إعداد الأستاذ: محمد حنونة
هو المفكر الرائد، والداعية المجاهد، والإمام الشهيد سيد قطب
إبراهيم حسين الشــــــــاذلي، ولــــــد في قرية "مـــــــــوشة"
إحــــــــدى قرى محـــــافظة "أسيــــوط"، وذلك في التــــاسع من أكتـــــــوبر سنــــة (1906م)([1])،
ونشأ "سيِّد"
في أسرة مــــــلتـــــزمـــــــة لأبـــــــــوين صــــــــــــــالحــــــــــــــــين، وَرَبِيَ على
معاني الطهر والعفاف والصلاح، وأقبل "سيِّد" على حفظ كتاب الله تعالى في
سنِّ الثامنة، وأتمَّ حفظه كاملاً بعد ثلاثِ سنينَ، وكان آيةً في الحفظ والإتقان([2]).
ومن
أبرز السمات التي تمتع بها "سيِّد"، وساهمت في إثراء شخصيته الإسلامية
المتميِّزة: "المثابرة، والنشاط، والعمل الدؤوب، مع تمتعه بذاكرة قويَّة، وغيرته
الشديدة على دينه، والصبر على المحن والابتلاءات، والرضا بقضاء الله وقدره"([3]).
التحق
"سيِّد" بكلية دار العلوم عام (1929م)، وتخرج منها عام (1933م) يحمل
شهادة البكالوريا في الآداب([4])،
وعمل بعد تخرُّجه مدرساً في وزارة المعارف
لمدة ست سنوات، ثم عمل مراقباً للثقافة في الوزارة([5])،
وكان بإمكانه أن يصل إلى أعلى المناصب في الدولة المصريَّة بعد الثورة؛ لولا
اختلافه مع الضباط الأحرار على أهداف الثورة، والذي كان يدعو إلى ضرورة تطبيق
المنهج الإسلامي الأصيل، وتحكيم مبادئ الشريعة السمحاء، وقد فتح "سيِّد"
على نفسه أبواباً لم يكن ليصمد أمامها غيره، جرَّاء اعتناقه لهذه الفكرة، ودعوته إليها.
ثُمَّ
توالت العروض السَّخيَّة على "سيِّد" ليتراجع عن فكرته الكبيرة في إعادة
الأُمَّة إلى مجدها ودينها وشريعتها؛ فعرضوا عليه وزارة التربية ولكنه رفض([6])،
وكانت النتائج غير محمودةٍ طبعاً، فخسر دونها حياته، وكما أقول دائماً: إنَّ
الفكرة الصحيحة لا يمكن أن تخسر المعركة، وشاهد ذلك في الواقع كثير، والتجارب خير
شاهد!.
وقد تأثر "سيِّد" بالعديد من الشخصيات
البارزة، والتي لازمها أحياناً، وتبنِّى أفكارها تارةً، بل وسار في ركبها أحياناً
أخرى، ومن هؤلاء: عبَّاس العقاد، والشهيد المؤسس الإمام حسن البنَّا([7]).
ويعتبر
"سيِّد" من الأدباء البارعين، والمفكرين المبدعين؛ فبرز في بدايات
الدعوة كَمُنَظِّرٍ إسلاميٍّ للجماعة الإسلامية، وحارساً أميناً للدولة المسلمة،
وذلك منذ العام (1953م)، عندما انتمى لجماعة "الإخوان المسلمين"، وأجرى
في هذه الفترة دراسات متعمِّقة، أعاد من خلالها صياغة المنهج الإسلاميِّ الأصيل، وألَّف
في ذلك كتباً متميِّزة، والتي دعا من خلالها إلى محاربة الجاهلية المعاصرة،
وتعريتها من ردائها المُزيَّف، وإظهار حقيقة الشرك والكفر الكامن فيها، ودعا إلى
إعادة صياغة الإنسان المسلم إنطلاقاً من مبادئ الديِّن وقواعده، وسيراً على منظومة
القيم والأخلاق الحميدة([8]).
