أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 7 أكتوبر 2020

إثبات صفة العلو -لابن قدامة /

إثبــــات صفـــة العــــلو

للإمام أبي محمد

عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي

(541 -620 هـ)

تحقيق الدكتور أحمد بن عطيَّة الغامدي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا جزءٌ شريف في بيان أعظم صفة من صفات الله عز وجل، والتي تضافرت الأدلة على إثباتها، وهي الحقيقة المغروزة في طباع الخلق أجمعين، والضرورة التي لا ينفك عنها عاقل، ولا ينكرها إلا مبتدعٌ غالٍ، أو جاهلٌ مفتونٌ بتقليده، وقد أصبحت من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ألا وهي (صفة العلو) لله تبارك وتعالى.

وقد عني ابن قدامة رحمه الله بذكر جملةٍ من الأخبار الصحيحة الصريحة التي جاءت عن الله تعالى في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنته؛ لإثبات صفة علو الله عز وجل على خلقه حسَّاً ومعنىً، على الحقيقة، وأردف ذلك بالأقوال المأثورة عن سلف الأمة، وكلها تنطق بأن الله تعالى في السماء، فوق عرشه، بائنٌ من خلقه.

وكان تأليف هذا الكتاب له دواعيه الزمانية والمكانية؛ وهي التي جعلت ابن قدامة يشرع في تصنيفه، ذلك أنه نبتت نابتة من فرق أهل الكلام؛ التي اختارت طريق الفلسفة، وسلكت مناهج عقلية سقيمة، بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الصحيح، وهي مناهج هزيلة تعجز عن إقناع أصحابها، فضلاً عن قدرتها على إقناع الآخرين؛ لأنها مجرد جدل عقيم في أقدس شيء وأعظمه، وهو ذات الرب تبارك وتعالى، ولم يُحصل المتكلمون من ذلك كبير فائدة، بل كلامهم مُفترق غاية الافتراق، ومتابينٌ غاية التباين والاختلاف، وهذا من أبرز سيئات المنهج العقلي المجرد، الذي لا يستند إلى الشرع، ولا يسنده الدليل.

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82).

واختلاف هذه المناهج وعدم قدرتها على تمثيل رأيٍ واحدٍ دليلٌ على خطئها، ولا شك أن نتيجة هذا المنهج الخاطئ ستكون من جنسه "خاطئة"، لأن الخطأ لا يمكن أن يولد صواباً، ومن ثمَّ يتوارث أصحابها الحيرة والشك والتردد.

ومن أمعن النظر في مناهج المتكلمين يجدها تُثير من الشُّبه، ما تعجز معه عن الإقناع؛ لأنها تُمثل منهاجاً شيطانياً رديئاً، يؤدي إلى الفُرقة والاختلاف، ورغم وضوح الأدلة وصراحتها بذلك فقد أنكر المبتدعة علو الله تعالى بذاته، وحكموا بعقولهم الضعيفة على نصوص الوحي، فقالوا: لو كان الله تعالى كذلك -أي في جهة العلو بذاته- لأشبه المخلوقات!!!، لأن ذلك يعني أن يكون الله في مكان، والمكان يقتضي التحيز والتجسيم، وهذه من خصائص المخلوقين، لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق مجسم. 

إلا أن هذا لا يلزم أهل الحق في شيء؛ لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء}، وهو سبحانه لا يقاس بشيء من خلقه، ولا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس كما يفعل المعطلة من أهل الكلام، فالله سبحانه في السماء على العرش كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، والعلو مما تقتضيه الضرورة والفطرة، وبدائه العقول، إلا أن ذلك لا يعني أنه سبحانه يحلُّ في مخلوقاته، لأن الجهة التي أثبتناها لله تعالى إنما هي جهة عدمية لا وجودية، بمعنى أنه سبحانه عالٍ فوق خلقه ولا يحلُّ في شيء من خلقه؛ فالجهة إنما هي ثابتة لله تعالى بهذا المعنى.

وإننا لنعجب من أولئك المبتدعة الذين يلغون عقولهم، ويروجون لمذهبهم، ويصرون على صحته، وأنه لا حق سواه، مع مخالفته للوحي المعصوم؛ فالله تعالى يقول عن نفسه إنه في السماء، وإنه فوق. ويخبر عنه رسوله بذلك فيما لا يحصى كثرة من الآيات والأحاديث، والفطرة والعقل شاهدان على ذلك. وهم يقولون موجود، ولكنه ليس في مكان. أو أنه في كل مكان، فهل هذا إلا تعطيل لنصوص الوحي، وإلغاء للعقل، ومكابرة الفطرة؟! ولذلك كانت فلسفتهم وبالاً عليهم، حتى وقعوا في الحيرة والشك، وكانت نهاية أمرهم الإفلاس، والاعتراف بالتخبط وعدم الاهتداء.

