أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 23 أكتوبر 2021

إرشاد الطالب النجيب إلى ما في المولد النبوي من الأكاذيب تأليف عبد الله بن الصديق الغماري

إرشاد الطالب النجيب إلى ما في المولد النبوي من الأكاذيب 

تأليف عبد الله بن الصديق الغماري

اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالة علمية وجيزة في نحو عشرين صفحة، جمع فيها مؤلفها الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري -رحمه الله -بعض المكذوبات التي أدرجها بعض المتأخرين ممن صنفوا في مسألة مولد النبي صلى الله عليه وسلم والغماري صوفي أشعري لكنه أصاب في هذه القضية، حيث نزَّه الجناب النبوي الشريف عن نسبة هذه الأحاديث المكذوبة إليه، وبيَّن ما تضمنتها من المعاني الباطلة الشنيعة.

مقدمة  

لا يخفى أن موضوع المولد النبوي. مستحدثٌ في الملة، قُصد بإنشائه إقام ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من جميع الجهات. فبعد انتهاء العلماء من الكتابة في سيرته الشريفة وشمائله وأخلاقه، وكيفية معاملته لجلسائه عليه الصلاة والسلام، وحسن استقباله لزائر، ولطف معاملته حتى يظن أن ليس أحد أكرم عليه منه.  

اتجه كثير من العلماء إلى ناحية مولده عليه الصلاة والسلام، فكتبوا فيها المؤلفات التي شغلت جانباً مهما من الجوانب النبوية التي طهرها الله بالعصمة، وكرمها بالسداد والتوفيق.  

والكتب في المولد النبوي كثيرة يعسر حصرها، وأول من ألف فيها، فيما أعلم العلامة العَزْفِى السبتى (ت 633 هـ)، ثم الحافظ أبو الخطاب ابن دحية  (ت 633 هـ) ألف كتاباً في المولد النبوي وقدمه إلى الملك الصالح أيوب (١) الذي كان يحتفل بالمولد النبوي في ربيع الأول احتفالاً كبيراً، يدعو اليه العلماء والأعيان والعامة.  

ثم تتابع العلماء في هذا الباب فكتبوا موالد مختلفة بالطول والقصر، والبسط والإيجاز، غير أن المتأخرين توسعوا في ذكر الموضوعات والأخبار الواهية وهذا ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب إسهاماً مني في خدمة الجناب النبوي الكريم.  

(١) الملك أيوب هو من المماليك، كان حوالي القرن السادس وكان ملكاً صالحاً.

_____________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام  على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين؛ وبعد: 

فإن الذين كتبوا في المولد النبوي، أفسدوا مؤلفاتهم  بأمرين:  

أحدهما: التزامهم السجع المتكلف المرذول، الذي يضيع المعنى، ويذهب حلاوة العبارة وجزالتها.  

والآخر: ذكرهم الأحاديث الموضوعة، والآثار الواهية في أن النبي صلى الله عليه وسلم، أسبق المخلوقات في الوجود، وفيما يتعلق بمولده من سوابق ولواحق.  

ولما كان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر العظيمة باتفاق المسلمين، ولأن أولئك المؤلفين، لم يدركوا كذب تلك الأحاديث التي جلبوها، وكثر اغترار الناس بها، وجعلوا قراءتها والتغني بها، ديدنهم في حفلات الموالد التي تقام في البلاد الإسلامية.  

رأيت أن أنبه عليها، وأطهر الجناب النبوي من نسبتها إليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم، أجل من أن يمدح بالكذب والخرافات.

/1/

_____________________________________________

وفي القران الكريم، والأحاديث الصحيحة ما يدل عل عظم قدر النبيِّ صلى الله عليه وسلم -أعظم دلالة، واقرأ كتابنا «فضائل النبي في القرآن» تجد ما تقر به عينك، وينشرح له صدرك، ويطمئن به قلب كل مومن مُحبٍّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. 

وإن من كمال تعظيمه، وتمام محبته أن ننفي عن جنابه الكذب ونبعد عن إلصاقه به. فلهذا كتبت هذه الرسالة التي سميتها:  

«إرشاد الطالب النجيب إلى ما قيل في المولد النبوي من الأكاذيب»  

والله المسؤول أن يقبله وينفع به. إنه جواد كريم، رؤوف رحيم. 

طهارة نسب النبيِّ صلى الله عليه وسلم 

روى ابن سعد وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح غير سفاح».  

وروى الطبراني، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام».

 وروى ابن سعد وابن أبي شيية في المصنف عن محمد بن علي ابن حسين : أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال : «إنما خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم، لم يصبني من سفاح الجاهلية من شيء ولم أخرج إلا من طهرة».

/2/

_____________________________________________

وروى أبو نعيم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يلتق أبواي في سفاح، لم يزل الله ينقلني من أصلاب طبية إلى أرحام طاهرة صافياً مهذباً، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرها».  

قلت : ما أفادته هذه الأحاديث هو من المعلوم بالضرورة، لأن الله يختار لنبوته من هو طاهر النسب، كريم الآباء والأمهات. 

وههنا أثر غريب، ننبه عليه، روى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس، أنه قال: في قول الله تعالى: {وتقلبك في الساجدين}: يعني تقلبك من صلب نبي إلى صلب نبي، حتى أخرجك نبياً، ولعله لا يصح عن ابن عباس، وسياق الآية يخالفه. 

ولم يكن في آبائه نبيٌّ غير أبيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. 

ومسألة أخى نُنَبِّه عليها أيضاً: تقدم في الحديث «لم يزل الله ينقلني من أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة»؛ فهم قوم هذا الحديث أنه يتنافى مع كون آزر كافراً، والكافر خبيث غير طيِّب، فادَّعَوا أن آزر عمُّ إبراهيم عليه السلام، وهم واهمون... والحقيقة أن آزر والد إبراهيم، جاء في عدة آيات وصفة بالأبوة، ولا داعي لتأويلها بالعم، لأنه لما ولد له إبراهيم، كان من أهل الفطرة طيِّبَ الصُّلبِ، لا تكلف عليه، وإنما كفر بعد ذلك، حين قال له إبنه: {يا أبت لا تعبد الشيطان} الآيات؛ فلا يكون كفه الـمتأخر مبطلاً لطهارة صلبه السابقة.  

/3/

_____________________________________________

تقدُّم نبوته صلى الله عليه وسلم

روى أحمد والحاكم؛ عن العرباض بن سارية، عن النبي -رضي الله عنه -عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال : «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذلك، أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين» قال الحاكم: صحيح الإسناد. 

وروى أحمد الطبراني عن ميسرة العجرد (١)، قال: قلت: يا رسول الله متى كتبت نبياً؟  قال : «وآدم بين الروح والجسد». قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. 

