أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 مايو 2020

مختصر الحنين بوضع حديث الأنين


الحنين بوضع حديث الأنين
تأليف الإمام الحافظ أبي الفيض
أحمد بن الصديق الغماري (ت 1382 هـ)
دراسة وتحقيق
أبي الفضل بدر العمراني
طنجة -المغرب
دار الكتب العلمية، بيروت -لبنان، ط 1، 2001 م.

اختصره وعلَّق عليه
أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
غزة -فلسطين.

تمهيد/ هذا جزءٌ حديثيٌّ نافعٌ جمع فيه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله طرق حديث: "دعوه يئن، فإن الأنين اسمٌ من أسماء الله"، وحكم عليه بالوضع، وذلك من خلال المناقشة في الصناعة الحديثية، حيث جمع طرق هذا الحديث، واستوعبها بشواهده ومتابعاته، وتكلم على رجاله ورواته، وبيَّن لاطن بطلان هذا الحديث من وجوهٍ كثيرةٍ،
وابتدأ المحقق بذكر ترجمة الشيخ أحمد الغماري وقد أجاد فيها وأفاد.
ومن ثمَّ ذكر مصادر الشيخ في جزئه هذا، والتي بلغت (30) مرجعاً، وعقب ذلك بتوثيق نسبة الكتاب لمؤلفه من خلال كتبه هو وكتب من ترجم له.
وبعد ذلك أتى على وصف النسخة التي اعتمد عليها في تحقيق الكتاب، وبيَّن عمله في التحقيق، وختم بذكر روايته لهذا الجزء عن ثلاثة من العلماء، عن مؤلفه رحمه الله، فيرويه (إجازةً) عن:

1- العلامة أبو اليُسر جمال الدين عبد العزيز بن الصديق الغماري.
2- العلامة أبو الفتوح عبد الله التليدي.
3- العالم الأديب أبو أويس محمد بوخبزة الحسني.

وقد تضمَّن هذا الكتاب موضوعات عدَّة، نُجملها فيما يلي:
أولاً: بيان السبب الباعث على بيان درجة هذا الحديث.
ثانياً: مناقشة السيوطي في إيراده هذا الحديث الموضوع في "الجامع الصغير"، وإخلاله بشرطه المذكور في خطبة كتابه، وذلك من أربع وجوه.
ثالثاً: الكلام على سند الحديث عند من عزاه إليه السيوطي، وهو الرافعي في "تاريخ قزوين" عن أبي هريرة (وتلكم على وضعه من تسع وجوه)، ثم إتباع ذلك بالكلام على السند الثاني عند الديلمي في "الفردوس" عن عائشة (وبيَّن بطلانه من أربع وجوه) وقد قمتُ (محمد) بتفصيل تلك الأوجه فبلغت ثمانية أوجه.
رابعاً: ثم أثبت في آخر الجزء حيث الذكر بالأنين عن طريق أحاديث لا تخلو طريقٌ منها من راوٍ ضعيف أو مجهول، وجزم بأنها صحيحة، حيث قال بعد إيرادها: "وهذه الأحاديث الصحيحة فيها مدحٌ للتأوُّه، وأنه ذكرٌ لله تعالى.." وهذه كبوةٌ من كبواته، وزلةٌ من زلاته… لا يُسلَّم له بها.. (*).
وعلى فرض صحتها؛ فإن دلالتها على التأوُّه الذي هو الشكاية والدعاء لا على "آه" كما يزعم المتصوفة الذين يستدلون بهذا الحديث المكذوب على مشروعية الذكر بقول: "آه".
وإليك البيان


****



مناقشة الحديث الأول عن عائشة
أولاً: قال عبد الكريم بن محمد الرافعيُّ (ت 623 هـ)
في "تاريخ قزوين"(4/ 72)؛ فقال:
"حدثنا مَحْمُودُ بْنُ خورَامذَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَزْوِينِيِّ،
وَسَمِعَ الْقَاضِي أبا عَبْد اللَّه الحسين بْن إبراهيم بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إبراهيم بْنِ الْحُسَيْنِ الْبُرُوجِرْدِيَّ سَنَةَ خَمْسٍ وخمسين وخمسمائة فِي جُزْءٍ،
سَمِعَ مِنْهُ بِإِجَازَةِ أبي الفتح عبدوس ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ لَهُ،
أَنْبَأَ أَبُو القاسم سعد بْن علي الزنجاني (1)،
أَنْبَأَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعَافِرِيُّ،
أَنْبَأَ أَبُو إِسْحَاقَ بن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حيانَ (2)،
ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم الْمِصْرِيُّ،
ثنا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْقَاضِي بِحِمْصَ،
ثنا يحي بْنُ مَعِينٍ، ثنا إِسْمَاعِيل بْنُ عَيَّاشٍ،
عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ بَهِيَّةَ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم وعندنا عليل يان؛ فَقُلْنَا لَهُ اسْكُتْ فَقَدْ جَاءَ النبي فقال النبي: "دعوه يان فَإِنَّ الأَنِينَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ الْعَلِيلُ".
===========================
قال الحافظ أحمد بن الصديق الغماري: وهذا السند ساقطٌ معلولٌ من وجوه:

الأول: أن بهيَّة مولاة أبي بكر الصديق: مجهولة؛ لأنه لم يأتِ بها إلا أبو عقيل: يحيى بن المتوكل (3)، وهو ضعيفٌ مُنكر الحديث، وهي أيضاً ليست بحجة كما قال ابن عمار الموصلي (4).

الثاني: أن بهية المذكورة لم يروِ عنها ليث بن أبي سُليم، وما روى عنها إلا يحيى بن المتوكل صاحب بهية.
قال سفيان بن عبد الملك: أبو عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهيَّة ضعيف.
وقال أحمد بن أبي يحيى: أحاديثه عن بهيَّة منكرة، وما روى عنها إلا هو، وهو واهي الحديث.
وقال ابن عمار الموصلي: أبو عقيل وبهيَّة ليسا بحجة.
وهذا ما يدلُّك على أن السند مُركَّب مُفتعل، وأن واضعه لم يعرف أن بهيَّة لم يأت بها إلا يحيى بن المتوكل، ولا روى عنها إلا هو، أو عرف ذلك، وأراد أن يرفع جهالتها بوجود رواية ليث بن أبي سليم عنها أيضاً.

الثالث: أن ليث بن أبي سليم (5): ضعيف، وقد حكم كثيرٌ من الحُفَّاظ بوضع أحاديث؛ لأنها من روايته. والحافظ السيوطي حكم بوضع حديث: "من قال أنا عالم فهو جاهل"، وأعله بليث بن أبي سليم رواي هذا الحديث، وإن برَّأه من تعمُّد وضعه لكنه نُسب إليه أنه أخطأ ورفعه، أو أُدخل عليه (6)، على أني أبرئ ساحة ليثٍ من هذا الحديث على ضعفه، وأجزم بأنه ما حدَّث به ولا سمعه قط، وإنما هو مُركَّبٌ عليه، وسيأتي في الوجه الرابع من أوجه الكلام على السند الثاني الدليل القاطع على ذلك.

الرابع: أن إسماعيل بن عياش وإن كان حافظاً؛ فإنه مُضعَّف. قال الحاكم: هو مع جلالته إذا انفرد بحديث لم يُقبل منه لسوء حفظه. وقال ابن حبان: كان إسماعيل من الحفاظ المتقنين في حديثهم، فلما كبر تغيَّر حفظه، فما حفظ في صباه وحداثته أتى به على وجهه، وما حُفظ على الكبر من حديث الغرباء خلط فيه، وادخل الإسناد في الإسناد، وألزق المتن بالمتن وهو لا يعلم، فمن كان هذا نعته حتى صار الخطأ في حديثه يكثر، أخرج عن حدِّ الاحتجاج به. وذكره الفسويُّ في باب "من يرغب عن الرواية عنهم" (7). وقال أبو إسحاق الفزاري: "هو رجلٌ لا يدري ما يخرج من رأسه، وضعفه آخرون" (8(.

