أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 18 ديسمبر 2020

السجود وآثاره النفسية -محمد عبد اللطيف رجب عبد العاطي

السجود وآثاره النفسية

(دراسة قرآنية)

محمد عبد اللطيف رجب عبد العاطي

أستاذ مشارك بكلية الشريعة والقانون -جامعة الإمارات

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ السجود هو الاتصال الحقيقي بمصدر القوة والمدد والنور والبركة، وهو "الله" سبحانه وتعالى، والسجود هو صولة الحق في الضمائر النقيَّة، ونور الإذعان في الأعضاء الطاهرة، وهو خضوع القلوب المهيأة لتلقي التوفيق والبركة والسداد من الرب جلَّ في عُلاه، وانتفاضة الروح على الجسد؛ حيثُ يثبت الساجد عبوديته وانقياده واستسلامه لله، ولذلك شُرع للساجد تسبيح الله عز وجل بما يُشعر بعظمة الله تعالى وعلوه ذاتاً وقدراً وقهراً، فإذا استحضر الإنسان اقتراب الرب منه وغلب عليه التأثُّر بما يُشاهده من حقائق التوحيد والعظمة لم تعد الألفاظ تكفيه في تصوير ما في صدره من الكلمات والعبارات، حتى تكون الدموع هي التي تُعبِّر وتنطق بما تعجز عنه الكلمات.

والسجود علامةٌ ظاهرةٌ على شكر المنعم، واعترافٌ بالمعرفة والإيمان، وللسجود مكانةٌ جليلة، وفضل عظيم؛ لأنه دليلُ اختصاص الله عز وجل بالعبادة، ولأنه غاية التواضع والعبودية لله، إذ فيه تمكين أعزِّ الأعضاء وأعلاها وهو (الوجه) من التراب الذي يُداس ويُمتهن. ولهذا قدَّم الله الأمر به على الأمر بالعبادة في قوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} /النجم: 62/. 

وقد أمر الله نبيَّه المصطفى صلى الله عليه وسلم بكثرة السُّجود، وقرنها بالعبادة؛ فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} /الحجر: 98/، وعهد به إلى نبيِّين كريمين؛ فقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} /البقرة: 125/، وفي هذه الآية قدَّم الركوع على السجود باعتبار الترتيب، وأما من حيث الأفضليَّة، فالسجود أفضل من الركوع كما نصَّ عليه العلماء.

كما أنَّه سبحانه جعل السجود دليلاً ظاهراً على العبادة؛ كما في قوله سبحانه: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنَّ إن كنتم إيّاه تعبدون} /فصلت: 37/. 

وجعله الله سبحانه علامةً مُميِّزة لعباده المتقين؛ حيث قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} /الفرقان: 63، 64/

كذلك ذكر ربنا سبحانه السُّجود كعلامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين في أشّد ساعات القيامة كربةً وشدَّة، حين يأتي الله عز وجل لفصل القضاء، ويكشف عن ساقه العظيمة، فيخرُّ المؤمنون سُجداً لله، وأما المنافقون فلا يستطيعون ذلك: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} /القلم: 42/.

وقد نصَّ الباري سبحانه في مواضا قرآنية كثيرة على سجود الدواب والجبال والنبات والشجر والملائكة لله وحده؛ كما قال جل وعلا: {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} /النحل: 49/، وقال جلَّ شأنه: {والنجم والشَّجر يسجدان} /الرحمن: 6/.

وكذلك أنت بسجودك تردُّ الفرع إلى الأصل: {منها خلقناكم وفيها نُعيدكم} /طه: 55/، وبه تنال رضوان الله وجنَّته، وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائيِّ عن ثوبان، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ يسجد سجدةً لله إلا رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه خطيئة).

وقد أعرض كثيرٌ من الناس عن السجود له تعالى، وصرفوا عبادة السجود لغيره وأشركوا فيها معه غيره؛ كالفجرة الكفرة الذين يسجدون للأضرحة، وقبور الصالحين ويأتون مع ذلك بأمور شركية تُخرجهم من الملة والعياذ بالله تعالى.

فالسجود حق خالص لله تعالى وقد كان مباحاً في الأمم السابقة؛ فيسجد للمخلوق سجود تحية لا سجود عبادة، كما حصل من سجود أبوي يوسف عليه السلام وإخوته له حين دخلوا عليه، على خلافٍ بين العلماء في معنى السجود هل هو مجرد الإنحناء أو هو السجود المعروف، والأول أظهر.

وهذا بحثٌ قرآنيُّ يُعنى بتعريف السُّجود، ومكانته، وأقسامه، وأصناف سجود التطوع، ويستعرض النصوص القرآنية: الآثار النفسية لسجود، والتي تتمثل في نفي الشعور بالوحدة، وعلاج الإحساس بالدُّونية، وبضغط المعصية، ودفع نزعة الغرور والكبر، وإزالة ضيق الصدر وتقوية العزيمة للقيام بالأعمال الجسيمة، وترسيخ الثقة بالله، والاستعانة به عند عروض البلاء والشدة.

وقد تضمن هذا البحث: مقدمة، ومبحثين، وخاتمة.

  • أهمية هذا البحث:

(1) بيان فضيلة لسجود، وأهميته، وأنواعه.

(2) بيان الآثار النفسية الإيجابية للسجود على العبد من خلال آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الصحيحة.

(3) الرد على المستشرقين في إدعائهم أن السجود يورث المسلمين الذل والخنوع والخضوع أمام أعدائهم.