وروى الطبراني بإسناد حسن، عن أبى مريم الكندي قال : أقبل أعرابي حتى أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعنده خلق من الناس، فقال: ألا تعطيني شيئاً أتعلمه وأحمله وينفعني ولا يضرك؟ فقال الناس : مه اجلس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه فإنما يسأل الرجل ليعلم». فأفرجوا له حتى جلس، فقال : أي شيء كان أول نبوتك؟ قال : «أخذ الله الميثاق مني كما أخذ من النبيين ميثاقهم»، ثم تلا: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً}، وبشرى المسيح عيسى بن مريم، ورأت أم رسول الله في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ووراء ذلك قريتين أو ثلاثاً».

/4/

_____________________________________________

وروى الترمذي عن أبي هريرة، قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» صححه الترمذي.  

يؤخذ من هذه الأحاديث أمور:  

-1-

أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان معروفا باسمه وصفته قبل خلق آدم عليه السلام، وهذا شيء خاص به، فإن الله لم يخبر باسم نبى قبل وجوده، وانظر إلى قول الله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}... {إني خالق بشراً من طين} لم يخبرهم باسمه، ولم يعرفوه إلا بعد وجوده.  

-2-

أنه استُخرج من ظهر آدم ونبئ وأخذ ميثاقه وآدم لم ينفخ فيه الروح، وهذا خاصٌّ به أيضا، واستخراج ذرية آدم من ظهره. كان بعد تمام خلقه عليه السلام. 

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله، بعد أن ذكر أن أكثر السلف على أن استخراج ذرية آدم منه ان بعد نفخ الروح فيه: وعلى هذا يدل أكثر الأحاديث، فيحتمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني، وهو عينه وخلاصته

/5/

_____________________________________________

وواسطة عقده، فيكون حينئذ من حين صُوِّر آدم طيناً، استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم، ونبئ وأخذ منه الميثاق، يؤيد ذلك ما روي عن قتادة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: «كت أول النيين في الخلق وآخرهم في البعث»، وفي رواية: «أول الناس في الخلق»، خرجه ابن سعد وغيره، وخرجه الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً، والمرسل أشبه، وفي رواية عن قتادة مرسلة، ثم تلا: {وإذ أخدنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}؛ فبدأ به قبل نوح الذي هو أول الرسل، فمحمد -صلى الله عليه وسلم أول الرسل خلقاً وآخرهم بعثاً، فإنه أعيد إلى ظهره، ولا يقال: فقد خلق آدم قبله، لأن آدم حينئذٍ كان هَوناً لا روح فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حياً حين استُخرج ونبئ وأُخذ ميثاقه، فهو أول النبيين خلقاً واحرهم بعثاً، فهو خاتم النبيين باعتبار أن زمانه تأخر عنهم، اهـ. كلامه وهو  نفيس.

-3-

أن النبي صلى الله عليه وسلم، نشأ على التوحيد، بل قد يؤخذ من حديث العرباض أنه ولد نبياً، قال الحافظ ابن رجب: فإن نبوته وجبت له من حين أُخذ الميثاق منه حين استُخرج من صلب أدم، فكان نبياً من حينئذ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك.

/6/

_____________________________________________

وذلك لا يمنع كونه نبياً قبل خروجه، كمن يُولّى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته، وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت. 

قال حنبل : قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد -من زعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان على دين قومه قبل أن يبعث؟ قال : هذا قول سوء، ينبغي لصاحب القالة أن يحذر كلامه، ولا يُجالسـ، قلت له: إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة، قال : قاتله الله، وأي شيء أبقى؟ إذ زعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم، كان على دين قومه، وهم يعبدون الأصنام. قال الله تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام: {ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} وذكر أن أمه حين ولدت رأت نوراً أضاءت له قصور الشام. أوليس هذا عندما ولدت رأت هذ؟ وقبل أن يبعث كان طاهراً مطهراً من الأوثان، أوليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ اهـ.  

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله، وبما شوهد عند ولادته من الآيات، على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلي الدنيا وولادته، وهذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية، فإنه ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين كان آدم منجدلاً في طينته، والمراد بالـمنجدل، الطريح المُلقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه. اهـ.

/7/

_____________________________________________

وهذا الكلام في غاية النفاسة؛ لأنه صدر عن الإمام أحمد، ومقلده الحافظ ابن رجب رضي الله عنهما.

بشريَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}، وقال تعالى: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد}... {لقد جاء رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.. {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}.. {وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون}. 

وفي الحديث المتواتر «أنا سيد ولد آدم»  

وهذا أمر لا يحتاج الى الاستدلال، لأنه معلوم بالضرورة العقلية.  

وإنما ذكرته لأن بطلان الاحاديث المكذوبة التي امتلأت بها كتب الـمولد النبوي؛ لأن بعض الناس يتشبثون بها، ويعتقدون صحتها، وينكرون على من يبين حالها، ويُنبه على إثم من ينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفون أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز رواية الحديث الموضوع، ولا يجوز العمل به في الفضائل والترغيب والترهيب، وأن التساهل فيه يوجب الإثم الكبير.

/8/

_____________________________________________

بيان الأحاديث المكذوبة  

منها، وهو أشهرها حديث: (أول ما حلق الله نور نبيك، من نوره يا جابر). عرزه السيوطي في الخصائص الكبرى لمصنف عبد الرزاق، وقال عنه في الحاوي في سورة المدثر من الفتاوى القرآنية: ليس له إسناد يعتمد عليه، وهذا تساهل كبير من السيوطي، كنت أنزهه عنه.  

أما أولاً: فالحديث غير موجود في مصنف عبد الرزاق، ولا في شيء من كتب الحديث.  

وأما ثانياً: فإن الحديث لا إسناد له أصلاً.  

وأما ثالثاً: فإنه ترك بقية الحديث، وهي مذكورة في تاريخ الخميس للديار بكري، ومن قرأها يجزم بأن الحديث مكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وجاء شخص موريتاني فيلالي من ذرية الشيخ محمد بن ناصر الدرعي، فألف كتاباً سماه: (التوجيه والاعتبار إلى معرفة القدر والمقدار) وموضوعه الكلام على النور المحمدي، أتى فيه بطامة كبرى، حيث قال في أوله: ومن أدلة تسبيقته وأصليته حديث الإمام عبد الرزاق في مصنفه الشهير، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم أحد أعلام المدينة عن محمد بن المنكدر -شيخ الزهري -عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال : قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: "يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره"، وذكر بقية الحديث. 

/9/

_____________________________________________

وقد تعجب من وقاحة هذا الشخص وجرأته، حيث صنع هذا الإسناد الصحيح لحديثٍ لا يوجد في مصنف عبد الرزاق ولا غيره من كتب الحديث المسندة، وهذه جرأة غريبة تشبه جرأة الخوارج في وضعهم أحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده في جهنم). 

فأجاب : نحن لا نكذب عليه ولكن تكذب له؟! 