وصفة العلو من أهم وأخطر الصفات التي أخضعها المتكلمون لمنهجهم السقيم في التفكير والإثبات، وتكلموا فيها على طريقتهم المبتدعة في النفي والإثبات، ومن اطلع على تأويلاتهم وجدهم لم يستفيدوا منها إلا تعطيل حقائق النصوص والانحراف بها عن دلالتها، إذ وجهوها إلى معان أخرى لا تستقيم لهم، ولزمهم فيها نظير ما فروا من أجله، فوقعوا في حبائل شراكهم التي نصبوها، فأصابهم داء التناقض والاضطراب.

ومع أن أدلة إثبات هذه الصفة في غاية الصراحة والوضوح، وعلى كثرتها وتنوعها، وتواتر معناها، إلا أن المتكلمين وقفوا في وجه هذه الأدلة، وتناولوها بالتأويل والتحريف والتعطيل؛ ففضلوا منهج التعطيل على منهج الإثبات، ولم يكتفوا بذلك حتى اتهموا السلف بالتجسيم لإثباتهم لها، ولم تكن لقناة عقولهم اهتداءٌ ولا بصيرة.

ولأهمية هذه الصفة (أي علو الله تبارك وتعالى على خلقه)؛ فقد تناولها الكثير من العلماء بالتقرير والإثبات والشرح، وحتى المتكلمون يحومون حولها في كتبهم، وقد أفردها الكثير -من علماء السَّلف بالتأليف، كما فعل الإمام ابن قدامة، ومن أهم هذه المؤلفات:

1-العلو؛ للإمام الذهبي، واختصره الألباني.

2-اجتماع الجيوش الإسلامية؛ لابن قيم الجوزية.

3-العرش؛ لأبي بكر بن أبي شيبة.

4-الرسالة العرشية؛ لابن تيمية.

5-رسالة في أن الله على العرش؛ للذهبي.

وقد طُبع هذا الكتاب أيضاً بتحقيق دار الصحابة للتراث بطنطا في العام 1993م، وقد اعتمدت على نسخة الغامدي التي بين أيدينا، وهي طبعة مرقمة وجيدة، وأقل حجماً من طبعة الغامدي، وطريقته في تخريج الأحاديث والتعليقات أسهل؛ ولذا فإني أنصح به أكثر كتاب "الغامدي".

  • عقيدة الإيمان بعلو الله تعالى:

أجمع السلف على الإيمان والإقرار بأن الله تعالى عالٍ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، بائنٌ منهم بالكيفية التي يعلمها سبحانه، وعلى ما يليق بجلاله وعظمته، وأن له سبحانه العلو المطلق من كل وجه: حساً ومعنىً وقدراً وقهراً.

وقد رتب المؤلف رحمه الله هذا الكتاب على طريقة التدرج في عرض الأدلة، ولكنه لم يُضع لها عناوين مُعينة، وإنما هي من وضع المُحقق، وقد جاءت هذه العناوين مع ترتيب الكتاب اتفاقاً:

  • الأول: ذكر الأحاديث الصريحة في أن الله تعالى في السماء.

  • الثاني: ذكر الأخبار الواردة بأن الله تعالى فوق عرشه.

  • الثالث: ذكر أخبار دالة على ذلك في الجملة.

  • الرابع: ذكر أخبار واردة في هذا عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام.

  • الخامس: أقوال الصحابة رضي الله عنهم.

  • السادس: أقوال التابعين رحمهم الله.

  • السابع: أقوال الأئمة رضي الله عنهم.

  • الثمرة المترتبة على معرفة علو الله تعالى على خلقه:

وبذكر هذه الأخبار يزداد المؤمن إيماناً بربه سبحانه، ويوقن أن له رباً يرى مكانه، ويسمع كلامه، وأنه بعلوه الحسِّي قهر عباده، وأنه يأخذ للمظلوم حقه، ويتوجه إليه المسلم بالدعاء والرجاء والمسألة، ويتعلق بالقلب به محبةً وتعظيماً وتنزيهاً، وكذلك يستفيق كل من وقع أسيراً لأوهام العقل ونزغات الفلسفة إلى واحة الإيمان ورحاب الشرع، حيث المعرفة الحقيقية بالله عز وجل.

وابتدأ ابن قدامة كتابه بذكر الأحاديث المُصرحة بأن الله تعالى في السماء؛ وافتتح ذلك بذكر الحديث المسلسل بالأولية من طريق سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

وثنَّى بالحديث الذي تُنكره الجهمية، وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي رواه مسلمٌ وغيره، وفيه قصة الجارية التي سألها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) فقالت: في السماء.

ومنه حديث: أبي هريرة، وأبي الدرداء، وعمران بن حُصين، وحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً: (ارحم من في الارض يرحمك من في السماء).

 وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، وحديث أبي هريرة مرفوعاً في حكاية قبض الملائكة لروح العبد المؤمن، وفيه (فتعرج حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل)، وغيره من الأحاديث.

وشرع بعد ذلك بذكر الأخبار الواردة بأنه تعالى فوق عرشه، وافتتح ذلك بذكر الحديث المسلسل بوضع اليد على الكتف، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ثم حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب، وحديث جُبير بن مطعم: (إنه لا يستشفع بالله على أحد)، وحديث أبي هريرة: (إن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش)، وحديث ابن عباس في أن الله (يذكر عبده من فوق سبع سماوات)، وحديث معاذ لما حكم في بني قريظة (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة).

وذكر بعد ذلك أحاديث دالةٌ على علو الله في الجملة، وذكر منها حديث الإسراء الذي يرويه مالك بن صعصعة مرفوعاً وهو صحيح، وحديث جابر في رؤية الله في الجنة، وفيه حديث النعمان بن بشير، وحديث سجود الشمس تحت العرش عند ربها كما في حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً، وحديث أبي هريرة في عروج الملائكة إلى الله في صلاتي الفجر والعصر.

وذكر بعد ذلك الأحاديث الواردة عن الأنبياء المتقدمين والتي جملتها من الإسرائيليات؛ وفيها دعاء إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، وقصته مع الرجل الأهلب -كثير الشعر -الذي طوله ثمانية عشر ذراعاً وهو قصةٌ عجيبة حقاً، ودعوة داود عليه السلام: يا ساكن السماء،  ودعاء يونس، وقول زُليخة ليوسف عليه السلام، وغيرها من القصص العجيبة والمؤثرة.

ثم ذكر أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم: ابن مسعود، وعلي، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأنس بن مالك، وعدي بن عميرة العبدي وقصته مع اليهودي ابن شهلا الذي قرأ في التوراة هذه صفة النبي وأصحابه (ويزعمون أن إلههم في السماء)، والعبد الأسود (أسلم الراعي) الذي سأل أصحابه (من هذا؟ فقالوا له: رسول الله؛ فقال: الذي في السماء؟ فقالوا: نعم)، وجواب من سئل منهم عن الله؛ فقال: (في السماء).

وذكر شعر حسان، والعباس بن مرداس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعر عبد الله بن رواحة لامرأته، وشعر أمية بن الصلت، وقصة عمر بن الخطاب مع خولة بنت ثعلبة.

وأردف ذلك بذكر أقوال التابعين والأئمة التي أثبتوا فيها صفة العلو لله تعالى، مثل مسروق، وعكرمة، والحسن، ومالك بن دينار، والضحاك بن مزاحم، وسفيان الثوري، وربيعة الرأي، وسليمان التيمي، والإمام مالك، وأحمد، وبشر بن الحارث، وغيرهم..

ولا يخلو الكتاب من الأحاديث المناكير والموضوعات، ولكن فيه الصحيح والحسن، والضعيف الذي يتقوَّى.

وختم ابن قدامة كتابه بقوله: "فقد وضح الحق في هذه المسألة بحمد الله، من الحجج القاطعة، من الآيات الباهرة، والأخبار المتواترة، وإجماع الصحابة حتى قال الإمامان أبو زرعة، وأبو حاتم: هذا ما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار، حجازاً، وعراقاً، وشاماً، ويمنا، ولم يخالف في ذلك غير مبتدع غال، أو مفتون ضال". 

قال: "وأول من خالف في ذلك فيما علمنا الجهم بن صفوان، ثم إن الجهمية مضطرون إلى موافقة أهل الإسلام على رفع أيديهم في الدعاء، وانتظار الفرج من السماء (فهم وإن تمردوا على الفطرة، إلا أنهم يعودون إليها رغم أنوفهم، ومثلهم في ذلك مثل المشركين الذين لا يذكرون الله إلا في حال الكرب)، وليس لهم في بدعتهم هذه حجة من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا إمام مرضي، إلا اتباع الهوى، ومخالفة سنة المصطفى وأئمة الهدى".



الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

تحريم النظر في كتب الكلام -(كتابٌ فيه الردُّ على ابن عقيل الحنبلي) للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي بقلم:أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تحريم النظر في كتب الكلام

(كتابٌ فيه الردُّ على ابن عقيل الحنبلي)

للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شكَّ أن علم الكلام من العلوم الحادثة في الملة، ومادته غريبةٌ عن ثقافتنا العربية وديننا الحنيف؛ حيث أدخله إلينا طوائف من اليهود والنصارى والفرس الذين دخلوا في الإسلام لا عن قناعةٍ وإيمان، وإنما تستراً به وخوفاً على أموالهم وأنفسهم، وقد كان لهذا العلم دوره السلبي في تفتيت كلمة المسلمين، وتنازعهم، وقد أدَّى بالفعل إلى انقسام المسلمين إلى فرق وطوائف كل منهم يُضلل الآخر ويُفسقه، ويحكم عليه بالكفر أحياناً -عياذاً بالله تعالى !.