الخامس: أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير أهل بلده، وروايته عنهم ضعيفة، قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: هو ثقةٌ فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز؛ فإن كتابه ضاع فخلَّط في حفظه عنهم.
وقال مضر بن محمد الأسدي: إذا حدَّث عن الشاميين؛ فحديثه مستقيم، وإذا حدَّث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شئت.
وقال أبو داود، عن أحمد بن حنبل: ما حدَّث عن مشايخهم فهو مقبول، فأما ما حدَّث عن غيرهم؛ فعنده مناكير.
وقال علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن غير أهل الشام؛ ففيه ضعف.
وهكذا قال أبو حفص الفلاس، ودُحيم، والبخاري، والدولابي، ويعقوب بن سفيان، والجوزجاني، والنسائي، وابن المبارك، وآخرون (9).
وقال ابن عدي: إذا روى عن الحجازيين فلا يخلو من غلط: يصل مرسلاً، ويرفع موقوفاً. وحديثه عن الشاميين إذا روى عن ثقةٍ مستقيم.
ولهذا حكم الحفاظ بوضع أحاديث لكونها من رواية إسماعيل عن غير أهل بلده. وهذا الحديث من روايته عن ليث بن أبي سليم، وهو عراقيٌّ كوفيٌّ، على أنه إن شاء الله تعالى ما رواه ولا حدَّث به، ويؤيد ذلك الوجه السادس.

الوجه السادس: أن الحديث من رواية يحيى بن معين عنه، وهذا ليس من حديث يحيى بن معينٍ جزماً، بل لو رأى يحيى هذا الحديث لضعَّف به راويه دون توقّف؛ إذ أكثر من يضعفه أئمة الجرح والتعديل، إنما هو برواية مثل هذا الحديث الظاهر النكارة.

الوجه السابع: أن محمد بن إبراهيم المصري، وعبد الملك بن حيان، وهبة الله بن علي المعاقري: مجاهيل لا يُعرفون، فالبلاء من أحدهم، فهو الذي ركَّب له هذا الاسناد بعد أن سرق متنه من محمد بن أيوب بن سويد أو من غيره كما سيأتي.

الوجه الثامن: أن عبدوس بن عبد الله بن محمد بن عبدوس الهمذاني، قال فيه الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: لما دخلت همذان كنتُ أسمع أن سنن النسائي يرويها عبدوس عن الحسين بن علي بن سلمة؛ فقصدته فأخرج إليَّ الكتاب والسماع مُلحقٌ فيه بخطه سماعاً طرياً، فامتنعتُ من القراءة عليه، ولهذا أورده الحافظ في اللسان (10)، وإن نقل بعد ذلك عن شيرويه الديلمي أنه قال: كان ثقة صدوقاً متقناً فاضلاً، لكن شيرويه الديلمي لم يكن بالمتقن ولا الضابط الحاذق الماهر، بل هو عندنا ضعيف (11)، وإن لم يَسِمُه بذلك المتقدمون، على أنه قال: كُفَّ بصره، وصُمت أذناه في آخر عمره، وسماع الغرباء منه أصح؛ فلو سُلِّم أنه ثقة -كما يقول الديلمي -فغير بعيد أن يكون أُدخل عليه بعد عماه وكبره.

الوجه التاسع: أن فيه انقطاعاً بين عبدوس وبين الحافظ أبي القاسم الزنجاني؛ فإن الحافظ نقل عن شيرويه الديلمي: أنه توفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة عن خمس وتسعين سنة، فتكون ولادته سنة خمسمائة، وأبو القاسم الزنجاني توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، لكن ما نقله الحافظ مشكلٌ جداً؛ لأن شيرويه الديلمي مؤلف تاريخ همذان وصاحب الفردوس توفي سنة تسع وخمسمائة. فلا يُعقل أن يحكي وفاته سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وزاد أنه قال: وسماع الغرباء منه أصح إلى سنة نيف وثمانين وخمسمائة. قال: ودخلتُ عليه يوماً في سنة وثمانين، وكان لا يرى ولا يسمع، ومات سنة خمس وتسعين وخمسمائة. هكذا كرر الحافظ ذكر الخمسمائة في مواضع، ولعله سبق قلم من أربعمائة، بل هو الواقع جزماً؛ فليس هناك شيرويه آخر مُصنِّف تاريخ همذان متأخر عن هذا المتوفى سنة تسع وخمسمائة، وقد صنف ولده أبو منصور صاحب مسند الفردوس تاريخاً لهمذان أيضاً، ولكن اسمه شهردار وقد توفي أيضاً سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمائة قبل التاريخ الذكور، فلم يبقَ إلا أنه توفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وعليه فلا انقطاع في روايته عن أبي القاسم الزنجاني.

ثم قال (ص 60): "فهذا السند مشتملٌ على ضعفاء ومجاهيل كما ترى -إلا أن الغالب على الظن أنه من تركيب أحد المجاهيل دون من ذُكر من الضعفاء. وإن كان يجوز أن بعضهم دسَّه على عبدوس بعد عماه أيضاً.
والحديث الغريب المنكر مثل هذا إذا رواه مجهولٌ أو مجاهيل؛ فإنه لا ينفكُّ عن وضع أحدهم كما هو معروف لا سيما إذا عُرف مصدر الحديث وأصله كهذا، فإن الأصل فيه أنه من كلام جعفر الصادق، وهو الذي وقعت معه القصة المحكيَّة عن عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سأذكره. فأغار عليه بعض هؤلاء الضعفاء والمجاهيل؛ فركَّب له إسناداً، ورفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قلتُ (محمد): وخلاصة القول أن هذا الحديثُ واهٍ جداً، بل هو موضوعٌ، لا تقوم به حُجَّة، وفي إسناده مجاهيل، وقد تفرَّد به القزويني ولا مُتابع له معتبر، قد ضعَّفه العلامة الألباني في ضعيف الجامع الصغير (2985)، وفي "السلسلة الضعيفة" (3243)، وقال: منكر.

وجاء في هامش "جمع الجوامع" المعروف بـ «الجامع الكبير» (5/ 28): "الحديث في الجامع الصغير برقم 4228، وعزاه للرافعى في تاريخ قزوين عن عائشة، واقتصار المصنف على عزوه للرافعى وحده أمارةٌ لضعفه".

وقال الشيخ أحمد بن عبد العزيز الغماري في كتابه "المداوي" (1775): "وهذا الحديث رواه الرافعي في تاريخ قزوين، والديلمي في مسند الفردوس عن عائشة بإسناد فيه راو كذاب، فهو حديث واهٍ، نازلٌ عن درجة الاحتجاج بالمرة، ولقد غلط العزيزي في شرح الجامع الصغير حيث ادعى أنه حسن لغيره مع أن عمدته في التصحيح والتحسين غالباً- وهو المناوي- ولم يحسنه المناوي أصلاً لا في شرحه الكبير ولا الصغير، ولا حسَّنه الحافظ السيوطي الذي هو عمدتهم جميعاً، وكيف يستطيع أن يحسنه وفي سنده كذابٌ كما ذكرنا".


