أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

تحريم النظر في كتب الكلام -(كتابٌ فيه الردُّ على ابن عقيل الحنبلي) للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي بقلم:أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تحريم النظر في كتب الكلام

(كتابٌ فيه الردُّ على ابن عقيل الحنبلي)

للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شكَّ أن علم الكلام من العلوم الحادثة في الملة، ومادته غريبةٌ عن ثقافتنا العربية وديننا الحنيف؛ حيث أدخله إلينا طوائف من اليهود والنصارى والفرس الذين دخلوا في الإسلام لا عن قناعةٍ وإيمان، وإنما تستراً به وخوفاً على أموالهم وأنفسهم، وقد كان لهذا العلم دوره السلبي في تفتيت كلمة المسلمين، وتنازعهم، وقد أدَّى بالفعل إلى انقسام المسلمين إلى فرق وطوائف كل منهم يُضلل الآخر ويُفسقه، ويحكم عليه بالكفر أحياناً -عياذاً بالله تعالى !.

وفي هذه الرسالة دعا المُصنف إلى ترك النظر في كتب أهل الكلام، والعودة إلى منابع الدين الصافية التي تتفق مع العقل والفطرة واللغة، وانتهاج منهج السلف الصالح في تلقي العقيدة الصافية، بصورتها النقية من غبش البدع، وكذلك هو دعوةٌ إلى نبذ المناهج الدخيلة التي أفسدت على المسلمين دينهم.

وقد تحدث رحمه الله على أثر علم الكلام على بعض العلماء وبعض العوام المقتدين بهم، فقد أدى علم الكلام بأبي الوفاء بن عقيل، وهو أحد رموز الحنابلة الكبار إلى الانحراف في العديد في مسائل الاعتقاد، وكلك الأمر بالنسبة للفخر الرازي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي رحمة الله على الجميع، والذي ظهر لهم في نهاية المطاف فساد علم الكلام، وعيِّه وقصوره؛ فصرحوا بحقيقة ذلك وأبدوا ندمهم الشديد على إفناء العمر في تعلمه وتعلميه.

وما ذلك إلا لقلة حظهم من العلم بالسُّنن والآثار، وحالهم يشهد بذلك؛ فالغزالي اعترف بأنه مزجي البضاعة في الحديث، وكذا الجويني، وابن فورك، وغيرهم من المشتغلين بعلم الكلام المبتدع.

وقد تضمَّنت هذه الرسالة تعنيفاً شديداً، وتقريعاً لاذعاً، وتنكيلاً كبيراً لأهل الكلام عموماً من الأشاعرة والماتريدية، وزاد في التشديد على ابن عقيل خصوصاً، باعتباره أحد الأئمة المُقتدى بهم في المذهب الحنبلي لأجل أنه زاغ عن الجادة، وسلك طريق المعتزلة مدةً من الزمان. 

وقد ذكر ابن قدامة ذمُّ الحنابلة لابن عقيل في تلك المدة وشدتهم عليه وتبديعهم له؛ بعد إظهاره مقالاته الشنيعة، واشتغاله بعلم الكلام، ودخوله في سلك الاعتزال، ودفاعه عن الحلاج المقتول بالزندقة، بل وتأليفه لرسالة سماها "النصيحة" يذم فيها المتبعين للسلف، ويرميهم بالتقليد الأعمى، وكانت له فيها زلات قبيحة، وقد كشف الإمام ابن قدامة عن ذلك في أول كتابه هذا، ثم ذكر توبة ابن عقيل من ذلك، ورجوعه إلى حياض السُّنة، وهجره لأهل الاعتزال والإلحاد من المتصوفة.

وأما عن سبب توبة ابن عقيل المباشرة؛ فيقول ابن قدامة: "وبلغني أن سبب توبته أنه لما ظهرت منه هذه الفضيحة، أهدر الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي دمه، وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله، وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل؛ فبينما هو يوما راكب في سفينة؛ فإذا في السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله وإراقة دمه، ففزع وخرج من السفينة وجاء إلى الشريف أبي جعفر فتاب واستغفر".

ويذكر ابن قدامة أنه يروي نص توبة ابن عقيل بالإسناد الصحيح إليه، والتي كتبها بخطِّ يده، وأشهد عليها جمعاً من فقهاء الحنابلة، قال ابن قدامة: وأنا أذكرها لئلا يغترَّ بعد ذلك بتصانيفه المخالفة للسُّنة.

وكانت توبة ابن عقيل في يوم الاثنين، الثامن من شهر الله المحرم، سنة خمسٍ وستين وأربعمائة، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، في مسجد الشريف أبي جعفر رحمه الله في نهر مُعلَّى، وحضر في ذلك اليوم خلقٌ كثير.

ومن تمام توبته أنه رحمه الله: "قام بالرد على المبتدعة وأهل التأويل بأحسن كلام وأبلغ نظام، وأجاب على الشبه التي ذكرت بأحسن جواب وكلامه في ذلك كثير في كتب كبار وصغار وأجزاء مفردة وعندنا من ذلك كثير".

وقد أجاب ابن قدامة على مقالات ابن عقيل في كتابه هذا، وهي الأمور التي يُعيد المبتدعة تكرارها في كل عصر، ونحن نُجملها فيما يلي:

١-إظهاره أن الحنابلة في عصره مُخالفون لأئمتهم السابقين، وهذا تشنيعٌ عليهم، واتهامٌ لهم بمخالفتهم اعتقاد الإمام أحمد؛ حيث زعم أن الإمام أحمد كان من المؤولة!!.

٢-تطاوله على أهل السُّنة، ووصفهم بالمغترين، والحُمق، والتقليد المذموم، وغيرها من الأوصاف النابية التي يُنزَّه عنها القلم واللسان، وبذلك نفهم تغليظ ابن قدامة عليه وقسوة عباراته تجاه ابن عقيل.

٣-زعمه أن أخبار الصفات هي أخبار آحاد، ولذا يجب اطراحها، وقد ردَّ عليه ابن قدامة قوله من وجوه، وبين بطلان قوله ذلك.

ولكن هل تاب ابن عقيل فعلياً أم بقي على بدعته ؟

يقول ابن رجب رحمه الله -في "ذيل طبقاته" في بيان ما لقيه أبو الوفاء ابن عقيل من أصحابه الحنابلة، فقال: "وكان أصحابنا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنَّة، وتأولٍ لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله".

ويُبين لنا الإمام ابن قدامة سبب توبة ابن عقيل؛ فيقول:

"وتعتبر هذه الرسالة واحدة من الصيحات الكثيرة التي توجَّه بها أصحاب العقيدة السلفية المعاصرين لابن عقيل، الذين لم يحل لهم هذا الموقف من أحد كبار الحنابلة، الذي لا يزال أبناؤه يُكبرون إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، ويُجلونه، ويعتبرونه بموقفه الثابت من المريسي، وابن أبي دؤاد، والجهم بن صفوان، رمزاً عظيماً في التمسُّك والاتباع، وتأثَّروا به تأثراً عظيماً.

وكان لموقف الإمام أحمد الراسخ في العقيدة طابعاً تقليدياً وموقفاً متشدداً من البدعة، بحيث صار لزاماً على كل من اختار مذهبه أن يقف من البدعة موقفاً مماثلاً له.

ومن هنا نقم الكثيرون من الحنابلة على أبي الوفاء بن عقيل، وتلمذيه أبي الفرج بن الجوزي، اللذين أبديا خروجاً عن المنهج الحنبلي في العقيدة، وميلهما إلى التأويل في الصفات، وغير ذلك مما اعتبر مخالفةً عظيمةً للإمام الذي كان ينهى عن مثل ذلك، والذي ردَّ على الجمهيَّة والزنادقة لوقوعهم في مثل هذا التأويل.

* تحذير الأئمة من علم الكلام:

وقد شدَّد الأئمة من سائر المذاهب في التحذير من علم الكلام؛ ولئن رمنا استعراض موقف أئمة المسلمين من هذا العلم ابتداءً بالأئمة الفضلاء الأربعة؛ لوجدناهم جميعهم يُبدعون ويُطالبون بعقوبة من يشتغل به؛ حتى أن الإمام الشافعي حكم في أهله، بقوله: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام". 

وقال الشَّافعيُّ: "ما جهل الناس ولا اختلفوا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، وقال أيضاً: "لقد اطلعتُ من أهل الكلام على شيءٍ ما ظننتُ مسلماً يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك -خيرٌ له من أن يُبتلى في الكلام". وقال أيضاً: "لو علم الناس ما في الكلام والأهواء لفرُّوا منه كما يفرون من الأسد"، وقال: "ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح".

وسئل الإمام أبو حنيفة: "ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر طريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"، وقد وصف أهل الكلام والمنطق بأنهم: "قاسيةٌ قلوبهم، غليظةٌ أفئدتهم، لا يُبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورعٌ ولا تقوى".

وقد كان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي يُفتي بزندقة طالب الدين بعلم المنطق، فيقول: "من طلب الدين بالكلام تزندق"، وكان لا يرضى تسميته بالعلم، حتى حكم بجهل من علم به، وبعلم من جهل به. 

ولما سئل الإمام مالك عن الكلام والتوحيد؛ قال: "محالٌ أن نظنَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم علم أمته الاستنجاء، ولم يُعلمهم التوحيد".

وقال الإمام أحمد: "لا يُفلح صاحب كلامٍ أبداً، ولا يُرى أحدٌ نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل".

وهذه النقولات عن الأئمة كلها مثبتة في كتب علماء الإسلام، مثل "صون المنطق" للسيوطي، و"فضل علم السلف" لابن رجب، وسير أعلام النبلاء" للذهبي، و"مناقب الشافعي" للبيهقي، و"التمهيد" لابن عبد البر، و"فتح الباري" للإمام الحافظ ابن حجر، وحتى كتاب "الإحياء" للغزالي.

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه".

وقال أحمد بن إسحاق المالكي: "أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، لا تقبل له شهادة، ويهجر ويؤدب على بدعته؛ فإن تمادى عليها استتيب منها".

فعلم التوحيد لا يؤخذ من عقول الرجال، ولا من فلسفة المتفلسفين أو كلام المتكلمين؛ لأنه أساس الدين الذي عليه تُبنى فروعه، فالمصدر الأوحد لعقيدة الأمة التي جاء بها الأنبياء جميعاً، وعلى رأسهم خاتمهم، وسيد ولد آدم جميعاً، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الوحي الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة.

الشافعي وعلم الكلام

من كتاب (المذهب الشافعي وأهم مصطلحاته)

محمد طارق هشام مغربية

قال الربيع رحمه الله: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون في شيء من الكلام؛ فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن ترحلوا عنا.

قال أبو إبراهيم المزني رحمه الله تعالى: كنت يوماً عند الشافعي، أسائله عن مسائل بلسان أهل الكلام قال: فجعل يسمع مني، وينظر إلي ثم يجيبني عنها بأحضر جواب، فلما اكتفيت قال لي: يا بني أدلك على ما هو خير لك من هذا ؟ قال: قلت: نعم. 

يا بني هذا علم إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه كفرت، فهل لك في علم إن أصبت فيه أجرت، وإن أخطأت لم تأثم، قلت: وما هو ؟ قال: الفقه فلزمته، فتعلمت منه الفقه، ودرست عليه.

وقد ذكر العلماء أن الشافعي كان إذا خيض في مجلسه في الكلام نهى عنه. 

لكن هذا لا يعني جهل الشافعي بهذا العلم، فقد أورد الإمام البيهقي نقولاً كثيرة تبين معرفة الشافعي التامة بهذا العلم ورده على مبتدعة عصره. فمن ذلك مناظرته لحفص الفرد، فقد روى الإمام البيهقي بسنده أن حفصاً الفرد دخل على الشافعي فكلمه، ثم خرج الشافعي؛ فقال لمن حضر: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن.

ويبدو أن مناظرة الشافعي لحفص قد تركت في نفسه أثراً عميقاً، وهذا ما حدا به إلى التغليظ على من يطلب الكلام أو ينسج بمنوال أهله. 

قال البيهقي: وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه، وناظر من ناظره فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل شيئاً مما هم فيه؟ لكنه كان يرى الاشتغال بالكلام للفقيه مشغلة عن قصده، فلما أتاه المزني وتوسم فيه الخير والنجابة وجهه إلى الفقه والحديث كما كان لا يرى الخوض فيه أمام العوام لئلا يفتنوا عن الحق الذي لقنوه من كتاب الله تعالى وسنة المصطفى . يدل على ذلك نهيه من تكلم فيه في المسجد. 

وقال رحمه الله تعالى فيما نقل عنه: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء، لفروا منه كما يفرون من الأسد.

وبقيت هذه نظرة الشافعي للكلام حتى روى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت محمد بن داود، يقول: لم يُحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه، ولا عرف به، مع بغضه لأهل الكلام والبدع.

وانعكست هذه النظرة إلى علم الكلام على فقهاء المذهب الكبار؛ فكانوا لا يرون الخوض في مسائل الكلام، وربما كان هذا انعكاساً للرد على المعتزلة وفتنة خلق القرآن مما ولد جواً معادياً لأهل الكلام وإن كانوا على الحق.

روى اللالكائي بسنده إلى أبي الحسن علان المصري قال: قصدنا المزني في جماعة من أصحابنا فقلنا : يا أبا إبراهيم، إن الناس يتكلمون ويقولون: إنهم إذا قصدوك وسألوك في باب القرآن لا تجيبهم بشيء، ما هذا ؟!

فقال لنا: يا هؤلاء، أنا إذا جاءني من هؤلاء الأحداث وسألني امتحنني، لا أجيبهم، ومذهبي مذهب الشافعي. قال: فقلنا : فأي شيء مذهب الشافعي؟ قال: كان مذهب الشافعي أن كلام الله غير مخلوق. 

ونقل السبكي في «طبقاته»: قال أبو الوليد النيسابوري الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام وكان الإمام أبو حامد الإسفراييني يبالغ في النكير على الإمام أبي بكر الباقلاني لتعرضه لمسائل الكلام، ويقول: أشهد أن كلام الله تعالى قديم غير مخلوق، كما يقول أحمد بن حنبل، لا كما يقول الباقلاني وقد بلغ من شدة إنكاره عليه أن الإمام الباقلاني كان يمشي في أسواق بغداد مقنعاً لكيلا يراه الإمام أبو حامد.

مع أن الإمام الباقلاني من كبار علماء أهل السنة الذين ردوا على أهل الأهواء والبدع لكن جمهور الفقهاء والمحدثين متأثرين بالشافعي والإمام أحمد من بعده كانوا لا يرون الخوض في هذه المسائل.

ونجد للإمام العز بن عبد السلام كلاماً رائقاً في. هذا الموضوع؛ يبين كيف كان جماهير الفقهاء ينظرون للكلام وما أتعب فيه المتكلمون أنفسهم فيه. قال رحمه الله تعالى: وما أشد طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سبيلاً، كلما نظروا فيه وحرصوا عليه، ازدادوا حيرة وغفلة، فالحزم الإضراب عنه كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار، فمن حرص أن يرى ببصره ما وارته الجبال، لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر، وكذلك تـحـديـق البصائر إلى ما غيبه الله عنها وستره بالأوهام والظنون والاعتقادات الفاسدة. كم من اعتقاد جزم المرء به، وبالغ في الإنكار على مخالفته، ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه.

فائدة في حكم من استفتي في الكلام وحكمه عند الشافعية:

قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى في «أدب الفتوى»: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلاً، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو اللائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه ، وليس البحث فيه من شأننا ، بل نكل علم تفصيله إلى الله تعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا. 

فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك .

والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له. وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها، والبرهنة عليها.

وقال العلامة سراج الدين ابن الملقن رحمه الله تعالى: وعلم الكلام بقواعده ليس فرض عين ولم يشتغل به الصحابة قال الإمام: ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفو الإسلام لما أوجبنا التشاغل به وربما نهينا عنه، فأما اليوم وقد ثارت البدع فلا سبيل إلى تركها تلتطم ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى الملك الحق ويزال ما يشتبه فصار الاشتغال بأدلة المعقول فرض كفاية، فأما من استراب في أصل من أصول الاعتقاد فيلزمه السعي في إزاحته حتى يستقيم عنده.

وما أجمل ما نبه إليه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى من عدم تشويش العامة بأقوال لم يألفوها وأسماء ربما استهجنوها، فربما رفضوا الحق إذا نسبته إليهم؛ فقال رحمه الله:

ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية فيقبلها ، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه.

وليس هذا طبع العامي خاصة، بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقاً، وقواهم على اتباعه. وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس. انتهى.

* تحذير المتكلمين من علم الكلام (ذكرى وعبرة):

ومن العجيب حقاً أن ترى المتكلمين يُحذرون غيرهم من الخوض في هذا العلم؛ ولعل أخذ العبرة من المجرب أدعى إلى زيادة التصديق، ومن بين أهل الخبرة بالمنطق وعلم الكلام جاءت عبارة التحذير من فحوله الأذكياء، الذين اغتروا به، واشتغلوا فيه مدة حياتهم؛ كالإمام الغزالي، وإمام الحرمين الجويني، والرازي، وغيرهم رحمهم الله تعالى.

١- فهذا الإمام الجويني (ت ٤٧٨ هـ)، أحد أبرز علماء الكلام، والذي خاض فيه كثيراً، وتعمق إلى الدرجة القصوى حيث أحجم الآخرون، وصنف فيه الكتب الكثيرة على طريقة أهل الكلام، يُعلن رجوعه عما كان عليه، وأوصى عند موته باجتناب علم الكلام، ناصحاً ومُحذراً، قائلاً: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بعلم الكلام؛ فلو عرفتُ أنه يبلغ بي ما بلغ، ما تشاغلتُ به". ذكر ذلك عنه: الحافظ ابن حجر في "الفتح"، والذهبيُّ في "السير"، والسُّبكي في "طبقات الشافعية".

وقال الجويني كما في "سير الذهبي": "لقد خضت البحر الخضم، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوا عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لي، وها أنا ذا أموتُ على عقيدة أمي".

وقال الجوينيُّ أيضاً في مرض موته: "اشهدوا أني قد رجعتُ عن كل مقالةٍ تُخالف السُّنة، وإني أموتُ على ما يموتُ عليه عجائز نيسابور".

وقد انتهى أمر الجويني إلى الرجوع للقول بمذهب السلف، وهو الإثبات كما ذكر ابن القيم في "المدارج" وابن تيمية في "الحموية" عنه رحمه الله.

٢- وهذا أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ): كانت له تجربته المريرة في علم الكلام؛ حتى قال عنه في كتابه "المنقذ من الضلال": "فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً. نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها. ولكن لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق".

ويحكي الإمام الغزالي قصته مع طلب علوم الفلسفة عندما وجد الناقض في علم الكلام؛ فيقول: "ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم - حيث اشتغلوا بالرد عليهم - إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد".

وأبدى الغالي سخطه وانزعاجه من أهل الكلام الذين سموا أنفسهم "علماء التوحيد" معترفاً بما رأى منهم من الخصومات والمنازعات، وأن طريقتهم مبتدعة، وأن توحيدهم مُخالفٌ لتوحيد السلف، فيقول في كتابه "الإحياء": "ومن أسمائه علم التوحيد، وقد جُعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد، مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة…  وكان العلم بالقرآن (يعني عند السَّلف) هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله".

ويذكر رحمه الله في موضعٍ آخر من كتابه "الإحياء" أخلاق المتكلمين التي لم تُهذبها الآثار، ولم تُحكم صياغتها الأحاديث والآيت: معترفاً بما رأى منهم من شظف الطبع، وقساوة القلب، والجدل المُتعسِّف، وربما التكفير لمخالفيهم ولو من العامة-عياذاً بالله تعالى؛ فيقول: "وأما العامي فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث الممزوج بفن من الوعظ والتحذير فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين؛ إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده فإن عجز عن الجواب قدر أن المجادلين من أهل مذهبه أيضاً يقدرون على دفعه… وعند رؤيته الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق".

ثم نراه يُصنف كتباً في "التحذير من علم الكلام"، وكان ذلك قبل موته بخمسة عشر يوماً، وسمّاه "إلجام العوام عن علم الكلام"، وقد أفتى فيه بحرمة تعلُّم هذا العلم أو تعلميه، مؤكداً أنه ما أثار الشر في الأمة الإسلامية إلا منذ أن ظهر أهل الكلام والجدل، وأن الناس على معرفةٍ من ربهم بطريقة القرآن، ولا بطرق المتكلمين مثل الأعراض والحوادث.

ونجد ذلك في أربعة مواضع من كتابه "إلجام العوام" (ص ٦١)؛ فيقول في معرض الجواب عن الصبيان والعوام الذين يسألون عن آيات الصفات: "فيُقال لهم مالكم ولهذا السؤال، هذه معانٍ الإيمانُ بها واجب، والكيفية مجهولة، أي: مجهولةٌ لكم، والسؤال عنها بدعة، كما قال مالكٌ رضي الله عنه: (الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)"، وبغضِّ النظر عما يقصده بالمعاني التي يجب الإيمان بها، هل هي: الصفات كما هو ظاهر كلامه، أو ما تدلُّ عليه ظواهر تلك الألفاظ؛ فإن هذه الأخيرة هي طريقة السلف، وإن كان أبو حامد لا يُقررها.

٣- وهذا الإمام أبو الفتح الشهرستاني (ت ٥٤٨ هـ) صاحب كتاب "الملل والنحل"، يقول في كتابه "نهاية الإقدام": 

لعمري لقد طفتُ المعاهد كلها … وسيَّرتُ طرفي بين المعالمِ

فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ …. على ذقنٍ أو قارعاً سنَّ نادمِ

٤-وقال الخونجي الحسن بن سعد بن الحسن (ت ٥٧٥ هـ)، وكان قد أفنى عمره في هذا الميدان البغيض؛ يقول في عبارةٍ أثرت عنه: "اشهدوا عليَّ أني أموتُ ما عرفتُ شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي؛ فما عرفتُ شيئاً" ذكر ذلك ابن القيم في "الصواعق المرسلة".

٥-وهذا الفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ) لم يسلك طريقاً ولا فناً من علم الكلام، إلا وطرقه، فإذا به يرجع عن ذلك، ويُبين حقيقته للناس؛ فيقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى}، و{إليه يصعد الكلم الطيب}، واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء}، و{لا يحيطون به علماً}، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

ذكر ذلك الذهبيُّ في "السير"، والسبكيُّ في "طبقاته"، وذكر الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" أن الرازي أوصى وصيةً عند موته تدلُّ على أنَّه حسَّن اعتقاده.

وقال الرازي في أبياته الشهيرة:

نهــــــــــــاية إقــــــــــدام العقول عقال … وغاية سعي العالمين ضـــــــــــــلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جســــــــــومنا … وغاية دنيانا أذىً ووبــــــــــــــــــــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا … سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

٦- وقال شمس الدين  عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي (ت ٦٥٢ هـ): وهو من أجل تلامذة الفخر الرازي -لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً؛ فقال له: "ما تعتقده؟ قال: ما يعتقده المسلمون؛ فقال: وأنت مُنشرح الصدر لذلك مُستيقن به؟ فقال: نعم؛ فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما اعتقد، والله ما أدري ما اعتقد، والله ما أدري ما اعتقد"، ذكر ذلك ابن أبي العز في كتابه "شرح الطحاوية"

وأخيراً؛ فإن اعتراف هؤلاء الأذكياء والجهابذة ببطلان علم الكلام يُثبت مصداقية وبُعد نظر أئمة أهل السنة، الذين نهوا عن الاشتغال به، ورموا أربابه بالبدعة؛ فهذه حال من سلك تلك الطريق، وهذه نهايته، فاعتبروا يا أولى الحجى، وليتأمل كل واحدٍ في مصيره، لا سيما من لا يزال تلعب بعقله هذه الترهات، وتلك الأباطيل، التي تُسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في هدم عقيدة الإسلام النقية الصافية، من حيث ظنَّ أصحابها أنهم يبنون.

ولنا أن نختم بذكر كلام شارح الطحاوية "ابن أبي العز" مُعلقاً على حال بعض من ذكرنا: "ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة -من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء (السحر) أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".






الأحد، 4 أكتوبر 2020

ذم التأويل -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

ذم التأويل

للإمام العلامة موفق الدين

عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

(540 - 620 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالة في (ذم التأويل) للإمام الموفق ابن قدامة المقدسي قصد فيها إلى بيان مذهب السلف في صفات الله عز وجل، وكيف أنهم تلقوا هذه الأخبار بالقبول والإيمان والتصديق، وأثبتوا تلك الصفات لله تعالى بدون تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وردَّ فيها على شُبه المتكلمين القائلين بتأويل هذه الصفات وصرفها عن ظاهرها، وقد ذمَّهم -رحمه الله -بأشد العبارات وأغلظها، وبيَّن بطلان قولهم بالحجة والبيان وبالأدلة من الكتاب والسُّنة وإجماع السلف.

وقرَّر ابن قدامة أن منهج السلف هو الإثبات للصفات بظاهر لفظها ومعناها، مع تفويض الكيفية، وقد أخطأ من قال إن ابن قدامة فوّض المعنى بالكلية، وهذا ظاهرٌ جداً في كتابه "تحريم النظر في الكلام"؛ حيث يقول: "إِذا سَأَلنَا سَائل عَن معنى هَذِه الْأَلْفَاظ (يعني الصفات) قُلْنَا: لَا نزيدك على ألفاظها زِيَادَة تفِيد معنىً (أي: معنى آخر غير المتبادر منها)، بل قرَاءَتهَا تَفْسِيرهَا من غير معنى بِعَيْنِه، وَلَا تَفْسِير بِنَفسِهِ، وَلَكِن قد علمنَا أَن لَهَا معنى فِي الْجُمْلَة يُعلمهُ الْمُتَكَلّم بهَا فَنحْن نؤمن بهَا بذلك الْمَعْنى".

فقوله (وَلَكِن قد علمنَا أَن لَهَا معنى فِي الْجُمْلَة يُعلمهُ الْمُتَكَلّم بهَا فَنحْن نؤمن بهَا بذلك الْمَعْنى) يقطع كل ما يُثار حول ابن قدامة رحمه الله من نسبته إلى التفويض، ذلك أنه التزم: أن قراءة آيات الصفات هو تفسيرها، بظاهر معناها المعهود عند المتكلم بها، ويؤكد ذلك أنه ساق بعدها قول الإمام مالك رحمه الله في الاستواء؛ فقال: "الاسْتوَاء غير مَجْهُول والكيف غير مَعْقُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة".

وأما قوله (من غير معنى بِعَيْنِه، وَلَا تَفْسِير بِنَفسِهِ)؛ أي من غير تحديد معنى بعينه، يلزم منه التمثيل أو التكييف للصفة، مثل قول المشبهة: يدٌ كيدي، أو عينٌ كعيني، أو وجهٌ كوجهي؛ ولا تفسيرٍ بنفسه: أي كطريقة المؤولة، الذين يصرفون اللفظ عن ظاهر معناه، فالمعنى الذي يُثبته هو المعنى المتبادر من الصفة دون تكييف أو تمثيل أو تشبيه؛ فكأنه نفى معانى الممثلة، ونفى تفسير المؤولة.

وهو نفس المعنى الذي نفهمه من قوله: "فإنهم -أي السلف لم يصفوا ولم يُفسروا" فليس معنى أنهم (لم يصفوا) أنهم نفوا الصفات عن الله عز وجل، وإنما معنى ذلك: أنهم لم يُحددوا كيفية تلك الصفة، ولم يبحثوا عن كنهها وحقيقتها، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله؛ فيجب التفويض في الكيفية، (ولم يفسروا): أي لم يأتوا بمعنى يُخالف ظاهر الصفة، وهو ما يُسمى بالتأويل، وهذا ما يعنيه كل من عبَّر بهذه العبارات وأمثالها من أئمة السَّلف.

وهو معنى قوله في كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام" في بيان طريقة السلف أنها: "الإيمان بالألفاظ والآيات والأخبار بالمعنى الذي أراده الله تعالى والسكوت عما لا نعلمه من معناها، وترك البحث عما لم يكلفنا الله البحث عنه من تأويلها ولم يطلعنا على علمه"؛ وهذا يعني أن هنالك معنىً نعلمه من الألفاظ لا بُدَّ من إثباته، وهو المعنى الذي أراده الله تعالى، وأما المعنى الذي لا نعلمه فهو العلم بالكيفية؛ فهذه التي نسكت عنها.

وذكر الإمام ابن قدامة معتمده في باب الصفات في كتابه "المناظرة في القرآن"، بعد أن أثبت لله الحرف والصوت وأن سبحانه متكلمٌ على الحقيقة بحرفٍ وصوتٍ حقيقيين: "على أن معتمدنا في صفات الله عز وجل إنما هو الاتباع نَصفُ الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، ولا نتعدى ذلك ولا نتجاوزه ولا نتأوله ولا نفسره، ونعلم أن ما قال الله ورسوله حق وصدق، ولا نشك فيه ولا نرتاب، ونعلم أنَّ لِما قال الله ورسوله معنىً (أي كيفٌ) هو به عالمٌ، فنؤمن به بالمعنى الذي أراده (وهو الظاهر)، ونكل علمه إليه"؛ أي العلم بكيفيته، فمنع الإمام ابن قدامة من التأويل الذي هو التكييف، ومن التفسير الذي هو صرف الفظ عن ظاهره، وبيَّن أن إيمانه بالصفات إنما هو إيمانٌ بالمعنى الذي أراده الله وهو الظاهر المعهود في كلام العرب، وأنه يكل العلم بحقيقة ذلك المعنى إلى الله، وهذا ظاهرٌ جداً لمن تأمله.

وذكر رحمه الله في كتابه "الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم" جملةً من الأدلة على أن الله تعالى يتكلم بحرفٍ وصوت، وأجاب على إيراد المبتدعة في قولهم (إن كلام الله تعالى يجب ألا يكون حروفاً لئلا يُشبه كلام الآدميين)؛ فقال: "إن الاتفاق في أصل الحقيقة: ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في إدراك المبصرات، والسمع في إدراك المسموعات، والعلم في إدراك المعلومات ليس بتشبيهٍ؛ كذلك هنا"، وهذه قاعدةٌ عامة عند أهل السُّنة في جميع الصفات من إثبات أصل الحقيقة للصفة، وأثبتها ابن قدامة بالفعل في غير صفة الكلام، وذكر صفة السمع، والبصر، والعلم، ويطرد الأمر في جميع الصفات الخبرية كذلك.

وقال في "تحريم النظر": "فإنه -أي النبيّ صلى الله عليه وسلم -كان يؤمن بالله وكلماته ولم يفسر شيئاً من ذلك ولا بين معناه" أي لم يؤول ذلك تأويلاً يصرفه عن ظاهر معناه، ولم يُبين حقيقة معناه الذي هو الكيفية، وإنما سكت عن كلا الأمرين، مع الإيمان بتلك الصفات ومعانيها الظاهرة.

وكذلك قوله في "تحريم النظر": "فإنه لا حاجة لنا إلى علم معنى ما أراد الله تعالى من صفاته جل وعز -أي كيفيتها، لأنه لا يتعلق بها تكليف سوى الإيمان بها، ويُمكن الإيمان بها من غير العلم بمعناها"؛ أي: لسنا بحاجة إلى العلم بمعنى كيفية الصفة، وهذا أمرٌ مقبولٌ عند السَّلف؛ فإن كيفية الصفة أمرٌ ميئوسٌ منه، لا سبيل إلى معرفته أو مطالعته؛ ولذلك قال: "فإن الإيمان بالجهل -أي الجهل بالكيفية صحيح".

ثم ضرب مثلاً بالأمور الغيبية الأخرى لتكون طرداً للعبارة السابقة في نفي العلم بالكيفية؛ فقال: "فإن الله تعالى أمر بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله وما أنزل إليهم، وإن كنا لا نعرف من ذلك إلا التسمية"، أي لا نعرف إلا الأسماء ودلالاتها ومعانيها الظاهرة، ولكننا لم نعرف الشخوص والهيئات والكيفيات، وإذا جهلنا هذا في حقِّ الملائكة والرسل؛ فجلهنا لكيفية الباري سبحانه وصفاته من باب أولى.

ولا يُقال: إنه أردا بمعرفة التسمية: الأسماء الخالية عن المعنى!؛ لأن التسمية في الأصل هي إطلاق الأسماء على مسمياتها، ولا يُفيد ذلك نفي الهيئات أو المعاني أو الدلالات التي تضمنتها تلك الأسماء، فهذا أمرٌ يُحيله العقل والشرع بل هي مُكابرة وعناد كما تقدَّم، ولم نجد من العقلاء من يُعطل اسماً عن معناه الثابت له في نفسه، وإذا كانت تلك المعاني والدلالات الظاهرة ثابتة في حق بعض المخلوقات فثبوت المعاني في أسماء الرب سبحانه وصفاته أولى وأحرى.

ويؤكد الإمام ابن قدامة على قضية نفي التشبيه والتمثيل باصطلاحه الخاص على نفي المعنى: الذي يقصد به نفي العلم بالكيفية والهيئة؛ فيقول في "تحريم النظر": "وإنما يحصل التشبيه والتجسيم ممن حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين في المعنى (وهو التمثيل)، ونحن لا نعتقد ذلك ولا ندين به ".

ولذلك يقول بعدها: "إن صفاته لا تشبه صفات المحدثين، وكل ما خطر بقلب، أو وهم فالله عز وجل بخلافه لا شبيه له ولا نظير ولا عدل ولا ظهير".

ويقول رحمه الله -في "تحريم النظر إلى كتب الكلام": "ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم: في أن مذهب السلف رضي الله عنهم -في صفات الله سبحانه وتعالى: الإقرار بها والإمرار لها، والتسليم لقائلها، وترك التعرض لتفسيرها، بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة ومفصلة".

وهو مثل قوله في موضعٍ آخر من "ذم التأويل": "والتوقيف (أي الشرع ) إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها فيجب الإقتصار على ما ورد"؛ يقصد الاكتفاء بمجرد اللفظ المتضمن للمعنى الظاهر.

وقال ابن قدامة في بيان طريق الراسخين في العلم في كتابه "ذم التأويل": "فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم {آمنا به كل من عند ربنا} تاركين لابتغاء تأويله"، ثم قال: "إن  قولهم {آمنا به كل من عند ربنا} كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه؛ لعلمهم بأنه من عند ربهم؛ كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده" فأثبت علمهم بالمعنى وتفويضهم وتسليمهم بالكيفية.

ومثل ذلك ما ورد من كلام ابن قدامة في "الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم": "وأما قولهم -يعني المتكلمين -إنكم فسرتم هذه الصفة (صفة الكلام). قلنا: إنما لا يجوز تفسير (أي تأويل) المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره (بيان حقيقته)، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق، لا شبهة فيه، وقد فسَّره الكتاب والسُّنة"، وهنا نجد أن ابن قدامة رحمه الله -يجعل صفة الكلام من جملة الصفات التي لم يسكت السَّلف عن بيان حقيقتها، وعلَّل ذلك بأن هذا البيان والكشف ورد دليله في الكتاب والسنة: من كونه بصوت، وأنه مسموع، وأنه بحروف وكلمات، وقد سمعه موسى عليه السلام، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فانتفى كونه من المتشابه المطلق؛ بل هو من المُحكم بحقيقته ومعناه، خلافاً للصفات الأخرى التي قد تشتبه حقيقتها على السامع، ولا سبيل له إلى العلم بكيفيتها؛ فتكون من المتشابه المطلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، وإنما سكت السلف عن بيان حقيقتها؛ لأن ذلك يدخل في الكيفية، ولا يعلم أحدٌ كيفية الباري سبحانه، ولا كيفية صفاته، ولم يرد دليلٌ ببيانها.

    وبهذا نفهم أن سكوت السلف كان على أمرٍ زائدٍ على مجرد المعنى المعهود في لغة العرب، بينما الكلام المسموع والمنطوق بحروفه وألفاظه أمر معلومٌ ضرورةً عند الكافة، بحيث لا يجهل حقيقته أحد، ولذلك فسرها بما يكشف حقيقتها لا مجرد المعنى الظاهر، لأن المعنى الظاهر معلومٌ من دون كشف ولا تفسير (تكييف).

    وأما السكوت عند ابن قدامة -فهو كما قلنا هو سكوتٌ سلفيٌّ محض ينطوي على إثبات المعاني للصفات في الجملة، ولذا نراه يقول بعد ذلك: "إنما نحن فسرناه بحمله على حقيقته: تفسيراً جاء به الكتاب والسنة وهم -أي المبتدعة -فسروه بما لم يرد به كتابٌ ولا سنة، ولا يُوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى"، فذكر أن التفسير هو حملها على الحقيقة المعهودة، وبذلك نفهم تفريق ابن قدامة بين إثبات المعنى للصفة في الجملة الذي هو طريقته العامة في المتشابه، وبين إثباته للمعنى الخاص الذي لا يتطرق إليه شبهة تمثيل ولا تكييف.

ولم يكن السلف يسألون عن المعنى الظاهر؛ لأنهم يعلمونه من مجرد اللفظ؛ وقد جاء ذلك في كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام"؛ حيث يقول: "وَأما إيمَاننَا بِالْآيَاتِ وأخبار الصِّفَات؛ فَإِنَّمَا هُوَ إِيمَان بِمُجَرَّد الْأَلْفَاظ (أي: بمعانيها الظاهرة) والَّتِي لَا شكّ فِي صِحَّتهَا، وَلَا ريب فِي صدقهَا، وقائلها أعلم بمعناها (حقيقتها وكيفيتها)، فَآمَنا بهَا على الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَ رَبنَا تبَارك وَتَعَالَى (وهو المعنى الظاهر المتبادر)؛ فجمعنا بَين الْإِيمَان الْوَاجِب وَنفي التَّشْبِيه الْمحرم".

وهنا قضيَّة تُثار حول قول الإمام أحمد الذي نقله ابن قدامة في "لمعة الاعتقاد" عد ذكر أحاديث الصفات، وهو قوله: "نؤمن بها، ونصدق بها بلا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق"، وقد ذكر الإمام ابن قدامة نفس العبارة عنه في "تحريم النظر في علم الكلام، ولكنه قال فيها: "بلا كيف ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تبارك وتعالى وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير"، وكذلك قال قبلها: "بلا حدِّ ولا غاية"، وهذا يؤكد تقريرنا أن نفي الكيف هو نفي للعلم بالكيفية، ونفي المعنى إنما هو نفي التمثيل؛ ولذلك أتمَّ الإمام أحمد عبارته، بقوله: "ولا نعلم كيف ذاك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن"، وذهب بعض العلماء إلى تفسير قوله (ولا معنى) أي لا نتأولها بصرف معناها الظاهر إلى معنىً آخر ليس هو مراد الله ورسوله.

وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي القاسم اللالكائي قوله: "مذهب السلف رحمة الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات وعلى هذا مضى السلف كلهم".

ويبدو أن ابن قدامة قد تعرَّض لحملة تشويهٍ وتشنيع من نظرائه المتكلمين الذين يؤلون الصفات -ويرون ذلك عيباً له، وكان هذا أحد الدوافع المهمة لتأليف هذا الكتاب؛ ولذا نراه يردُّ عليهم في "روضة الناظر"؛ فيقول: "ونحن وإِن عيبت علينا الْأَلْفَاظ الَّتِي آمنا بهَا فَمَا عيب إِلَّا قَائِلهَا، وَلَا كفرُوا إِلَّا بالمتكلم بهَا، وَهُوَ الَّذِي يجازيهم على كفرهم وإلحادهم".

 وكان المتكلمون من متعصبة الأشاعرة يُحاولون إلزام ابن قدامة بقضايا هو لا يؤمن بها أصلاً، من أمور الفلسفة والكلام التي لم ينطق بها شرع، ولا نزل بها وحي، من قضايا الجوهر والعرض والجسم والأجزاء والأبعاض؛ فكان رحمه الله إذا قالوا له يلزمك من إثبات هذه الصفة التجسيم، سكت عن ذلك؛ يقول ابن قدامة: "وَإِن عيب علينا السُّكُوت فَلَيْسَ السُّكُوت بقول، وَلَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول"؛ فهذا السكوت لم يكن التزاماً بما دعوه إليه، أو موافقةً لبعض المتكلمين الذين اتجهوا نحو تفويض المعاني.

ويزيد هذا المعنى وضوحاً وقوَّةً ما قاله في كتابه "تحريم النظر في علم الكلام": "وإن قالوا قد اعتقدتم التشبية منها فقد كذبوا علينا ونسبوا إلينا ما قد علم الله تعالى براءتنا منه، ثم ليس لهم اطلاع على قلوبنا، وإنما يعبر عما في القلب اللسان وألسنتا تصرح بنفي التشبيه والتمثيل والتجسيم فليس لهم أن يتحكموا علينا بأن ينسبوا إلينا ما لم يظهر منا ولم يصدر عنا، والإثم على الكاذب دون المكذوب كما أن حد القذف على القاذف لا على المقذوف".

وهذا السُّكوت يُشبه طريقة السلف في أن هذه الألفاظ المُجملة تحتملُ معنىً صحيحاً وآخر فاسداً؛ فاختار طريقة السكوت عنها؛ لأنها لم يرد بها كتابٌ ولا سُنة.

 ومن ثمَّ يقول بعدها: "وَإِن قَالُوا قد اعتقدتم التشبيه مِنْهَا فقد كذبُوا علينا، ونسبوا إِلَيْنَا مَا قد علم الله تَعَالَى براءتنا مِنْهُ"؛ وهذا يؤكد قضية إيمانه بالصفات لفظاً ومعنىً على طريقة السلف، كما سيذكر ذلك لاحقاً.

فالسكوت الذي قصد إليه ابن قدامة رحمه الله -هو ما كان في مقابل ذلك التأويل الباطل الذين حاولوا إلزامه به؛ ما يعني أنه يُثبت الصفة على ظاهرها، ولا يتأولها، ولذا يقول في "ذم التأويل": "ولأن الساكت عن التأويل لم يقل على الله إلا الحق، والمتأول يحتمل أنه قال على الله غير الحق ووصفه بما لم يصف به نفسه وسلب صفته التي وصف بها نفسه وهذا محرم فيتعين السكوت ويتعين تحريم التأويل".

ومن الأمور التي جادل عنها المتكلمون هو قضية قولهم: إن اللفظ يحتمل عدة معاني فلم تحملون هذه الألفاظ على ظاهر معناها دون سائر المعاني الأخرى التي يحتملها اللفظ؛ فردَّ عليهم ابن قدامة في كتابه "ذم التأويل": "ومن وجه آخر وهو أن اللفظ إذا احتمل معاني فحمله على علم منها من غير واحد بتعيينه تخرص وقول على الله تعالى بغير علم… ولأن تعيين أحد المحتملات إذا لم يكن توقيف، يحتاج إلى حصر المحتملات كلها، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً ثم تبطل جميعها إلا واحداً"؛ وهذا يعني أن الإمام ابن قدامة يُبطل جميع تلك المعاني المتأولة، ويجعل معنىً واحداً هو المُراد والمقصود، وهو ظاهر المعنى؛ إذ هو مُراد المتكلم من كلامه.

ويُبين رحمه الله أن طريقة المتكلمين -بعد إيرادهم جميع تلك المعاني المحتملة لذلك اللفظ إنما هي: نفي بعضها وإثبات بعضها، وذلك بطريق العقل! فما سمحت به أهواؤهم وأوهامهم أجازوه، وما خالفها ردُّوه، وهذا تحكُّمٌ في آيات الله وصفاته بغير وجه حق، ومن غير دليل ولا برهان، ويقول ابن قدامة في هذا المعنى في كتابه "ذم التأويل": "ثم معرفة نفي المحتملات يقف على ورود التوقيف به فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف وإذا تعذر هذا بطل تعيين مجمل منها على وجه الصحة ووجب الإيمان بها بالمعنى الذي أراده، المتكلم بها كما روي عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه إنه قال آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وهذا الكلام من الإمام الشافعي رحمه الله كما قلنا في (القاعدة الثالث من قواعد الأسماء والصفات): يؤدي نفس الموقف المنهجي العام الذي سبق تقريره لأئمة السلف والفقهاء، من أن مراده سبحانه من كلامه هو ما يتبادر إلى الذهن من المعنى؛ إذ هو سبحانه أعلم بمن يُخاطب، ومحال أن يخاطب الله عباده بما لا يعقلونه، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2).

ومن الأمور التي تؤيد صحة ما ذهبنا إليه من أن الإمام ابن قدامة كان يُثبت الصفات على ظاهرها بمعانيها المعهودة، هو جوابه عن اعتراضٍ أحد المتكلمين، وذلك لما: "قيل له: فقد تأولتم آيات وأخباراً؛ فقلتم في قوله تعالى {وهو معكم أين ما كنتم} أي بالعلم ونحو هذا من الآيات والأخبار فيلزمكم ما لزمنا؟! -أجاب رحمه الله - قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها".

فكأنه جعل ذلك التفسير الصحيح لهذه الآيات هو المعنى المتبادر منها، وهذا يؤيد طريقته في إثبات الصفات بألفاظها ومعانيها الظاهرة، بدليل إنكار المتأولين عليه ما اعتقدوه تأويلاً لبعض الحروف.

وكانت قراءة ابن قدامة لنصوص السلف من هذا الباب: من الإجراء والإمرار وعدم التعرض للكيفية قراءة موفقة تماماً، ولذلك نقرأ في كتابه "لمعة الاعتقاد" عند حديثه عن صفة الكلام الثابتة لله عز وجل، قوله: "ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو ولا يعقل"، ودخول أخبار الصفات فيما يعقل معناه أولي.

وإذا أردنا أن نفهم المعنى الذي كان ينفيه ابن قدامة في كلامه سواءٌ في كتابه "الاعتقاد" أو "ذم التأويل" أو "تحريم النظر في كتب الكلام" أو "روضة الناظر"؛ فلننظر إلى قوله في "ذم التأويل"؛ حيث يقول أثناء نفيه التأويل عن السَّلف: "ومن المعنى: أن صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل؛ لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره والله تعالى لا تدركه الأبصار"؛ فعُلم بذلك أن مقصوده بنفي المعنى هو نفي التمثيل والتشبيه، كما سبق.

وعلى هذا فلا يُشكل لدينا قول الإمام أحمد الذي أورده في اللُّمعة، عنه أنه قال: (لا كيفٌ ولا معنى)، أي: لا نُكيِّفه بكيفية مُعينة، ولا نثبت معنىً يلزم منه التمثيل للصفة؛ لأن صفات الله غيب، والغيب لا نعلمه إلا من جهة الوحي والشرع، وقيل: إن النفي للمعنى هنا: هو نفي للتأويل، والأقرب أنه نفيٌ للتمثيل -كما ذكرنا، والله أعلم.

وهو أيضاً ما يُقرره الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة في كتابه "إثبات صفة العلو" حيث يقول: "ربنا على العرش بلا حدٍّ ولا صفةٍ"، أي بلا حدٍّ نُمثله به، ولا صفة نُكيُّفه بها، وقال الإمام أحمد فيما يُقرره أيضاً: "الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرته وعلمه في كل مكان".

وعندما نقرأ في "صفة العلو" لابن قدامة عن الإمام أحمد، وقد سئل: "ما معنى قول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى، قال: اسكت، ما أنت وهذا لا يقال استولى على الشيء، أو يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى"، والشاهد من هذه الجملة أن الإمام أحمد يرى أن للاستواء معنىً معلوم، وقد فسَّره بقوله (هو على عرشه) فحمله على ظاهر المعنى، وكذلك سائر الصفات لها معنىً في اللغة نعرفها، ولكن لا نعقل كيفيته، وهو ما قصد إليه ابن قدامة عند نفيه للمعنى الذي يُفيد التمثيل.

ويذكر ابن قدامة  في ختام كتابه "العلو" عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة"، وفي حملها على الحقيقة إثبات لها بمعانيها الظاهرة؛ لأن حقيقة الصفة تثبت بإثبات معناها، وإن كنا لا نعلم حقيقة ذلك المعنى من حيث الكيفية.

ومع كل ما قررناه؛ فقد كانت عبارات ابن قدامة في هذا الباب أكثرها مُجملة، تُشبه عبارات المفوضة في بعض حروفها لا في مقاصدها ومراميها، لأنه رحمه الله لم يكن مُفوضاً، وهذه هي القضية التي أريد التأكيد عليها.

فالحكم على الإمام ابن قدامة بمثل هذه الأحرف والعبارات المجملة دون الرجوع إلى أقواله في سائر كتبه هي محاكمة غير عادلة، ونتائجها بالطبع لن تكون منصفة ولا حقيقية، ونحن مطالبون بالتحري والاستقصاء لبيان صحة عقيدة الرجل، أما القطع ببعض العبارات الموهمة أو المبتورة على عقيدته، وجعله من المفوضة رأساً، فهذا تجنِي عليه وعلى عقيدته الصافية.

 وأكثر ما يلاحظ عليه أنه رحمه الله -لم يُحكم عبارته بالشكل المطلوب عند بيانه لعقيدة السلف، وبعبارةٍ أخرى: لم يُحسن اختيار التعابير الملائمة التي تضبط طريقة السلف في باب الصفات، بحيث ينفي عنها كل شبهةٍ أو تأويل، وأكثر هذه العبارات اشتباهاً، هو ما قاله في "لمعة الاعتقاد":  "وما أشكل من ذلك -يعني الصفات -وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله".

وقد يتبادر إلى الذهن من ظاهر هذه العبارة أن الإمام ابن قدامة يُفوِّض المعنى، وهذا غير صحيح؛ لأن الصواب أن نردُّ مشتبه كلامه رحمه الله إلى مُحكمه، وعندما نفعل ذلك؛ سنجد أنه أثبت تلك الألفاظ -أعني الصفات -بمعانيها الظاهرة والمعهودة في لغة العرب؛ ولذا نجده يقول في كتابه "ذم التأويل": "وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقةً كان أو مجازاً"؛ وإذا كان يُثبت ظاهر اللفظ؛ فهو يُثبت ما يسبق إلى الفهم منه على الحقيقة.

فإثبات الألفاظ عند متضمن لإثبات معانيها المُرادة؛ بخلاف طريقة المتكلمين الذين توهموا أن إثبات اللفظ المجرد هو نفي لما تضمنه من المعنى، على أن ابن قدامة كما قدَّمنا أراد بترك التعرض للمعنى: هو عدم التمثيل والتشبيه، ولذا قال بعدها: "ونرد علمه إلى قائله" أي علم حقيقة الصفة وكنهها، وهذا ظاهرٌ بحمد الله لمن تأمله.

ومن المحال في العقل والشرع إثبات ألفاظٍ خاليةٍ عن المعانى؛ وأما كون المعنى حقيقةً أو مجازاً فمرجعه إلى ما يسبق إليه الفهم؛ قال: "فعُلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه فلم يكن تأويلاً".

ولو قلنا إن ابن قدامة أراد بترك التعرض للمعنى -في العبارة السابقة - المعاني الذهنية؛ فليس مقصوده نفي المعنى المتبادر أو الظاهر من اللفظة، كلا! وإنما هو ترك التعرض لتأويل تلك اللفظة -إن صحَّ التعبير -إلى معنى آخر غير مُراد بالنسبة للمتكلم وهو الله سبحانه وتعالى، وإنما مُراد المتكلم هو نفس كلامه، بمعناه ولفظه، فصرفه من غير برهان ولا حُجَّة تكذيبٌ للكلام، وتقوُّلٌ على المتكلم به بغير علمٍ.

ونعود لنقول: إن طريقة ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف، هي طريقةٌ صحيحة لا غبار عليها؛ فيقول مثلاً في ذم التأويل: "وَمذهب السّلف رَحْمَة الله عَلَيْهِم الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى وأسمائه الَّتِي وصف بهَا نَفسه فِي آيَاته وتنزيله أَو على لِسَان رَسُوله من غير زِيَادَة عَلَيْهَا وَلَا نقص مِنْهَا وَلَا تجَاوز لَهَا وَلَا تَفْسِير وَلَا تَأْوِيل لَهَا بِمَا يُخَالف ظَاهرهَا"؛ فهو يُثبت معنىً موافقاً لظاهر اللفظ، ويمنع تأويلها بما يُخالف ظاهرها، وهذه هي طريقة السلف في إثبات الصفات.

فالسلف رحمهم الله يؤمنون بالصفات، ويثبتون ألفاظها وظاهر معانيها المعهودة في لغة العرب، ولكن يقولون: (لا كيفٌ، ولا معنى) أي: لا نؤولها إلى معنى آخر غير المعنى الظاهر المتبادر منها؛ لأنه المُراد عند الإطلاق، وأما الباحث (محمد) فيختار أن قوله (ولا معنى) أي مما لا تمثيل، وكلا المعنيين صحيح.

ويُبين الإمام ابن قدامة أن تأويل الكلام وصرفه عن ظاهره يُوقع المؤول في أمرين: 

الأول: أنه وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.

والثاني: أنه سلب عن الله تعالى ما وصف به نفسه.

ويُعبر عن ذلك بقوله في كتابه "ذم التأويل": " ومن وجه آخر هو أن اللفظة إذا احتملت معاني فحملها على أحدها من غير تعيين احتمل أن يحمل على غير مراد الله تعالى منها؛ فيصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ويسلب عنه صفة وصف الله بها قدسه".

ويشرح لنا الإمام ابن قدامة هذا المعنى في كتابه "تحريم النظر في كتب أهل الكلام"؛ فيقول: "إن المتأول: يجمع بين وصف الله تعالى بصفة ما وصف بها نفسه ولا أضافها إليها، وبين نفي صفة أضافها الله تعالى إليه؛ فإذا قال معنى استوى (استولى) فقد وصف الله تعالى بالاستيلاء والله تعالى لم يصف بذلك نفسه، ونفى صفة الاستواء مع ذكر الله تبارك وتعالى لها في القرآن في سبعة مواضع؛ أفما كان الله سبحانه وتعالى قادراً على أن يقول استولى حتى جاء المتكلف المتأول فتطرف وتحكم على الله سبحانه وعلى رسوله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً".

ويؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه أنه ذكر جهماً الذي هو رأس المُعطلة، وأردفه بذكر المؤولة في نفس هذا الموضع؛ فيقول مُشنعاً عمَّن هذا حاله: "فيرغبُ عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلفه الصالح، وركوبه طريق جهنم وأصحابه من الزنادقة الضلال،  ولأن التأويل ليس بواجب بالإجماع لأنه لو كان واجبا لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أخلوا بالواجب وأجمعوا على الباطل"؛ فيُفهم منه أن المراد بالكلام السابق هو تأويل الصفات على معاني أخرى غير ظاهرها.

ولابن قدامة طريقة مُميزة في عرض العقيدة؛ حيث إنه لا بُدَّ من ثبوت الصفة حتى نثبتها لله عز وجل، فيقول في "ذم التأويل": "فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عاميا ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم، وإن أشكل عليه علمُ ذلك -أي إثباتاً أو نفياً لعدم معرفته بصحة الحديث أو ضعفه-ولم يجد من يسأله فليقف، وليقل آمنت بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت به شيئاً ... ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم… ويكفي الإنسان الإيمان بما عرف منها" أي الإيمان بما وصله منها من الأخبار.

ويبدو أن طريقة ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف كانت متأثِّرةً ببعض عبارات وألفاظ المتكلمين، والتي كان استعمالها شائعاً في تلك الفترة؛ لا سيما وأنه تمرَّس ببعض كتب أهل الكلام كالمستصفى للغزالي، الذي استفاد منه في كتابه "روضة الناظر"، ولذلك استشكل كثيرٌ من العلماء بعض عباراته في "اللمعة"، و"ذم التأويل"، وغيرها، على أن المعاني التي أراد صرف القارئ إليها صحيحة، نذكر من ذلك: قضية تعبيره بالسكوت في بعض المواضع، وهذا السكوت إنما هو على إلزامات المتكلمين الذين ابتدعوا قضايا الجوهر والعرض والجسم والحد مما يدخل في حيز تكييف الصفات، وكذلك قضية ترك التعرض لمعناه، وبيَّنا أن المراد به ترك التعرض للكيفية أو التمثيل، وبالمعنى الآخر: ترك التعرض لتأويلها بما يُخالف ظاهرها، وكذلك قوله في "لمعة الاعتقاد": "متكلمٌ بكلام قديم"، وسيأتي الجواب عليها عند مناقشة كتابه "اللمعة".

وقد أجاد رحمه الله وأفاد في الرد على المتأولين للصفات، من الأشاعرة والماتريدية، الذي كان هو مقصوده من هذا الكتاب، وكان شديداً عليهم بالحق والبيان والحجة والبرهان، وهذا ما يعنينا من هذا الكتاب القيِّم المبارك.

  • والتأويل في اللغة يُراد به ثلاث معانٍ، وهي:

1-التفسير؛ وهو البيان والإيضاح.

2-حقيقة الشيء وعاقبته وما يؤول إليه الشيء.

3-صرف اللفظ عن ظاهر معناه (وهو المعنى المبتدع حيث لا قرينة).

يقول الإمام ابن القيِّم رحمه الله في "الصواعق المرسلة": "فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج؛ فإن الكلام نوعان: خبر، وطلب. 

فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به. (وتأويل ما أخبر الله به من صفاته وأفعاله) نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوف به من الصفات العلى. 

(وتأويل الأمر) هو نفس فعل المأمور به فهذا التأويل في كلام الله ورسوله، وأما التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. 

ومنه قول ابن جرير وغيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، يريد تفسيره، ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في الرد على الجهمية فيما تأولته من القرآن على غير تأويله فأبطل تلك التأويلات التي ذكروها، وهي تفسيرها المراد بها وهو تأويلها عنده؛ فهذا التأويل يرجع إلى فهم المعنى وتحصيله في الذهن والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج".

وإذا كانت هذه المعاني للتأويل صحيحة، وواردة؛ فما هو المعنى المذموم للتأويل، وهل له أصلٌ في الشرع ؟

والجواب: أن التأويل المذموم: هو صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه، وما يُخالف ظاهره، وهذا هو تأويل المتكلمين، من جهمية، وأشاعرة، ومعتزلة، وغيرهم.

وهذا هوو الشائع في عرف المتأخرين من الأصوليين، ولهذا يقولون: "التأويل على خلاف الأصل والتأويل يحتاج إلى دليل، وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين؛ فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فورك، وابن مهدي الطبري وغيرهما.

 وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال تلك التأويلات كالقاضي أبي يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة وهو الذي حكى عن غير واحد إجماع السلف على عدم القول به" أي بالتأويل.

ثُمَّ قال ابن القيِّم: "فالتأويل الصحيح هو القسمان الأولان وهما: 

(حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج) أو (تفسيره وبيان معناه)، وهذا التأويل يعم المحكم والمتشابه والأمر والخبر".

بينما التأويل الباطل الذي ارتضاه المتكلمون من صرف اللفظ عن حقيقة معناه؛ هو تأويلٌ مُبتدع، لا أساس له من اللغة ولا من الشرع، بل هو اصطلاح خاص، اصطلحوا عليه بناءً على شُبهٍ عقلية واهية، جعلوها أساساً ومبرراً لهذا الاتجاه الخطير في الاعتقاد.

والغرض من هذا التأويل هو نفي الصفات، ويكفي لبطلانه أنه يتضمن تكذيب الله ورسول فيما أخبرا به من الصفات، ولذلك اهتم السلف بتفنيد شبه هؤلاء القوم، ورد ادعاءاتهم الباطلة بطرق شرعية لا غبار عليها، وكانوا يُحذرون م الخوص معهم في الكلام، ولو لمجرد الرد عليهم.

وقد بيَّن الإمام ابن قدامة عن مقصده من تأليف هذه الرسالة، وأوضح أن التابع يكون مع متبوعه يوم القيامة، وأن على الإنسان أن يختار متبوعه بعد أن يعلم أنه سيكون ملازماً له؛ فقال: " فَإِنِّي أَحْبَبْت أَن أذكر مَذْهَب السّلف وَمن اتبعهم بِإِحْسَان رَحْمَة الله عَلَيْهِم فِي أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته ليسلك سبيلهم من أحب الإقتداء بهم والكون مَعَهم فِي الدَّار الْآخِرَة؛ إِذ كَانَ كل تَابع فِي الدُّنْيَا مَعَ متبوعه فِي الْآخِرَة ".

ثُمَّ يٌقرر منهجه الذي استند إليه في ذم التأويل وتحريمه بناءً على أن السَّلف الصالح لم يؤلوا هذه الصِّفات، ولو أوَّلوا لنُقل ذلك عنهم؛ فقال رحمه الله: "ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي الصفات وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه".

ويقول رحمه الله في موضعٍ آخر، مؤكداً على قضية تحريم التأويل وصرف اللفظ عن ظاهر معناه، أو تفسيره بمعنى آخر غير الظاهر منه: "وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وأخبر بالأخبار وبلغها أصحابه وأمرهم بتبليغها، ولم يفسرها، ولا أخبر بتأويلها، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع؛ فلو كان لها تأويل لزمه بيانه، ولم يجز له تأخيره.

ومن الإجماع؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرناه عنهم وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة.

ومن بعدهم من الأئمة قد صرحوا بالنهي عن التفسير والتأويل وأمروا بإمرار هذه الأخبار كما جاءت".

ويعود مرةً أخرى لتقرير منهجه في تحريم التأويل، وذمه، بعبارة أشدُّ وأغلظ، مُبيناً أن هذا النهج لا يُعرف عن سلف هذه الأمة، وأن الذين يبتغون الفتنة في الدين بتفسير المتشابه وصرف آيات الله عن غير ظاهرها إنما هم المتكلمون؛ فيقول: "ولأن تأويل هذه الصفات لا يخلوا إما أن يكون علمه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وعلماء أصحابه أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم؟ وهل يجوز أن يكون قد خبأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم ؟!

وإن كانوا قد علموه ووسعهم السكوت عنه وسعنا ما وسعهم، ولا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم؛ ولأن هذا التأويل لا يخلوا من أن يكون داخلاً في عقد الدين بحيث لا يكمل إلا به، أو ليس بداخل.

فمن ادعى أنه داخلٌ في عقد الدين لا يكمل إلا به؛ فيقال له: هل كان الله تعالى صادقا في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} قبل التأويل أو أنت الصادق في أنه كان ناقصاً حتى أكملته أنت ؟!!

 ولأنه إن كان داخلاً في عقد الدين ولم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وجب أن يكونوا قد أخلوا ودينهم ناقص، ودين هذا المتأول كامل، ولا يقول هذا مسلم. 

ولأنه إن كان داخلاً في عقد الدين ولم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، فقد خانهم وكتم عنهم دينهم، ولم يقبل أمر ربه في قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}، وقوله {فاصدع بما تؤمر}".

ثُمَّ يُطلق رحمه الله صرخة تحذيرٍ من صحبة أهل البدع والزيغ، داعياً إلى اتباع طريق السلف الصالح، الذين وقفوا على حدود الوحي ولم يتجاوزوه إلى ما يُخالفه، لأن النجاة في التمسُّك والاتباع، ومجانبة الجنوح والابتداع؛ فقال: "وَجَاء فِي الْخَبَر أَن الله يمثل لكل قوم مَا كَانُوا يعْبدُونَ فِي الدُّنْيَا من حجر أَو شجر أَو شمس أَو قمر أَو غير ذَلِك ثمَّ يَقُول أَلَيْسَ عدلا مني أَن أولي كل إِنْسَان مَا يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول لتتبع كل أمة مَا كَانَت تعبد فِي الدُّنْيَا فيتبعونهم حَتَّى يهوونهم فِي النَّار، فَكَذَلِك كل من اتبع إِمَامًا فِي الدُّنْيَا فِي سنة أَو بِدعَة أَو خير أَو شَرّ كَانَ مَعَه فِي الْآخِرَة فَمن أحب الْكَوْن مَعَ السّلف فِي الْآخِرَة وَأَن يكون موعودأ بِمَا وعدوا بِهِ من الجنات والرضوان فليتبعهم بِإِحْسَان وَمن اتبع غير سبيلهم دخل فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} (النِّسَاء 115)".

وقد بيَّن رحمه الله في بداية كتابه خطته التي يسير عليها في هذا الكتاب؛ فقال على سبيل الإجمال: "وَجعلت هَذَا الْكتاب على ثَلَاثَة أَبْوَاب: 

الْبَاب الأول فِي بَيَان مَذْهَب السَّلف وسلوك سبيلهم.

وَالثَّانِي: فِي الْحَث على اتباعهم وَلُزُوم أَثَرهم.

وَالثَّالِث: فِي بَيَان صَوَاب مَا صَار إليه السَّلف وَأَن الْحق فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ" وبين ذلك بالأدلة الجليلة، والحجج المرضية، من الكتاب والسنة والإجماع.

وقد حاول ابن قدامة أن يُبين منهج السَّلف في الصفات مُستعيناً بنقولات مجملة عن السلف؛ ونهيهم عن الخوض في المتشابه، فذكر قصة صُبيغ مع عمر بن الخطاب، وكلام الإمام الشافعي، وكلام مالك في الاستواء، وغيرهم من الأئمة والعلماء أصحاب الكتب والمصنفات الآمرة بالإمرار والإقرار، وعدم التعرض للكيفية. 

إلى هنا، والحمد لله رب العالمين.