وفي هذه الرسالة دعا المُصنف إلى ترك النظر في كتب أهل الكلام، والعودة إلى منابع الدين الصافية التي تتفق مع العقل والفطرة واللغة، وانتهاج منهج السلف الصالح في تلقي العقيدة الصافية، بصورتها النقية من غبش البدع، وكذلك هو دعوةٌ إلى نبذ المناهج الدخيلة التي أفسدت على المسلمين دينهم.

وقد تحدث رحمه الله على أثر علم الكلام على بعض العلماء وبعض العوام المقتدين بهم، فقد أدى علم الكلام بأبي الوفاء بن عقيل، وهو أحد رموز الحنابلة الكبار إلى الانحراف في العديد في مسائل الاعتقاد، وكلك الأمر بالنسبة للفخر الرازي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي رحمة الله على الجميع، والذي ظهر لهم في نهاية المطاف فساد علم الكلام، وعيِّه وقصوره؛ فصرحوا بحقيقة ذلك وأبدوا ندمهم الشديد على إفناء العمر في تعلمه وتعلميه.

وما ذلك إلا لقلة حظهم من العلم بالسُّنن والآثار، وحالهم يشهد بذلك؛ فالغزالي اعترف بأنه مزجي البضاعة في الحديث، وكذا الجويني، وابن فورك، وغيرهم من المشتغلين بعلم الكلام المبتدع.

وقد تضمَّنت هذه الرسالة تعنيفاً شديداً، وتقريعاً لاذعاً، وتنكيلاً كبيراً لأهل الكلام عموماً من الأشاعرة والماتريدية، وزاد في التشديد على ابن عقيل خصوصاً، باعتباره أحد الأئمة المُقتدى بهم في المذهب الحنبلي لأجل أنه زاغ عن الجادة، وسلك طريق المعتزلة مدةً من الزمان. 

وقد ذكر ابن قدامة ذمُّ الحنابلة لابن عقيل في تلك المدة وشدتهم عليه وتبديعهم له؛ بعد إظهاره مقالاته الشنيعة، واشتغاله بعلم الكلام، ودخوله في سلك الاعتزال، ودفاعه عن الحلاج المقتول بالزندقة، بل وتأليفه لرسالة سماها "النصيحة" يذم فيها المتبعين للسلف، ويرميهم بالتقليد الأعمى، وكانت له فيها زلات قبيحة، وقد كشف الإمام ابن قدامة عن ذلك في أول كتابه هذا، ثم ذكر توبة ابن عقيل من ذلك، ورجوعه إلى حياض السُّنة، وهجره لأهل الاعتزال والإلحاد من المتصوفة.

وأما عن سبب توبة ابن عقيل المباشرة؛ فيقول ابن قدامة: "وبلغني أن سبب توبته أنه لما ظهرت منه هذه الفضيحة، أهدر الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي دمه، وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله، وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل؛ فبينما هو يوما راكب في سفينة؛ فإذا في السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله وإراقة دمه، ففزع وخرج من السفينة وجاء إلى الشريف أبي جعفر فتاب واستغفر".

ويذكر ابن قدامة أنه يروي نص توبة ابن عقيل بالإسناد الصحيح إليه، والتي كتبها بخطِّ يده، وأشهد عليها جمعاً من فقهاء الحنابلة، قال ابن قدامة: وأنا أذكرها لئلا يغترَّ بعد ذلك بتصانيفه المخالفة للسُّنة.

وكانت توبة ابن عقيل في يوم الاثنين، الثامن من شهر الله المحرم، سنة خمسٍ وستين وأربعمائة، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، في مسجد الشريف أبي جعفر رحمه الله في نهر مُعلَّى، وحضر في ذلك اليوم خلقٌ كثير.

ومن تمام توبته أنه رحمه الله: "قام بالرد على المبتدعة وأهل التأويل بأحسن كلام وأبلغ نظام، وأجاب على الشبه التي ذكرت بأحسن جواب وكلامه في ذلك كثير في كتب كبار وصغار وأجزاء مفردة وعندنا من ذلك كثير".

وقد أجاب ابن قدامة على مقالات ابن عقيل في كتابه هذا، وهي الأمور التي يُعيد المبتدعة تكرارها في كل عصر، ونحن نُجملها فيما يلي:

١-إظهاره أن الحنابلة في عصره مُخالفون لأئمتهم السابقين، وهذا تشنيعٌ عليهم، واتهامٌ لهم بمخالفتهم اعتقاد الإمام أحمد؛ حيث زعم أن الإمام أحمد كان من المؤولة!!.

٢-تطاوله على أهل السُّنة، ووصفهم بالمغترين، والحُمق، والتقليد المذموم، وغيرها من الأوصاف النابية التي يُنزَّه عنها القلم واللسان، وبذلك نفهم تغليظ ابن قدامة عليه وقسوة عباراته تجاه ابن عقيل.

٣-زعمه أن أخبار الصفات هي أخبار آحاد، ولذا يجب اطراحها، وقد ردَّ عليه ابن قدامة قوله من وجوه، وبين بطلان قوله ذلك.

ولكن هل تاب ابن عقيل فعلياً أم بقي على بدعته ؟

يقول ابن رجب رحمه الله -في "ذيل طبقاته" في بيان ما لقيه أبو الوفاء ابن عقيل من أصحابه الحنابلة، فقال: "وكان أصحابنا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنَّة، وتأولٍ لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله".

ويُبين لنا الإمام ابن قدامة سبب توبة ابن عقيل؛ فيقول:

"وتعتبر هذه الرسالة واحدة من الصيحات الكثيرة التي توجَّه بها أصحاب العقيدة السلفية المعاصرين لابن عقيل، الذين لم يحل لهم هذا الموقف من أحد كبار الحنابلة، الذي لا يزال أبناؤه يُكبرون إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، ويُجلونه، ويعتبرونه بموقفه الثابت من المريسي، وابن أبي دؤاد، والجهم بن صفوان، رمزاً عظيماً في التمسُّك والاتباع، وتأثَّروا به تأثراً عظيماً.

وكان لموقف الإمام أحمد الراسخ في العقيدة طابعاً تقليدياً وموقفاً متشدداً من البدعة، بحيث صار لزاماً على كل من اختار مذهبه أن يقف من البدعة موقفاً مماثلاً له.

ومن هنا نقم الكثيرون من الحنابلة على أبي الوفاء بن عقيل، وتلمذيه أبي الفرج بن الجوزي، اللذين أبديا خروجاً عن المنهج الحنبلي في العقيدة، وميلهما إلى التأويل في الصفات، وغير ذلك مما اعتبر مخالفةً عظيمةً للإمام الذي كان ينهى عن مثل ذلك، والذي ردَّ على الجمهيَّة والزنادقة لوقوعهم في مثل هذا التأويل.

* تحذير الأئمة من علم الكلام:

وقد شدَّد الأئمة من سائر المذاهب في التحذير من علم الكلام؛ ولئن رمنا استعراض موقف أئمة المسلمين من هذا العلم ابتداءً بالأئمة الفضلاء الأربعة؛ لوجدناهم جميعهم يُبدعون ويُطالبون بعقوبة من يشتغل به؛ حتى أن الإمام الشافعي حكم في أهله، بقوله: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام". 

وقال الشَّافعيُّ: "ما جهل الناس ولا اختلفوا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، وقال أيضاً: "لقد اطلعتُ من أهل الكلام على شيءٍ ما ظننتُ مسلماً يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك -خيرٌ له من أن يُبتلى في الكلام". وقال أيضاً: "لو علم الناس ما في الكلام والأهواء لفرُّوا منه كما يفرون من الأسد"، وقال: "ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح".

وسئل الإمام أبو حنيفة: "ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر طريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"، وقد وصف أهل الكلام والمنطق بأنهم: "قاسيةٌ قلوبهم، غليظةٌ أفئدتهم، لا يُبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورعٌ ولا تقوى".

وقد كان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي يُفتي بزندقة طالب الدين بعلم المنطق، فيقول: "من طلب الدين بالكلام تزندق"، وكان لا يرضى تسميته بالعلم، حتى حكم بجهل من علم به، وبعلم من جهل به. 

ولما سئل الإمام مالك عن الكلام والتوحيد؛ قال: "محالٌ أن نظنَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم علم أمته الاستنجاء، ولم يُعلمهم التوحيد".

وقال الإمام أحمد: "لا يُفلح صاحب كلامٍ أبداً، ولا يُرى أحدٌ نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل".

وهذه النقولات عن الأئمة كلها مثبتة في كتب علماء الإسلام، مثل "صون المنطق" للسيوطي، و"فضل علم السلف" لابن رجب، وسير أعلام النبلاء" للذهبي، و"مناقب الشافعي" للبيهقي، و"التمهيد" لابن عبد البر، و"فتح الباري" للإمام الحافظ ابن حجر، وحتى كتاب "الإحياء" للغزالي.

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه".

وقال أحمد بن إسحاق المالكي: "أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، لا تقبل له شهادة، ويهجر ويؤدب على بدعته؛ فإن تمادى عليها استتيب منها".

فعلم التوحيد لا يؤخذ من عقول الرجال، ولا من فلسفة المتفلسفين أو كلام المتكلمين؛ لأنه أساس الدين الذي عليه تُبنى فروعه، فالمصدر الأوحد لعقيدة الأمة التي جاء بها الأنبياء جميعاً، وعلى رأسهم خاتمهم، وسيد ولد آدم جميعاً، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الوحي الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة.

الشافعي وعلم الكلام

من كتاب (المذهب الشافعي وأهم مصطلحاته)

محمد طارق هشام مغربية

قال الربيع رحمه الله: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون في شيء من الكلام؛ فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن ترحلوا عنا.

قال أبو إبراهيم المزني رحمه الله تعالى: كنت يوماً عند الشافعي، أسائله عن مسائل بلسان أهل الكلام قال: فجعل يسمع مني، وينظر إلي ثم يجيبني عنها بأحضر جواب، فلما اكتفيت قال لي: يا بني أدلك على ما هو خير لك من هذا ؟ قال: قلت: نعم. 

يا بني هذا علم إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه كفرت، فهل لك في علم إن أصبت فيه أجرت، وإن أخطأت لم تأثم، قلت: وما هو ؟ قال: الفقه فلزمته، فتعلمت منه الفقه، ودرست عليه.

وقد ذكر العلماء أن الشافعي كان إذا خيض في مجلسه في الكلام نهى عنه. 

لكن هذا لا يعني جهل الشافعي بهذا العلم، فقد أورد الإمام البيهقي نقولاً كثيرة تبين معرفة الشافعي التامة بهذا العلم ورده على مبتدعة عصره. فمن ذلك مناظرته لحفص الفرد، فقد روى الإمام البيهقي بسنده أن حفصاً الفرد دخل على الشافعي فكلمه، ثم خرج الشافعي؛ فقال لمن حضر: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن.

ويبدو أن مناظرة الشافعي لحفص قد تركت في نفسه أثراً عميقاً، وهذا ما حدا به إلى التغليظ على من يطلب الكلام أو ينسج بمنوال أهله. 

قال البيهقي: وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه، وناظر من ناظره فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل شيئاً مما هم فيه؟ لكنه كان يرى الاشتغال بالكلام للفقيه مشغلة عن قصده، فلما أتاه المزني وتوسم فيه الخير والنجابة وجهه إلى الفقه والحديث كما كان لا يرى الخوض فيه أمام العوام لئلا يفتنوا عن الحق الذي لقنوه من كتاب الله تعالى وسنة المصطفى . يدل على ذلك نهيه من تكلم فيه في المسجد. 

وقال رحمه الله تعالى فيما نقل عنه: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء، لفروا منه كما يفرون من الأسد.

وبقيت هذه نظرة الشافعي للكلام حتى روى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت محمد بن داود، يقول: لم يُحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه، ولا عرف به، مع بغضه لأهل الكلام والبدع.

وانعكست هذه النظرة إلى علم الكلام على فقهاء المذهب الكبار؛ فكانوا لا يرون الخوض في مسائل الكلام، وربما كان هذا انعكاساً للرد على المعتزلة وفتنة خلق القرآن مما ولد جواً معادياً لأهل الكلام وإن كانوا على الحق.

روى اللالكائي بسنده إلى أبي الحسن علان المصري قال: قصدنا المزني في جماعة من أصحابنا فقلنا : يا أبا إبراهيم، إن الناس يتكلمون ويقولون: إنهم إذا قصدوك وسألوك في باب القرآن لا تجيبهم بشيء، ما هذا ؟!

فقال لنا: يا هؤلاء، أنا إذا جاءني من هؤلاء الأحداث وسألني امتحنني، لا أجيبهم، ومذهبي مذهب الشافعي. قال: فقلنا : فأي شيء مذهب الشافعي؟ قال: كان مذهب الشافعي أن كلام الله غير مخلوق. 

ونقل السبكي في «طبقاته»: قال أبو الوليد النيسابوري الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام وكان الإمام أبو حامد الإسفراييني يبالغ في النكير على الإمام أبي بكر الباقلاني لتعرضه لمسائل الكلام، ويقول: أشهد أن كلام الله تعالى قديم غير مخلوق، كما يقول أحمد بن حنبل، لا كما يقول الباقلاني وقد بلغ من شدة إنكاره عليه أن الإمام الباقلاني كان يمشي في أسواق بغداد مقنعاً لكيلا يراه الإمام أبو حامد.

مع أن الإمام الباقلاني من كبار علماء أهل السنة الذين ردوا على أهل الأهواء والبدع لكن جمهور الفقهاء والمحدثين متأثرين بالشافعي والإمام أحمد من بعده كانوا لا يرون الخوض في هذه المسائل.

ونجد للإمام العز بن عبد السلام كلاماً رائقاً في. هذا الموضوع؛ يبين كيف كان جماهير الفقهاء ينظرون للكلام وما أتعب فيه المتكلمون أنفسهم فيه. قال رحمه الله تعالى: وما أشد طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سبيلاً، كلما نظروا فيه وحرصوا عليه، ازدادوا حيرة وغفلة، فالحزم الإضراب عنه كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار، فمن حرص أن يرى ببصره ما وارته الجبال، لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر، وكذلك تـحـديـق البصائر إلى ما غيبه الله عنها وستره بالأوهام والظنون والاعتقادات الفاسدة. كم من اعتقاد جزم المرء به، وبالغ في الإنكار على مخالفته، ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه.

فائدة في حكم من استفتي في الكلام وحكمه عند الشافعية:

قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى في «أدب الفتوى»: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلاً، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو اللائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه ، وليس البحث فيه من شأننا ، بل نكل علم تفصيله إلى الله تعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا. 

فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك .

والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له. وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها، والبرهنة عليها.

وقال العلامة سراج الدين ابن الملقن رحمه الله تعالى: وعلم الكلام بقواعده ليس فرض عين ولم يشتغل به الصحابة قال الإمام: ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفو الإسلام لما أوجبنا التشاغل به وربما نهينا عنه، فأما اليوم وقد ثارت البدع فلا سبيل إلى تركها تلتطم ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى الملك الحق ويزال ما يشتبه فصار الاشتغال بأدلة المعقول فرض كفاية، فأما من استراب في أصل من أصول الاعتقاد فيلزمه السعي في إزاحته حتى يستقيم عنده.

وما أجمل ما نبه إليه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى من عدم تشويش العامة بأقوال لم يألفوها وأسماء ربما استهجنوها، فربما رفضوا الحق إذا نسبته إليهم؛ فقال رحمه الله:

ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية فيقبلها ، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه.

وليس هذا طبع العامي خاصة، بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقاً، وقواهم على اتباعه. وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس. انتهى.

* تحذير المتكلمين من علم الكلام (ذكرى وعبرة):

ومن العجيب حقاً أن ترى المتكلمين يُحذرون غيرهم من الخوض في هذا العلم؛ ولعل أخذ العبرة من المجرب أدعى إلى زيادة التصديق، ومن بين أهل الخبرة بالمنطق وعلم الكلام جاءت عبارة التحذير من فحوله الأذكياء، الذين اغتروا به، واشتغلوا فيه مدة حياتهم؛ كالإمام الغزالي، وإمام الحرمين الجويني، والرازي، وغيرهم رحمهم الله تعالى.

١- فهذا الإمام الجويني (ت ٤٧٨ هـ)، أحد أبرز علماء الكلام، والذي خاض فيه كثيراً، وتعمق إلى الدرجة القصوى حيث أحجم الآخرون، وصنف فيه الكتب الكثيرة على طريقة أهل الكلام، يُعلن رجوعه عما كان عليه، وأوصى عند موته باجتناب علم الكلام، ناصحاً ومُحذراً، قائلاً: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بعلم الكلام؛ فلو عرفتُ أنه يبلغ بي ما بلغ، ما تشاغلتُ به". ذكر ذلك عنه: الحافظ ابن حجر في "الفتح"، والذهبيُّ في "السير"، والسُّبكي في "طبقات الشافعية".

وقال الجويني كما في "سير الذهبي": "لقد خضت البحر الخضم، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوا عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لي، وها أنا ذا أموتُ على عقيدة أمي".

وقال الجوينيُّ أيضاً في مرض موته: "اشهدوا أني قد رجعتُ عن كل مقالةٍ تُخالف السُّنة، وإني أموتُ على ما يموتُ عليه عجائز نيسابور".

وقد انتهى أمر الجويني إلى الرجوع للقول بمذهب السلف، وهو الإثبات كما ذكر ابن القيم في "المدارج" وابن تيمية في "الحموية" عنه رحمه الله.

٢- وهذا أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ): كانت له تجربته المريرة في علم الكلام؛ حتى قال عنه في كتابه "المنقذ من الضلال": "فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً. نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها. ولكن لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق".

ويحكي الإمام الغزالي قصته مع طلب علوم الفلسفة عندما وجد الناقض في علم الكلام؛ فيقول: "ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم - حيث اشتغلوا بالرد عليهم - إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد".

وأبدى الغالي سخطه وانزعاجه من أهل الكلام الذين سموا أنفسهم "علماء التوحيد" معترفاً بما رأى منهم من الخصومات والمنازعات، وأن طريقتهم مبتدعة، وأن توحيدهم مُخالفٌ لتوحيد السلف، فيقول في كتابه "الإحياء": "ومن أسمائه علم التوحيد، وقد جُعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد، مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة…  وكان العلم بالقرآن (يعني عند السَّلف) هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله".