المبحث الأول: السجود في القرآن الكريم:

أولاً: تعريف السجود: 

السجود في "اللغة": التطامن والتذلل والخضوع، يُقال سجد سجوداً، أي خضع وتطامن، وكل شيء ذلَّ فقط سجد، والجمع سُجّد وسُجود.

وفي "الاصطلاح": وضع (الجبهة) على الأرض مع الطمأنينة.

ويجب مع الجبهة وضع أعضاء السجود الأخري، وهي: الكفان، والركبتان، وبطون القدمين.

ودليل السُّجود: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أسجدَ على سبعةِ أعظُمٍ) /رواه مسلم، وأحمد/.

وهذا هو السجود الجسماني، فإذا اقترن به سجود القلب بالخضوع لله عز وجل، فإن هذا هو الفضل الكبير، والمرتبة التي ليس فوقها مرتبة.

ثانياً: فضل السُّجود:

(أ). روى مسلمٌ في "صحيحه": عن معدان بن أبي طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال قلت بأحب الأعمال إلى الله تعالى؟ فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة).

وفي الحديث بيان فضيلة السجود وأنه من أحب الأعمال إلى الله لما فيه من إظهار غاية الذل لله تعالى حيث يضع العبد أشرف أعضائه على الأرض لله رب العالمين.

(ب). وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) /رواه مسلم/.

قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": وهذا قرب الروح نفسها من الرب ولم تفارق البدن، والرب تعالى فوق سمواته على عرشه.

ولا يتلفت إلى كثافة طبع الجهمي وغلظ قلبه، ورقة إيمانه ومبادرته على تكذيب ما لم يحط بعلمه، فالروح تقرب حقيقة بنفسها في حال السجود من ربها تبارك وتعالى لا سيما في النصف الأخير من الليل حين يجتمع القرباء، إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون (الرب) من عبده في جوف الليل حين ينزل إلى السماء الدنيا ويدنو من عبادة، فتحس الروح بقربها حقيقة من ربها سبحانه.

ومع هذا فهي بدنها وهو (سبحانه) فوق سمواته على عرشه، وقد دنا من عباده ونزل إلى السماء الدنيا، فإن علوه سبحانه وعلى خلقه أمر ذاتي، له معلوم بالعقل والفطرة وإجماع الرسل، فلا يكون فوقه شيء البتة، ومع هذا فيدنوا عشية عرفة من أهل الموقف وينزل إلى سماء الدنيا، وهذا الذي ذكرناه من دنو الرب تبارك وتعالى من عباده مع كونه عالياً على خلقه هو قول كثير من المحققين من أهل السنة.

ثالثاً: أضرب السُّجود: السجود "ضربان": 

1. سجودٌ اختياري (طوعي).

2. وسجودٌ اضطراري (قسري).

(أ). أما السجود الاضطراري؛ فهو سجود جميع المخلوقات له سبحانه وتعالى؛ حتى الكفار والعُصاة؛ كما في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} /الرعد: 15/

(ب). أما السجود الاختياري؛ فهو الذي يكون بإرادة العبد واختياره، ويحصل من عباد الله الطائعين: من الإنس والجن، والملك.

ويُمكن تصنيف سجود "الطوع" حسب وروده في القرآن الكريم إلى خمسة أقسام:، وهي:

أولاً: سجود العبادة:

والأصل في سجود العبادة أن يكون لله وحده، ولكن القرآن الكريم سجّل على فريقٍ من بني آدم امتناعهم عن هذا السجود وسجودهم لغير الله عز وجل، ونهاهم عنه، وأمرهم بالسجود له وحده، وتوعد الفاعلين بالعذاب الأليم الدائم، وذلك في مواضع مُتعددة، منها:

1. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} /الفرقان: 60/.

2. وذكر سبحانه قول الهدهد لسليمان عليه السلام حين ذكر له ملكة سبأ وخبر قومها؛ فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} /النمل: 24 - 26/

3. وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} /فصلت: 37/.

4. وقوله جل وعلا: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} /الانشقاق: 20، 21/.

5. وقوله سبحانه عندما يكشف عن ساقه يوم القيامة: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} /القلم: 42 -43/.

6. وروى البخاريُّ في"صحيحه"، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَكْشِفُ رَبُّنا عن ساقِهِ، فَيَسْجُدُ له كُلُّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقى كُلُّ مَن كانَ يَسْجُدُ في الدُّنْيا رِياءً وسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا واحِدًا).

7. وقال جل شأنه عن سجود الملائكة عليهم السلام في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } /الأعراف: 206/.

8. وذكر سجود الأنبياء عليهم السلام في قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} /مريم: 58/.

9. وذكر سجود النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } /الفتح: 29/.

10. وذكر سجود عباد الرحمن؛ فقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} /الفرقان: 63، 64/.

11. وذكر سجود مؤمني أهل الكتاب؛ فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} /آل عمران: 113/؛ ففي هذه الآية بيان أن انخلاع الإنسان من دين آبائه وأجداده إلى دينٍ جديد لا عهد له به يستدعي قوةً وعزيمة، وقد بيًّن الله تعالى أن طائفةً من أهل الكتاب أقبلت على الحق وخلعت الباطل، ولم تُراع سلفاً ولا خلفاً، لا بعيداً ولا قريباً، فآمنوا ودخلوا في الإسلام، والذي حملهم على ذلك هو تلاوة آيات الله عز وجل آناء الليل، والسجود له سبحانه.

***

ثانياً: سجود التلاوة:

وسجود التلاوة عبادةٌ مشروعة، ودليل مشروعيته من القرآن الكريم، قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} /السجدة: 15/. 