وترقَّى
"سيِّد" في مسيرته العلميَّة حتَّى أصبح الموجِّه الفكري والتربوي
لجماعة "الإخوان المسلمين"([9])،
وعلى إثر انتمائه الصَّادق لهذه الجماعة المباركة، كان لا بُدَّ
لـــ"سيِّد" من دفع ضريبة انتمائه للجماعة المسلمة، فتلقَّى
"سيِّد" مع إخوانه ضربات مفجعة، أفصحت عنها محكمة الثورة التي حكمت عليه
بالسجن خمسة عشر عاماً، قضاها في الضرب والتنكيل والتعذيب، وتحت وطأةِ الأمراض الشديدة،
والأوبئة المعدية، ثُم أفرج عنه عام (1964م) بعفوٍ صحيّ، بعدما فقدوا الأمل في
بقائه، وقرروا أنه لم يبقَ في حياته إلا القليل، وبعد شهور قلائل أُعيد إلى السجن
بتهمة "محاولة قلب النظام" وذلك سنة (1965م)، ثُمَّ نُفِّذ فيه حكم
الإعدام في التاسع والعشرين من أغطسطس سنة (1966م)([10])،
فمضى "سيِّدٌ" شهيداً، يُسطِّر بعقيدته الثابتة وروحه الثائرة، أسمى
معاني التضحية والفداء من أجل الدين والوطن والإنسان، ومن أجل الكلمة والفكرة
والعقيدة والمبدأ، ففارق الدُّنيا متوشِّحاً بأجمل أثواب العزَّة والكرامة، مسطراً
أسمى صور البطولة والتضحية، ساخراً من أعدائه وجلاديه، وثائراً على الحكام الظلمة
والقُضاة الغاشمين، ولم يكن لأولئك النفر أن ينالوا من فكرة تمخضت في عقله، ونضجت
في قلبه، فأثمرت هذا الكيان الإسلامي الكبير والممتد في أنحاء العالم، فترك خلفة
ثروةً عظيمة من حملة الرسالة، وقادة الدعوة، بالإضافة إلى الأتباع والأشياع الكثر
للجماعة المسلمة، فكانوا بحقّ رجالاً حملوا هموم الدين، ونشروا رسالة الأمة
والإنسان.
إن "سيِّداً" قلماً ينبع بالعلم
والحكمة، ويتدفق بالإيمان والصبر والعطاء، رحل "سيِّد" وقد نقل الرسالة
كاملةً لمن بعده من أرباب التربية، وروَّاد السلوك والتزكية، فعبَّر عن روح
الإسلام بأسلوبٍ دقيق ينُبِي عن صحة المذهب الذي تدفق في قلبه قبل أن يطرقه
بالبيان، وهذا يشير إلى وضوح المفاهيم لديه، ودقَّة التصورات، وتنوع الأفكار عنده.
إنَّ
"سيِّد" هو الثمرة الناضجة للفكر المستنير الذي بذر نواته الإمام الشهيد
"حسن البنَّا"، حتى بلغت آثاره كل منزل، فزرع في كُلِّ بيتٍ كتاباً
تستنير به العقول، ومنهاجاً تهتدي إليه النفوس.
ولــــ"سيِّد"
مؤلفات كثيرة نافعة، بلغت نيفاً وثلاثين مؤلفاً، وضاع أكثرها، واتلف كثيرٌ منها في
محنته الأولى والثانية مع الظالمين([11]).
ولم
يكن "سيِّدٌ" ليكفِّر النَّاس، أو يخرجهم من دينهم كما زعم ذلك الأفاكون
المفترون من المغرضين، والصوفيَّة الجاهلون([12])
الذين رموه بقوله: "هذا فقيه العنف!"، وليس ذلك إلا لأنهم لم يفهموا من
الإسلام ما يؤهلهم لهذا الحكم الظالم على إمام وعالم كـــ "سيِّد"، وكيف
يُكفِّر الناس، وشعاره المرفوع دائماً: "نحن دعاةٌ ولسنا قضاة"، وشعاره
الآخر: "إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريف الناس
بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون منها إلا لفظها، وغاب عنهم مقتضاها
الحقيقي، وهو التحاكم إلى شرع الله"([13])،
ومن مؤلفاته الغزيرة والكثيرة:
1. مهمة
الشاعر في الحياة.
2. التصوير
الفنِّ في القرآن الكريم.
3. العدالة
الإجتماعية في الإسلام.
4.معركة
الإسلام مع الإلحاد.
5. في ظلال
القرآن.
6. معالم في
الطريق.
7. هذا الدين.
8. المستقبل
للإسلام.
9. خصائص
التصور الإسلامي ومقوماته.