****
مناقشة الحديث الآخر عن عائشة

وللحديث طريقٌ آخر، أخرجه الديلميُّ في "مسند الفردوس" (5/ 431)،
من طريق الطبراني؛ قال: حدثنا مسعود بن محمد الرملي،
ثنا محمد بن أيوب بن سويد،
ثنا أبي، عن نوفل ابن الفرات،
عن القاسم بن محمد،
عن عائشة مرفوعاً:
"يَا حميراء أما شَعرت أَن الآنين اسْم من أسماء الله تَعَالَى، يستريح بِهِ الْمَرِيض".
===========================
قال الحافظ أحمد بن الصديق الغماري: وهو بهذا السند باطلٌ معلولٌ من وجوه:
الوجه الأول: أن محمد بن أيوب بن سويد الرملي كذابٌ وضّاع (12)، قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا تحلُّ الرواية عنه.
قال أبو زرعة: رأيته قد أدخل في كتب أبيه أشياء موضوعة.
وقال الحاكم وأبو نُعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وقال ابن الجوزي: يروي الموضوعات وضعفه الدارقطني وغيره.
قال الغماري: وأحاديثه شاهدةٌ بكذبه، وذكر ثلاثةً منها، ثم قال (ص 66): "فهذه الأحاديث لا يشكُّ مَن الحديثُ صناعتُه أنها موضوعة كما قال هؤلاء الحفاظ، فحديثُ الأنين الذي تفرَّد به مثلها موضوعٌ أيضاً.

الوجه الثاني: أن والده أيوب بن سويد ضعيفٌ أيضاً (13(.
قال البخاريُّ: يتكلمون فيه. وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال النسائيُّ: ليس بثقة. وقال ابن المبارك: ارم به.
وقال الساجيُّ: ضعيفٌ رامِ به. وكذا قال الآجري عن أبي داود فيه.
وقال الجوزجاني: واهي الحديث، وضعفه أحمد، وابن عدي وجماعة.
قال الذهبيُّ في الميزان (1/ 287- 288): والعجب من ابن حبان إذ ذكره في الثقات (8/ 125)؛ فلم يصنع جيداً، وقال: رديء الحفظ. قلتُ بقية كلام ابن حبان: يخطئ يُتقى حديثه من رواية ابنه محمد بن أيوب عنه، لأن أخبراه إذا سبرت من غير رواية ابنه عنه وجد أكثرها مستقيماً.
وهذا الحديث من رواية ابنه عنه؛ فهو مردودٌ حتى على رأي ابن حبان فيه، على أن الحافظ الذهبي قال عقب كلام ابن حبان: وقد أورد له ابن عدي جملة مناكير من غير رواية ابنه عنه كما زعم ابن حبان عنه.
أي: فتكون التبعة فيها عليه لا على ابنه، وذلك يدلُّ على أنه ضعيفٌ أيضاً.

الوجه الثالث: أن محمد بن أيوب تفرد به عن أبيه، وأبوه تفرد به عن نوفل بن الفرات، وما تفرد به وضَّاعٌ أو مُتَّهمٌ فهو الموضوع؛ فإن تفرَّد بمتنه فهو الموضوع متناً وسنداً، وإن توبع على متنه من وجهٍ آخر رجاله ثقات فهو الموضوع سنداً لا متناً، ما لم يُتابعه ثقةٌ متابعةً تامةً عن شيخة.

فإن قيل: قد توبع محمد بن أيوب وأبوه على هذا الحديث من جهةٍ أخرى كما سبق في الطريق الأول ؟! فالجواب من وجوه:

الأول: أنهما لم يُتابعا عليه من رواية القاسم بن محمد عن عائشة، بل هي من رواية بهيَّة المجهولة عنها (14). والمطلوب هو متابعة الثقة من مثل رواية القاسم بن محمد عنها.

الثاني: أنه كيف لهذا الحديث أن يكون من رواية القاسم بن محمد عن عمته عائشة، ولا يكون عند أحد من كبار أصحابه ومشاهيرهم؛ كالشعبي، وسالم بن عبد الله بن عمر، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي الزناد، وابن أبي مليكة، وسعد بن إبراهيم الزهري، وأمثالهم من الكبار، ويكون عند نوفل بن الفرات وحده -كام يدعيه أيوب بن سويد أو ابنه محمد ؟!

الثالث: أن أحاديث القاسم بن محمد قليلة وكلها متداولة معروفة بين حفاظ أصحابه؛ فتفرد محمد بن سويد وأبيه بروايته عن نوفل، عن القاسم دليلٌ على كذبه، وأن القاسم لم يرو هذا الحديث، ولا سمع به، فضلاً عن أن يكون حدث به.

الرابع: أن المتابعة التي يتقوى بها الحديث وتبرئ المتهم به يجب أن يكون المتابع -بكسر الموحدة -أقوى من المتابع -بفتحها- بأن لا يكون متهماً بكذبٍ ولا سيء الحفظ جداً، فاحش الغلط، فإن كان كذلك فمتابعته لا تُفيد الحديث قوةً أصلاً، بل هي وعدمها سواء؛ لأن الكذابين يسرقون الأحاديث ويركبون لها أسانيد أخرى. وكذلك الصدوق السيء الحفظ الفاحش الغلط، الذي يقلب الأسانيد ويرفع الموقوفات، ويوصل المراسيل، ويسمع الحديث من كذاب؛ فيجعله وهماً عن ثقة. كل هؤلاء لا تكون متابعتهم مفيدةٌ مقويةٌ للحديث، ولا رافعةٌ للتهمة؛ ولهذا توجد أحاديث لها طرق متعددة ومع ذلك حكم الحفاظ بأنها موضوعة من جميع طرقها وهي كثيرة، وذكر لذلك -ثلاثة أمثلة (ص 71 - 76)، وقال: وأمثال هذه كثيرة جداً معروفةٌ في كتب الضعفاء والموضوعات.

والمقصود أن المتابع إذا كان كذاباً أو شديد الضعف؛ فإن متابعته لا تفيد الحديث قوةً. ومتابعة محمد بن سويد من هذا القبيل؛ لأنه وضَّاع كما أن متابعة السند الأول له: لا تُفيده أيضاً؛ لأن فيه مجاهيل وضعفاء.

الوجه الرابع: أن الحديث في الأصول وبيان أسماء الله تعالى؛ فلا يُعقل أن يرويه مثل القاسم بن محمد، وليث بن أبي سليم، وإسماعيل بن عياش، ويحيى بن معين، ثم لا يكون عند كثيرٍ من الحفاظ، ولا يخرجونهم في مصنفاتهم المشهورة، لا سيما المؤلفة في التوحيد والإيمان وبيان أسماء الله وصفاته (15)، وينفرد بإخراجه الديلمي والرافعي اللذين هما من أهل القرن السادس والسابع، وكتابهما من أضعف كتب الحديث، وأجمعها للموضوعات والواهيات.

الوجه الخامس: أن عائشة رضي الله عنها لو حدثت بهذا الحديث، وحدَّث به عنها القاسم بن محمد وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة؛ لاشتهر ذلك بين التابعين وأتباعهم.

الوجه السادس: أن السلف الصالح كرهوا الأنين للمريض، وعدُّوه من الشكوى الوارد ذمها في الحديث، روى أبو نُعيم (5/ 18) عن ليث بن أبي سليم أنه أخبر طلحة بن مصرف في مرضه الذي مات فيه أن طاووساً كان يكره الأنين، قال: فما سمع طلحة يئنُّ حتى مات.
فهذا طاووس من كبار علماء التابعين يكره الأنين للمريض، فلو كان الحديث وارداً عن عائشة والقاسم بن محمد لبَعُد جداً أن يصل مثل طاووس المعاصر للقاسم. [قلتُ (محمد): وروى ابن أبي شيبة (35412) عن طاووس اليمانيّ: "أن أنين المريض شكوى"، وأنه: "كان يكره الأنين"].