وقوله سبحانه: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} /الانشقاق: 20، 21/.

ومن السُّنة، ما رواه البخاريُّ ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنه: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنا السُّورَةَ، فِيها السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ ونَسْجُدُ، حتّى ما يَجِدُ أحَدُنا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ).

وفي سجود التلاوة إرضاءٌ للرحمن، وترغيمٌ للشيطان؛ فقد روى مسلمٌ في "صحيحه"، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قَرَأَ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطانُ يَبْكِي، يقولُ: يا ويْلِي، أُمِرَ ابنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنَّةُ، وأُمِرْتُ بالسُّجُودِ فأبَيْتُ فَلِيَ النّارُ). وفي رواية: (فَعَصَيْتُ فَلِيَ النّارُ).

واتفق العلماء على أنه لا يوجد في القرآن أكثر من 15 سجدة، وقد اتفقوا على عشرٍ منها، واختلفوا في الباقي.

***

ثالثاً: سجود التوبة والشكر:

وجمهور المفسرين على أن ركوع داود عليه السلام في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} /ص: 24/  يقصد به السجود.

ولذلك بالغ ابن العربي؛ فقال: "لا خلاف بين العلماء أن الركوع هنا السجود"، وكلام ابن العربي هنا في غاية العجب؛ فقد اختلف العلماء في معنى "الركوع"، فقال بعضهم: الانحناء، وقال بعضهم: إنه ركع أولاً، ثم سجد بعد ذلك، وقال آخرون: الركوع يُراد به الصلاة.

وقول الجمهور أولى بالقبول لأمرين:

(الأول): اقتران الركوع بالخرور الذي هو السقوط والهوي إلى الأرض؛ فمعنى (خرَّ راكعاً) أي سقط ساجداً، والتعبير بالركوع عنه ليُفهم أنه كان عن قيام، وأنه في غاية السرعة لقوة الاهتمام به، وتوفر الداعي إليه، بحيث إنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع.

(الثاني): ما أخرجه النسائيُّ وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَد في (ص) وقالَ سَجَدَها داودُ تَوبَةً ونَسْجُدُها شُكْرًا) أي على النعمة التي آتاها الله داود، وهي قبول التوبة.

وقد صرَّح النووي باستحباب سجود الشكر بكل نعمةٍ ظاهرةٍ حصلت أو نقمةٍ ظاهرٍ اندفعت، ودليل ذلك ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (أنَّه كان إذا جاءه أمرٌ سرورٌ أو بُشِّرَ به، خرَّ ساجدًا شاكرًا للهِ).

وكذلك أُمر بني إسرائيل بالسجود عند دخول بيت المقدس شكراً لله تعالى على ما أنعم عليهم حيث أنقذهم من التيه والضلال؛ فقال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} /البقرة: 58/. 

وقال جل شأنه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}/الأعراف: 161/.

قال ابن عطية في "تفسيره": "وهذا نوعٌ من سجدة الشكر التي قد فعلها كثيرٌ من العلماء، ورويت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".

ولا مانع من حمل السجود على معناه الشرعي، وهو وضع الجبهة على الأرض، مصحوباً بالانحناء التام كما فعل رسول الله عندما دخل مكة فاتحاً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته) ولا داعي لحمله على الركوع كما رجحه "الطبري" أو الخشوع والخضوع كما رجحه "الرازي" و "محمد رشيد رضا" استناداً إلى تعذر حمله على المعنى الشرعي، إلا على ضربٍ من التكلف، لأن الدخول حركة والسجود سكون، وهما لا يجتمعان في آن واحد. 

والصواب: أن الله تعالى لم يطلب منهم جميعاً السجود في وقت واحد، لأن دخولهم الباب وسجودهم لا يمكن أن يتم في وقتٍ واحد، وهذا الأمر ينسجم تماماً مع الحديث الصحيح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ: {ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولوا حِطَّةٌ} /البقرة: ٥٨/. فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ على أسْتاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا، وقالوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ في شَعَرَةٍ).

***

رابعاً: سجود التحية والتكريم:

سجود التحية والتكريم يتمثل في سجود الملائكة لآدم عليه السلام، وسجود إخوة يوسف وأبويه عليهم السلام له. فأما سجود الملائكة لآدم؛ فورد في عدة موضاع، منها قول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} /البقرة: 34/.

وسجودهم لآدم كان امتثالاً لأمر الله عز وجل، حيث سجدوا له تحةً وتكريماً، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} /الإسراء: 61/، وذلك أن إبليس قاس بعقله، ورأى الفضيلة لنفسه، حيث رأى أن النار أفضل من الطين.

وهذا السجود هو المعروف في الشرع، وهو وضع الجبهة على الأرض كما قال الجمهور، لأنه الظاهر، ويؤيده قوله سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} /ص: 72/؛ ففي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليلٌ على أنه لم يأمرهم بمجرد الانحناء، بل أمرهم بالسجود بالمعنى المتبادر. وقال ابن عطية في "تفسيره": وهذه اللفظة {فقعوا} تُقوّي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوعٌ وتسليمٌ وإشارةٌ كما قال بعض الناس.

أما سجود أبوي يوسف كما جاء في قوله سبحانه: {ورفع أبويه على العرش وخرُّوا له سجداً} /يوسف: 100/ فالأظهر أن سجودهم كان على الجباه، وليس انحناءً ولا إيماءً، لقوله: {وخرُّوا} والخرور المُقيد بالسجود في اللغة لا يكون إلا بوضع الجباه على الأرض. 