ولعل هذا الموريتاني يعتقد أنه كذب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد استند صاحب البردة إلى هذا الحديث المكذوب حين قال:  

فإن من جودك الدنيا وضرتها …  ومن علومك اللوح والقلم  

وهذا غلو مذموم، لا أصل له، ولا دليل عليه. 

وقد أصلحته بقولي:  

فإن جودك في الدنيا وضرَّتها … وفي كتابك علم اللوح والقلم  

وهو أجود ولد أدم، كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. 

/10/

_____________________________________________

وجوده في الآخرة بشفاعته العظمى، وشفاعاته المتعددة. 

وكتابه القرآن الكريم، فيه علوم الأولى والآخرين.  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا 

حديث: (كنت نوراً بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام). وقد نسب هذا الحديث لرواية علي زين العابدين عن أبيه عن جده، وهو كذب مركب.  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا 

حديث: (يا عمر، أتدري من أنا، أنا الذي خلق الله عز وجل نوري أول كل شيء، فسجد لله، وبقي في سجوده سبعمائة عام ولا فخر، يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله القلم واللوح والعرش والكرسي والعقل الأول ونور الإيمان من نورى).  

وكلمة العقل، نزعة فلسفية واضحة.

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا 

حديث: (لولاك ما خلقت الأفلاك)، وهذا كذب على الله تعالى أيضاً.  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا 

حديث: (أوحى الله إلي أني حرمتُ النار على صُلبٍ أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك).

/11/

_____________________________________________

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا 

(أن النبي -صلى الله عليه وسلم -حين ولد أتته الملائكة وطافت به المشرق والمغرب ثم ردته).  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا  

(أنه ولد مختوناً)، وهذا كذب، وإنما ختنه جده عبدالمطلب يوم سابع ولادته .  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا  

حديث: (المعرفة رأس مالي، والحب أساسي، والذكر أنيسي، والشوق مرك، والعلم سلاحي، والزهد حرفتي، والحزن رفيقي، والعجز فخري، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، واليقين قوتي، والطاعة حسبي).  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا  

حديث: (كنتُ نبياً وآدم بين الماء والطين).  

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا  

حديث: (سألت جبريل عن عمره؟ قال : لا أدري، غير أن نجماً يظهر في السماء الرابعة، مرة في كل سبعين ألف سنة، رأيته سبعين ألف مرة، قلتُ وربي أنا ذلك النجم).  

/12/

_____________________________________________

ومـــــــنــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــا  

ما ذكروا: (أن أمه حين جاءها الطلق، حضرت آسية امرأة فرعون وأم موسى وأم عيسى). والعجب أن السيوطي ذكر في الخصائص الكبرى ثلاثة آثار في ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة الوضع، وعقب عليها، بقوله : فيها نكارة شديدة، ولم أورد في  كتابي هذا أشد نكارة منها، ولم تكن نفسي لتطيب بإيرادها، لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك. اهـ.  

وفي هذا نظرٌ من وجوه:  

أحدها: أن تلك الآثار، وهي أثر عمرو بن قتيبة، عن أبيه، وأثر ابن عباس، وأثر العباس بن عبد المطلب، كذبها واضح، ووصفها بالنكارة الشديدة تساهل شديد.  

ثانياً: أنه ذكر في كتاب الخصائص الكبرى أخباراً موضوعة، سوى هذه الآثار التي أشرنا إليها.  

ثالثها: أن اتباعه لأبي نعيم عذر غير مقبول أبداً، لأن أبا نعيم لم يلتزم الصحة فيما روى، ولأن الطبراني وأبا نعيم وغيرهما ممن يروون الحديث بإسناده، يعتقدون أنهم برئوا من عهدته، بإحالتهم على إسناده، والسيوطي لا يروي بالإسناد، فيجب عليه تجنب الاحبار الموضوعة، ولا يجوز له أن يتبع أبا نعيم وأمثاله.  

والحقيقة أن السيوطي كثيرُ التساهل إلى حدٍ كبير، يورد أحاديث في الخصائص أو في الجامع الصغير، نص على وضعها في اللآلي المصنوعة أو في ذيل اللآلي، ولا أدري ما عذره في ذلك؟ إلا أن يكون عنده شره وشغف بجمع الأحاديث كيفما كان حالها؟ وهذا هو الظاهر، والله يسامحه ويغفر له. 

/13/

_____________________________________________

ومن الأكاذيب القبيحة التي تؤدي إلى كفر معتقدها:  

قول بعض جهلة المتصوفة: كان جبريل يتلقى الوحي من وراء حجاب، وكشف له الحجاب مرة فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم -يلقى إليه الوحي، فقال: منك وإليك. 

وهذا يرده قول الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}. ومن الكذب القبيح أيضاً في المعراج قولهم : أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم، راكباً على البراق وجبريل عليه السلام آخذ بركابه، وهذا قبيح، وسوء أدب في حق ملك كريم، مدحه الله تعالى بقوله: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند العرش مكين مطاع ثم أمين}، وجبريل عليه السلام كان راكباً على البراق والنبي -صلى الله عليه وسلم -خلفه.  

وقالوا أيضاً: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لما وصل إلى سدرة المنتهى، تأخر جبريل عليه السلام، وقال: لو تقدمت لاحترقت، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما انفرد في سدرة المنتهى استوحش فسمع صوت أبى بكر فاستأنس، وهذه عدة أكاذيب لا أصل لها.

/14/

_____________________________________________

 وجبريل عليه السلام لم يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في سدرة المنتهى، بل كان معه فيها، وفي جميع المواضع التي زارها النبي ليلة المعراج، وكان معه حين فرضت عليه الصلاة، وما فارقه حتى رجع إلى الأرض، ولم يستوحش النبي -صلى الله عليه وسلم -في سدرة المنتهى، وكيف يستوحش وهو في حضرة الخالق ويأنس بصوت المخلوق؟!!  

ويقولون أيضاً: كان جبريل خادماً للنبي -صلى الله عليه وسلم، وهذه قلة أدب، في حق رسول عظيم، قد فضله بعض العلماء على النبي، والواجب أن يكون كلام المسلم عن الأنبياء والملائكة، في غاية الأدب والاحترام، ولا ياتي بكلمة فيها جفوة أو  نقص، مثل هذه الكلمة، ومثل قول صاحب البردة:  

وقدمتك جمع الأنبياء بها ... والرسل تقديم مخدومٍ على خدم  

وهذا قبيح، والانبياء إخوة، ليس فيهم خادم ومخدوم، والنبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: (الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). وملا عرج الى السماء كان كل نبي لقيه في السموات، محييه بقوله: مرحباً بالنبيِّ الصالح والأخ الصالح. 