كذلك فإن الراوي لهذا الأثر عن طاووس، هو: ليث بن أبي سليم الذي نسب إليه رواية حديث بهيَّة عن عائشة: فلو كان عنده هذا الحديث المرفوع لما استجاز أن يتركه، وفيه توسعةٌ وتنفيسٌ على طلحة بن مصرف، والذي فيه ضيقٌ وتشديد بل عذا لا يكاد يعقل فهو من القواطع على وضع الحديث، وكذب رواته عن ليث بن أبي سليم الذي ما سمعه ولا حدَّث به قط.

الوجه السابع: أنه ورد عن السلف ما يُنافي هذه الرواية، وهو:
ما رواه الدينوري في "المجالسة" (2/ 252- ت: مشهور) عن الثوري، قال: ما أصاب إبليس من أيوب صلى الله عليه وسلم إلا أنينٌ في مرضه.
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، قال بلغني عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى بالله عز وجل، قال عبد الله: فلما مرض أبي واشتدَّ مرضه ما أنَّ حتى مات.
قال الغماري (ص 79): "وقد كان أحمد بن حنبل رفيق يحيى بن معين في الرواية والسماع، وكانا يتذاكران الحديث، حتى قال يحيى: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث. فقيل له وما أدراك بذاك ؟ قال: ذاكرته فيها؛ فكيف يروي يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش عن ليث عن بهيَّة عن عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الأنين اسمٌ من أسماء الله تعالى ، ولا يكون عند قرينه أحمد بن حنبل ؟ ولو كان عنده لما عمل بأثر طاووس في كراهة الأنين، وترك المرفوع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".

وروى القاضي أبو بكر بن العربي المعافريُّ المالكي في كتابه "سراج المريدين" (ص 131) عن مالك بن أنس في قوله تعال: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد}، قال: يُكتب عليه كل شيء حتى الأنين في مرضه (16)؛ فلو كان القاسم حدَّث بحديث الأنين من أسماء الله تعالى لما خفي على مالك؛ فإن أحاديث علماء المدينة وآثارهم لا سيما الفقهاء السبعة كلها انتهت إلى مالك؛ لأنه مع إمامته وحفظه كان متتبعاً لجميع أحاديث أهل الحجاز والمدينة وآثارهم؛ ومنها آثار القاسم بن محمد، ولو وصل إليه ذلك الحديث عن عائشة لما فسَّر الآية بما ذكر.

فكل هذا يؤيد كذب الرواة في روياتهم الحديث من طريق يحيى بن معين وليث بن أبي سليم، والقاسم بن محمد.
[قلتُ (محمد): وقال جمعٌ من الشافعية منهم أبو الطيب، وابن الصباغ: "أنين المريض وتأوهه مكروه".
ونقل السخاوي في "الأجوبة المرضية" (1/ 297) أن جماعةً من السلف كانوا يجعلون مكان الأنين ذكراً لله تعالى، واستغفاراً وتعبداً.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (22/ 134): "قال مالك: الأنين أكرهه للصحيح، وقال الثوري: أكره الأنين للصحيح"].

الوجه الثامن: أنه إذا قيل: قد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنين المريض تسبيح"، وهو يُخالف كراهة هؤلاء الأئمة للأنين، وعدُّه من الشكوى المذمومة.

قلنا (في الجواب على ذلك): لو صحَّ هذا الحديث لكان من الدلائل أيضاً على بطلان حديث الباب: أنه اسمٌ من أسماء الله تعالى، وبونٌ كبيرٌ بين الاسم والتسبيح، الذي هو مصدر بمعنى التنزيه، لكنه حديثٌ باطلٌ موضوعٌ أيضاً، ومن تمامه يظهر بطلانه.
وقد أخرج الخطيب بإسناده في "تاريخه" (2/ 188) عن أبي هريرة مرفوعاً: "أنين المريض تسبيح، وصِياحه تهليل، ونفَسه صدقة، ونومه على الفراش عبادة، وتقلُّبه من جنب إلى جنب كأنما يقاتل العدوَّ في سبيل الله، يقول الله لملائكته: اكتبوا لعبدي أحسنَ ما كان يعمل في صحته؛ فإذا قام ثمَّ مشى كان كمَنْ لا ذنب له". قال الخطيب: أبو شعيب ومن فوقه كلهم معروفون بالثقة إلا الحسين بن أحمد البلخي؛ فإنه مجهول، أي: وهو المتهم به كما قال الحافظان العراقي وابن حجر في "تسديد القوس في مختصر مسند الفردوس" (17).
وأخرج أبو نُعيم بإسناده في "تاريخ أصبهان" (1/ 277)، عن علي عليه السلام مرفوعاً: "يكتب أنين المريض؛ فإن كان صابراً كان أنينه حسنات، وإن كان أنينه جزعاً كتب هلوعاً لا أجر له".
فهذا يُفيد أن الأنين ليس بتسبيح، ولا اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ إذ كلٌّ من التسبيح وأسماء الله تعالى لا يكون إلا حسناً فيه أجرٌ وثواب، ولكن الحديث ساقطٌ؛ فإن فيه القاسم بن بهرام، وهو كذاب كما قال ابن عدي، ووهاه ابن حبان، وقال: لا يجوز الاحتجاج به بحال. وقال الذهبي: له عجائب، وقال الحافظ: إنه يفتعل الأحاديث )18(.

قال الحافظ الغماري (ص 84 -86): "فهذه ثلاثة أحاديث في الأنين كلها متناقضة متعارضة، لا يوافق واحدٌ منها الآخر، وذلك من أقطع القواطع على بطلانها، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل منها شيئاً، وأنها من اختلاق الكذابين ووضعهم، إلا أن الموضوع من حديث الباب هو سنده ورفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أما متنه فهو من كلام جعفر الصادق عليه السلام".
كما أنبأنا به شرف الدين عبد الحسين بن يوسف الكاظمي؟ العاملي -الفقيه الإمامي، المولود سنة 1290 هـ بجبل عامل، وتوفي بها، فيما كتب إليَّ به من صور -بلبنان- بإسناده من طريق الحسن بن محمد أبو جعفر القمي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد العلوي، ثنا محمد بن همام، عن علي بن الحسين، قال: حدثني جعفر بن يحيى الخزاعي، عن أبي إسحاق الخزاعي، عن أبيه، قال: دخلتُ مع أبي عبد الله -يعني جعفر الصادق عليه السلام -على بعض مواليه يعوده، فرأيتُ الرجل يُكثر من قول (آه)؛ فقلتُ له: أخي اذكر ربك واستغث به؛ فقال أبو عبد الله الصادق: إن آه اسمٌ من أسماء الله تبارك وتعالى، فمن قال آه، فقد استغاث بالله عز وجل.
فهذا هو أصل الحديث: سرقه الضعفاء، وركبوا له الإسناد إلى عائشة رضي الله عنها مرفوعاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث لا يصلح شاهداً لحديث عائشة؛ لأن رجاله فيهم من متهم بالكذب، والسرقة والوضع (19).

وقال أحمد بن الصديق الغماري في كتابه "المداوي" (1775): "الحديث موضوع، فيه: محمد بن أيوب بن سويد، قال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به، يروي عن أبي الأشياء الموضوعة، وكان أبو زرعة يقول: رأيته أدخل في كتب أبيه أشياء موضوعة بخط طري، وكان يحدث بها فالحديث موضوع، وأما قول العزيزيُّ في "السراج المنير" (3/ 156) عند إيراد السيوطي هذا الحديث: "قال الشيخ حديث حسن لغيره"، فهذا لا معنى له؛ لأن شيخ العزيزي هو محمد حجازي الشعراني لا ذكر له، ولا للعزيزي في طبقات المحدثين فضلاً عن الحفاظ، إذ التصحيح والتحسين من شأن الحافظ كما هو معلوم عند أهل الحديث" .

وقال المناوي في "الفيض" (4211): "لم يرد أن ذلك في أسمائه الحسنى، لكن هذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن وأسماؤه تعالى توقيفية".

الخلاصة: أن هذا الحديث موضوع لا يثبت، وتحرم روايته والعمل به، قلتُ (محمد) وقد ذيلتُ هذا الكلام بكلام الأئمة الحفاظ على هذا الحديث في الجملة، وبيَّنت بعض الأمور الهامَّة (**).


اختصره: أ. محمد حنونة.
_____________________________

(*)  هذا القول يُدافعه النقد الحديثي الذي أثبت ضعف تلك الأحاديث، خصوصاً الحديثين الأخيرين اللذين فصّلا معنى التأوُّه بالأنين، وكذلك جاء تفسير الصحابة والتابعين للتأوه أنه رفع الصوت بالذكر ولادعاء، مثل الحديث الذي ذكره للحكام في المستدرك (1/ 386)، ولذلك قال ابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 47) بعد سرد ما قيل في معنى أواه: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زر أنه: "الدعاء". قال: "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، فأمره بترك الدعاء والاستغفار له، فقال: إن إبراهيم لدعاء ربه شاكٍ له حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه.
 (1) والحافظ الزنجاني: يروي هذا الحديث بسنده في فوائده، انظر المنتقى من فوائد الحافظ الزنجاني (ص 4).
 (2) وفي تاريخ قزوين "أبو إسحاق عبد الملك بن حبان" بالموحدة.
 (3) قال أحمد بن حنبل في يحيى بن المتوكل: أحاديث عن عائشة منكرة، وقال النسائي: ضعيف. انظر الكامل في الضعفاء لابن عدي (7/ 2663)، وتاريخ بغداد (1/ 108)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (11/ 270).
 (4) انظر: تهذيب التهذيب (12/ 405)، وأبو عمار الموصلي أحد كبار الحفاظ الثقات، وثقه النسائي ويعقوب بن سفيان، وصالح بن محمد، ولد سنة 162 هـ، وتوفي سنة 242 هـ.
(5)  ليث بن أبي سليم: كوفي، روى عن طاووس، ومجاهد، وعكرمة، ونافع، قال ابن أبي حاتم، قال أبي: ضعيف، وضعفه يحيى بن معين إلا أنه يكتب حديثه، كما ضعفه ابن أبي عيينة، وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث، انظر: الكامل لابن عدي (6/ 2105)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (8/ 466)، والجرح والتعديل (7/ 177- 179).
 (6) رجح الحافظ السيوطي أنه أُدخل عليه. انظر: الحاوي)2/ 48(.
 (7) انظر: المعرفة والتاريخ (3/ 46) للفسوي، وجاء فيه: "ضرب عبد الرحمن بن مهدي على حديث إسماعيل بن عياش، وعلى حديث المبارك بن فضالة".
(8)  انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 191 -192)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 240 -244)، والكامل لابن عدي (1/ 288)، والضعفاء للعقيلي (1/ 188)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 280).
 (9) انظر: الضعفاء للعقيلي (1/ 88)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 191)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 240)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 280)، والكامل لابن عدي) 1/ 288(.
(10)  انظر: لسان الميزان (4/ 95).
(11)  هذا الكلام فيه نظر، أعني جرح الديلمي صاحب "الفردوس".
 (12) انظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/ 201)، والمجروحين لابن حبان (2/ 299)، والمجموع في الضعفاء والمتروكين (370)، وميزان الاعتدال (3/ 484)، ولسان الميزان )5/ 99).
 (13) انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 249 -250)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 287 -288)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 354 -355)، والضعفاء لابن عدي) 1/ 320(.
 (14) رواية بهية عن عائشة، وعنها أبو عقيل يحيى بن المتوكل. قال الأزدي: لا يقوم حديثه، ومما ورد بهذا السند حديث: "الوالدان"، وفيه: "لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار"، وقال الجوزجاني: سألت عنها -أي بهيَّة -كي أعرفها فأعياني. انظر: ميزان الاعتدال) 1/ 356(.
(15)  مثل: كتاب التوحيد للبخاري، وكتاب الإيمان لابن أبي شيبة، والتوحيد لابن منده، وابن خزيمة، وكتاب أخبار الصفات للبخاري، والأسماء والصفات للبيهقي.
(16)  ذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه للخطيب في "رواة مالك بن أنس"، وابن عساكر (7/ 596).
(17)  وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 865)، والذهبي في تلخيص العلل المتناهية (322)، وفيه حسين بن محمد البلخي: مجهول، وهو الآفة.
 (18) انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (7/ 2749)، والمجروحين لابن حبان (2/ 214)، وميزان الاعتدال (3/ 369)، ولسان الميزان) 4/ 458 -459(.
(19)  أولهم شيخ المؤلف الغماري شرف الدين الكاظمي الذي فضح كذبه وتقوله على أئمة السنة، ومثل: هبة الله بن المبارك بن موسى السقطي، قال الذهبي: ضعيفٌ قليل في الإتقان، وفي السند مجاهيل، مثل: جعفر بن يحيى الخزاعي، وأبو إسحاق الخزاعي، وأبوه، والذي قال المحقق: أعياني البحث عنهم في كتب التراجم التي تيسر لي الرجوع إليها، فلم أقف عليهم. انظر: ميزان الاعتدال (4/ 292)، ولسان الميزان (6/ 189 -190). والسلسلة الضعيفة للألباني (4923 -4932).
(**)  كلام الحُفّأظ على هذا الحديث قديماً وحديثاً.
وقد تكلم على هذا الحديث قديماً وحديثاً جمعٌ من العلماء والمحدثين، منهم:

1- السيوطي، حيث أورده في الجامع الصغير (4228)، وقال: "رواه الرافعي في تاريخ قزوين، عن عائشة"، ولم يذكر درجته.

2- المناوي، حيث قال في "فيض القدير" (3/ 533): "لم يرد أن (آه) من أسمائه تعالى، لا في حديث صحيح ولا حسن وأسماؤه تعالى توقيفية.. رواه (الرافعي) إمام الدين في تاريخ قزوين (عن عائشة) قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا عليل يئن؛ فقلنا له: اسكت. فذكره".

3- العزيزي، حيث قال في "السراج المنير" (2/ 287): "هذا لفظٌ تداوله الصُّوفية، ويذكرون له أسراراً، ولم يرد به توقيف من حيث الظاهر... وذكره (الرافعيُّ) في تاريخ قزوين (عن عائشة). قال الشيخ (يعني السيوطي!): حديث حسن لغيره".

4- الحفني، حيث قال في حاشيته على "السراج المنير" (2/ 287): "وآه لم يرد أنه من أسمائه تعالى ..".

5- ابن عجيبة، قال في حاشيته على "الجامع الصغير" (ص 212): بعدما ذكر كلام المُناوي: "ما يستعمله الصوفية هو الانتقال من الاسم المفرد إلى هو، ثم ينتقل الذكر إلى الصدر، فلا يُسمع إلا: آه، آه… يطلعونه على ذات الحق…".