وقد أجمع المفسرون على أن ذلك السجود على أيِّ وجهٍ كان إنما كان سجود تحية لا عبادة، وكان سائغاً في الشرائع السابقة حتى جاء الإسلام فجعله مختصاً بالله تعالى وحده في العبودية 48.

ويدلُّ لهذا الاختصاص؛ ما أخرجه ابن ماجه وغيره، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: لما بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معاذَ بنَ جبلٍ إلى الشّامِ، فلمّا قدِم معاذٌ قال: يا رسولَ اللهِ ! إنِّي رأيتُ أهلَ الكتابِ يسجُدونَ لأساقفَتِهم وبطارقَتِهم، أفلا نسجدُ لكَ؟ قال: (لا. ولَو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوجِها).

***

خامساً:  سجود الإذعان والتعظيم:

يتمثل سجود الإذعان والتعظيم في سجود سحرة فرعون الذي ورد في قول الله عز وجل: { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } /الشعراء: 45 - 47/

والمراد أن ظهور بطلان سحرهم، وإدراكهم فجأةً لحقيقة آية موسى عليه السلام، وعلمهم بأنها من عند الله تعالى، لا صنع فيها لمخلوق، قد ملأ عقولهم يقيناً وقلوبهم إيماناً، فحكم هذا الإيمان على أعضائهم فسجدت لله رب العالمين، وقد جاء بـ(فاء) التعقيب للدلالة على فورية السجود، وأنهم لم يترددوا فيه؛ فكأنهم اطرحوا اطراحاً بإلهام الله تعالى لهم، ولما باشر قلوبهم من حقائق الإيمان، وقدرة الله الباهرة.

وظاهر الآية أنهم خروا سجوداً على جباههم، وحمل السجود على الخضوع خلاف الظاهر، الذي لا ينبغي ارتكابه.

وذكر الذقن للدلالة على تمكين الوجوه كلها من الأرض وقوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع، وعطفت بقوله: {ويقولون سبحان ربنا} على {يخرون} للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع، والقول الدال على التنزيه والتعظيم.

***

المبحث الثاني: الآثار النفسية للسجود:

يتعرض الإنسان في حياته الدنيا إلى شدائد كثيرة، ويشعر أحياناً بالحرج والضيق والوحدة، وربما يُحسُّ بالدونية في مواجهة استعلاء الباطل وأهله، وممارستهم لكافة صنوف الاضطهاد والتعذيب ضد المؤمنين، فتضيق صدورهم، ويستثقلون التبعة الملقاة على عاتقهم، فيقع التقصير في القيام بأعبائها، وربما يُصيب الغرور والكبر من يقوى على هذا القيام، ويحقق الله تعالى له النصر على الباطل وأهله، وهذا كله من أشد صنوف البلاء التي تواجه المؤمن.

ولكي يتمكنوا من مواجهة كل تلك الشدائد فإنهم يحتاجون إلى قوة نفسية هائلة، ويُسهم السجود لله تعالى في تحقيقها من خلال آثاره النفسية التي تتمثل فيما يلي:

أولاً: نفي الشعور بالوحدة.

حيث أن شعور الإنسان بالوحدة، يجلب له الوحشة والخوف والضعف، فتلين عزيمته، وتخور قواه في مواجهة شدائد الحياة، وفيما يلي بيان أن السجود ينفي هذا الشعور عن صاحبه: 

(أ). السجود يجعل الإنسان قريباً من ربه سبحانه، قال تعالى: {واسجد واقترب} /العلق: /، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد؛ فأكثروا فيه من الدعاء)؛ فيشعر الساجد بأنه في كنف ربِّه، وفي جواره وقُربه، فينتفي عنه الشعور بالوحدة.

(ب). معرفة الساجد أن الملائكة تشاركه في فعل السجود ينفي عنه الشعور بالوحدة والخوف؛ فالملائكة تُواكب من يسلك سبيل الحق، وتُقويه وتُثبته، وتزيل وحشته، وتؤنس وحدته، قائلين له: {نحن أولياؤكم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة} /فصلت: 31/.

(ج) أن المؤمن الساجد يجد نفسه في سلسلةٍ متراصة ومترابطة ومتناغمة من الأنبياء والرسل والصديقين وعباد الله الصالحين، الذين واظبوا على هذه العبادة، بحيث ينتفي عنه أس شعورٍ بالوحشة، وقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل؛ فقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} /البقرة: 125/، فيكون الساجد من جملة كثيرة من المؤمنين الساجدين لله تبارك وتعالى. 

(د) معرفة الساجد أن الكون بسماواته وأرضه وأفلاكه ونجومه وأجرامه وجباله وأشجاره وجماده وحيوانه كله يسجد لله سبحانه، فيشعر بأن كل ما حوله يتعاطف معه، ويتجه معه إلى خالقه، حتى رُوي أن موضعان يبكيان على المُصلي عند موته أربعين صباحاً، موضع سجوده، وموضع رفع دعائه. قال جل وعلا: {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} /النحل: 49/

ثانياً: علاج الإحساس بالدونية وبضغط المعصية.

سجود الملائكة لآدم عليه السلام يدلُّ على أنه وذريته قد وُهبوا من الأسرار ما يستحقون به هذا التكريم؛ فقد وهبهم الله سبحانه سر المعرفة وسر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق. وهذا من شأنه أن ينفي الإحساس بالدونية من نفس المؤمن عندما يسجد لله عز وجل مختاراً ومنطلقاً من معرفته بالله سبحانه، حيث يتذكر في اللحظة نفسها أنه تعالى قد أسجد له الملائكة الذين لا يعصون له أمراً، ويسبحونه وله يسجدون.