ثانياً_
في ظلال الظِّلال:
إن تفسير "سيِّد" للقرآن الكريم،
غير مسبوقٍ، وغير ملحوق، فقد جاء بما لم يخطر للمفسرين على بال، وتبنَّى مدرسةً
جديدة في التفسير وهي: "التفسير الحركي للقرآن الكريم"، والتي تضع
المسلم في معترك الحياة، وتعالج قضاياه الإجتماعية والفكرية والروحية؛ فيحيا
المسلمُ حياةً روحيَّةً شجيَّة، وحياة عقلية مستنيرة([14])،
ونجد ذلك في مثل قوله: "الإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج
عمل، وإنكار جزءٍ منه كإنكار الكل"([15])،
وقوله: "لا عبرة بكلماتٍ تكذبها الأفعال"([16]).
وقبل
أن يَخُطَّ "سيدٌ" الظلال، كان قد بلغ الذروة في البلاغة والأدب، وقد قضى
من عمره خمسةً وعشرين عاماً مع كتاب الله عزَّ وجل، يصحب صحبةً واعية، ويجول في
جنبات الحقائق الموضوعيَّة لهذا الكتاب، في شتَّى حقول المعرفة الإنسانية.
إنَّه القرآن الذي عاش "سيِّدٌ"
في رحابه، وتماهى به، فكتب ما لم تكتبه يدٌ من قبلُ، فانبرى يُبيِّنُ الحق، ويُظهر
جنباته، بالإضافة إلى دوره في ترسيخ معاني الإيمان بالله وباليوم الآخر، واسهامه
في تربية الإنسان على امتثال الأوامر الإلهيَّة، واجتناب الحرام، وكُلُّ ذلك
انطلاقاً من العقيدة الإسلاميَّة التي تُعدُّ أصل الحياة الكبير، والمحرك الأول
للخير الكامن في الفِطَر السويَّة، والضمائر الحيَّة.
ولم يُغفل "سيِّد" مشاعر
الإنسان، فنحا إلى مخاطبة الفطرة، وإزالة الستار الثخين عن صفحة القلوب؛ لأن
مخاطبة القلوب هي الدافع الأول إلى الحركة الإيجابية المثمرة في بناء الإنسان
المبدع، وصنع الحياة الكريمة([17]).
إنَّ
الظلال كتابٌ جليل، فيه صفاء اللغة، وجمال الأسلوب، وروعة
المعاني، وكثافة الأفكار، وعمق التفكير، إلى جانب الصدق، والإخلاص، والشفافية
الروحية([18])، ومَن يقرأ الظلال يعرف معنى كلمة "القرآن
دستورنا"([19]).
ويمكن إجمال أهم الأهداف التربوية للمسلم
المعاصر، والتي من أبرزها:
1. التركيز
على الجانب العملي لمعاني القرآن الكريم، وامتثالها فعلاً وتطبيقاً، مما يقود إلى
حركة مستمرة في سلوك الأفراد، وتغيير حقيقي في سلوك المجتمع، أما دراسة القرآن
لمجرد الثقافة والمعرفة والمتعة فهو تضييعٌ للجهد والوقت والعمر.
2. بيان طبيعة
الإيمان، وحقيقته، وقيمته، ومقوماته، وآثاره الكبيرة في حياة الفرد والأسرة
والمجتمع، وهذا الهدف جعل "سيِّد" يوقن أن هذا الوجود ليس فلتةً عابرةً،
ولا مصادفة غير مقصودة([20])،
ومع ذلك فقد رأى "سيِّد" أن البشريَّة تتخبط في غياهب المادة، وتنحرف عن
سنن الكون والفطرة، حتَّى قال في نفسه: "أيُّ شيطانٍ يقود خطام هذه الجموع،
ويقوده إلى الجحيم؟!، يا حسرةً على العباد!"، وأدرك أنَّ صلاح الأرض منوطٌ
بالعودة الصادقة إلى الله، ودعا "سيِّد" إلى "العزلة
الشعوريَّة" لا الحسيَّة، واعتبر أن العزلة الشعوريَّة ضرورية وتلقائية في
المسلم الملتزم، خاصَّةً تجاه أولئك الذين لا يلتزمون بأوامر الإسلام([21]).
3. التعريف
بالأسس القويمة التي يقوم عليه المجنمع المتماسك والملتزم، ورسم الطرق الدفاعية
والجهادية ضد كل من يعبث بقيم المجتمع ومبادئه وأخلاقه([22]).