وقد أصلحت هذا البيت بقولي :  

وقدمتك جميع الأنبياء بها … وأكرموك لفضل فيك من قدم  

/15/

_____________________________________________

تــــــــــــنــــــــــــــــــــبــــــــــــــــــيــــــــــــــــــه

جاء في الخصائص الكبرى، تحت باب ذكره في التوراة والإنجيل ج (1) ص (33) طبع دار الكتب الحديثة بمصر ما نصه : وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى موسى نبي بنى إسرائيل، أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد أدخلته النار، قال يا رب ومن أحمد؟ قال ما  خلقت خلقاً أكرم عليَّ منه، كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض، إن الجنة محرمة عل جميع خلقى حتى يدخلها هو وأمته. 

قال ومن أمته؟ قال: الحمادون يحمدون صعوداً وهبوطاً، وعلى كل حال، يشدون أوساطهم، ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير، وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلني نبي تلك الأمة، قال نبيها منها، قال : اجعلني من أمة ذلك النبي، قال : استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال". 

وإيراد السيوطي لهذا الحديث أحد الأدلة الكثيرة على شدة تساهله الذي لا يعذر فيه، وقد ذكر السيوطي نفسه هذا الحديث في الموضوعات، ثم هو لا يوجد في الحلية!!

/16/

_____________________________________________

وحديثٌ آخر موضوع، ذكره في الخصائص تحت ترجمة: باب ذكره في الأذان على عهد آدم، وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل آدم بالهند واستوحش، فنزل جبريل عليه السلام، فنادى بالأذان الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، قال: محمد؟ قال: آخر ولدك من الأنبياء. 

وذكر في هذا الباب حديثا موضوعاً أيضاً، وهو حديث علي عليه السلام، قال: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق فذهب يركبها فاستصعب؛ فقال لها جبريل: اسكني فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، فركبها حتى أتى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فبينا هو كذلك، إذ خرج ملك من الحجاب، فقال رسول الله: يا جبريل من هذا؟ قال : والذي بعثك بالحق، إني لأقرب الخلق مكاناً، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فقال الملك : الله اكبر الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، مما قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي لا إله إلا أنا، فقال الملك: أشهد أن عمدا رسول الله فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي أنا أرسلت محمداً، قال الملك: حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة، ثم قال: الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر.  

/17/

_____________________________________________

ثم أخذ الملك يد محمد فقدمه فأم أهل السماء فيهم آدم ونوح، وقد اختصر منه السيوطي، وهو حديث موضوع في سنده راوٍ كذاب، تفرد به كما يقول البزار، وهذا لا يخفى على السيوطي، فلا أدري ما أقول؟ وقد قلدناه في بعض الأحاديث ثقة به، واعتمدناها، ثم تبين لنا أنها موضوعة، وصرح هو نفسه بوضعها في ذيل اللآلئ، فتأسفنا غاية الأسف، والأمر لله. 

ويمكن أن يكون ثلث الأحاديث الموجودة في الخصائص بين واهٍ وموضوع، والبقية فيها ضعيف كثير. 

وطالما دافعنا عنه، ولكن أعيانا أمره، ونسأل الله أن يغفر لنا وله.

/18/

_____________________________________________

خاتمة في ذكر أحاديث لا أصل لها، أو موضوعة

١.الدين المعاملة، لا أصل له.

٢. من عرف نفسه عرف ربه، كلام يحيى بن معاذ الرازي الصوفي.

٣.اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

٤.من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم.

٥. كلوا وتكلموا واهدموا الحدود وخالفوا اليهود.

٦. تحدثوا عن الطعام ولو بثمن أسلحتكم.

٧. من اعتصم بعد النبيِّ كفر.

٨. جاءكم الطهور.

٩.الوضوء سلاح المؤمن.

١٠. الوضوء على الوضوء نور على نور.

١١. من أكل طعام أخيه ليسره لم يضره.

١٢.الناس على دين ملوكهم.

١٣.لا تُسيدوني في الصلاة

١٤. اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً.

/19/

_____________________________________________

١٥. ليس منا من لم يتعاظم بالعلم.

١٦.إذا وقفتم في الصلاة فلا تقبضوا أيديكم، فإن ذلك تكفير اليهود.

١٧.لكل بلد رؤيته.

١٨.من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم.

١٩.توسلوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم.

٢٠. الولد سرُّ أبيه.

٢١.الأدب من الأب والصلاح من الله.

٢٢. أمرتُ أن أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.

٢٣. حب الوطن من الإيمان.

٣٤.الدنيا جيفة، وطلابها كلاب.

٢٥. الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس.

٢٦. لا تكرهوا الفتن، فإن فيها حصاد المنافقين.

٢٧. تركت فيكم الأمرين: ناطق وصامت.

٢٨. جذبةٌ من جذبات الحق، توازي عمل الثقلين.

٢٩. الحمد لله رداء الرحمن.

٣٠. الحي أفضل من الميت.

٣١. خذوا شطر دينكم عن الحميراء.

٣٢. خير تجارتكم البز، وخير صناعتكم الخبز.

٣٣. القلب بيت الرب.

٣٤. قلب المؤمن دليله.

٣٥. كل طويل اللحية قليل العقل.

/20/




الجمعة، 22 أكتوبر 2021

تطهير الطويَّة بتحسين النيَّة الإمام علي بن سلطان القاري (ت ١٠١٤ هـ)

تطهير الطويَّة بتحسين النيَّة

الإمام علي بن سلطان القاري (ت ١٠١٤ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ إن الواجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يُجرِّد نيته ويُخلصها لله تعالى، وأن يتبرى عن كل ما دون الله جل في علاه، فيكون طلبه للعلم، وعبادته، ومعاملاته، وسائر تصرفاته يبتغي بها مرضاته وحده سبحانه، فلا يريد بعلمه ولا عمله جاهاً، ولا منصباً، ولا ثناءً، ولا حطاماً من الدنيا زائل، وإنما يجعل هدفه نشر الدين والتوحيد، ونصرة السُّنة، ورفع الجهل عن الأمة، وأن يكون المسلمون يداً واحدةً على من عاداهم، وأما من نوى بعمله شيئاً من الدنيا فقد عرَّض نفسه للعقوبة.

والنية هي توجُّه القلب إلى العمل، ابتغاء مرضاة الله، أو هي انبعاث القلب نحو ما يراه المرء موافقاً لغرضٍ من الأغراض، من جلب نفعٍ أو دفع شر، حالاً أو مآلاً، وقد خصَّها الشرعُ بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، ابتغاء وجه الله تعالى، وقد جاء التعبير عن النية "بالإرادة"، و"الهم"، و"العزم"، و"الإخلاص" ونحو ذلك.

ولتعلُّم النية الصالحة أهميةٌ كبيرة من حيث إنها: تغرس في نفوس المؤمنين معالم التربية الجمالية، التي" تؤدي بدورها إلى تطهير القلب والعمل والسلوك، وتُفضي إلى نظافة المظهر والجوهر، فهي مدعاةٌ لنظافة الضمير وطهارته، ونظافة الفرد مدعاة لنظافة المجتمع. 