ويتذكر في الوقت ذاته تأبِّي إبليس على هذا السجود استنكاراً لهذا التكريم الإلهي، لأبيه آدم عليه السلام، فيزول من نفسه أيَّ إحساس بالدونية في مواجهته، لأنه ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

واستقرار هذه الحقائق يُخفف عن نفسه ضغط الاستجابة للمعاصي، ويمتنع عنها وهو يقرأ قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} /النور: 21/

وكذلك فإن كثرة السجود لله يجعل المؤمنين في حالة استعلاءٍ على الكافرين، فلا يُعطون الدنيَّة في دينهم، بل هم أشداء غلاظ على الكافرين، كما قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } /الفتح: 29/.

ثالثاً: دفع نزعة الغرور والكبر:

سجود الإنسان لله عز وجل يدفع عنه نزعة الغرور والكبر من نفسه، لأنه يمكن أعزُّ أعضائه وأعلاها، وهو (الوجه) من التراب الذي يُداس ويُمتهم. وإذا قارن الإنسان حاله بحال الملائكة الراكعين الساجدين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم احتقر عمله بالنسبة لهم. 

وإذا نظر العبد إلى كل هذه المخلوقات الساجدة لله من حوله استنكر على العصاة والمتمردين من بني آدم أن يعيشوا خارج هذا الناموس العظيم الذي سنَّه الله سبحانه وأراده. وحينما يتقلب في الساجدين تتوراى الخيلاء، وينمحي الكبر، ويحل مكانهما التواضع النبيل، والرحمة البالغة، إذ كيف يختال الساجد أو يشتد على إنسانٍ يصطفُّ بجواره أو يقف أمامه؛ فيضع رأسه عند السجود محل قدميه، ومن هذا نفهم كيف قرن الله عز وجل بين السجود والرحمة بالمؤمنين، حيث قال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} /الفتح: 29/.

رابعاً: إزالة ضيق الصدر:

ضيقُ الصدر يكون من امتلائه غيظاً بما يكره الإنسان، وتتجلى آثاره السلبية في السخط على المدعوين سخطاً يدعو إلى ترك الإشفاق عليهم، أو الضجر من الدعوة ضجراً يسوق إلى ترك الُضي في سبيلها.

وقد واجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته ألواناً من الأذى المادي والمعنوي، حتى ضاق صدره بهذه الممارسات ضيقاً اقتضته الجبلة البشرية والمزاج الإنساني، كم قال "الرازي"

وذلك وجهه الله تعالى إلى الطاعة والاشتغال بالقربات، وقد أمره سبحانه بالسجود في مواطن كثيرة، وأرشده إلى أنه يُزيل الهم والضيق والغم، منها قوله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} /الحجر: 97، 98/. 

وقال سبحانه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} /الشعراء: 216 - 219/ فأمره إن عصته عشيرته أن يتبرأ منهم، وأن يستعين على عداوتهم بالسجود مع المصلين من المؤمنين.

خامساً: تقوية العزيمة للقيام بالأعباء الجسيمة:

حثَّ الله عز وجل على السجود في كل ظرفٍ احتاج معه إلى قوة العزيمة للقيام بالأعباء الجسيمة، والمهام الثقيلة المُلقاة على عاتقه. لا سيما من يُكابد هموم الدعوة، ويحمل عبئها وأثقالها.

وقد أرشد سبحانه عباده المؤمنين إلى السجود باعتباره الزاد الحقيقي الصالح للدعاة في تقوية عزائمهم، والشدِّ من أزرهم، قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} /ق: 39، 40/.

ونجد ذلك في قصص أولي العزم من الرسل، وفي قصة مريم، وفي غيرها من قصص الصالحين وعباد الله المؤمنين.

سادساً: تهوين ما يجري من الشدة والبلاء.

فعندما يستقرُّ الإيمان في النفس، ويستيقن من أنه راجعٌ إلى ربه، ويطمئن إلى جواره، فعندها يكون الموقف حاسماً بانتصار العقيدة على الرغبة في الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وتُعلن الدنيا ميلاد الحرية الحقيقية، لأن الحرية الحقيقية هي الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين، وطاغوت الطغاة، وعند ذلك لن تكون للقوة المادية أيَّة آثار، بل إن المؤمن سيتهين بها، وإن تسلطت على جسمه وتمكنت من رقبته.

ولا أدلَّ على ذلك من قصة سحرة فرعون، الذين آمنوا بالله عز وجل، وسجدوا له تعظيماً وخضوعاً وتصديقاً، وقالوا: آمنا برب العالمين، حينها توعدهم فرعون بالقتل والتمثيل والصلب؛ فكان جوابهم الحاسم: {مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} /الأعراف: 126/.

وكان جوابهم إلى فرعون عالياً سامقاً، ليس فيه ترددٌ ولا وجل: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 72 - 76/.

ونجد أن السجود هو شعار أهل التوحيد والجهاد في كل معاركهم مع الطغاة والظلمة والمستعمرين، كما جاءت بذلك آيات الجهاد، وقد حرص المسلمون على إقامة الصلاة في ساحة المعركة، كما قال ربنا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} /النساء: 102/.

نتائج هذه الدراسة:

أولاً: للسجود مكانةٌ جليلة، وفضلٌ عظيم؛ لأنه دليل اختصاص الله عز وجل بالعبادة، ولأنه غاية التواضع والعبودية له، إ فيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو (الوجه) من التراب، الذي يُداس ويُهان ويُمتهن، فإذا اقترن سجود الجسم بسجود القلب، فلا سجود عندنا أعظم منه.