وخلاصة الفكر الذي جاء به "سيِّد"
ينصبُّ في إعادة الإسلام إلى قيادة الإنسان، وبيان المنهج الربَّانيّ الأصيل
ومصادره وأهدافه، وطرق بناء الإنسان الصالح الذي يحمل تصورات صحيحة عن الوجود
والقيم والحياة، والنهضة بمقام الخلافة وواجب التكليف من خلال الوعي الشامل،
والإدراك العميق، والعمل الدؤوب، والإبداع المادي، والإشباع المعنوي والروحيَّ([23])،
ويظهر أثر هذه التصورات كما يرى "سيِّد" في تقوى الضمير، ونظافة الشعور،
وعلوِّ الهمَّة، والرفعة في الأخلاق، والسموُّ في السلوك([24]).
ومن أهم القضايا التي أثارها
"سيِّد"، وتعتبر جزءاً أصيلاً من أساليب التغيير الشامل في هذه الدعوة
المباركة:
أولاً_ الاهتمام بالعنصر العقائدي
والتكوين الإيماني للفرد المسلم، باعتبار أن العقيدة هي أعلى القيم الإنسانية، وهي
أصل الحياة الكبير، والمحرك الأول للإنسان نحو الخير، وأن من يفقدها فلا ينتفع
بشئ، ولا ينتفع به شئ([25]).
ثانياً_ النظرة الواقعية للإنسان،
باعتباره مُركَّباً من مادتي العقل والشهوة، مع ما فيه من النفخة الربانية،
والفطرة الإلهيَّة، فإذا تداعت الأهواء، وطغت الشهوة، وتعطل داعي العقل، كان إلى
الإنحراف والشرِّ أقرب، وإذا توافرت أسباب الخير، وغلب داعي العقل، فإنه يجنح إلى
الخير والاستقامة.
ثالثاً_ التفريق بين عمليتي الضبط والكبت،
بإعتبار الأولى عملية ضارة، والثانية عملية واعية، فالضبط هو تنظيم المشاعر
والحاجات والدوافع في ضوء القدر المُصرَّح به منها، بخلاف الكبت الذي يقضي عليها
في منابتها، مما يولد الإنفجار إما إلى التفلت الغير واعي، أو التشدُّد الغير
مسؤول.
رابعاً_التدرج في المنهج التربوي، ومراعاة
التيسير ورفع الحرج، وتهيئة الظروف المواتية للطاعة والتنفيذ، وذلك فيما يتعلق
بالأوامر والنواهي، وأما ما يتعلق بالجانب العقدي فإن الإسلام يقضي فيها قضاءً
حاسماً منذ اللحظة الأولى.
خامساً_ ترسيخ الجانب القيمي والأخلاقي، بحيث تكون
الموجه الأوَّل لسلوك الفرد داخل المجتمع، وتنمية الوازع الداخلي
"الضمير" الذي يضبط التصرفات عندما تطغى المطامع، ويشتاط العقل، وتنعدم
الرؤية، وحفاظاً على ثقافة الأمَّة في ظل الخطر الكبير الذي يحدق بها إقليمياً
وعالمياً، والوقوف أمام حملات الغزو الفكري والثقافي، ومحاولات التغريب، والتضليل،
وتصدياً لعمليات التحليل والتركيب والتمييع الجارية في ميدان القيم.
سادساً_
الإهتمام البالغ بالأسرة المسلمة، باعتبارها العنصر الحيوي في تكوين الأفراد،
والحصن المنيع الذي يلبي حاجات المجتمع، بالإضافة إلى دورها الريادي في تربية
الجيل الإسلاميِّ الفريد.
سابعاً_ ضرورة وجود الجماعة المسلمة، التي
تسعى في إقامة شرع الله وقيادة البشرية، وكونها مسؤولة عن تربية الفرد المسلم،
ورعاية الأسرة المسلمة، وحمايتها.
ثامناً_ الدعوة إلى التأمل الواعي في آيات
الله الكونية والشرعية، بما ينسجم مع أهداف الدعوة، ويتواءم مع أساليبها، ويحقق أغراضها
المقصودة.
تاسعاً_ الممارسة العملية للأنشطة الحركية
المثمرة والواعية، والتجربة المباشرة لطرق وأساليب الدعوة مع القاعدة الجماهيرية،
سواء بالأساليب المباشرة، أو بالأساليب غير المباشرة.
عاشراً_ الانفتاح على خبرات الآخرين
النافعة، والاستفادة منها في إحداث نظام تربوي شامل وكامل، ينسج مع أساليب العصر،
ويثري الدعوة ومناهجها.
حادي عشر_ عدم إغفال وسيلة القتال، كنوع
من أنواع الجهاد المشروع، في سبيل حماية الدعوة، والوقوف بجانبها وإسنادها،
واستبعاد كل عناصر التشويش، ومحاولات القضاء عليها من الداخل أو الخارج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق