معنا. {لعلكم تشكرون} الله تعالى على فضله بطاعته سبحانه وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.  

التحذير من الخيانة  

للخيانة دور كبير في الفشل والهزيمة، وهي لا تعني فقط موالاة العدو خفية، وإفشاء أسرار المجاهدين، وإيصالها إلى العدو، وتمكينه من معرفة نقاط الضعف في المجتمع الإسلامي عامة، وفي صفوف المجاهدين خاصة، الخيانة في نظر الإسلام أشمل من هذا، إن أى خلل ونقص يحدثه المسلم في عمله الذي كلف به في شؤون دينه ودنياه، يعد خيانة للأمانة التي يحملها، ويحمل المسلم أمانات كثيرة.  

ولهذا توجهت الآيات بالخطاب إلى المسلمين تذكرهم بمسؤوليتهم عن الأمانات التي يحملونها، وتحذرهم من خيانة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وخيانة الأمانات التي كلفوا بحملها والمحافظة عليها {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} تبعة الخيانة، أو تعلمون أنكم تخونون، فالخيانة صدرت منكم من قصد وعمد، لا عن سهو وخطئاً.  

ولما كان الباعث على الخيانة الحرص على المصالح المادية في الأموال والأولاد غالبا، قال سبحانه: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}: أي اختبار وامتحان من الله تعالى لكم، هل تطيعونه تعالى في أموالكم وأولادكم، أم تعصونه وتخونون أماناتكم من أجل أموالكم وأولادكم. 

وذكر بعضهم أنها نزلت في أبي لبابة عندما أشار إلى يهود بني قريظة وهم محاصرون بأن الحكم فيهم القتل، وقد حذر سبحانه من الافتتان بالأموال والأولاد في عدد من الآيات منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، وقوله أيضا: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}.

{وأن الله عنده أجر عظيم} فثوابه سبحانه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، الذين لا يغنون عنكم شيئا يوم القيامة.

ثم يأتي النداء الرابع من الله تعالى للمؤمنين جامعاً لكل ما تقدم بأسلوب الترغيب، لا بأسلوب الوعيد والتحذير {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} أي يجعل لكم نورا وهداية في قلوبكم تفرقوا بها بين الحق والباطل، فترون الحق بجماله وضيائه، وترون الباطل بقبحه وظلمته، فإن من اتقى الله تعالى بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته، ومخرجه في الدنيا، وسعادته يوم القيامة.

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}؛ فالفرقان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، وأريد به الوصف الفارق بين الحق والباطل، فالتقوى تورث صاحبها النظر السديد والرأي الثاقب والقدرة على التمييز بين الخير والشر.  

{ويكفر عنكم سيئاتكم} يسترها {ويغفر لكم ذنوبكم} بالعفو والتجاوز عنها، {فضلاً} منه سبحانه {والله ذو الفضل العظيم}. 

المؤامرة:

ثم شرعت الآيات تبين بعض جرائم المشركين وإعراضهم عن الحق وعنادهم وضلالهم، وكأنه تعالى بهذه الآيات أراد أن يبين لنا ضرورة مجاهدة الكفار وقتالهم وكسر شوكتهم ووضع حد لفسادهم وإفسادهم، فتشريع الجهاد أمر ضروري، وفيه حكم كثيرة وكبيرة، ولا بد لأمثال هؤلاء المجرمين المعاندين من قوة تدفعهم وتقمعهم، وتمنع عن الناس شرهم وضلالهم.  

وقدمت الآيات الحديث عن مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولتهم التخلص منه بأي وسيلة ولو كانت القتل، وقد اجتمعوا لهذا الأمر في دار الندوة.  

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أجمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا في  دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله ته غدوا في اليوم الذين اتعدوا له فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل وقال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأياً ونصحاً.  

فدخل معهم، وتشاوروا، وقال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً. .، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، فانظروا في غيره.  

وقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فقال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم، دبروا فيه رأيا غير هذا.  

قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه ويتفرق دمه في القبائل جميعا، فقال النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. 

وأنزل الله تعالى بعد ذلك قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك}: أي ليحبسوك ويوثقوك أو يقتلوك أو يخرجوك 

{ويمكرون ويمكر الله} برد مكرهم عليهم وجعلهم خائبين خاسرين {والله خير الماكرين} لأنه يجازي الماكرين بمثل فعلهم، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون فيكون ذلك أشد ضررا عليهم وأعظم بلاءً من مكرهم، أو لأنه سبحانه لا يمكر إلا بحق وصواب، ومكرهم باطل وظلم، فمكر الخلق من الحيلة والعجز، ومكر الخالق من الحكمة والقدرة.

عناد واستكبار  

ثم تحدثت الآيات عن موقفهم عندما يسمعون القرآن الكريم وعن شدة إعراضهم عنه ومعاندتهم لآياته الساطعة وحججه البالغة وإذا تليت عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا بآذاننا فقط، كما مر معنا في قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}.  

لو نشاء لقلنا مثل هذا وهذا منهم قول بلا فعل، وإلا فقد تحدوا أكثر من مرة أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وقالوا معاندين {إن هذا إلا أساطير الأولين}: أي ما هذا القرآن إلا ما سطره الأولون من الحكايات والأخبار، فما أشد عنادهم وما أعظم وقاحتهم!.  

وأبلغ منه قولهم: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك}: أي إن كان القرآن الكريم هو الحق الثابت المنزل من عندك {فأمطر علينا حجارة من السماء} تهلكنا بها {أو ائتنا بعذاب أليم} وبهذا القول بلغوا الغاية في الجحود والفساد والوقاحة والصلف والاستكبار، فبدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، قالوا ذلك معاندين مستكبرين، وهذا يدل على شدة حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وبغضهم  له، فكأن الهلاك والعذاب أهون عليهم من متابعته عليه الصلاة والسلام والإيمان برسالته، فنار الحسد المتأججة في صدورهم جعلتهم يسألون لأنفسهم الهلاك بالحجارة أو العذاب الأليم.  

ولله در القائل:  

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله … النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله  

والقائل أيضا:  

لله در الحسد ما أعدله … بدأ بصاحبه فقتله  

الأمانان:

ورد سبحانه عليهم فبين أنه قادر على إهلاكهم، ولكنه عز وجل أخر العذاب عنهم إكراما للنبي المقيم بينهم {وما كان الله ليعذبهم وانت} يا أكرم الخلق فيهم فإنه لعين تجازى الف عين وتكرم"،  

وعدلت الآية عن توجيه الخطاب إليهم فوجهته إلى النبي عليه السلام زيادة في بيان شرفه عليه الصلاة والسلام وفضله ومكانته عند ربه عز وجل، فإقامته عليه الصلاة والسلام بينهم بركة عليهم ورحمة من الله تعالى بهم، وكان عليه الصلاة والسلام يقيم في أقدس البلاد، في البلد الحرام الذي حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، ومع ذلك فإن حلوله عليه السلام في البلد الحرام زاده شرفا وبركة وحرمة وتعظيما، قال تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد}.

وبعد أن بين سبحانه بركة وجوده عليه الصلاة والسلام على البلاد والعباد أتبعه ببيان ما يخلفه ؤ بعد موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى فقال: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي لو استغفروا لم يعذبوا، فكأن المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفـار.

 قال عليه الصلاة والسلام: «أنزل الله علي أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».

ولاة المسجد الحرام:

وعندما أصر المشركون في مكة على الكفر وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من  بينهم وهاجر إلى المدينة المنورة، عذبهم الله تعالى بتسليط النبي عليه السلام وأصحابه عليهم في بدر، فقتل من قتل منهم وأسر من أسر، وقال جل وعلا يبين سبب تعذيبه لهم {ومالهم ألا يعذبهم الله}: أي كيف لا يعذبهم الله {وهم يصدون عن المسجد الحرام}: أي يمنعون المؤمنين الموحدين عن عبادة الله وحده في المسجد الحرام، ويقولون: نحن ولاة البيت الحرام نصد من نشاء وندخل من نشاء، ورد عليهم سبحانه بقوله: {وما كانوا أولياءه} فهم بسبب شركهم وكفرهم لا يصلحون لولاية المسجد الحرام الذي بني لعبادة الله وحده، كما جاء في قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}.

{إن أولياؤه إلا المتقون} من المسلمين الموحدين {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنه لا ولاية لهم على المسجد الحرام .  

ودلت الآية على أن بعضهم يعلمون هذه الحقيقة، ويجحدونها عناداً واستكباراً، قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}.

ثم بين تعالى حقيقة عبادتهم التي كانوا يؤدونها عند المسجد الحرام فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}: أي صفيرا وتصفيقا، والمكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله سبحانه أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، ولهذا قال سبحانه لهم {فذوقوا العذاب الذي نزل بكم يوم بدر بما كنتم تكفرون}.

التمييز بين الخبيث والطيب  

ومن جرائمهم أيضا أنهم كانوا ينفقون الأموال الكثيرة للصد عن سبيل الله، قال ابن إسحاق: لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وابناؤهم، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا، ففيهم أنزل الله عز وجل: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله}.  

وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، فكان يطعم كل واحد منهم الجيش في كل يوم عشرا من الإبل.  

وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصاً، وقد أخبر تعالى أنهم سينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله وأن ذلك لن ينفعهم فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ندماً وغماً، لأن أموالهم تذهب من غير حصول المقصود {ثم يغلبون} في آخر الأمر.  

وفي الآية بشارة للنبي عليه السلام والمسلمين بالنصر على المشركين والتمكين للإسلام في الأرض.  

ثم بين  سبحانه عاقبة المصرين على الكفر يوم القيامة فقال: {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} أي يساقون إليها لا إلى غيرها.  

فبالجهاد يميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين {ليميز الله الخبيث من الطيب} الفاسد من الصالح، قال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم}،وفي يوم القيامة يظهر عدل الله سبحانه وفضله عندما يجعل أهل الإيمان والصلاح في الجنة بفضله ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً، أي فيجمعهم ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا ويتزاحموا، ثم يطرحهم في جهنم فيجعله في جهنم بعدله سبحانه:  

{أولئك هم الخاسرون الذين خسروا أموالهم وأنفسهم}. ولا يخفى ما في الآية من تحقير للكافرين واستهانة بهم، فرغم كثرتهم وكثرة أموالهم، فإن شأنهم شأن الأشياء القذرة الحقيرة التي تجمع إلى بعضها لترمى دفعة واحدة في جهنم.  

الإسلام يجب ما قبله:

والدعوة الإسلامية مستمرة لا تتوقف، فهي في الحرب والسلم، وقبل القتال وبعده وفي أثنائه، وما شرع الجهاد إلا لحماية الدعاة إلى الله تعالى وإزالة طواغيت الكفر، الذين يقفون في طريق الدعوة، ويمنعون انتشارها بين الشعوب والأمم، وها هي الآيات في سورة الأنفال تأمر النبي تذ أن يدعو المشركين بعد انتهاء القتال في بدر إلى الإسلام.  

{قل للذين كفروا إن ينتهوا} عن الكفر بالدخول في الإسلام {يغفر لهم ما قد سلف}: أي يغفر الله لهم كل ما مضى من كفرهم وفجورهم وعدوانهم، قال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يجب ما كان قبله»، وله شاهد في صحيح مسلم انه لما أتى عمرو بن العاص إلى النبي مسلماً، بسط النبي عليه الصلاة والسلام يده ليبايعه، فقبض عمرو يده: فقال: «مالك يا عمرو؟» قال: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قال: أن يغفر لي. قال عليه السلام: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله».

فباب الدخول في الإسلام مفتوح دائما، والدعوة الإسلامية مستمرة لا تتوقف، ودل الحديث على أن الله تعالى يغفر كل الذنوب للكافر المحارب للمسلمين إذا جاء مسلما مستسلماً.  

وبعد أن رغبهم تعالى بالتوبة والتجاوز عن كل جرائمهم ومعاصيهم، هددهم سبحانه وتوعدهم إذا عادوا إلى العناد والفساد، فقال: وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ٢٣٨ في إهلاك أعدائه سبحانه ونصر أوليائه.  

الاستمرار في الجهاد:

ثم التفتت الآيات إلى المؤمنين تحضهم على الثبات في الجهاد والاستمرار فيه، فالطريق طويل والمعوقات كثيرة، والعقبات كبيرة، والجهاد ماض ما دام للكفر في الأرض شوكة ومنعة {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}: أي قاتلوا الكفار حتى لا تبقى لهم قوة يستطيعون بها أن يفتنوا المسلمين عن دينهم، وهذا ما فهمه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من الآية الكريمة، فمن المعلوم أنه اعتزل الخلاف الذي حدث بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي  الله عنه ولما جاءه رجل وقال له: إن الله تعالى يقول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الله عنه: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً، وكان الرجل يفتن في دينه، إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة.  

{ويكون الدين كله لله}: أي ويكون الخضوع والاستسلام لأحكام الله تعالى، إما بالدخول في الإسلام، أو بالـرضا بحكم الإسلام والعيش بين المسلمين في ظل سماحة الإسلام وعدله.  

فالله سبحانه لم يشرع الجهاد ويأمر بالقتال لإكراه الناس على الدخول في الإسلام وهو سبحانه القائل: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}، ولا تقوم العقيدة بالإكراه، فالعقيدة لا تقوم إلا بالاقتناع والفهم.  

وإنما شرع الجهاد لحماية الإسلام والمسلمين، ولتأمين نشره بين الناس، وإزالة العوائق التي تمنع انتشار الإسلام وتحول دون تبليغه للناس.  

فإن انتهوا عن قتالكم والصد عن سبيل الله، فكفوا عن قتالهم، فهو كقوله سبحانه الآتي: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}.  

{فإن الله بما يعملون بصير} فيجازي كل إنسان بعمله.  

{وإن تولوا}: أي أعرضوا عن الإسلام وعن الخضوع لأحكامه {فاعلموا أن الله مولاكم} يتولى أموركم ويؤيدكم وينصركم إن أطعتموه بسنة نبيه عليه السلام، وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير. 

ففي الآية حض على الاستمرار في الجهاد والثبات عليه مع الثقة بنصر الله تعالى وتأييده.  

{واعلموا أنما غنمتم من شيء} وعليكم أن تعلموا أيضاً كيفية قسمة الغنائم التي أحلها سبحانه الغنيمة والفيء، كيلا يقع بينكم اختلاف حولها من الغنائم، وهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالقوة والغلبة، بين الله تعالى في هذه الآية كيفية قسمتها، وأما الفيء، وهو ما يسر الله للمسلمين من أموال الكافرين من غير قتال وقهر، كأموال بني النضير التي  نزلوا عنها بسبب الخوف والرعب الذي ألقاه الله تعالى في قلوبهم، فقد بينه سبحانه في قوله: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد  العقاب}.

فالغنيمة  تخمس، توزع أربعة أخماس منها على المجاهدين الغانمين، ويوزع الخمس الباقي منها على المصارف الخمسة المذكورة في آية سورة الحشر السابق ذكرها، وفي قوله تعالى هنا {فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}، وذكر الله تعالى في أول المصارف الخمسة للتعظيم، فسهم للرسول في حياته، ويصرف بعده في مصالح المسلمين، أو يرد على المصارف الأربعة الأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا نورث ما تركناه صدقة).

وسهم لذي القربى، وهم قراته من بني هاشم وبني المطلب بسبب نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لليتامى والمساكين وأبناء السبيل المنقطعين في الطريق، أي تعطى للضعفاء في المجتمع إقامة للتكافل والتعاون بين أبناء المجتمع المسلم، وقد يكون النصر الذي تحقق ببركة دعائهم، قال عليه الصلاة والسلام: «ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» وفي صحيح البخاري: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».  

يوم الفرقان:  

{إن كنتم آمنتم بالله} أي اعملوا بهذه القسمة وارضوا بها، إن كنتم آمنتم بالله تعالى: {وما أنزلنا على عبدنا} محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والمبشرات والملائكة والنصر، وما أنزل الله تعالى كل ذلك في يوم بدر إلا تكريماً للنبي عليه السلام، فهو المقصود بكل ما أنزل الله تعالى في هذا اليوم ولهذا أفرده تعالى بالذكر، ونسبه إلى ذاته المقدسة بصفة العبودية تشريفاً له عليه السلام وتكريماً.  

{يوم الفرقان} يوم معركة بدر الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل {يوم التقى الجمعان} بإرادته سبحانه وتقديره دون موعد سابق بينهما {والله على كل شيء قدير}.

ثم بين سبحانه كيف جمع بقدرته ومشيئته بين الفريقين لكي يقع الفرقان فقال: {إذ أنتم نازلون بالعدوة الدنيا بشاطئ الوادي} القريب من المدينة المنورة وهم بالعدوة القصوى والمشركون نازلون بشاطئ الوادي الآخر البعيد عن المدينة المنورة {والركب أسفل منكم} والقافلة على الطريق السفلي القريب من ساحل البحر على بعد ثلاثة أميال منكم.  

{ولو تواعدتم} أنتم والمشركون على اللقاء في بدر {لاختلفتم في الميعاد} بسبب بعد المكان عن مكة وقربه من المدينة، وأيضاً قلة المسلمين وكثرة المشركين.  

{ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} ولكنه سبحانه بقدرته ومشيئته قدر ذلك وقضاه، حتى وصل الجمعان إلى بدر في يوم واحد ومن غير ميعاد سابق، ليقع ما أراد الله وقوعه في يوم الفرقان، فهو سبحانه الفعال لما يريد، وقضاؤه كائن لا محالة، وقد قضى جل وعلا  بإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.  

وبذلك قامت الحجة على المعاندين وظهرت {ليهلك من هلك عن بينة} أي ليستمر في الكفر من استمر على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه {ويحيى من حي عن بينة} ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة، فالإيمان حياة القلوب كما مر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، وقال تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}. وإلى هذا المعنى ذهبت السيدة عائشة رضي الله عنها في قولها في حديث الإفك: فهلك في من هلك.  

وقد مر معنا أن يوم بدر كان حقا فرقاناً بين الحق والباطل. {وإن الله لسميع} لأقوالكم ودعائكم {عليم} بأحوالكم وأحوالهم.  

ثم  كشفت الآيات الكريمة عن بعض التدبيرات الإلهية الخفية التي مهدت للقتال وما أعقبه من النصر إذ يريكهم الله في منامك قليلاً}، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين جمعًا قليلا، بمشيئته تعالى وقدرته، وأخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بذلك، مما جرأهم على القتال وشجعهم {ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر}: أي لضعفتم  وهبتم المشركين، وحدث بينكم اختلاف في أمر قتالهم.  

وهذا يدل على أن إظهار القوة للعدو له تأثير على معنويات العدو وإحراز النصر.  

{ولكن الله سلم}: أي ولكنه سبحانه بلطفه ورحمته سلمكم من ذلك {إنه عليم بذات الصدور} عليم بكل ما يخفى في الصدور من شجاعة وجبن وجرأة وخوف.  

وعندما وقف الجمعان أمام بعضهما في ساحة القتال، هيأ تعالى أيضا الأسباب المعنوية التي تشجعهم على الاقتتال والالتحام، فهو سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في اعينكم قليلا} لتتجرؤوا على قتالهم وتطمعوا في النصر عليهم، حتى قال عبد الله بن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: بل هم مائة، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال: كنا ألفاً.  

{ويقللكم في أعينهم} حتى قال أبو جهل: إن أصحاب محمد أكلة بجزور.  

وهكذا اغرى الله تعالى كلا من الجمعين بالآخر {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً}: أي كان مقدرا في الأزل، فلا بد من وقوعه كما تعلقت به إرادته جل وعلا.  

وكرر في الآيتين إبرازا لأهميته، فالتقدير بمشيئته سبحانه أزلاً وأبداً لا بمشيئة غيره، وكما بدات الأمور بمشيئته تعالى تنتهي أيضا بمشيئته سبحانه: {وإلى الله ترجع الأمور} فالبداية والنهاية منه وإليه جل وعلا.  

وتقليل المسلمين في أعين المشركين كان قبل القتال، ثم بعد أن بدأ القتال والتحم الجمعان قلَّلَ اللهُ المشركين في أعين المؤمنين تثبيتاً لهم ورفعًا معنوياتهم، وكَّثر المؤمنين في أعين المشركين، جاء ذلك في قوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله  وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}. فلا تعارض بين الآيات، فكل آية تصف حالة من حالات يوم بدر وطوراً من أطواره.  

الخدعة في الحرب لا في العهد  

هكذا ينبغي أن يعامل الناقضون للعهد، واما الذين يريدون الغدر ونقض العهد، فالأمر معهم يختلف {وإما تخافن من قوم خيانة}: أي غدراً ونقضاً للعهد، بعلامات وامارات تلوح منهم.  

وهذا يدل على وجوب الحذر منهم ومراقبة تحركاتهم، وعلى ولي أمر المسلمين أن يرصد المجتمعات الكافرة، وأن يقف على كل أحوالهم، ولو كان مرتبطاً معهم بعهود ومواثيق، لكي لا يفاجا بغدرهم ومكرهم.  

فانبذ إليهم على سواء أي أعلمهم أنك نقضت العهد الذي بينك وبينهم، فالإسلام يحرم الغدر لأنه دين الصدق والوفاء، والمسلمون مكلفون بتعاليم الإسلام واخلاقه ومثله في السلم والحرب، ومع الصديق والعدو، وهذه الحقيقة هي التي تجذب الناس إلى الدخول في الإسلام وترغبهم فيه. {إن الله لا يحب الخائنين} الناقضين للعهد والغادرين، مهما كانوا ولو كانوا من المسلمين.  

ذكر ابن كثير في تفسيره أن معاوية رضي الله عنه كان يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء ولا غدر، إن رسول الله يفنج قال: «ومن كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» فبلغ عقدة ولا يشدها، حتى ينقض ذلك معاوية، فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه.

وقد يقول قائل: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» والانتصار  على العدو يقتضي الاحتيال عليه؟.  