ويذكر رحمه الله في موضعٍ آخر من كتابه "الإحياء" أخلاق المتكلمين التي لم تُهذبها الآثار، ولم تُحكم صياغتها الأحاديث والآيت: معترفاً بما رأى منهم من شظف الطبع، وقساوة القلب، والجدل المُتعسِّف، وربما التكفير لمخالفيهم ولو من العامة-عياذاً بالله تعالى؛ فيقول: "وأما العامي فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث الممزوج بفن من الوعظ والتحذير فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين؛ إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده فإن عجز عن الجواب قدر أن المجادلين من أهل مذهبه أيضاً يقدرون على دفعه… وعند رؤيته الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق".

ثم نراه يُصنف كتباً في "التحذير من علم الكلام"، وكان ذلك قبل موته بخمسة عشر يوماً، وسمّاه "إلجام العوام عن علم الكلام"، وقد أفتى فيه بحرمة تعلُّم هذا العلم أو تعلميه، مؤكداً أنه ما أثار الشر في الأمة الإسلامية إلا منذ أن ظهر أهل الكلام والجدل، وأن الناس على معرفةٍ من ربهم بطريقة القرآن، ولا بطرق المتكلمين مثل الأعراض والحوادث.

ونجد ذلك في أربعة مواضع من كتابه "إلجام العوام" (ص ٦١)؛ فيقول في معرض الجواب عن الصبيان والعوام الذين يسألون عن آيات الصفات: "فيُقال لهم مالكم ولهذا السؤال، هذه معانٍ الإيمانُ بها واجب، والكيفية مجهولة، أي: مجهولةٌ لكم، والسؤال عنها بدعة، كما قال مالكٌ رضي الله عنه: (الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)"، وبغضِّ النظر عما يقصده بالمعاني التي يجب الإيمان بها، هل هي: الصفات كما هو ظاهر كلامه، أو ما تدلُّ عليه ظواهر تلك الألفاظ؛ فإن هذه الأخيرة هي طريقة السلف، وإن كان أبو حامد لا يُقررها.

٣- وهذا الإمام أبو الفتح الشهرستاني (ت ٥٤٨ هـ) صاحب كتاب "الملل والنحل"، يقول في كتابه "نهاية الإقدام": 

لعمري لقد طفتُ المعاهد كلها … وسيَّرتُ طرفي بين المعالمِ

فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ …. على ذقنٍ أو قارعاً سنَّ نادمِ

٤-وقال الخونجي الحسن بن سعد بن الحسن (ت ٥٧٥ هـ)، وكان قد أفنى عمره في هذا الميدان البغيض؛ يقول في عبارةٍ أثرت عنه: "اشهدوا عليَّ أني أموتُ ما عرفتُ شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي؛ فما عرفتُ شيئاً" ذكر ذلك ابن القيم في "الصواعق المرسلة".

٥-وهذا الفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ) لم يسلك طريقاً ولا فناً من علم الكلام، إلا وطرقه، فإذا به يرجع عن ذلك، ويُبين حقيقته للناس؛ فيقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى}، و{إليه يصعد الكلم الطيب}، واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء}، و{لا يحيطون به علماً}، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

ذكر ذلك الذهبيُّ في "السير"، والسبكيُّ في "طبقاته"، وذكر الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" أن الرازي أوصى وصيةً عند موته تدلُّ على أنَّه حسَّن اعتقاده.

وقال الرازي في أبياته الشهيرة:

نهــــــــــــاية إقــــــــــدام العقول عقال … وغاية سعي العالمين ضـــــــــــــلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جســــــــــومنا … وغاية دنيانا أذىً ووبــــــــــــــــــــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا … سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

٦- وقال شمس الدين  عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي (ت ٦٥٢ هـ): وهو من أجل تلامذة الفخر الرازي -لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً؛ فقال له: "ما تعتقده؟ قال: ما يعتقده المسلمون؛ فقال: وأنت مُنشرح الصدر لذلك مُستيقن به؟ فقال: نعم؛ فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما اعتقد، والله ما أدري ما اعتقد، والله ما أدري ما اعتقد"، ذكر ذلك ابن أبي العز في كتابه "شرح الطحاوية"

وأخيراً؛ فإن اعتراف هؤلاء الأذكياء والجهابذة ببطلان علم الكلام يُثبت مصداقية وبُعد نظر أئمة أهل السنة، الذين نهوا عن الاشتغال به، ورموا أربابه بالبدعة؛ فهذه حال من سلك تلك الطريق، وهذه نهايته، فاعتبروا يا أولى الحجى، وليتأمل كل واحدٍ في مصيره، لا سيما من لا يزال تلعب بعقله هذه الترهات، وتلك الأباطيل، التي تُسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في هدم عقيدة الإسلام النقية الصافية، من حيث ظنَّ أصحابها أنهم يبنون.

ولنا أن نختم بذكر كلام شارح الطحاوية "ابن أبي العز" مُعلقاً على حال بعض من ذكرنا: "ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة -من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء (السحر) أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".