تعقُّبات على كتاب
لزوم اتباع مذاهب الأئمة "حسماً للفوضى الدينية"
تأليف: محمد الحامد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شكَّ أن الإسلام من حيث أصوله وقواعده وأسسه وكلياته دينٌ كاملٌ في ذاته، فما من حادثةٍ تقع تحت أديم السماء، إلا وله فيها حكمٌ، علمه من علمه، وجهله من جهله، وقد قال سبحانه: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً} (المائدة: 3).
وكان سلفنا الصالح قد تلقوا هذه الأصول عن صاحب الشَّريعة -صلى الله عليه وسلم؛ حتى استقرَّت في نفوسهم قواعدها، ورست أسسها، ومن ثمَّ استعملوا هذه القواعد في فهم كثيرٍ من الحوادث المستجدة، والنوازل الكبرى التي عصفت بالأمة فيما بعد، فجاءات فتاواهم وأقضيتهم مُؤَسِّسَةً لهذا البُعد الأصولي، والفكر الشامل، الذي يحدوه بُعد النظر وعُمق التفكير، فأسرجوا عقول من بعدهم بأنوارٍ كاشفة، وقيَّدوا لهم ما يمكن تقييده؛ لئلا يقتحم الأغمار لُجَّة الاجتهاد إلا عن علمٍ وبصيرة.
وإن كان السلف اختلفوا في كثيرٍ من اجتهاداتهم إلا أن اجتهاداتهم كانت دائماً ما تدور مع الدليل وجوداً وعدماً، وكانت النصوص تمثل النسق المتوازن الذي يضبط الفتوى، ويجعلها وثيقةً عالية السَّند، حتى تفوقت في أحايين كثيرة على القياس، وترتبط أحياناً كثيرة بالإجماع.
وقد جمع الأئمة الفقهاء كماً هائلاً من تراث السلف وفقههم وآثارهم وأقضيتهم، والتي شكَّلت فيما بعد القواعد والأسس التي بنت عليها المذاهب الفقهية المعروفة أصولها وأسسها، وكانت هذه الأصول روافد مهمة تمكن المتأخرون بواسطتها من استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها الشرعية، على طريقة السلف في الفهم والاستنباط وتعظيم الدليل.
ولم يجمد شرع الله سبحانه عند اجتهادات الأئمة بل سرى ذلك في أتباعهم، فرأينا من اجتهادات العلماء من يثبت الحقيقة المطلقة، والتي أفادت بأن هذا الشرع الكامل لا يقف جامداً مكتوفاً أمام الحوادث والقضايا المستجدة.
وقد بذل الأئمة وسعهم في فهم الأدلة والاستنباط منها، حتى برئت ذمتهم بما ألقوه إلينا من كلماتٍ مُخلصة، وقواعد متينة، تدلُّ على أنَّهم نصحوا الأمة غاية النصح، وبذلوا أوقاتهم الثمينة، وزهرة شبابهم في حصر الآثار والاستنباط منها.
واعتقادنا فيهم أنهم: لم يدخروا علماً إلا وبثُّوه في هذه الأمة، ثم اعتذروا عن أنفسهم في مخالفة شيء بان لهم عكسه، وذلك بقولهم: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، وقالوا: (إذا صحَّ الحديث وكان خلاف المذهب، عُمل بالحديث).
ولم يجعلوا مذاهبهم حجَّة على الناس بذاتها، ولم تكن طريقتهم في تطبيق تلك القواعد نصوصاً مُقدسة لا تقبل المخالفة، ولا فروضاً واجبة يأثم تاركها،ولم يفرضوا شيئاً من مذاهيهم على عموم الناس، ولم يحجروا على آراء العدول من العلماء، ذلك أنهم رأوا من يُسر الشريعة وسماحتها، أنها تتسع لجميع الاجتهادات التي يحتملها الدليل، وبذلك يرتفع منها كل حرج.
وإنما جعلوا وجهتهم الدائمة هو العودة المستمرة إلى مصادر التشريع الأولى، لتبقى هي المعيار الذي يُحدد الخطأ والصواب، والراجح والمرجوح، والقوي والضعيف، وقد حباهم الله مع صدق الإيمان قوة في الفهم والإدراك، مع سعة العلم والإطلاع، ومُعاينة أحوال الناس وآرائهم شرقاً وغرباً، فألقوا عن كواهلهم عبئاً ثقيلاً وجعلوا التبعة في أعناق الكاملين من هذه الأمة معرفةً وعلماً، ليحسنوا الاجتهاد في شتى المسائل والفروع.