وأقول: مخادعة العدو والاحتيال عليه تتعارض مع معاهدته ومهادنته، والخدعة في الحرب كما قال عليه الصلاة والسلامالحرب لا في  العهد، فما دام العهد قائماً فالواجب الوفاء به.  

إن الإسلام يعاهد ليصون عهده، فإذا خاف الخيانة من غيره، نبذ العهد القائم جهرة وعلانية، ولم يخن ولم يغدر، ولم يغش ولم يخدع، وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم، فليس بينه وبينهم أمان، وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمانينة، إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ، ولا يروع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم، فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعه... وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة.  

إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع، ويريد للبشرية أن تعف، فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب، وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد، ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة.  

ولا يعني إعلام العدو بنقض العهد ونبذه عدم الحرص على مفاجاته بالهجوم فهذا أمر وذاك أمر آخر، فمفاجأة العدو بالهجوم، وإنزال الضربة الأولى به أمر مشروع في الإسلام، سنه صلى الله عليه وسلم ،وكان حريصاً على تحقيقه في أكثر غزواته، فكان إذا أراد غزوة أخفى الجهة التي يقصدها، وإذا ما سئل عنها ورى بغيرها، لكي يفاجىء العدو، ويغزوهم وهم غارون غافلون.  

فقد ذكر الإمام النووي فى تبويبه لصحيح مسلم فى أول كتاب الجهاد؛ فقال: باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة.  

ثم ذكر مسلم حديث ابن عمر رضي الله عنه: «قد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون»ـ: أي غافلون.  

وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها» الحديث.

وإن الله تعالى لبالمرصاد لكل من يحاولون استغلال هذا المبدأ الإسلامي الرفيع، ويحاولون المكر والخديعة، ولهذا قال تعالى يتوعدهم ويتهددهم {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا}: أي فاتونا ونجوا منا، فلا نقدر عليهم {إنهم لا يعجزون} إنهم تحت قهر قدرتنا، وفي قبضة مشيئتنا، فلا يعجزوننا، فمهما حاولوا الإفلات بالهرب والفرار منهم في قبضة قدرته سبحانه، وهو قادر على أن ينزل بهم عذابه في أي مكان وزمان، فهو كقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئت أن يسبقونا ساء ما يحكمون}.

وجاء الحديث في صحيح مسلم: عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء  قبل القتال؟ قال: فكتب إلي : إنما كان ذلك في أول الإسلام. قد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون. . .،  إلى أن قال: وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش.  

وقد شنع أحد الكتاب المعاصرين على نافع وخطاه لأنه رأى نافعاً قصر أمر الدعوة قبل القتال على أول الإسلام، مع أن نافعاً ما قصد إلى هذا المعنى، ما قصد إلا بيان ما علمه.

إعداد قوة الرمي والهجوم:  

التفتت الآيات بعد ذلك إلى المؤمنين تأمرهم بإعداد كل ما يستطيعون إعداده من أسباب القوة، القوة التي تجعل عدوهم يهابهم ويخشى جانبهم، ويحافظ على عهوده ومواثيقه معهم، قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، وبين أن القوة التي تأمر الآية بإعدادها، هي القوة العسكرية التي يمكن أن يوجه بها أقصى الضربات للعدو، والتي تنزل به أفدح الخسائر.

ففي الحديث الشريف  عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله تجذ وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».

فقوة الجيش المادية في قوة رماياته التي يرمي بها العدو، في قوة نباله ونيرانه وقذائفه وصواريخه، في قوة الطاقة المدمرة التي يستطيع توجيهها إلى عدوه.  

وتدل الآية على أنه يجب على المسلمين أن يحصلوا كل أسباب القوة وخاصة قوة الرمي في أثناء القتال.  

وقوة الرمي وحدها لا تكفي لإحراز النصر، لا بد بعد رمي العدو وتدميره من استثمار ذلك، بالمبادرة إلى احتلال مواقعه واستئصال ما تبقى من قوته، والقضاء على مقاومته، وذلك بشن الهجوم عليه.  

وهذا يتطلب إعداد القوة المهاجمة، قوة الهجوم والانقضاض على العدو لاحتلال مواقعه وأرضه، ولما كانت الخيل أسرع وسائل الهجوم والكر والفر في ميادين القتال، خصها سبحانه بالذكر في اية إعداد القوة، فقال: {ومن رباط الخيل}: أي وأعدوا ما تستطيعون من الخيل المربوطة المجهزة للهجوم والانقضاض على العدو بعد إثخانه وتدميره بقوة الرمي.  

فكان الآية الكريمة ترسم مبدءاً عسكرياً هاماً مقرراً عند كبار القادة العسكريين، وهو: إضعاف العدو بقوة الرمي أولاً، ثم الهجوم عليه ثانياً للقضاء عليه.  

وقد حث الني صلى الله عليه وسلم على إعداد الخيل والفروسية للجهاد عليها في سبيل الله في أحاديث كثيرة، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة، فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي اجر، فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له، فلا تغيب شيئاً في بطونها، لا كتب الله له اجراً، ولو رعاها في مرج، ما اكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرا، ولو سقاها من نهر، كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر -حتى ذكر الأجر في ابوالها وأرواثها-، ولو استنت شرفا أو شرفي (أي قطعت مرتفعاً او مرتفعين من الأرض) كتب له بكل خطوة تخطوها اجر، واما الذي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، واما الذي عليه وزر، فالذي يتخذها أشراً وبطراً وبذخاً ورياء الناس فذاك الذي عليه وزر».  

كما كان يحث أصحابه على إتقان الرماية والفروسية والتدرب عليهما ويشترك معهم في ذلك، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من اسلم ينتضلون بالسوق، فقال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان» فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال: «مالكم لا ترمون؟» فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: «ارموا وأنا معكم كلكم».

وعن ابن عمر رضي  الله عنه قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق.

وقد عودنا سبحانه في كتابه أن يخاطب الناس بما يعقلون في عصر التنزيل، ولهذا لم يذكر سبحانه وسائل القتال والهجوم الحديثة التي اهتدى الإنسان إليها كالدبابات والطائرات والمدمرات وغيرها.  

فقد جاء ذكر الخيل مثالا لإعداد كل ما يمكن ان يكون سبب قوة ووسيلة نصر، ولقد أصبحت الناقلات الحديثة للجنود في الجو والبحر والبر من أهم أسباب النصر في العصر الحاضر، ويجب على المسلمين أن يعدوها بأيديهم، وألا يكونوا عالة بها على غيرهم، فإن قوله تعالى: {وأعدوا} يدل على ذلك، وقد أثبتت شواهد العصر الحاضر أن الأمة التي تصنع سلاحها بأيديها هي الأمة القوية العزيزة.  

ويتطلب إعداد القوة علماً وعملاً ودراية وخبرة، ويجب على المسلمين أن يكونوا سباقين في كل هذه الميادين، وإلا كانوا جميعاً أثمين لتقصيرهم في ما اوجب سبحانه عليهم في هذه الآية.  

القوة الاقتصادية  

ثم بين تعالى ما يترتب على إعداد القوة من عزة ومنعة، ورهبة العدو وخوفه واحترامه للعهود والمواثيق، فقال: {ترهبون به عدو الله وعدوكم} ولا شك أن عدو الله هو عدو المسلمين، وكذلك عدو المسلمين عدو الله تعالى .  

فالمسلمون يوالون أولياء الله تعالى ويعادون أعداءه، وكرر صفة العداوة لله والمسلمين تقبيحا لحال الكفار وبيانا لشدة عنادهم وإعراضهم، وهم المشركون في مكة ومن وقف بجانبهم من قبائل العرب .  

{وآخرين من دونهم لا تعلمونهم}: أي وترهبون أعداء أخرين لا تعلمونهم، إما لكونهم يخفون عداوتهم لكم كالمنافقين أو لكونهم بعيدين عنكم، وبهذا المعنى تنسحب الآية على جميع الكفار في شتى بقاع الأرض.  

وقوله سبحانه: {لا تعلمونهم} بسبب كثرتهم وبعدهم يؤكد المعنى الثاني.  

{الله يعلمهم} ويعلم بغضهم للإسلام والمسلمين وكيدهم بهم.  

ويتطلب إعداد القوة العسكرية في العصر الحاضر قوة اقتصادية يمكنها أن تتحمل النفقات الباهظة لإعداد الأسلحة الكثيرة المعقدة، وتدريب الجنود على استعمالها، وهذا واجب آخر يقتضيه الإعداد، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو ما دل عليه أيضاً قوله تعالى في آية الإعداد: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم}: أي تثابون عليه ثواباً كاملاً {وأنتم لا تظلمون}: أي لا تنقصون من ثواب اعمالكم شيئاً.  

الإسلام والسلام  

وإعداد القوة لا يعني بالضرورة مباشرة القتال والحرب، فالإسلام دين السلام، والجهاد في الإسلام وسيلة لعزة الإسلام والمسلمين وتأمين نشر الدعوة بين الناس، ولهذا شرع تعالى جواز مهادنة الكفار ومسالمتهم بعد أن أمر بإعداد القوة، فقال: {وإن جنحوا للسلم} أي مالوا للمصالحة والمسالمة فاجنح لهاه فمل إليها، أي إلى المهادنة والمسالمة وتوكل على الله ولا تخف من مكرهم وكيدهم، فإن الله تعالى كافيك كيدهم وعاصمك من مكرهم.  

وينبغي أن يكون هذا حال المسلمين في كل الشؤون، يعدون ويستعدون ويهيئون كل الأسباب المادية، وفي الوقت نفسه يعتمدون على الله، وتبقى قلوبهم وأرواحهم موصولة به {إنه هو السميع العليم} ودل توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -على أنه يجوز لولي أمر المسلمين  أن يصالح الأعداء ويسالمهم إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين.

قال القرطبي رحمه الله: وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه. 

وقد صالح النبي عليه الصلاة والسلام قريشاً صلح الحديبية، وكان فيه مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين، حتى سماه الله تعالى فتحاً بقوله الكريم: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}.  

فأمر الصلح والحرب منوط برأي ولي أمر المسلمين، وليس بحتم أن يقاتل الكفار ابداً، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً.  

الوحدة بعد الفرقة  

وتثور عند المصالحات وتوقيع  المعاهدات الهواجس والظنون ومشاعر القلق والحيرة والتردد، ولا سبيل إلى الخلاص من كل ذلك إلا بالثقة بالله تعالى والتوكل عليه، ولهذا توجهت الآيات إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تقوي ثقته بالله تعالى وتشد من عزيمته بقوله جل وعلا: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله}: أي إن كانوا يريدون بالصلح خديعة ومكراً، فإن الله تعالى كافيك مكرهم وكيدهم، وكما أيدك ونصرك عليهم في الحرب فإنه سبحانه يعصمك من كيدهم ومكرهم في السلم.  

{هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار وألف بين قلوبهم مع ما كان فيها من عصبيات وضغائن واحقاد، حتى أصبحوا كنفس واحدة وجسد واحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). 

فوحدة الأمة وإلفتها تدفع عنها مكر أعدائها وكيدهم، وتجعلها في مأمن من جميع مؤامراتهم ودسائسهم، وما نجح أعداء الإسلام في تآمرهم على المسلمين وكيدهم بهم، إلا بسبب تفرق المسلمين وتخاذلهم وتدابرهم، وما أكثر الشواهد المؤيدة لهذه الحقائق في تاريخ  المسلمين وحاضرهم.  

وإن من أجل النعم التي انعم الله بها على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تألفهم وتضامنهم بسبب إخلاصهم، وببركة محبتهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان أحد يتصور أن يجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاجتماع القوي الوثيق بعد طول التشتت وكثرة التمزق والتشرذم، حتى قال سبحانه يبين نعمته الجليلة عليهم في تأليفهم وجمعهم: {لو انفقت ما في الأرضى جميعا ما الفت بين قلوبهم} وهذه شهادة من الله تعالى أن إلفتهم ووحدتهم لم تقم على المنافع المادية، فالصحابة رضي الله عنهم الذين كونوا نواة الأمة المسلمة لم يجتمعوا على المنافع المادية، وإن أموال الأرض كلها لتعجز عن جمعهم والتأليف من قلوبهم.  

ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم منذ البداية على تنزيه دعوته عن أي غرض مادي دنيوي؛ لأن الأغراض الدنيوية من أموال ومناصب تفرق ولا تجمع، وتمزق ولا توحد، ولما بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة التي كانت اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي. قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: «الجنة».

فلم يعدهم عليه الصلاة والسلام بأي منفعة دنيوية في مقابل دخولهم في الإسلام وجهادهم في فالإيمان بالله تعالى والاعتصام بدينه وشرعه هو الذي يوحد ويؤلف. {ولكن الله ألف بينهم} بقدرته ومشيئته سبحانه، كما جاء في قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}. فالقلوب التي يؤلف بينها ربها لا يفرقها شيء إنه عزيزه لا يغلب ولا يخيب رجاء من توكل عليه حكيم.

أما أسباب الهزيمة التي تعرضت لها السورة، فهي كما يلي:

أولاً: التنازع والاختلاف، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦).

ثانياً: الكبر والفخر والرياء، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال: ٤٧).

ثالثاً: الإصغاء إلى وساوس الشيطان ومكره، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: ٤٨).

رابعاً: الالتفات إلى المنافقين، والإشاعات الكاذبة، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: ٤٩).