6- أحمد بن الصديق الغماري، قال في كتابه "المداوي" (4/ 36): "أخرجه أيضًاً الديلمي من طريق الطبراني، وفيه محمد بن أيوب بن سويد الرملي وهو متهمٌ بوضع الحديث" اهـ، وأفرد له رسالة مستقلة في بيان وضعه. وقد أخرج هذا الحديث الديلميُّ في "الفردوس" (5/ 431) حدثنا مسعود بن محمد الرملى، ثنا محمد بن أيوب بن سويد، ثنا أبي، عن نوفل ابن الفرات، عن القاسم عن عائشة مرفوعاً: "يَا حميراء أما شَعرت أَن الآنين اسْم من اسماء الله تَعَالَى يستريح بِهِ الْمَرِيض". ومحمد بن أيوب بن سويد، قال ابن حبان: لا تحلُّ الرواية عنه ولا الاحتجاج به، يروي عن أبي الأشياء الموضوعة. وكان أبو زرعة يقول: رأيته أدخل في كتب أبيه أشياء موضوعة بخط طري، وكان يحدث بها؛ فالحديث موضوع".

7- عبد الله بن الصديق الغماري في مقال "الأحاديث الضعيفة في رمضان"، وذلك في "مجلة الإسلام" (العدد 35/ ص 12): "وهذا الحديث رواه الرافعيُّ في تاريخ قزوين، والديلميُّ في مسند الفردوس عن عائشة من إسنادٍ فيه راوٍ كذاب، فهو حديثٌ واهٍ، نازلٍ عن درجة الاحتجاج بالمرة، ولقد غلط العزيزيُّ في (شرح الجامع الصغير) حيثُ ادَّعى أنه حسنٌ لغيره، مع أنه عمدته في التصحيح والتحسين غالباً- وهو المناوي -ولم يحسنه أصلاً لا في شرحه الكبير ولا الصغير، ولا حسَّنه الحافظ السيوطي الذي هو عمدتهم جميعاً، وكيف يستطيع أن يحسنه وفي سنده كذابٌ كما ذكرنا ؟".

8- الألباني، قال في كتابه "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" (ص 237): "دعوه يئن.. حديثٌ ضعيف".
بالإضافة إلى هؤلاء تكلم بعض الشاذليين وهو عبد الرحمن خليفة الذي قال جهلاً وزوراً على صفحات مجلة الإسلام (العدد 33) مُدعياً بأن الحديث مرويٌّ في البخاري ومسلم ومستدرك الحاكم؛ فتصدى له الأستاذ زهران بالرد والنقد كاشفا زيفه وبهتانه
قلتُ (محمد حنُّونة): هذا وينبغي التنبيه إلى أن طبعة الزاوية العلاوية في بلدنا في العام 2010 م، لكتاب "القول المعتمد" المنسوب إلى أحمد العلاوي، والمنشور على الموقع الرسمي، وقع فيها عزوٌ باطلٌ لحديث الرافعي، عن عائشة: "ذروه يئن، فإنه يذكر اسماً من أسماء الله تعالى" فقاموا بعزو هذ الحديث إلى البخاريِّ ومسلم والترمذي عن ابي هريرة، وذلك في الصحيفة رقم (16 -17) وهذا يدلُّ على التدليس والدَّس الذي قام أبناء هذه الزاوية، أو على جهلهم المركب وعدم خبرتهم في توثيق الأحاديث أو تخريجها، حيث قاموا بعزو حديث بهذه الطريقة المضللة، مع العلم أن كتاب العلاوي المطبوع بمستغانم ليس فيها هذا العزو الباطل، فبقي أن هذا دسٌّ وتدليس وكذب..
وقد عزاه المتقي الهندي في كنز العمال (25200) إلى الرافعي عن عائشة، وإلى (6707) الديلمي عن عائشة، وليس فيه ذكر أبي هريرة، ولا يوجد من عزاه للصحيحين، ولا للترمذيِّ أصلاً.


السبت، 12 نوفمبر 2016

ترجمة موجزة للمفكر الشهيد سيِّد قطب -رحمه الله-



ترجمة موجزة للمفكر الشهيد سيِّد قطب -رحمه الله-
إعداد الأستاذ: محمد حنونة
    هو المفكر الرائد، والداعية المجاهد، والإمام الشهيد سيد قطب إبراهيم حسين الشــــــــاذلي، ولــــــد في قرية "مـــــــــوشة" إحــــــــدى قرى محـــــافظة "أسيــــوط"، وذلك في التــــاسع من أكتـــــــوبر سنــــة (1906م)([1])، ونشأ "سيِّد" في أسرة مــــــلتـــــزمـــــــة لأبـــــــــوين صــــــــــــــالحــــــــــــــــين، وَرَبِيَ على معاني الطهر والعفاف والصلاح، وأقبل "سيِّد" على حفظ كتاب الله تعالى في سنِّ الثامنة، وأتمَّ حفظه كاملاً بعد ثلاثِ سنينَ، وكان آيةً في الحفظ والإتقان([2]).
ومن أبرز السمات التي تمتع بها "سيِّد"، وساهمت في إثراء شخصيته الإسلامية المتميِّزة: "المثابرة، والنشاط، والعمل الدؤوب، مع تمتعه بذاكرة قويَّة، وغيرته الشديدة على دينه، والصبر على المحن والابتلاءات، والرضا بقضاء الله وقدره"([3]).
التحق "سيِّد" بكلية دار العلوم عام (1929م)، وتخرج منها عام (1933م) يحمل شهادة البكالوريا في الآداب([4])، وعمل بعد تخرُّجه  مدرساً في وزارة المعارف لمدة ست سنوات، ثم عمل مراقباً للثقافة في الوزارة([5])، وكان بإمكانه أن يصل إلى أعلى المناصب في الدولة المصريَّة بعد الثورة؛ لولا اختلافه مع الضباط الأحرار على أهداف الثورة، والذي كان يدعو إلى ضرورة تطبيق المنهج الإسلامي الأصيل، وتحكيم مبادئ الشريعة السمحاء، وقد فتح "سيِّد" على نفسه أبواباً لم يكن ليصمد أمامها غيره، جرَّاء اعتناقه لهذه الفكرة، ودعوته إليها.
ثُمَّ توالت العروض السَّخيَّة على "سيِّد" ليتراجع عن فكرته الكبيرة في إعادة الأُمَّة إلى مجدها ودينها وشريعتها؛ فعرضوا عليه وزارة التربية ولكنه رفض([6])، وكانت النتائج غير محمودةٍ طبعاً، فخسر دونها حياته، وكما أقول دائماً: إنَّ الفكرة الصحيحة لا يمكن أن تخسر المعركة، وشاهد ذلك في الواقع كثير، والتجارب خير شاهد!.
 وقد تأثر "سيِّد" بالعديد من الشخصيات البارزة، والتي لازمها أحياناً، وتبنِّى أفكارها تارةً، بل وسار في ركبها أحياناً أخرى، ومن هؤلاء: عبَّاس العقاد، والشهيد المؤسس الإمام حسن البنَّا([7]).
ويعتبر "سيِّد" من الأدباء البارعين، والمفكرين المبدعين؛ فبرز في بدايات الدعوة كَمُنَظِّرٍ إسلاميٍّ للجماعة الإسلامية، وحارساً أميناً للدولة المسلمة، وذلك منذ العام (1953م)، عندما انتمى لجماعة "الإخوان المسلمين"، وأجرى في هذه الفترة دراسات متعمِّقة، أعاد من خلالها صياغة المنهج الإسلاميِّ الأصيل، وألَّف في ذلك كتباً متميِّزة، والتي دعا من خلالها إلى محاربة الجاهلية المعاصرة، وتعريتها من ردائها المُزيَّف، وإظهار حقيقة الشرك والكفر الكامن فيها، ودعا إلى إعادة صياغة الإنسان المسلم إنطلاقاً من مبادئ الديِّن وقواعده، وسيراً على منظومة القيم والأخلاق الحميدة([8]).
وترقَّى "سيِّد" في مسيرته العلميَّة حتَّى أصبح الموجِّه الفكري والتربوي لجماعة "الإخوان المسلمين"([9])، وعلى إثر انتمائه الصَّادق لهذه الجماعة المباركة، كان لا بُدَّ لـــ"سيِّد" من دفع ضريبة انتمائه للجماعة المسلمة، فتلقَّى "سيِّد" مع إخوانه ضربات مفجعة، أفصحت عنها محكمة الثورة التي حكمت عليه بالسجن خمسة عشر عاماً، قضاها في الضرب والتنكيل والتعذيب، وتحت وطأةِ الأمراض الشديدة، والأوبئة المعدية، ثُم أفرج عنه عام (1964م) بعفوٍ صحيّ، بعدما فقدوا الأمل في بقائه، وقرروا أنه لم يبقَ في حياته إلا القليل، وبعد شهور قلائل أُعيد إلى السجن بتهمة "محاولة قلب النظام" وذلك سنة (1965م)، ثُمَّ نُفِّذ فيه حكم الإعدام في التاسع والعشرين من أغطسطس سنة (1966م)([10])، فمضى "سيِّدٌ" شهيداً، يُسطِّر بعقيدته الثابتة وروحه الثائرة، أسمى معاني التضحية والفداء من أجل الدين والوطن والإنسان، ومن أجل الكلمة والفكرة والعقيدة والمبدأ، ففارق الدُّنيا متوشِّحاً بأجمل أثواب العزَّة والكرامة، مسطراً أسمى صور البطولة والتضحية، ساخراً من أعدائه وجلاديه، وثائراً على الحكام الظلمة والقُضاة الغاشمين، ولم يكن لأولئك النفر أن ينالوا من فكرة تمخضت في عقله، ونضجت في قلبه، فأثمرت هذا الكيان الإسلامي الكبير والممتد في أنحاء العالم، فترك خلفة ثروةً عظيمة من حملة الرسالة، وقادة الدعوة، بالإضافة إلى الأتباع والأشياع الكثر للجماعة المسلمة، فكانوا بحقّ رجالاً حملوا هموم الدين، ونشروا رسالة الأمة والإنسان.
 إن "سيِّداً" قلماً ينبع بالعلم والحكمة، ويتدفق بالإيمان والصبر والعطاء، رحل "سيِّد" وقد نقل الرسالة كاملةً لمن بعده من أرباب التربية، وروَّاد السلوك والتزكية، فعبَّر عن روح الإسلام بأسلوبٍ دقيق ينُبِي عن صحة المذهب الذي تدفق في قلبه قبل أن يطرقه بالبيان، وهذا يشير إلى وضوح المفاهيم لديه، ودقَّة التصورات، وتنوع الأفكار عنده.
إنَّ "سيِّد" هو الثمرة الناضجة للفكر المستنير الذي بذر نواته الإمام الشهيد "حسن البنَّا"، حتى بلغت آثاره كل منزل، فزرع في كُلِّ بيتٍ كتاباً تستنير به العقول، ومنهاجاً تهتدي إليه النفوس.
ولــــ"سيِّد" مؤلفات كثيرة نافعة، بلغت نيفاً وثلاثين مؤلفاً، وضاع أكثرها، واتلف كثيرٌ منها في محنته الأولى والثانية مع الظالمين([11]).
ولم يكن "سيِّدٌ" ليكفِّر النَّاس، أو يخرجهم من دينهم كما زعم ذلك الأفاكون المفترون من المغرضين، والصوفيَّة الجاهلون([12]) الذين رموه بقوله: "هذا فقيه العنف!"، وليس ذلك إلا لأنهم لم يفهموا من الإسلام ما يؤهلهم لهذا الحكم الظالم على إمام وعالم كـــ "سيِّد"، وكيف يُكفِّر الناس، وشعاره المرفوع دائماً: "نحن دعاةٌ ولسنا قضاة"، وشعاره الآخر: "إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريف الناس بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون منها إلا لفظها، وغاب عنهم مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شرع الله"([13])، ومن مؤلفاته الغزيرة والكثيرة:
      1. مهمة الشاعر في الحياة.
      2. التصوير الفنِّ في القرآن الكريم.
      3. العدالة الإجتماعية في الإسلام.
      4.معركة الإسلام مع الإلحاد.
      5. في ظلال القرآن.
      6. معالم في الطريق.
      7. هذا الدين.
      8. المستقبل للإسلام.
      9. خصائص التصور الإسلامي ومقوماته.
ثانياً_ في ظلال الظِّلال:
    إن تفسير "سيِّد" للقرآن الكريم، غير مسبوقٍ، وغير ملحوق، فقد جاء بما لم يخطر للمفسرين على بال، وتبنَّى مدرسةً جديدة في التفسير وهي: "التفسير الحركي للقرآن الكريم"، والتي تضع المسلم في معترك الحياة، وتعالج قضاياه الإجتماعية والفكرية والروحية؛ فيحيا المسلمُ حياةً روحيَّةً شجيَّة، وحياة عقلية مستنيرة([14])، ونجد ذلك في مثل قوله: "الإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزءٍ منه كإنكار الكل"([15])، وقوله: "لا عبرة بكلماتٍ تكذبها الأفعال"([16]).
وقبل أن يَخُطَّ "سيدٌ" الظلال، كان قد بلغ الذروة في البلاغة والأدب، وقد قضى من عمره خمسةً وعشرين عاماً مع كتاب الله عزَّ وجل، يصحب صحبةً واعية، ويجول في جنبات الحقائق الموضوعيَّة لهذا الكتاب، في شتَّى حقول المعرفة الإنسانية.
        إنَّه القرآن الذي عاش "سيِّدٌ" في رحابه، وتماهى به، فكتب ما لم تكتبه يدٌ من قبلُ، فانبرى يُبيِّنُ الحق، ويُظهر جنباته، بالإضافة إلى دوره في ترسيخ معاني الإيمان بالله وباليوم الآخر، واسهامه في تربية الإنسان على امتثال الأوامر الإلهيَّة، واجتناب الحرام، وكُلُّ ذلك انطلاقاً من العقيدة الإسلاميَّة التي تُعدُّ أصل الحياة الكبير، والمحرك الأول للخير الكامن في الفِطَر السويَّة، والضمائر الحيَّة.
        ولم يُغفل "سيِّد" مشاعر الإنسان، فنحا إلى مخاطبة الفطرة، وإزالة الستار الثخين عن صفحة القلوب؛ لأن مخاطبة القلوب هي الدافع الأول إلى الحركة الإيجابية المثمرة في بناء الإنسان المبدع، وصنع الحياة الكريمة([17]).
إنَّ الظلال كتابٌ جليل، فيه صفاء اللغة، وجمال الأسلوب، وروعة المعاني، وكثافة الأفكار، وعمق التفكير، إلى جانب الصدق، والإخلاص، والشفافية الروحية([18])، ومَن يقرأ الظلال يعرف معنى كلمة "القرآن دستورنا"([19]).
   ويمكن إجمال أهم الأهداف التربوية للمسلم المعاصر، والتي من أبرزها:
1. التركيز على الجانب العملي لمعاني القرآن الكريم، وامتثالها فعلاً وتطبيقاً، مما يقود إلى حركة مستمرة في سلوك الأفراد، وتغيير حقيقي في سلوك المجتمع، أما دراسة القرآن لمجرد الثقافة والمعرفة والمتعة فهو تضييعٌ للجهد والوقت والعمر.
2. بيان طبيعة الإيمان، وحقيقته، وقيمته، ومقوماته، وآثاره الكبيرة في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وهذا الهدف جعل "سيِّد" يوقن أن هذا الوجود ليس فلتةً عابرةً، ولا مصادفة غير مقصودة([20])، ومع ذلك فقد رأى "سيِّد" أن البشريَّة تتخبط في غياهب المادة، وتنحرف عن سنن الكون والفطرة، حتَّى قال في نفسه: "أيُّ شيطانٍ يقود خطام هذه الجموع، ويقوده إلى الجحيم؟!، يا حسرةً على العباد!"، وأدرك أنَّ صلاح الأرض منوطٌ بالعودة الصادقة إلى الله، ودعا "سيِّد" إلى "العزلة الشعوريَّة" لا الحسيَّة، واعتبر أن العزلة الشعوريَّة ضرورية وتلقائية في المسلم الملتزم، خاصَّةً تجاه أولئك الذين لا يلتزمون بأوامر الإسلام([21]).
3. التعريف بالأسس القويمة التي يقوم عليه المجنمع المتماسك والملتزم، ورسم الطرق الدفاعية والجهادية ضد كل من يعبث بقيم المجتمع ومبادئه وأخلاقه([22]).
        وخلاصة الفكر الذي جاء به "سيِّد" ينصبُّ في إعادة الإسلام إلى قيادة الإنسان، وبيان المنهج الربَّانيّ الأصيل ومصادره وأهدافه، وطرق بناء الإنسان الصالح الذي يحمل تصورات صحيحة عن الوجود والقيم والحياة، والنهضة بمقام الخلافة وواجب التكليف من خلال الوعي الشامل، والإدراك العميق، والعمل الدؤوب، والإبداع المادي، والإشباع المعنوي والروحيَّ([23])، ويظهر أثر هذه التصورات كما يرى "سيِّد" في تقوى الضمير، ونظافة الشعور، وعلوِّ الهمَّة، والرفعة في الأخلاق، والسموُّ في السلوك([24]).
        ومن أهم القضايا التي أثارها "سيِّد"، وتعتبر جزءاً أصيلاً من أساليب التغيير الشامل في هذه الدعوة المباركة:
        أولاً_ الاهتمام بالعنصر العقائدي والتكوين الإيماني للفرد المسلم، باعتبار أن العقيدة هي أعلى القيم الإنسانية، وهي أصل الحياة الكبير، والمحرك الأول للإنسان نحو الخير، وأن من يفقدها فلا ينتفع بشئ، ولا ينتفع به شئ([25]).
        ثانياً_ النظرة الواقعية للإنسان، باعتباره مُركَّباً من مادتي العقل والشهوة، مع ما فيه من النفخة الربانية، والفطرة الإلهيَّة، فإذا تداعت الأهواء، وطغت الشهوة، وتعطل داعي العقل، كان إلى الإنحراف والشرِّ أقرب، وإذا توافرت أسباب الخير، وغلب داعي العقل، فإنه يجنح إلى الخير والاستقامة.
        ثالثاً_ التفريق بين عمليتي الضبط والكبت، بإعتبار الأولى عملية ضارة، والثانية عملية واعية، فالضبط هو تنظيم المشاعر والحاجات والدوافع في ضوء القدر المُصرَّح به منها، بخلاف الكبت الذي يقضي عليها في منابتها، مما يولد الإنفجار إما إلى التفلت الغير واعي، أو التشدُّد الغير مسؤول.
         رابعاً_التدرج في المنهج التربوي، ومراعاة التيسير ورفع الحرج، وتهيئة الظروف المواتية للطاعة والتنفيذ، وذلك فيما يتعلق بالأوامر والنواهي، وأما ما يتعلق بالجانب العقدي فإن الإسلام يقضي فيها قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى.
        خامساً_  ترسيخ الجانب القيمي والأخلاقي، بحيث تكون الموجه الأوَّل لسلوك الفرد داخل المجتمع، وتنمية الوازع الداخلي "الضمير" الذي يضبط التصرفات عندما تطغى المطامع، ويشتاط العقل، وتنعدم الرؤية، وحفاظاً على ثقافة الأمَّة في ظل الخطر الكبير الذي يحدق بها إقليمياً وعالمياً، والوقوف أمام حملات الغزو الفكري والثقافي، ومحاولات التغريب، والتضليل، وتصدياً لعمليات التحليل والتركيب والتمييع الجارية في ميدان القيم.
سادساً_ الإهتمام البالغ بالأسرة المسلمة، باعتبارها العنصر الحيوي في تكوين الأفراد، والحصن المنيع الذي يلبي حاجات المجتمع، بالإضافة إلى دورها الريادي في تربية الجيل الإسلاميِّ الفريد.
        سابعاً_ ضرورة وجود الجماعة المسلمة، التي تسعى في إقامة شرع الله وقيادة البشرية، وكونها مسؤولة عن تربية الفرد المسلم، ورعاية الأسرة المسلمة، وحمايتها.
        ثامناً_ الدعوة إلى التأمل الواعي في آيات الله الكونية والشرعية، بما ينسجم مع أهداف الدعوة، ويتواءم مع أساليبها، ويحقق أغراضها المقصودة.
        تاسعاً_ الممارسة العملية للأنشطة الحركية المثمرة والواعية، والتجربة المباشرة لطرق وأساليب الدعوة مع القاعدة الجماهيرية، سواء بالأساليب المباشرة، أو بالأساليب غير المباشرة.
        عاشراً_ الانفتاح على خبرات الآخرين النافعة، والاستفادة منها في إحداث نظام تربوي شامل وكامل، ينسج مع أساليب العصر، ويثري الدعوة ومناهجها.
        حادي عشر_ عدم إغفال وسيلة القتال، كنوع من أنواع الجهاد المشروع، في سبيل حماية الدعوة، والوقوف بجانبها وإسنادها، واستبعاد كل عناصر التشويش، ومحاولات القضاء عليها من الداخل أو الخارج.




([1]) سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، صلاح الدين الخالدي، دار القلم- دمشق، صفحة رقم: 15-55.
([2]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 41.
([3]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 124-329.
([4]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 15.
([5]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 15.
([6]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 100-108.
([7]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 129.
([8]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 281-282.
([9]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 17.
([10]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 16-17.
([11]) المرجع السابق نفسه، صفحة رقم: 575.
([12]) وقد سمعت أحد المتصوفة المعروفين في بلادنا -فلسطين- ينعته بـــــقوله: "سيِّد قطب هو مؤسس الفكر التكفيري الضال في العالم، وعدَّه من أصحاب الشطحات".
([13]) الحياة في ظلال القرآن، سيد قطب، مركز الإعلام العربي-مصر، صفحة: 8.
([14]) الحياة في ظلال القرآن، سيد قطب، مركز الإعلام العربي-مصر، صفحة: 5.
([15]) في ظلال القرآن، سيد قطب، جزء:1، صفحة: 328.
([16]) المصدر السابق نفسه، جزء:1، صفحة: 770.
([17]) المصدر السابق نفسه، جزء:4، صفحة: 1766.
([18]) الحياة في ظلال القرآن، سيد قطب، مركز الإعلام العربي-مصر، صفحة: 10.
([19]) المصدر السابق نفسه، صفحة: 6.
([20]) المصدر السابق نفسه، صفحة: 17.
([21]) المصدر السابق نفسه، صفحة: 17.
([22]) سيد قطب من الميلا إلى الاستشهاد، صفحة رقم: 16-17.
([23]) الحياة في ظلال القرآن، سيد قطب، مركز الإعلام العربي-مصر، صفحة: 55-62.
([24]) المصدر السابق نفسه، صفحة: 56.
([25])في ظلال القرآن، سيد قطب، الجزء:5، صفحة رقم: 2674.