ثانياً: السجود في القرآن الكريم ضربان: سجود الكره، وسجود التطوع، ويُمكن تصنيف الثاني إلى سجود عبادة، وسجود تلاوة، وسجود توبة وشكر، وسجود تحية وتكريم، وسجود إذعان وتعظيم.

ثالثاً: الإنسان يُقاسي في هذه الدنيا فنون من الشدائد من وقت نفخ الروح  إلى نزعها؛ فإذا كان مؤمناً تكالبت عليه شدائد ومحن بموجب سنة الله تعالى في ابتلاء المؤمنين، وهو يحتاج كي يواجهها إلى قوة نفسية هائلة، ويسهم السجود لله بالقلب والجسد في تحقيقها من خلال آثاره النفسية التي تتمثل في نفي الشعور بالوحدة، وعلاج الإحساس بالدونية وبضغط المعصية، ودفع نزعة الغرور، والكبر، وإزالة ضيق اصدر، وتقوية العزيمة للقيام بالأعمال الجسيمة، وترسيخ الاستهانة بالشدائد.


وأما التوصيات:

أولاً: على المسؤولين وصُناع القرار في المجتمع أن يهتموا بتهيئة أماكن للصلاة في كل المؤسسات كي يحصد الناس فيها ثمرات الصلاة والسجود لله تعالى.

ثانياً: ينبغي للأطباء النفسانيين أن يُنبهوا مرضاهم إلى الصلاة وكثرة السجود لله تعالى بمختلف أصنافهم، وبيان أنهم سيجدون النتائج التي تثلج صدورهم، وتوفر أوقاتهم، وتحفظ على المرضى أموالهم، وتجنبهم الآثار المترتبة على كثرة تناول العقاقير الطبية.



الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني 

في كتابه نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر 

(دراسة استقرائية نقدية)

رسالة ماجستير، جامعة الجزيرة -السودان

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ يعتبر كتاب "نزهة النظر" من أجل كتب المصطلح وأنفعها، وهو خلاصة شاملة لهذا العلم، فقد وضعه الحافظ ابن حجر بطريقة فريدة فذَّة، جمعت بين: الابتكار، والتحقيق، والاختصار، وضمَّنه تحقيقات علمية رصينة لا توجد في غيره من كتب هذا الفن، كما اشتمل علي أزيد من خمسين نوعاً من علوم الحديث، على طريقة السبر والتقسيم، وهي: طريقةٌ عقلية منطقية مبتكرة في هذا العلم؛حيث يجمع الأنواع المتجانسة والمتقاربة من هذا العلم في موضعٍ واحد، مع التفريق بين المتشابهات، وتوضيح المختلفات، وتفصيل المجملات.

وكان الهدف من هذه الدراسة هو التعرف علي شخصية الحافظ ابن حجر، ومنزلته بين العلماء، وقيمة كتبه الحديثية، بالإضافة إلى التعرُّف إلى كتاب "نزهة النظر" من حيث: الترتيب، والمنهج، وبيان الأنواع الحديثية التي اشتمل عليها الكتاب وتوضيحها مع اختيارات ابن حجر فيها، ولا شكَّ أن ارتباط هذه الدراسة بشخصية لها وزنها واعتبارها عند المتأخرين في هذا الفن، ومكانة عالية عند العلماء يجعل لها وزناً وقيمةً واعتباراً كبيراً. 

كلُّ ذلك جمعته هذه الدراسة التي تحدَّثت عن منهج الحافظ ابن حجر، والتي نعني به: "الطريق الذي سار عليه الحافظ في تقرير وتوضيح مسائل مصطلح الحديث، في كتابه نزهة النظر، والمتمثل في معرفة القواعد والأصول التي يتوصل من خلالها إلى معرفة حال الراوي والمروي".  

ويتكون هذا البحث من مقدمة، وتمهيد وأربعة مباحث مشتملة علي مطالب وخاتمة ثم الفهارس العلمية.

  أهمية هذا البحث:

1.التعرف على شخصية الحافظ ابن حجر الفذة رحمه الله تعالى رحمة واسعة، باعتباره أحد أساطين هذا الفن، وصاحب مدرسة حديثية فريدة.

2. التعرف على كتاب (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) من حيث: الترتيب وطريقة التصنيف، وميزاته، وما يحتاج دارسه، وما يتعلق به عموماً.

3. معرفة الأنواع الحديثية المذكورة في هذا الكتاب، مع بيان اختيارات الحافظ ابن حجر وما زاده في هذا الفن، وذكر من خالفه من علماء النقد، ثم الترجيح، والتمثيل لذلك.

4. بيان تكامل مصنفات الحافظ ابن حجر الحديثية وتآلفها، وإمكان فهم المنهج الكلي للحافظ من خلال استقراء كلامه في كتبه، وإتمام الناقص في موضع بموضع آخر، وشرح كلامه بكلامه، واستنباط طريقته وأسلوبه فيها.

  • بيان علوم الحديث الواردة في الكتاب؛ وفيه خمس مباحث:

المبحث الأول: المتواتر والآحاد؛ و فيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: علاقة الحديث المتواتر والآحاد بعلوم الحديث:

والظاهر أن المتواتر والآحاد هو مبحث أصولي، يذكره الفقهاء في باب "السُّنة"، ويضبطون ما يتفرع عن كل منهما، كما صَّرح بذلك الإمام ابن الصلاح وغيره.