وقد حاول بعض المعطلة للشرائع والأحكام: أن يُغلقوا باب الاجتهاد زاعمين أن فتحه يؤذن بفوضى عارمة تجتاح معالم الشريعة، وهم بذلك حجروا على عقولهم أولاً، وحبسوا عقول النابغين من أبناء هذه الأمة عن ميادين الإبداع والتجديد المنضبط، ولكن هؤلاء نسوا أن هذا الدين محفوظٌ بحفظ الله له، وكم مرَّ على هذه الأمة من فلسفات ومنطقيات خربة، تجتهد عبثاً خارج الدائرة، فأين هي الآن؟ إن أكثرها اندثر واندرس.
إن هذا الثراء الواسع الذي احتفى به الفقهاء، يدفعنا دفعاً إلى فتح باب الاجتهاد، بعيداً عن الدعوات الهدَّامة التي ضيَّعت الكثير من العقول، بسبب تعظيم الذوات، والتعصًّب للمذهب، وتحقير المخالف، حتى ظهر في بعض المُقلدة الأخلاق الرديئة الت يتُعظم القائل لا القول، وجرت بينهم وبين غيرهم مجادلات عقيمة ملؤها السباب والشتم، ومؤداها عدم الإقرار بالحق، أو الضيق الشديد بالمخالف، والفجور في الخصومة، ويكاد أحدهما يُخرج الآخر من دائرة الإسلام، وبهذه الأخلاق الرديئة غار كثيرٌ من الخير من هذه الأمة.
وسواءٌ قلنا بلزوم اتباع المذاهب، أو بجواز مخالفتها، فإن الأمر ليس بهذا السوء، والله سبحانه قد تكفل بحفظ دينه، وهيأ لذلك رجالاً يردُّون عنه تحريف الغالين وشطحات الجاهلين، فميزوا بصحيح النظر بين الحقيقة والوهم والصواب والخطأ،والحق والباطل.
وإتماماً للفائدة نثبت ما كتبه صاحب كتاب (بدعة التعصُّب المذهبي) في فصلين من الباب الأول من كتابه:
الفصل الأول: رأينا في المذاهب الفقهية الأربعة:
أما رأينا في المذاهب الفقهية فقد بيَّنه شيخنا ناصر الدين فى أحد مقالاته في مجلة المسلمون بعنوان ( عودة إلى السنة) وإليك أخي القارى، ملخصه:
"إن هذه المذاهب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم منها متفق عليه بين الجميع، كفرضية الصلاة وعدد ركعاتها، وفرضية الصوم والحج وتحريم التشبه بالكفار. فهذا نرى أنه يجب العمل به على كل مسلم.
وقسمٌ فيه خلافٌ، ولكنه خلاف تنوّع لا خلاف تضاد، مثل أدعية الاستفتاح والتشهد وقراءات القرآن، فهذا يجوزفيه العمل بأي واحدٍ منها ما دام ثابتاً في الكتاب والسنة، والأفضل تنويعها فيعمل بهذا مرة، وبذاك أخرى، وهكذا.
وقسمٌ فيه اختلافٌ شديد، ولا يمكن الجمع بين الآراء المختلفة فيه بوجهٍ من وجوه الجمع المعروفة، ومثاله: نقض الوضوء بمسِّ الرجل المرأة الأجنبية، ونزول الدم، وأكل لحم الإبل، ومثل التزام القنوت في صلاة الفجر في غير النازلة، وغير ذلك.
وهذا النوع نرى أنه يجب فيه البحث عن الحق والصواب في المذاهب كلها، لا في مذهبٍ واحدٍ مُعين منها.
فعلى من يستطيع الاجتهاد أن يستعرض من آراء المذاهب المختلفة وأدلتها ثم يأخذ بالأقوى والأرجح من حيث الدليل، لأن الحق ليس محصوراً في مذهب واحدٍ منها، بل هو مشاعٌ ومشترك بين جميعها، فقد يكون الحق في مسألة ما مع مذهب أبي حنيفة، وفي ثانية مع مذهب الشافعي، وفي ثالثةٍ مع ماكل، وفي رابعةٍ مع أحمد وهكذا.
فلو تمسكنا بمذهبٍ واحدٍ والتزمناه لأضعنا كثيراً من الحق الموجود في المذاهب الأخرى، وهذا مما لا يجوز أن يفعله مسلمٌ عاقل.
ولما كان لا سبيل لمعرفة الحق مما اختلف فيه المذاهب إلا بالرجوع إلى السنة، جعلها الدعاء إلى السنة الأصل الذي يرجعون إليه، والأساس الذي يبنون آراءهم عليه.
ولما كان الأئمة المجتهدون والعلماء الأعلام قد بذلوا جهوداً مشكورة في سبيل توضيح السنة لا يسعهم إلا الاستفادة من علمهم والاستعانة بآرائهم في فهم الكتاب والسنة، وبذلك يجمعون الخير كله ويحرزون الصواب جميعه فيما استطاعوا ويجمعون بين المحافظة على الأصل وهو السنة وبين تقدير الأئمة قدرهم اللائق بهم وبذلك مما وصى به السلف أتباعهم؛ فقال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: (ليكن الأمر الذي تعتمدون عليه هذا الأثر -أي السُّنة -وخذوا من الرأي -أي من أقوال العلماء -ما يُفسِّر لكم الحديث) (جامع بيان العلم: 3/ 43).