وهذا الجزء الحديثي يعرض لشرح حديث (نيَّةُ المؤمن خيرٌ من عمله)، وهو حديثٌ ضعيف كما عند العراقي في تخريج الإحياء (٥‏/٩١)، وابن حجر في فتح الباري (٤‏/٢٥٨)، لكنه بشواهده يرتقي إلى الحسن، كما قال السخاوي في (الأجوبة المرضية ١‏/٣٤٥): "روي من طرق فيها مقال لكن يتأكد بعضها من بعض ولا يبعد أن يرتقي بالنظر بمجموعها إلى الحسن"، وتابعه على ذلك الزُّرقاني كما في مختصر المقاصد (١١٥٤). وقد حكم عليه "القاري" بالوضع، كما في الأسرار المرفوعة (٣٥٩)، والصواب أنه ضعيف، كما حققه الألباني في ضعيف الجامع (٥٩٧٦).

وقد أجاب القاري عن سؤال طرحه المشككون، وهو: لم لا يُعذب الله الكفار في النار مدة من الزمن بمقدار كفرهم؟ وبعد ذلك: ذكر فضيلة النية في الكتاب والسنة، وتعرض بعد ذلك إلى: خطورة المعصية والشهوة والهوى، وإلى مدح العلم، وذم الجهل وذم علماء السوء، وتفقد علماء السلف أحوال من يتردد إليهم، وبيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).

وأوضح أن مفهوم قوله (نية المؤمن خيرٌ من عمله) يؤدي إلى أن عمل الكافر خيرٌ من نيته، لعدم وجود شرط صحة العمل، وهو الإيمان، أو لعدم اقتران حسن النية بالعمل. وبيَّن أن الله سبحانه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا الأمر في المنافق ظاهرٌ فإن عمله خيرٌ من نيته، أي: في الصورة.

ويمكن تلخيص ما جاء في هذا الكتاب، بقولنا:

أن (نية المؤمن خيرٌ من علمه) على أربعة معان:

الأول: أن نيَّة المؤمن خيرٌ من عمل الكافر؛ فلو نوى مؤمن عمل الخير أُثيب على نيته، ولو لم يعمله، بخلاف الكافر لو فعل الخير فإنه لا يُثاب عليه.

الثاني: أن نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله الذي يدخله الرياء؛ وهذا بخلاف العمل الذي يكون خالصاً من الرياء، فإنه يكون خيراً من النيَّة المجردة.

الثالث: أن نيَّة المؤمن هي السبب في صلاح العمل أو فساده، وبالتالي تكون خيراً من العمل الذي هو نتيجة وثمرة.

الرابع: أن المقصود بالنيَّة هنا التوحيد والإخلاص، وهو خيرٌ من جميع أعمال الجوارح، باعتبار أنَّ نجاة المرء في الآخرة مُتعلَّق به، بخلاف أعمال الجوارح.




الخميس، 21 أكتوبر 2021

رسالة المعاونة والمظاهرة والمؤازرة للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق الآخرة

رسالة المعاونة والمظاهرة والمؤازرة للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق الآخرة

عفيف الدين عبد الله بن علوي بن محمد الحداد (1044 - 1132 هـ)

-رحمه الله تعالى-

وبهامشه رسالة المذاكرة مع الإخوان المحبين

لعبد الله بن علوي الحداد

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالةٌ نافعةٌ لطيفة، ووصيةٌ جامعةٌ منيفة، يدعو أكثرها إلى الهدى والخير والصلاح، وضعها الشيخ الحداد -رحمه الله -بطلب من بعض إخوانه المحبين، الراغبين في سلوك طريق الآخرة، وقد جاء كل فصلٍ منها مبدوءاً بقوله (وعليك كذا) وجعل ذلك خطاباً لنفسه، تأديباً لها، وحملاً لها على البر والتواضع وسلامة الدين والدنيا.

وقد جعل الشيخ الحداد كتابه هذا، على ثلاثة أقسام: القسم الأول يتعلق بالتوحيد وأموره إجمالاً، والثاني: يتعلق بآداب العبادات الظاهرة والباطنة، والثالث: يتعلق بآداب المعاملات. وبطبيعة الحال، فلا يخلو كتابٌ وعظيٌّ من حديث ضعيف، ولذلك اشتمل كتاب الشيخ الحداد على الكثير منها، بل وفيه بعض الموضوع، والواهي؛ لذا ينبغي التحرز من ذلك.

والشيخ "الحداد" رحمه الله، وإن كان أشعرياً، إلا أنك تلمس في رسالته هذه التواضع الجم، والأدب الكبير، والإيمان العميق، وحُسن القصد، وتلمُّس طريق الآخرة، والبحث عن مراضي الله تعالى، وقد اضطهده اليافعيون حكام (تريم) فكان ذلك سبب انتقاله إلى منطقة الحاوي -بحضرموت.

كما أنه درج على طريقة الذين يُحِّسُنون الظن بأصحاب الشطحات من أهل التصوف كابن عربي ونحوه، لأنه باعتقاده لم يبلغ ما يؤهله لفهم عبارته، وهو مع ذلك يُحذر أصحابه من مطالعة كتبه، كعادة المتقدمين من المتصوفة؛ فيقول (ص 9): "وينبغي أن تحترز من مطالعة ما يشتمل من رسائلهم على الأمور الغامضة، والحقائق المجردة، وهذه الأشياء توجد في أكثر مؤلفات الشيخ محمد بن عربي، وفي شيء من رسائل الإمام الغزالي كالمعراج، والمضنون به عن غير أهله، ومن جملتها مؤلفات عبد الكريم الكيلاني". ثم قال مُقرراً أن ما في كتب هؤلاء الشاطحين هو الضلال المبين: "ونحن إنما نخشى عليك أن تفهمه على غير وجهه فتضلَّ عن سواء السبيل، كما وقع ذلك لأقوامٍ عكفوا على مطالعة هذه الكتب، فصاروا في زندقةٍ وإلحاد، وقالوا بالحلول والاتحاد".

وليت بعض من يشتغل بالتأليف، يضع رسالةً على منوالها ونظمها، يذكر فيها هذه الآداب، ويستبدل الطريقة الأشعرية بطريقة السلف الصالح في المعتقد، ويُصلح ما جاء في هذه الرسالة من خطأ أو خلل، مع التحقيق والتنسيق؛ فإنها ستكون نافعةً جداً، وقد حاولت فعل ذلك فيما ذكرته هنا، متصرفاً ببعض كلام الشيخ -رحمه الله رحمةً واسعة.

ومن جملة النصائح الغالية التي جادت بها قريحة الشيخ، والتي لا يمكن لحروفي أن تستوعب بعضها فضلاً عن أكثرها:

(وعليك أيها الأخ الحبيب بتقوية يقينك … وهو قوة الإيمان، وثباته، ورسوخه، حتى يصير كأنه الطود الشامخ، لا تزلزله الشكوك، ولا تزعزعه الأوهام..)