المطلب الثاني: الحديث المتواتر: 

وهو في اللغة: التتابع. وأما اصطلاحاً؛ فقد عرفه ابن حجر، بأنه: كل حديث جمع شروطاً أربعة، وهي:

(1) عددٌ كثير تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب.

(2) أن يروي ذلك الجمع عن مثلهم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ.

(3) أن يكون منتهى خبرهم الحسُّ والمشاهدة.

(4) أن يصحب هذا الخبر إفادة العلم للسامع.

****

المطلب الثالث: حديث الآحاد: 

وهو ما لم يجمع شروط المتواتر، وهو غالب السُّنة المروية، وهي ثلاثة أقسام: المشهور، والعزيز، الغريب بنوعيه (المطلق والنسبي)، وذلك باعتبار أقل طبقة من طبقات الإسناد.

****

المبحث الثاني: الحديث الصحيح؛ ويشتمل علي ثلاثة مطالب .

المطلب الأول: تعريفه لغة واصطلاحاً:

الصحيح في اللغة ضدُّ السقيم.

وفي الاصطلاح هو: "خبر الآحاد: بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، عن مثله، من غير شذوذ ولا علة".

****

 المطلب الثاني: أقسام الحديث الصحيح:

1. الصحيح لذاته: هو من اجتمعت فيه الشروط الخمسة استقلالاً.

2. والصحيح لغيره: فهو الحسنُ لذاته، إذا تعددت طرقه.

****

المطلب الثالث: مسائل متفرقة في الحديث الصحيح:

أ. أصحُّ الأسانيد.

ب. مراتب الحديث الصحيح (سبعة).

ج. المفاضلة بين صحيحي البخاري ومسلم.

***

المبحث الثالث: الحديث الحسن؛ ويحتوي علي ثلاثة مطالب.

المطلب الأول: تعريفه لغة واصطلاحاً.

في اللغة: هو الجميل، ضد القبيح.

وفي الاصطلاح: هو ما قصر عن رتبه الصحيح.

****

المطلب الثاني: سبب الاختلاف في مفهومه والاحتجاج به.

هو حجَّةٌ كالصحيح عند جمهور المُحدثين.

المطلب الثالث: أقسامه وأمثلته:

وهو قسمين: أ- حسنٌ لذاته. ب- حسنٌ لغيره.

***

المبحث الرابع: الحديث الضعيف ؛ ويشتمل علي مطالب.

المطلب الأول: تعريفه وحدُّه:

وهو في اللغة: الضعف ضد القوة. 

وفي الاصطلاح: ما لم تجتمع فيه صفات القبول.

****

المطلب الثاني: أسبابه وأقسامه:

وأسباب الضعف تعود إلى أمرين أساسيين:

أ. ضعف في الراوي.

ب. ضعفٌ في المروي.

وأما أقسامه فكثيرةٌ جداً، ولا ينبغي الاشتغال بعدِّها؛ وقد قال الحافظ ابن حجر: "إن ذلك تعبٌ ليس وراءه أرب".

****

المطلب الثالث: الأنواع الحديثية بسبب سقط في الإسناد:

القسم الأول: ما كان السقط فيه ظاهراً، وهو أربعة أنواع:

(1) المعلق: هو ما سقط من مبدأ إسناده راوٍ فأكثر.

(2) المرسل: هو ما سقط من آخره من بعد التابعيِّ راوٍ فأكثر. 

(3) المعضل: هو ما حذف منه اثنان فأكثر على التوالي. 

(4) المنقطع: هو سقوط راوٍ من أي موضعٍ من مواضع الإسناد عدا الصحابي.

****

القسم الثاني: ما كان السقط فيه خفيَّاً، وهو نوعان:

(1) المدلس: وهو قسمان رئيسيان:

أ. تدليس التسوية:  هو أن يروي الراوي عن شيخه حديثاً سمعه منه، ثُمَّ يُسميه أو يكنيه أو يصفه بما لا يُعرف.

ب. تدليس الإسناد: هو إسقاط الشيخ والرواية عمن فوقه بلفظٍ يحتمل السماع وغيره، ولا يصرح بالسماع.

(2) المرسل الخفي: هو أن يروي عمَّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه بلفظٍ يحتمل السماع وغيره.

المطلب الرابع: الأنواع الحديثية بسبب طعن في الراوي.

وهي عشرة أمور، خمسسةٌ تتعلق بالعدالة، وخمسةٌ تتعلق بالضبط:

أولاً ما يتعلق بعدالة الراوي:

1. الكذب.

2. التهمة بالكذب 

3. جهالة العين. 

4. البدعة.

5. الفسق.

 ثانياً: ما يتعلق بضبط الراوي:

1. الوهم.

2. مخالفة الثقات.

3. الغفلة عن الإتقان.

4. سوء الحفظ.

5. فحش الغلط وكثرته.

الموضوع = ما كان راويه كاذاباً.

المتروك = ما كان راويه متهماً بالكذب.

المنكر = ما كان راويه فاحش الغلط أو سيئ الحفظ أو فاسقاً خالف أم لم يُخالف.

المعلل = ما كان وقع راويه في الوهم، وهو قسمان:

(الأول): في الإسناد فقط :وهو الأكثر؛ كالإعلال بالوقف، وإرسال الموصول. (الثاني): في المتن فقط: وهو الأقل؛ كحديث ترك البسملة في الفاتحة في الصلاة. (الثالث) فيهما معاً.

  الشاذ= هو مخالفة الثقة من هو أوثق منه.

  • من الأمور الملحقة بأوهام الرواة:

أ. الإدراج: في السند والمتن.