ذلك رأي دعاة السنة وأتباع السلف في المذاهب وموقفهم من أئمتها فهل فيه ما يحمل المنصف على الطعن بهم والتنفير منهم؟ أم ذلك ما ينبغي أن يكون عليه كل مسلم عرف الفرق بين كلام المعصوم وكلام غيره ثم لم ينسَ الفرق بين الغاية والوسيلة؟ (مجلة المسلمون: 5/ 284، 285).
لسنا ضد المذاهب
وبقيت ناحيةُ نُريد أن نُبينها وهي الجواب على تساؤل بعضهم عما إذا كنا نريد إلغاء المذاهب جملة وإنشاء، مذهب جديد أم أننا لا نمانع بقائها؟
ونقول في الجواب على ذلك: إننا في الحقيقة نكره التفرق والخلاف، ونبغض الانقسام والخصام، ولذلك فمن غير المعقول أن نسعى إلى إنشاء مذهب خامس جديد -كما يدعي خصومنا -ونحن نضيق ذرعاً بانقسام المسلمين إلى مذاهب أربعة بل إننا نعمل على توحيد هذه المذاهب في مذهب واحد كما كان عليه الحال زمن السلف الصالح، رضوان الله عليهم، لأنا نعتقد أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بم صلح به أولها كما قال الإمام مالك ( رح ) ولن يصلح المسلمون ولن يفلحوا إلا إذا رجعوا إلى إسلامهم الصحيح في جميع نواحي الحياة، ومنها ناحية الفقه؛ فنرى أن عليهم أن يعودوا به إلى ما كان عليه زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم (ر ض) الذين أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم -عليهم؛ فقال: (خيرُ الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (متفق عليه).
الوضع المثالي الذي نسعى لتحقيقه في النهاية هو أن يوجد في كل مدينة عالم حقيقة لا مجازاً، أي مجتهدا او اكثر فذلك فرض كفايه على المسلمين وهؤلاء المجتهدون يفتنون الناس بما ترجح لديهم من الأقوال دون تعصب لمذهب على آخر، بل يكون كله تعصبهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وغالباً ما يذكرون للمستفتين الدليل بشكل ميسر مقرب إلى الأفهام؛ ليكون الناس على صلة دائمة بربهم ونبيهم، ويكون في الناس المقلد والمتبع فإذا عرض للمقلد أمر سأل أحد هؤلاء العلماء عن حكم الله تعالى فيه، لا عن حكم المذهب الفلاني فيه، وإذا عرض للمتبع سؤال سأل عالم كذلك عن حكم الله تعالى فيه ويستوضح منه عن الدليل وهذا ما نسعى الى تحقيقه ولكننا نعلم انه يصعب تنفيذه طفرةً وأنه غير ميسور الوسائل بعد.
ولذلك فلا بد من ان نصل اليه بتدرج على مراحل ففي المرحلة الأولى يدرس طلبه العلم الفقه كلٌّ على مذهبه ولكن يختارون الكتب الفقهية التي تُبَيِّن الحكم مستنداً الى دليله، مثل كتاب ا(لمجموع) للنووي و(فتح القدير) لابن الهمام.
وفي المرحله الثانيه ينتقدون الى دراسة كتب المذاهب الأخرى التي تشرح الأقوال مع أدلتها ايضاً.
ثم يدرسون أدلة الأحكام دراسة موضوعية مجردة في المرحلة الثالثة.
ثم يستعرضون ما تعلموه من اجتهادات المذهب ويأخذون بما ترجح ويصح، ويتركون ما يضعف ويخفُّ من حيث الدليل في المرحله الرابعة.
ولا بُد أن يربوا في أول الأمر وآخره على تقوى الله سبحانه، وخشيته، وحب الكتاب والسنة، والتعلق بهما، والحرص على اتباعهما، وعلى حب الحق وإيثاره على كل هوى، كما يربون على اتباع المنهج العلمي، والحذر من القول في دين الله بغير علم وعلى نبذ التعصُّب وبُغضه.
والخلاصة: أننا لا نُمانع في الوقت الحاضر من دراسة الفقه على الطريقة المذهبية، ولكن بشرط واحد، وهو عدم التعصب؛ فالتعصب المذهبي هو الذي نحاربه ونكرهه ونرى أنه لابد للوصول بالفقه إلى الوضع المثالي الذي كان عليه السلف الصالح من المرور بمرحلة انتقال نُحبب الى طلاب العلم فيها دراسة الكتاب والسنة، وترجيح ما يحكمان بما يحكمان بضعفه دون تعصب لمذهب، وبهذا نصل الى تقارب المذاهب بل وإلى توحيدها، وتبقى مسائل قليلة تحتمل أكثر من وجهة، وتتقارب من حيث الدليل فتجعل كالأقوال في المذهب الواحد ويسمح بالإفتاء بأي واحد منها؛ فبهذا يتبين لك أيها القارئ الكريم أن ما يدعيه خصومنا من أننا نحارب المذاهب ونطعن فيها ونعمل لإنشاء مذهبٍ خامسٍ وأمثال ذلك هي ادعاءاتٌ باطلة؛ لأن ذلك يستلزم الإعراض عمّا في المذاهب من الحق والصواب، وكل ما في الأمر أنا ضد التعصب المذهبي الذي يجعل المذهب هو الأساس والأصل ويجعل الكتاب والسنة هما التبع والفرع؛ فيرد منهما خالف المذهب.
أما نحن فعلى العكس من ذلك تماماً؛ نجعل الكتاب والسنة هما الأصل والمذاهب هي الفرع؛ فنرد منها ما خالف الكتاب والسنة.
واعتقادنا أن هذا ما يجب أن يكون عليه كل مسلم، وإلا فليلتمس قلبه ويتاكد من ايمانه؛ فإنه يخشى عليه خطرٌ عظيم، حذَّر منه الله سبحانه كثيراً؛ فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياه الدنيا وفي الآخرة واهدنا إلى سواء السبيل.
الفصل الثاني: بطلان فكرة إغلاق باب الاجتهاد
لقد شاع بين الفقهاء المتأخرين دعوةٌ متعصبة وخطيرة، وهي أن الاجتهاد قد انقضى وقته، وانسدَّ بابه بعد القرن الرابع الهجري إلى يوم القيامة، وأن المجتهدين في الأمة الإسلامية قد انقطعت سلستهم الذهبية، وانعدموا ولا يمكن أن يوجد أحدٌ من ذلك الحين إلى قيام الساعة يستطيع الوصول إلى مرتبة الاجتهاد، وأ،ه ليس أمام المتأخرين إلا تقليد الابقين، ولا يُسمح لهم بمخالفتهم أبداً، وكل ما يستطيعون فعله هو ترجيح بعض أقوال المتقدمين على بعضٍ ضمن المذهب الواحد فقط.
وهذه الدعوة هي نتيجة طبيعية لشيوع التقليد الذي رمى بكلاكله على المسلمين منذ قرونٍ طويل؛ فقذف بهم إلى هاوية التأخر والانحطاط العلمي.
وقد دندن حول هذه الفكرة أصحاب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون" كثيراً كما يؤدي إليها كلام في النهاية البوطي، وقد سمعناها كثيراً من خصوم دعاة السنة، وبعضهم يُقرون بجواز الاجتهاد نظرياً ولكنهم يحاربونه علمياً فكلما سمعوا بمجتهدٍ أنكروا عليه اجتهاده، وادعوا أنه لا يصلح للاجتهاد وطعنوا فيه وسخروا منه وأخذوا يتلمسون المآخذ عليه بحق وبغير حق ويجعلون الحبة قبة كما يقولون، ويسردون قائمة طويلة عريضة من الشروط التي يدّعون وجوب توفرها في المجتهد مما لم يكن عُشر معشارها متوفراً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتهدين أنفسهم.
ونحن نرى أن منع الاجتهاد بعد القرن الرابع فكرةٌ باطلة من أصلها، وفاسدةٌ من جذورها، لأسبابٍ كثيرةٍ:
أولها أن الاجتهاد أمر شرعه الله عز وجل، وأرشد إليه، وجعله رابع مصادر الشريعة الإسلامية، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس (الذي هو أهم شعب الاجتهاد)، ولا يجوز لأيِّ مخلوقٍ أن يُغَيِّر جزئيةٍ مهما صغرت من دين الله؛ فكيف بمن يُبطل اصلاً من أصول الدين ويحرم مصدراً من مصادر الشريعة. ومعلومٌ إن التشريع من خصائص الله وحده وليس من صلاحية البشر
والثانية: أن إغلاق باب الاجتهاد تحجير لواسع رحمة الله سبحانه، وتضيق لسابق فضله، وحرمان للمسلمين من نعمة كبيرة، أنعم الله تعالى بها عليهم، والحجة التي يتذرعون بها لذلك تحمل في طياتها ادعاء علم الغيب؛ فهم يقولون: إنه لم يوجد من يصلح للاجتهاد بعد القرن الرابع الهجري ولن يوجد إلى يوم القيامة؟ فما أدراهم بذلك؟ وهل أخبرهم الله عز وجل أنه لن يخلق مجتهداً بعد ذلك القرن الرابع الى يوم القيامة؟ {إن عندكم بسلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون} (يونس: 68).
صحيح أن حالة الناس الدينية في تراجع مع الزمان؛ كما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، ولكنه تراجع بشكل عام لا بشكل فردي؛ فهذا التراجع العام نفسه ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم أخره) (رواه الترمذي وحسنه، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة: صحيحٌ لطرقه).
وقد رأينا بعض النوابغ والعلماء الكبار الذين لا يقلون عن الائمه المجتهدين علماً وفقهاً وذكاءً واخلاصاً في عصور الانحطاط، وما خبر ابن حزم والنووي والعز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وابن كثير، والذهبي رحمهم الله تعالى وغيرهم عنا ببعيد.
إن الأمة الإسلامية بحمد الله أمة مرحومة، ولن ينقطع عنها الخير والعلم والاجتهاد باذن الله، وهي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، قال: (أنتم تتمون سبعين أمه أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى) (رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي، وحسنه الألباني)؛ فما يقتضيه إكرام الله لهذه الأمة ورحمته وفضله عليها: أن يديم عليها نعمه، ومن أهم هذه النعم الاجتهاد، الذي به استمرار دينها، وصلاح أمرها.
وثالث هذه الأسباب: أن الاجتهاد ضروري جداً لبقاء الشريعة الإسلامية وحياتها، واستمرار ذلك؛ لأن الحوادث متجددة غير محصورة، ونصوص الشريعة ثابتة محصورة؛ فلا يمكن أن تُلم النصوص المحصورة بالحوادث غير المحصورة؛ فكان من حكمة الله عز وجل أن شرع للمسلمين الاجتهاد يستنبطون بواسطته الأحكام من نصوص الشريعة وقواعدها العامة، ويقيسون الأشباه على الأشباه، والنظير على النظير.
وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور واجتهد أصحابه والتابعون وتابعوهم؛ فالاجتهاد أمر قد مضى عليه السلف الصالح وخيار الأمة، وصدق من قال:
وكل خير في اتباع من سلف … وكل شر في ابتداع من خلف
الاعتراضات والجواب عليها:
نسأل الذين يمنعون من الاجتهاد بعد القرن الرابع الهجري، ما دليلكم على إغلاق باب الاجتهاد من الناحية الشرعية؟ لقد نظرنا في كتبهم ومقالاتهم التي قرروا فيها ذلك ككتاب "الاجتهاد والمجتهدون"، و "لزوم اتباع مذاهب الأئمة"، فلم نجد لهم فيها أي دليل شرعي من كتاب او سنة.
فنعاود السؤال: إن لم يكن لكم دليل على زعمكم هذا، فما دليلكم عليه من الناحية العقلية؟ إن الحجة الوحيدة التي ذكرها الشيخ الحامد (رح) وغيره هي انه اذا فتح باب الاجتهاد؛ فإنه سيدخله من ليس له بأهل فيفسدون الدين ويعبثون بأحكامه ويحدثون الفوضى الدينية: غير منطقي بالمرة، ولو كان له مثقال ذرة من الصحة والاعتبار لأرشدنا الله عز وجل إليه، ونصحنا رسول صلى الله عليه وسلم به؛ إذ لا أحد أعلم بما يصلح للبشر في دينهم أو دنياهم من الله عز وجل، ولا احد أعلم بما يضرهم فيه فيهما منه سبحانه أيضا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه) (رواه الشافعي في سننه: 1/ 14 مرسلاً، والطبراني وغيرهما، وقال الألباني: وهو صحيحٌ بمجموع طرقه).
فهل يعقل أن يعلم الله شراً كبيراً يحيق بالمسلمين ويحدث فوضى دينيه فيهم ثم لا يحذرهم منه؟ إنه يكون حينئذٍ لم يكمل الدين الذي أنزله على رسوله، … سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً -وهو القائل: {وما كان ربك نسياً} (مريم: 64)، وكيف يسيغ عقل مسلم أن يتصور الله سبحانه حجب عن المسلمين علم شيءٍ يُشكل خطراً جسيماً وشراً مستطيلاً سيحل بهم ثم لا ينبههم إليه، ثم يأتي أدعياء العلم في القرون المتأخرة ليستدركوا عليه سبحانه ما لم ينزله، ويكمل شريعته.
ويلكم أيها الجهال الجاهلون من هذه القولة الخطيرة والفرية الباطلة إن باباً فتحته يد الله سبحانه لا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يُغلِقَه؛ فإن باب الاجتهاد قد فتحه الله عز وجل؛ لأنه يعلم انه ضروري كي يستمر ويحيى وضروري للأمة؛ فكيف يجوز لكم أن تغلقوا أن الله سبحانه قد شدد النكير على من يشرع بدون إذنه تبارك وتعالى؛ فقال: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله} (الشورى: 21)، وعدَّ الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام من غير إذن الله سبحانه مشركين وظالمين، وجاعلين أنفسهم أرباباً من دون الله سبحانه؛ فقال عن أهل الكتاب: {اتخذوا أحبارهم وررهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة: 31)، وقد ورد في حديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى عبادتهم؛ فأخبره بأنهم كانوا (يحللون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم في ذلك، فتلك عبادتهم)ـ فإن كان تحريم الحلال وتحليل الحرام ضلالاً وشركاً؛ فكيف يكون إغلاق بابٍ فتحه الله تعالى وجعله مصدراً من مصادر التشريع، وأصلاً من أصول الإسلام؛ فيحرمون المسلمين نعمةً كبرى من نعم الله تعالى عليهم، فمن أذن لكم بذلك: {آلله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس: 9).
وإن كان باب الاجتهاد مصدر شر وسوء؛ فكيف فتحه الله وشرعه لعباده ودخله خيرة خلقه والذين أثنى عليهم ربهم؟
وإن كان مصدر خيرٍ فكيف تغلقونه؟
وان كنتم تعتقدون أنه كان في القرون الثلاثة الأولى مصدرَ خيرٍ لأن الناس كانوا صالحين ثم صار مصدر شرٍ؛ لأنهم صاروا فاسدين؛ فنقول لكم: كيف فات صاحب الشريعة علم ذلك فغفل عنه وذكرتموه، وجهله وعلمتموه، وسكت عنه وحذرتهم منه، أم علمه ولم يحذر عباده منه؛ فهو إذاً مقصرٌ في هدايتهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ويكفي أن نبين أن الله عز وجل قد علم أن خطراً سيقابل جيلاً واحداً من المسلمين قبل يوم القيامة وهو خطر الدجال، وخطر الإيمان به؛ فحذر الله سبحانه بواسطة نبيه صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً على ممرِّ العصور، وفيهم صحابته والكرام. فكيف أغفل الله سبحانه تنبيههم إلى خطر عظيم وفوضى دينية بزعمكم لن يقابلها جيلٌ واحد ولا جيلان بل كل أجيال المسلمين بعد القرن الرابع الهجري؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
أيها الناس اربعوا على أنفسكم، واستحيوا من ربكم سبحانه، وتأدبوا معه فإن هذا لا يليق بمسلم جاهل فاسق؛ فكيف بمن يدعي العلم ويتصدى لتفقيه الناس وإصلاحهم!
ثم إننا بالإضافة إلى ما سبق سنناقش من الناحية العقلية حجتكم التي تذرعتم بها لإغلاق باب الاجتهاد، وهي احتمال ان يدخل فيه من ليس له بأهل؟
فنقول: إن كل علم منه كل فن معرض لدخول مدعين عليه ممن ليس له بأهل، أفنلغي العلوم والفنون ونسد باب معرفتها والبحث فيها لذلك، ونرجع البشرية إلى عهود التقهقر والانحطاط، إننا بهذا المنطق نوجب منع الأطباء من العمل في البلاد بسبب احتمال وجود من يدعي علم الطب ممن ليس له بأهل، ويوجب إغلاق أبواب الصيدليات لاحتمال دخول المدعين على مهنة الصيدلة، كما يوجب علينا أن نمنع الناس من تعليم التفسير والحديث والفقه؛ لأنه يمكن أن يتصدى لتعليمه غير الأكفاء؛ فهل هذا منطق وهل هذا معقول؟
إن الله عز وجل خلق الدنيا امتحاناً للبشر واختباراً، وهو نفسه سبحانه خلق فيه الصالح والطالح، والخير والشر؛ ليمتحنهم، وهو أدرى بهم، ولكنه جعل الحق مؤيداً بالحجة والبرهان، والباطل مفتقراً الى الحجة، ضعيفاً، ما أن يظهر الحق حتى يفر الباطل منه مُهاناً، قال تبارك وتعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق} (الأنبياء: 18). وقال: {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} (النساء: 76).
إنه إذا وجد من يدعى الاجتهاد ممن ليس له بأهل؛ فإن الله تعالى كفيلٌ بإبطال سعيهم، ودحض حجتهم، وإخراسهم بواسطة المجتهدين الأكفاء والعلماء الأتقياء، ولن يكون للأدعياء حجة، وقد تعهد الله وجل شأنه بأنه لن يخلي الأرض من قائم لله بحجة، ومدافع عن الدين بالحق، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يزال من أمتي أمةٌ قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خلالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) (متفق عليه).
وقال أيضاً: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) (عزاه صاحب المشكاة إلى البيهقي وهو مرسل، ولكن ذكر الألباني في التعليق عليه أنه رُوي موصولاً من طريق جماعةٍ من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ والعلائي، انظر المشكاة: 1/ 82 -83).
وسيبقى في المسلمين علماء صادقون، يذبُّون عن الدين، ويردون افتراء المفترين قبيل يوم القيامة، حتى يقبض العلم بقبض العلماء كما ذكر صلى الله عليه وسلم (انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/ 30 و39، لابن الوزير).
يا هؤلاء لا تخافوا على الدين أن يضيع، وأن يصبح فوضى فإن الله سبحانه هو حافظه وراعيه، وقال عز شأنه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9)، وإنه لن يصيبنا ما أصاب الأمم السابقة من الفوضى الدينية كما زعم أصحاب كتاب (الاجتهاد والمجتهدون)؛ لأن الله تعهد بحفظ ديننا ولم يتعهد بحفظ أديانهم.
وليس الذي يكفل استمرار الدين وصلاحه هو إغلاقه باب الاجتهاد كما تتخيلون بل هو ابقاء باب الاجتهاد مفتوحاً؛ لأنَّ اغلاقه معناه إغلاق باب العلم الصحيح؛ لأنكم تقررون أنه إن منع الاجتهاد لم يبقَ إلا المقلدون أي الجهال، وهؤلاء أعجز من ان يحموا الدين من شبهات أعدائه ويردوا عنه مؤامرات الخصوم واتهاماتهم.
إن حماية الدين من كيد الأعداء وتضليلاتهم لن يستطيع حملها إلا العلماء وأنّى لأعمى أن يتصدى للمبصرين ويصرعهم؟
إن الضمان الوحيد لبقاء الدين وصلاحه ودرء الأخطار عنه هم العلماء الحقيقيون أي المجتهدون، ولا خطر على المسلمين من الفوضى الدينية المزعومة أبداً ما داموا يستهدون بكتاب ربهم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكل اجتهادٍ باطلٍ أو فوضى دينية أو خطر على الدين ستبوء كلها بالهزيمة والخذلان أمام قوة الحق الهائلة المتمثلة في الكتاب والسنة، وكل ضلالٍ وانحرافٍ سيذوب أمام شمس الحق الساطعة، وهذا هو ربنا تبارك وتعالى يعلن ذلك كما في صريح كتابه؛ فيقول: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}(الرعد: 18) فالبقاء للأصلح، والحق هو الغلاب، وهو الاقوى وهو المنتصر والله من وراء ذلك، يؤيد المؤمنين، ويتولى الصالحين، {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} (غافر: 35). ويقول: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} (يونس: 81)، ويقول: {إن ربك لبالمرصاد} (الفجر: 14).
يا هؤلاء لا تخافوا على الدين فإن له ربٌ يحميه بواسطة عبادٍ له أمناء على كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم -يستضيئون بنورهما في الظلمات المدلهمة، ويطردون جيوش الكفر والضلال.
لا تخافوا على الدين بل خافوا على أنفسكم ان تتلاعبوا بهذا الدين وتحلوا حرامه وتحرموا حلاله وتشرعوا ما لم يأذن به الله سبحانه.
خافوا على انفسكم من إغلاق باب فتحه الله ومن التجرؤ على أمرٍ شرعه الله ومن النهي عن أمر أحبه الله سبحانه.
خافوا من ذلك ودعوا الله التظاهر بالغيرة على الإسلام؛ فالله ناصر دينه ومظهره، ولسنا نحن الذين نحفظ الدين بل الله سبحانه.
وماذا يكون الخلق كلهم أمام الله عز وجل؟ ثم ها هو التاريخ يشهد بذلك من فكم من مؤامرات عظيمة خطيرة دُبّرت لمحو الاسلام والقضاء عليه، ثم ماذا؟
لقد باءت كلها بالخيبة والإخفاق، ولحقها العار والشنار مع ضعف المسلمين أثناء ذلك وتفرقهم، فما سبب ذلك؟ ليس هناك تعليل إلا أن الله تعالى وراء هذا الدين يكلؤه برعايته ويصونه بقدرته سبحانه تقدست أسماؤه، وجلت صفاته.
ونرجع إلى هؤلاء المقلدين الذين يدعون إغلاق باب الاجتهاد ويتهمون أن فتحه سيكون منه البلاء العظيم والفتنة العمياء؛ فنسألهم: لماذا سيحدث الاجتهاد الشر والفساد بعد القرن الرابع الهجري فقط ولا يحدثهما قبله؟
إن قلتم: إن الناس قبل القرن الرابع كانوا صالحين ثم فسدوا بعده فإننا سنقول لكم: هل يمكن أن يخلو عصر من العصور من الصالحين وفاسدين والقرون الثلاثة الأولى نفسها مع اعتقادنا بخيريتها وفضلها هل يستطيع أحدٌ أن ينكر أنه كان فيها أشرار مُفسدون؟
الم يكون الخوارج والمعتزلة وغلاة الشيعة؟ ألم يُقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما ويضطهد الإمام أحمد وغيره بسببهم؟
ألم تظهر حركات الزندقة والمجوس في تلك القرون؟ ألم ينتشر وضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فمن الذي رد كل ذلك وحمى الدين من شرورها؟
أليس بتسخير الله سبحانه للعلماء المخلصين والمحدثين الحادقين الذين كشفوا كل شبهة وأزالوا كل غُمّة، فلله درهم -وبأبي علماء الحديث وأمي -وجزاهم الله عن المسلمين والإسلام خير الجزاء.