(وعليك يا أخي بإصلاح النية وإخلاصها)

(وعليك يا أخي بمراقبة الله تعالى في حركاتك وسكناتك)

(وعليك بعمارة أوقاتك بوظائف العبادات)

(وعليك بالصدق ولزوم الوسط من كل أمر، وخذ من العمل ما تطيق المداومة عليه)

(وينبغي أن يكون لك وردٌ من كتاب الله العزيز تداوم على قراءته)

(وينبغي أن يكون لك وردٌ من قراءة العلم النافع، وهو الذي يزيد معرفتك بالله تعالى، وصفاته، وأفعاله، وآلائه… ويورثك زُهداً في الدنيا، ورغبةً في الآخرة، ويُبصرك بعيوب نفسك، وآفات أعمالك).

(وعليك بالإكثار من قراءة كتب الحديث، والتفسير، ومطالعة كتب السلوك عامة)

(وينبغي أن يكون لك وردٌ من ذكر الله تعالى، تحدُّه بوقت، أو تحصره بعدد من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير)

(وعليك بالمحافظة على الأذكار والأدعية الواردة في أدبار الصلوات، وعند الصباح، وعند المساء، والنوم، واليقظة)

(وينبغي أن كون لك وردٌ من التفكر في كل يومٍ وليلة، تُعيّن له ساعة أو ساعات، وأفضل الأوقات جوف الليل)

(وينبغي أن تتفكر في هذه الدنيا وكثرة أشغالها، ووبالها، وسرعة انقضائها وزوالها، وفي الآخرة وإقبالها، ونعيمها ودوامها)

(وينبغي أن تتفكر في نزول الموت، وحصول الحسرة والندامة بعد الفوت، وفائدة هذا التفكر: قصر الأمل، وإصلاح العمل، وإعداد الزاد ليوم المعاد)

(وعليك أن تتفكر في الأخلاق والأعمال التي وصف الله بها أولياءه وأعداءه وفيما أعده الله للفريقين من الخير العاجل والآجل)

(وينبغي أن يستحضر عند كل نوع من التفكر ما يناسبه من الآيات والأخبار والآثار)

(وينبغي أن تُسمي شيئاً تزيد عليه عند النشاط ولا تنقص عنه عند الكسل)

(واجتهد أن تجعل لربك سبحانه ساعتين: ساعة أول النهار وساعة آخره)

(وعليك بالتمسك بالكتاب والسنة)

(وعليك بعقيدة -أهل السنة والجماعة، أهل الحديث والأثر، بإثبات جميع الصفات الخبرية والفعلية، بمعانيها المعروفة في لغة العرب، من غير تكييف ولا تشبيه، ومن غير تمثيل ولا تعطيل)

(وعليك بحفظ متنٍ من متونها، كالواسطية، ونحوها، وانظر جامع متون عقيدة أهل السنة والجماعة، لعادل آل حمدان)

(وعليك بأداء الفرائض واجتناب المحارم، والإكثار من النوافل)

(وعليك بمعرفة كيفية فعل الواجب، فمن بلغ مسلماً وجب عليه أن يتعلم فوراً معنى الشهادتين، والطهارة، وأحكام الصلاة، فإن ملك نصاباً وجب عليه تعلم أحكام الزكاة، فإن أراد الحج وجب عليه تعلم أحكامه، ونحو ذلك من الواجبات العينية، وأن يعرف تحريم الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والغيبة والنميمة…).

(وعليك بلزوم النظافة ظاهراً وباطناً، فإن من كملت نظافته صار بروحه وسريرته ملكاً روحانياً، وإن كان بصورته وجسمه بشراً جسمانياً)

(وعليك تنظيف فمك بالسواك، وكونه من الأراك أولى، ويتأكد عند الدخول في العبادات، وتنظيف ثيابك كلما تدنست من غير إفراطٍ وتشبُّهٍ بالمترفين، واستعمال الطيب والإكثار منه، ودهن شعر اللحية والرأس، ويتأكد عند حضور الجمعة وسائر جمع الإسلام)

(وعليك بالاحتراز عن النجاسات كلها؛ فإن أصابك منها شيءٌ مع الرطوبة؛ فبادر بغسله)

(وعليك بتجديد الوضوء لكل فريضة، واجتهد أن لا تزال على طهارة، وجدِّد الوضوء إن أحدثت)

(وعليك بصلاة ركعتين كلما توضأت، فإن لم تقدر أن تُداوم على الطهارة فاجتهد أن لا تدعها عند الجلوس في المسجد، وقراءة القرآن، والعلم، والقعود للذكر)

(وينبغي أن تغتسل في بعض الأوقات بنية التنظيف، وإن لم تُصبك جنابةٌ)

(واعلم أنه ينبغي أن تُصدِّرَ جميع أمورك "باسم الله"، فإن نسيت أن تُسمّي في أول الأمر، فقل إذا تذكرت: "باسم الله أوله وآخره").

(واجتهد أن لا تدخل في شيء من العبادات إلا بنية صالحة)

(وعليك بالتيامن في كل شأنك، إلا في إزالة النجاسات وإزالة الأقذار، والدخول إلى المواضع التي من شأنها الاستقذار)

(وإذا عطست؛ فاخفض بها صوتك، واستر فمك، وقُل: الحمد لله رب العالمين)

(ولا تبصق إلا عن شمالك، أو تحت قدمك اليُسرى)




الاثنين، 18 أكتوبر 2021

كلمة الذات ونسبتها إلى الله تعالى محمد بن شمس الدين

كلمة الذات ونسبتها إلى الله تعالى

محمد بن شمس الدين

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا بحثٌ وجيز في بيان استعمال السلف لكلمة "الذات" في إطلاقها على الله تعالى، وأنهم توسعوا في استعمالها على جهة الإخبار، لصحة معناها اللغوي، وكان غرضهم البيان عن حقيقة مذهبهم في إثبات الصفات لله عز وجل؛ كالاستواء، والمجيء، والنزول، والعلو، وأرادوا من إطلاقها نفـس الموصـوف وحقيقته، لا على أنها صفةٌ من صفات الله عز وجل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: (ويفرق بين دعائه والإخبار عنه؛ فلا يُدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه؛ فلا يكون باسم سيِّئ، لكن قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيِّئ، وإن لم يحكم بحسنه؛ مثل اسم: شيء، وذات، وموجود...) (مجموع الفتاوى: 6/ 142).

هذا، مع كون كلمة (ذات) لم تكن العرب تعرفها إلا بالمعنى اللغوي، لأن "ذات" تأنيث "ذو" وهو سبحانه لا يصحُّ إلحاق تاء التأنيث به، ولكن المتكلمين نقلوا هذه اللفظة من كونها "كلمة" تُضاف إلى ما بعدها، وجعلوها اسماً للموصوف؛ وأضافوا لها (أل) التعريف؛ وقالوا: كل موصوفٍ قائمٍ بنفسه فهو ذات.

وجعلوا دلالتها على الذات المجردة من الصفات (واستعاضوا بها عن لفظ: الجوهر)، وأن الصفات زائدةٌ عليها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: (ولا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتاً من الصفات، ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات، فَتَخَيُّلُ وجود أحدهما دون الآخر، ثم زيادة الآخر عليه تَخَيُّلٌ باطل) (مجموع الفتاوى: 6/ 206).

وخلاصته، أنه يصحُّ إطلاق كلمة (الذات) أو (ذات الله)، أو: (الذات الإلهية) على الله سبحانه وتعالى، على جهة الإخبار، وذلك إذا دعت الحاجة لإفهام أمرٍ مُلتَبَسٍ، لكن لا على أنَّ (ذات) صفة لله، وإنما على أن ذات الشيء نفسه. والأولى استعمال لفظ "النفس".

وقد وردت كلمة ذات في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة، منها: {إن الله عليم بذات الصدور}، و{وأصلحوا ذات بينكم}، {غير ذات الشوكة}، {تزَّوار عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال}، {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، { فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، وكلها بالمعنى اللغوي، لا المعنى الحادث الذي أطلقه المتكلمون على الذات المجردة عن الصفات.

وكذلك لم ترد هذه اللفظ مع اسم الله تعالى في الحديث النبوي إلا في حديث "الكذبات" أن إبراهيم عليه السلام (لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله)، ولم يحملها أحدٌ من العلماء على أنه كذب في صفة الله، وإنما المعنى لأجله وفي سبيله.

وقد استعمل السلف كلمة "ذات الله" بمعانيها اللغوية، التي هي: مرضاة الله، وأحكامه، وسبيله، ودينه، وشريعته وديانته، ومنه قول خُبيب: "وذلك في ذات الإله"، فقوله: "في ذات الله"، يعني: من أجل الله، ووضع العلماء القواعد المشهورة، واستعملوا لها هذا اللفظ، فقالوا: "الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات تتصف بها ذاته لا تشبه الصفات".




الأحد، 17 أكتوبر 2021

المقام المحمود وجلوس النبيِّ صلى الله عليه وسلم على العرش من كتاب السُّنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال (ت ٣١١ هـ)

المقام المحمود وجلوس النبيِّ صلى الله عليه وسلم على العرش

من كتاب السُّنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال (ت ٣١١ هـ)

تحقيق: د. عطية الزهراني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الجزء اللطيف، من كتاب "السنة" للإمام الخلال (ح: ٢٣٦ -٢٤٩)، فيه إثبات أن المقام المحمود، هو ما ورد عن مجاهد، في قول الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً}، قال: (يُقعده معه على العرش)…

وهو في الجملة أثرٌ مقطوعٌ عن مجاهد، ولا يصحُّ رفعه، ولا يجب اعتقاد هذا المعنى، لأنه من قسم الضعيف، ومن جوَّز الأخذ به اعتماداً منه على هذا الأثر، الذي أحسن أحواله أن يكون كالحديث المرسل؛ فيلزمه أن يأخذ بكل حديث مرسل حتى ولو كان يتضمن مخالفة للشريعة، مثل قصة الغرانيق، فقد وردت بأسانيد عدة مرسلة، وهي صحيحة إلى مرسليها من التابعين… 

    وأما عن رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسألة"؛ فيقول في تعارض العقل والنقل" (٥/ ٣٣٨):

    "وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في "إبطال التأويل" رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه.

    وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود" انتهى.

ومن المعلوم أن المقام المحمود هو المقام الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، ولا شكَّ أن في تعيين هذا المقام خلافٌ بين العلماء، على ثلاثة أقوال:

القول الأول: المقام المحمود هو الشفاعة، كما جاءت بذلك الروايات الصحيحة، فقد روى البخاريُّ في "صحيحه" (٤٧١٨) عن ابن عمر: "أن الناس يصيرون يوم القيامة، جثاً كل أمةٍ تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله: المقام المحمود. 

وأخرج الترمذي في "سننه" (٣١٣٧) عن أبي هريرة -رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، قال: الشفاعة"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الأرناؤوط في "تخريج المسند"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (٢/ ٣٦٤)، وقال الألباني: "حديث صحيح". 

وجاء مثله عن ابن عباس، قال: "المقام المحمود هو مقام الشفاعة"، وإسناده ضعيف، فيه رشدين بن كريب.

وأخرج أحمد في "المسند" (٣/ ٤٥٦)، وابن أبي عاصم في السنة" (٢/ ٤٦٢)، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة، كنتُ أنا وأمتي على تلٍّ؛ فيكسوني ربي حُلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول، وذلك المقام المحمود".

وقد ذكر الطبري الذين ورد عنهم أن المقام المحمود هو الشفاعة، من الصحابة والتابعين، وهم: حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وسليمان، وقتادة. (انظر تفسير الطبري: ١٥/ ١١٤، ١١٥).

القول الثاني: المقام المحمود: إعطاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة. قال الشوكاني في "فتح القدير" (٣/ ١٥٢): "إن هذا لا يُنافي القول الأول؛ إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة، وبيده لواء الحمد".

القول الثالث: المقام المحمود: هو أن الله تعالى يُجلس محمداً صلى الله عليه وسلم على كرسيه، وقد ذكره الطبري، عن عبد الله بن سلام، وفي إسناده سيف السدوسي "مجهول" (تفسير الطبري: ١٥/ ١٤٨)، وفي رواية عن مجاهد، والذهبي عن ابن عباس، وقال الذهبيُّ: إسناده ساقط، وهذا مشهور من قول مجاهد. (العلو للعلي الغفار، ص ٩٩، وابن بطة في الإبانة عن ابن عمر موقوفاً، ص ٢٥٠).

أما أثر ابن عمر، فقال: "يجلسني معه على السرير"؛ فقال الألباني في "الضعيفة": باطل.

وهذا الأخير ذهب إليه الإمام الخلال صاحب هذا الكتاب، وذكره عن عددٍ من علماء عصره، الذين اعتبروا من ردَّ هذا القول أو طعن فيه، فهو كافرٌ جهميٌّ،  وأنه ردَّ على الله عز وجل فضله، وكذَّب بفضيلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنه حدَّث به العلماء منذ ستين ومائة سنة، وأنه لم ينكره أحدٌ منهم، بل أثبتوه.

ومن هؤلاء: 

محمد بن أحمد بن واصل، وأبو داود السجستاني، وأبو بكر بن أبي طالب، وأحمد بن أصرم المزني، وأبو بكر بن حماد المقري، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي، وعباس الدوري، وإسحاق بن راهويه، وعبد الوهاب الوراق، وإبراهيم الأصبهاني، وحمدان بن علي، وإبراهيم الحربي، وهارون بن معروف، ومحمد بن إسماعيل السُّلمي، ومحمد بن مصعب العابد، وأبو بكر بن سلم، وعلي بن داود القنطري، وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي.

ومعلومٌ أن هؤلاء الأئمة، إنما جعلوا إنكار ذلك قولاً للجهمية، لأن الجهمية أنكروا أن يكون الله مستوٍ على عرشه، ومعلومٌ أن الجهة بين أثر مجاهد ومسألة الاستواء منفكة، فلا يلزم من نفي أثر مجاهد التزام قول الجهمية.

ولا شك أن قول مجاهد مخالفٌ لما هو أصحُّ منه في تفسير المقام المحمود، وقد ذكر الذهبيُّ عن الإمام أحمد عند ترجمة "محمد بن مصعب العابد" أن قعود النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيه نصٌّ؛ حيث قال: "ذكر الإمام أحمد: ابن مصعب، فقال: كتبتُ عنه، وأي رجلٍ هو"، ثم قال الذهبيُّ: "فأما قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص بل في الباب حديث واهٍ" (العلو، ص ١٢٤).

والمؤلف هنا لم يكتفٍ بذكر الآثار -مع ضعف طرقها -بل احتجَّ لإثبات ذلك بالمنامات، وأن أصحابها رأوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، في المنام، وأخبرهم أن الله يقعده على العرش. 

ومعلومٌ أن رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ، ولكنه لا يثبت بالرؤيا المنامية حكم شرعي.

وقد جاء عن ابن عبد البر، أنه قال: "ومجاهدٌ وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما: هذا، والثاني: في تأويل: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة}، قال: معناه: تنتظر الثواب، وليس من النظر" (التذكرة، ص ٣٠٠، وفتح القدير ٣/ ٢٥٢).

وقال الشوكاني: "وعلى كل حالٍ؛ فهذا القول غير مُنافٍ للقول الأول، لإمكان أن يُقعده الله هذا المقعد، ويشفع تلك الشفاعة" (فتح القدير: ٣/ ٢٥٢).

وقال الطبريُّ: "وأولى القولين بالصواب، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، وسئل عنها، فقال: " هي الشفاعة".

وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل الآية، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمداً صلى الله عليه وسلم -قولٌ غير مدفوعٍ صحته لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك أنه لا خبر يحيل ذلك (تفسير الطبري، ١٥/ ١٤٧).

والراجح الذي يجب اعتقاده: أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى.

ذكر طرق أثر عبد الله بن سلام: «إن محمدا يوم القيامة بين يدي الرب عز وجل، على كرسي الرب تبارك وتعالى»!

قال أبو بكر بن الخلال: أخبرنا أحمد بن أصرم المزني، قال: ثنا عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير العنبري، قال: ثنا مسلم بن جعفر وكان ثقة، عن الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام، به.

قال: وأخبرنا أبو داود السجستاني، وأبو بكر بن صدقة، كلاهما، قال: ثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي، قال: ثنا يحيى بن كثير، به.

وعبد الله بن سلام سنده ضعيف، لجهالة سيف السدوسي، وهو في عداد المجهولين، وقال البخاري: ولا يُعرف لسيفٍ سماعٌ عن ابن سلام. (ت الكبير) 4/ 2317.

ذكر طرق أثر مجاهد: المقام المحمود: «يجلسه على العرش»!!

وقال الذهبيُّ في "العلو" بإسناده عن مجاهد: "يُجلسه على العرش، أو يُقعده على العرش"؛ لهذا القول -أي كلام مجاهد -طُرقٌ خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره ، وعمل فيه المروذي مصنفاً.

وعمدته عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد:

١/ قال أبو بكر الخلال: ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت حديث ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، من أبي معمر، عن أخيه.

(ولم يسمعها منه الإمام أحمد، وهذا يدل على أن الإمام أحمد لم يرو هذا الحديث ولم يصححه، وقال الذهبيُّ: "أما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نصٌّ، بل في الباب حديثٌ واهٍ" العلو، ص ١٢٤، وذكر الخلال عن عدة موافقة أحمد على هذا الخبر، وليس نفيه، وأكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن أصحاب أحمد، معتمداً ما ذكره الخلال)

٢/ قال: وأخبرنا أبو داود السجستاني، قال: ثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: ثنا محمد بن فضيل، به.

٣/ وقال: أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، قال: ثنا علي بن الحسن بن سليمان وثنا عثمان عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، كلاهما، قالا: ثنا ابن فضيل، به.

٤/ وقال: أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقرئ ويحيى بن أبي طالب، قالا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، به.

٥/ قال:  وأخبرني أحمد بن أصرم، قال: ثنا العلاء بن عمرو، قال: ثنا ابن فضيل، به.

وهذا الأثر إسناده ضعيف؛ فهو مرويٌّ عن ليث وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات، وجابر بن يزيد، العلو للعلي الغفار (ص ١٢٥)، وقال الألباني: فالأولان مختلطان، والآخران ضعيفان، بل الأهير متروكٌ متهم، انظر مختصر العلو للعلي الغفار (ص ١٧)؛ فكيف يتهم من ردَّ ما لم يصح مخرجه بالزندقة والكفر؟!!

وجاء من طريق سلمة الأحمر، عن أشعث بن طليق، عن ابن مسعود!

قال الذهبيُّ في "العلو": "وهذا حديثٌ منكر، لا يُفرح به، وسلمة هذا متروك الحديث، وأشعث لم يلحق ابن مسعود".

وجاء من طريق عمر بن مدرك الرازي، عن مكي بن إبراهيم، عن جُويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس!!

قال الذهبي في "العلو" إسناده متروك، وفيه جُويبر، قال: متكلِّمٌ، أي من أهل الكلام، وقال أيضاً: اللام في العرش ليست للمعهود بل للجنس، قلتُ "الذهبي": هذا مشهور قول مجاهد، ويُرورى مرفوعاً، وهو باطل.




حاشية ثلاثة أصول تاليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

حاشية ثلاثة أصول

تاليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

(1115 -1206 هـ)

بقلم الفقير إلى ربه القدير

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي


تمهيد/ هذا كتابٌ عظيم النفع، شرح فيه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي (الأصول الثلاثة) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فبيَّن ألفاظه، وشرح معانيه، بأسلوب سهلٍ يسير، وجعل تعليقه عليه كالحاشية للكتاب؛ ويعتبر هذا المتن شرحاً لحديث البراء بن عازب، مرفوعاً: والذي فيه سؤال الملكين للعبد في قيره: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟. 

وقد مُني هذا الكتاب بشروحات كثيرة، أهمها:

1-شرح الشيخ عبد الرزاق البدر، في ثلاثين درساً.

2-شرح الشيخ أحمد بن عمر الحازمي في عشرة دروس.

3-شرح الشيخ عبد الله بن مرعي العدني في ثمانية وعشرين درساً. 

4-شرح الشيخ عبد الرحمن القاضي (؟) درس.

5- شرح الأستاذ محمد حنونة في سبعة عشر درساً.

https://www.youtube.com/playlist?list=PLhfpcle6lUQ21QgofMvUSHvEndUC8DzOb