ب. المقلوب: في السند بعضه أو كله، والمتن.

ج. المزيد في متصل الأسانيد.

د. المضطرب: ويكن في السند أو في المتن

ه. المُصحَّف والمُحرَّف: ويكون في السند أو المتن.

***

المبحث الخامس: طرق التحمل والأداء  

وصيغ الأداء المشار إليه على ثمانية مراتِب:

الأولى: السماع من لفظ الشيخ: وهي أعلى طرق السماع عند المحدثين.

الثانية: العرض على الشيخ:

اختلف العلماء في هاتين المرتبتين على ثلاثة أقوال: فقيل إنها مساوية للسماع: روي ذلك عن مالك، والبخاري، ومعظم علماء الحجاز والكوفة. وقيل: إنها أدنى من السماع: عند جمهور أهل المشرق، "وهو الصحيح". وقيل: إنها أعلى من السماع: عند أبي حنيفة، وابن أبي ذئب، ورواية عن مالك.

الثالثة: الإجازة: وهي إذن المُحدِّثِ للطالب أن يروي عنه كتابًا من كتب الحديث أو غيرها، وتصحُّ الرواية بها.

الرابعة: المناولة: وهي أن يدفع الشيخ كتابه لتلميذه ويأذن إن كانت مقرونةً بالإجازة؛ فيجوز الرواية بها.

الخامسة: الكتابة: بأن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر، أو غائب، بخطه، فإن كانت مقرونةً بالإجازة فروايتها صحيحة، وكذلك لو لم تكن مقرونةً بالإجازة على الصحيح، خلافاً لابن الصلاح.

السادسة: الإعلام: وهو أن يخبر الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه؛ فلا تصح روايته عند المحدثين، وهو الصحيح.  

السابعة: الوصيَّة بالإجازة، وهو أن يوصي الشيخ عند موته، أو سفره لشخص بكتاب من كتبه التي يرويها، ولا تصحُّ الرواية بها.  

الثامنة: الوجادة، وهي أن يجد الطالب أحاديث بخط شيخ يرويها، يعرف الطالب خطه، وليس له سماع منه، وحكمها حكم المنقطع، ولكن فيها نوع اتصال.

***

  • منهج الحافظ ابن حجر في الجرح والتعديل؛ وفيه خمسة مباحث.

المبحث الأول: مفهوم الجرح والتعديل، لغة واصطلاحا.

الجرح في اللغة: الشقُّ، والتأثير. 

وفي الاصطلاح: : وصف الراوي بما يقتضي رد روايته.

التعديل في اللغة: التسوية والموازنة.

وفي الاصطلاح: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته.

والجرح والتعديل متعلقان بصفتي الضبط والعدالة:

والعدالة: ملَكةٌ تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة.

والعدل هو: المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة.

والملكة: هي السجية والطبع، والتقوى: هي فعل ما يحبه الله تعالى ، وترك ما يكرهه  

والضبط نوعان هما: ضبط الصدر: بحيث يكون الراوي متيقظاً غير مغفل، بل يحفظ ما يُسمعه، ويستحضره وقت الحاجة كما هو، مع علمه بما يحيل المعاني إن روى بالمعنى. وضبط الكتاب: صيانته لديه منذ سمع فيه وص ّححه إلى أن يؤدي منه.

علم الجرح والتعديل له شقان:

الأول: الشق النظري وهو: القواعد التي تنبني عليها معرفة الرواة الذين تقبل رواياتهم أو ترد، ومراتبهم في ذلك.

الثاني: الشق التطبيقي وهو: إنزال كل راوٍ منزلته التي يستحقها من القبول وعدمه  

المبحث الثاني: مشروعيته وأهميته.

المبحث الثالث: أسباب الجرح والتعديل.

المبحث الرابع: مراتب الجرح والتعديل.

المبحث الخامس: تعارض الجرح والتعديل  

  • أهم النتائج التي توصَّل إليها الباحث ما يلي: 

1. علو منزلة الحافظ ابن حجر بين العلماء والمصنفين في علوم الحديث عامة ومصطلح الحديث وعلم الرجال خاصة.

2. أن كتاب نزهة النظر هو عصارة علم الحافظ ابن حجر، وآخر ما وصلت إليه اجتهاداته.

3. أن نشأة علم الحديث رواية يختلف عن علم الحديث دراية، وكذلك أن الحافظ ابن حجر زاد في هذا الكتاب زيادات علمية لا توجد في غيره، وهي على نوعين: 

أ. زيادات في التعاريف والمفاهيم؛ مثل ضبط الحديث الحسن لذاته وهو من أصعب أنواع علوم الحديث، والحديث المتروك الذي لم يذكره أحد من قبل الحافظ، والمصحف والمحرف .

ب. وزيادات في الأنواع والتقاسيم، مثل: حصر أسباب ضعف الحديث في قسمين فقط: الضعف بسبب سقط في السند، والضعف بسبب طعن في الراوي.

4.كما توصلت الدراسة إلى أن الجرح والتعديل هو عمود علم المصطلح، وبأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من باب النصيحة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.

  • أهم التوصيات التي أرشد إليها الباحث:

 توصي الدراسة بمزيد من الاهتمام، ودراسة كتب الحديث المشهورة سواء كتب الرواية أو كتب علوم الحديث من جهة مناهج أصحابها واختياراتهم. 

وتقترح الدراسة جمع علوم الحديث عند الحافظ ابن حجر بين التنظير والتطبيق امتداداً لهذه الدراسة.