هؤلاء العلماء الذين يخدمون الدين ويحيون السنة في وقتٍ كادت أن تندرس فيه قد أصبحوا غرباء مع الأسف ومُحاربين ومُضلّلين ممن يدعون العلم والفقه، فوا أسفاه.
والله ما اعتقد أن في إنسانٍ خيراً إذا كان يستغني عن السنة وعلمائها فكيف بمن يحاربهم؟
إعلان إغلاق باب الاجتهاد لن يمنع المدعين من الاجتهاد
ونريد أن نضيف إلى ما سبق فنقول للمقلدين الجامدين المتعصبين: هل تظنون أنكم بمجرد قولكم إن باب الاجتهاد قد اقفل ستمتعوا الذين يريدون الاجتهاد ممن ليسوا له بأهل ومن أصحاب الأغراض والأهواء عن دخوله؟
هل تحسبون أن كلمة منكم تقال ستمنع الناس عن الكلام والفتيا؟
لو كان الأمر كذلك لما وجدنا الناس يخالفونكم في أكثر ما تدعونهم إليه وهم في واد وأنتم في وادٍ آخر.
إن اكثر الناس قد خالفوا أمر الله -وهو القوي الجبار، ذو البطش الشديد، الفعّال لما يُريد، الذي مصير الكائنات كلها بين يديه -فهل أنتم أشدُّ إخافةً وتأثيراً وسلطةً على الناس من ربهم سبحانه؛ فكيف سيردع مجرد كلام منكم المفسدين عن الاجتهاد.
إنهم لن ينتظروا إذنكم ولا أمركم. إن كان المرء لا يخاف الله عز وجل، ولا يتقيه؛ فلن يهابكم ولن يحذركم، فتقوى الله وخشيته ومحبته هي أساس الأمر ووسيلة الإصلاح الكبرى، وهي الرادع عن الفوضى الدينية واللعب بالشريعة السماوية.
أما مجرد كلام يصدر عن فلان وفلان فلن يغير من الأمر شيئاً، ومن الشواهد على ذلك أن الفقهاء المتقدمين قد أعلنوا في كثيرٍ من كتبهم، أنه لا يجوز للمقلد أن يتولى القضاء والفتيا.
فهل منع هذا المقلدين من توليها؟ إنهم ما زالوا يتقلدونها منذ زمنٍ طويل، وكذلك الاجتهاد، فإن المدعين والمغرضين لن يُصغوا إلى أقوالكم، بينما يمكن أن يُصغي إليها الذين لديهم أهلية واستعداد للاجتهاد، فيكون في هذا تبيطٌ لهممهم وصرفٌ لهم عن الاجتهاد وحرمان المسلمين من علمهم، وفقههم دون أن يتأثر بذلك المُدعون والمغرضون.
فإن كنتم حريصين على مصلحة هذا الدين وبقائه سليماً من العبث، فربوا أنفسكم والناس على تقوى الله سبحانه، والوقوف عند حدوده، والاستسلام لكتابه، وسنة نبيه وتقديمها على كل قول، والحذر من تشريع ما لم يأذن به الله، ودوا الأقوال في الدين التي لا دليل عليها من العقل، ولا من النقل، ولم يأذن بها ربنا تبارك وتعالى.
ومن الغريب والعجيب أن هؤلاء الذين يدعون إلى منع الاجتهاد تراهم أنفسهم يجتهدون عملياً ويُخالفون بأعمالهم ما يقولونه بألسنتهم، وجرّب أن تسأل أحدهم عن حكم مسألةٍ جديدة لم تبحث من الفقهاء السابقين، فسوف ترى أنهم سرعان ما يُفتونك فيها بناءً على اجتهادهم، وما أكثر البدع التي حدثت بعد القرن الرابع ومع ذلك استحسنها المقلدون برأيهم واجتهادهم مع أنهم يعلنون أن الاجتهاد ممنوع.
إن هذا يُذكرني بما قصَّه علينا شيخنا حفظه الله مما جرى له مع أحد المشايخ المتمذهبين إذ سأله شيخنا: ما رأيك في حكم الصلاة في الطائرة؟ فأجابه: جائزة. فسأله شيخنا: وما دليلك على لك؟ فقال له المذهبي: قياساً على الصلاة في السفينة وهي جائزة. فقال شيخنا: هل أنت مجتهدٌ أم مقلد؟ فأجاب المذهبي: بل مُقلد. فقال شيخنا: فكيف تقيس وتستنبط الأحكام الشرعية وأنت مقلد. والقياس من صلاحية المجتهد فقط؟ فسكت وبُهت.