أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 6 يونيو 2020

قصص لا تثبت (2) مالك مع أبي جعفر المنصور

قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ

(2) قِصَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ الخَلِيفَةِ أبِي جَعْفرٍ المَنْصُورِ

من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلامذته.

إعداد

 أ. محمَّد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ الحمد لله ربِّ الطيبين، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء والمرسلين، أما بعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من سلسلةِ الدفاعِ عن أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ، والردِ على متشدقة أهلُ البدعِ الذين نسبوا بعض الشبهات والأمور المنكرة إلى الأئمة الفقهاء رضوان الله عليهم، وعند نقاش هذه الشبهات والحكايات ونقدها تبين لنا أنها لا قيمة لها، وأنها أوهى من بيتِ العنكبوتِ؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت : 41 ).

وهذه القصص التي يوردها المبتدعة على أهل السنة والجماعة، يُقصد به أمران:

الأمر الأول: التسويغ لأنفسهم بما يقومون به من البدع باسم الدين .

الأمر الثاني: التلبيس على العامة بأن أئمة المذاهب قاموا بهذه الأمور فلماذا النكير عليهم – كما زعموا - ؟ .

ولقد تصدى علماء أهل السنة –ولله الحمد -لمثل هذه الشبهات والقصص المكذوبة بتفنيدها، والرد عليها، ونقضها من أساسها؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن قيِّم الجوزية، وابن عبد الهادي، وغيرهم من النُّقاد المتقدمين والمتأخرين.

والقصة التي نحن بصدد ذكرها: هي حوارٌ حدث بين الإمامِ مالك والخليفةِ أبي جعفر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، جعلها أهل البدع دليلاً على جواز استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم حال الدعاء عنده، ويحتج بها القبوريون على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته عند قبره .

* أولاً: نَصُ القِصَّةِ :

روى القاضي عياض في " الشفا " (2 /595 – 596) بسنده فقال: حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن بَقِي الحاكم -وغير واحد، فيما أجازُونيه؛ قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دِلهات؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فِهر، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج، حدثنا أبو الحسن بن المُنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حميد، قال

"ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالكٌ: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد. فإن الله تعالى أدب قوماً؛ فقال: {لا تَرْفَعُوا أصواتكم فوق صوت النَّبيِّ} الآية (الحجرات : 2). 

ومدح قوماً فقال: {إن الذين يغضُّون أصواتهم عند رسول الله} الآية (الحجرات: 3). 

وذم قوماً فقال: {إن الذين يُنادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات: 4)، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر.

فقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله، واستشفع به فيشفعك الله؛ قال الله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}(النساء: 64). 


* ثانياً: نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :

انتقد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية نقداً جعل كل من جاء بعده عالةً عليه، فقد انتقدها من عدة ثلاثة أوجه:

• (الوجهُ الأولُ): نقدها من جهةِ السندِ :

قال في "الفتاوى" (1/ 228) : "وهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر الحكاية بإسنادٍ غريب منقطع، رواها عن غير واحدٍ إجازةً".

ثم ذكر القصة بسندها عن القاضي عياض رحمه الله، وقال: قلتُ (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): "وهذه الحكاية منقطعةٌ؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً، لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور؛ فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة. 

وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين، (1)، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه (2).

وهو مع هذا ضعيفٌ عند أكثر أهل الحديث: كذبَّه أبو زرعة وابن وارة (3).

وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه، وأحذق بالكذب منه (4). 

وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير (5). 

وقال النسائي: ليس بثقة (6).

وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات (7).

وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب الزُّهريِّ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين (8).

وفي الإسناد أيضاً من لا تُعرف حاله (9).

 وقال -رحمه الله -أيضاً في "الفتاوى" (1 /225): "ومن نقل عن مالك أنه جوّز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين -غير مالك -كالشافعي وأحمد وغيرهما؛ فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا؛ بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ولكن من الناس من يحُرِّفُ نقلها، وأصلها ضعيفٌ كما سنبينه إن شاء الله تعالى" (10).

• (الوجهُ الثاني): نقدها من جهةِ نقلها عن أصحابِ مالك :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1 /228): "وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه. 

ومحمد بن حُميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند؛ فكيف إذا أرسل حكاية لا تُعرف إلا من جهته هذا إن ثبت عنه (11).

وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل: لا يثبت عن مالك قولٌ له في مسألةٍ في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطري ضعَّفُوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين؛ فكيف بحكايةِ تُناقض مذهبه المعروف عنه من وجوهٍ رواها واحدٌ من الخراسانيين، لم يدركه، وهو ضعيف عند أهل الحديث؟! .

• (الوجهُ الثالثُ): سببُ إيرادِ القاضي عياضٍ لها :

قال -رحمه الله - في "الفتاوى" (1 /225 – 226): "والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في "باب زيارة قبره"؛ بل ذَكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازمٌ؛ كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره، وذكر حديثه، وسنته وسماع اسمه".

• الوجهُ الرابعُ : أن الثابتَ عن مالكٍ خلافُ القصةِ :

قال -رحمه الله - في "الفتاوى" (1/ 353): "والحكاية التي تُذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة؛ فأمره بذلك وقال: "هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم": كذبٌ على مالك، ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه؛ كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثل ما ذكروا عنه: أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم؛ فأنكر مالكٌ ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. 

ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك: فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تُبَيِّنُ أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً؛ لكانوا هم أعلم بذلك، وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي (ص 46): "واتفقوا -أي الأئمة الفقهاء -على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو وهناك مستقبلاً للحجرة؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذبٌ على مالك، بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كان يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده".

• الوجهُ الخامسُ : نقدُ شيخِ الإسلامِ لبعضِ عباراتها:

وقف شيخ الإسلام مع بعض عباراتها بشيء من التفصيل والإيضاح، فمن ذلك أنه قال (1 /229 – 230): مع أن قوله "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة وهذا حق؛ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة (12) حين تأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم فيُردُّهم آدمُ إلى نوحٍ، ثًمَّ يردُّهم نوحٌ إلى إبراهيم، وإبراهيمُ إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: (أنا سيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ). 

ولكنها (أي: هذه القصة) مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه: 

(أحدها): قوله "أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله وأدعو؟"؛ فقال: "ولِمَ تَصرِف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم"؟!؛ فإن المعروف عن مالكٍ وغيره من الأئمة، وسائر السلف من الصحابة والتابعين: أن الداعي إذا سلَّمَ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يدعو لنفسه؛ فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه؛ بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له.

وهذا قول أكثر العلماء: كمالك في إحدى الروايتين عنه، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضاً

ثم من العلماء من قال: يجعل الحجرة عن يساره -وقد رواه ابن وهب عن مالك - ويسلم عليه. 

ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويُسَلِّمُ عليه، وهذا هو المشهور عندهم. ومع هذا فكره مالك أن يُطيل القيام عند القبر لذلك (يعني للسَّلام والدُّعاء). 

ولذلك قال القاضي عياض في "المبسوط" عن مالك، قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلم ويمضي.

قال: وقال نافعٌ: كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف. ورُئِيَ (عبد الله بن عمر) واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، ثم وضعها على وجهه. 

قال: وعن ابن أبي قسيط، والقعنبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -إذا خلا المسجد جَسُّوا برمانةِ المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون (13).

قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن الليثي: أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر (14).

وعند ابن القاسم للمروذي: ويدعو لأبي بكر وعمر.

قال مالك في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

وقال في "المبسوط": ويسلم على أبي بكر وعمر (15).

قال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر بلفظ السلام؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف (16). 

وهذا الدعاء يفسر الدُّعاء المذكور في رواية ابن وهب؛ قال مالك -في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر. فهذا هو السلام عليه، والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره. وكذلك كل دعاءٍ ذكره أصحابه، كما ذكر ابن حبيب في "الواضحة" وغيره.

قال: وقال مالك في "المبسوط": وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء (17).

وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفرٍ أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر (18).

قيل له (أي لمالكٍ): فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة.

فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسعٌ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويُكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده (19).

قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلَّمُوا، قال ابن القاسمِ: وذلك رأيٌ (20). 

وقال أبو الوليد الباجي: ففرَّقَ بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم (21). 

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد) (22). 

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً) (23). 

قال (القاضي عياض): ومن كتاب أحمد بن شعبة -فيمن وقف بالقبر- لا يلتصق به، ولا يمسُّه، ولا يقف عنده طويلاً (24). 

وفي "العتبية" -يعني عن مالك: يبدأ: بالركوع (تحية المسجد) قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (25)، وأحبُّ مواضع التنفل فيه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدُّمُ إلى الصفوف. 

قال (يعني مالك): والتنفل فيه للغرباء أحبُّ إليَّ من التنفل في البيوت.

فهذا قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة يُبَيِّنُ أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء له

وقد كره مالكٌ إطالة القيام لذلك.

وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له؛ فإنه تحيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. 

فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه؛ فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بدعائه لنفسه ؟! (26).

وأما دعاءُ الرسول وطلب الحوائج منه، وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحدٌ من السلف.

ومعلومٌ أنه: لو كان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به؛ فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟ . 

فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: "استقبله واستشفع به": كذبٌ على مالك، مخالفٌ لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها مالكٌ وأصحابه، ونقلها سائر العلماء؛ إذ لم يرد عن أحدٍ منهم أنه استقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يا رسول الله اشفع لي، أو ادع لي، أو يشتكي إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب؛ فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة؛ ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يُسَلِّمُون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد (27). 

• (الوجه الثاني): وقال -رحمه الله -أيضاً في "الفتاوى" (1/ 239): ومما يُوهِنُ هذه الحكاية (28): أنه قال فيها: "وَلَمْ تصرف وَجْهَك عَنْهُ، وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته- وهذا حقٌّ كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة -كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته -فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يُطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.

ومعلومٌ: أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سنَّه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبَّهُ أحدٌ من أئمة المسلمين: لا مالكٌ ولا غيره من الأئمة؛ فكيف يجوز أن يُنسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهلٌ لا يعرف الأدلة الشرعية، ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية- مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟

وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟

فلو لم يكن عن مالكٌ قول يُناقض هذا؛ لعُلِمَ أنه لا يقول مثل هذا. 

• (الوجه الثالث): على فرض صحَّة الحكاية:

ثم قال في (هذه) الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله فيه": (والاستشفاع به)، معناه في اللغة: أن يطلب منه الشفاعة؛ كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.

ومنه الحديث الذي في السنن: أن أعرابياً قال: "يا رسول الله جَهِدَتْ الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا؛ فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله؛ فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه" (29). 

فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك"، ومعلومٌ أنه لا ينكر أن يسألَ المخلوق بالله أو يُقسِمَ عليه بالله، وإنما أنكر أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق؛ ولهذا لم ينكر قوله "نستشفع بك على الله" فإنه هو الشافع المشفع صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكر قوله "نستشفع بالله عليك"

. وهم - لو كانت الحكاية صحيحة - إنما يجيئون إليه؛ لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في تمام الحكاية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية (النساء: 64).

وهؤلاء إذا شُرِعَ لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته؛ فإذا أجابهم: فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاءٌ منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.

وإذا كان الاستشفاع منه: طلب شفاعته؛ فإنما يقال في ذلك: "استشفِع به؛ فيشفعه الله فيك" -أي يقبل شفاعته فيك -ولا يقال: "فيشفعك الله فيه" (كما ورد في هذه القصة).

وهذا معروف الكلام ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسائر العلماء. يُقال: شفعَ فلانٌ في فلانٍ فشُفِّعَ فيه (أي قُبلت شفاعته فيه).

فالمُشَفَّع الذي يشفِّعْهُ المشفوع إليه (فيأذن به بالشفاعة): هو الشفيع المُسَتشفع به، (لا الذي يستشفع به)، فليس هو السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع.

ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني فيه، فيشفعه الله؛ فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.

والخلاصة: أن الشافع: هو الذي يشفع للسائل؛ فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مُبيناً أن العامة لا يُفرقون بين الاستشفاع والتوسُّل (1/ 242): "ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به. ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تُشفع به. من غير أن يكون المستشفع به شفع له، ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له.

ولفظ "التوسل" و"الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.

والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقق، والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله؛ فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية.

وقال ابن تيمية رحمه الله أيضاً في "المجموع" (1/ 243): وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. فهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة.

يقولون: استشفع به فيشفعك. أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهلٌ بالشرع واللغة، وليس لفظهما من ألفاظ مالك!.

نعم قد يكون أصلها صحيحاً، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً للسنة، كما كان عمرُ ينهي عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به؛ من تعزيزه وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.

فهذا هو نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للقصة، رحمه الله رحمة واسعة.

وممن نقد القصة أيضا الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ( ص 259 – 267).

وقال عن سندها ( ص 260) : ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك وليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض – يعني التقيَّ السبكي – في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطىء في هذا القول خطأً فاحشاً، بل إسنادها إسناد ليس بجيِّد، بل هو إسنادٌ مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يُتَّهمُ بالكذب، وعلى من يُجهل حاله، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة، وقد ظنَّ المعترضُ أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرَّجِ لهم في صحيح مسلم قال =: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشا ووهم وهما قبيحا.

ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .

_________________________________

(1) انظر: سير أعلام النبلاء؛ للذهبي (11/ 503)، ومولد مُحمد بن حُميد في حدود الستين ومائة، وتوفي أبو جعفر المنصور قبل ولادته بسنتين. وانظر: كتاب المجروحين لابن حبان (2/303) ، والكاشف (3/326) ، وتهذيب التهذيب (9/131) ، والميزان (3/531).

وقال الذهبي في المغني (2/573): "مُحمَّد بن حُميد" ضعيفٌ لا من قبل حفظه، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: يكذب. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني.

(2) ولم يذكره أحدٌ في تلاميذ مالك حتى المزي في تهذيب الكمال، انظر ترجمة مالك في تهذيب الكمال (3/ 1296 - 1297) ، وترجمة محمد بن حميد منه (3/ 1190 - 1191) وراجع ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 282 - 545) وقد قسم فيه الرواة عن مالك إلى طبقتين: كبرى وصغرى، وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد. وهذا يؤكد ما قاله شيخ الإسلام.

(3) قال ابن حبان في المجروحين (2 /204): "قال أبو زرعة وابن وارة - أي للإمام أحمد -: صح عندنا أنه يكذب قال - يعني صالح بن أحمد -: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.

(4) انظر: تاريخ بغداد (2 /262) وقال: "محمد بن حميد أحاديثه تزيد وما رأيت أجرأ على الله منه". في الموضع السابق من التأريخ.

(5) تاريخ بغداد (2 /260).

(6) تاريخ بغداد (2 /263).

(7) كتاب المجروحين (2 /203)، وقال البخاري في التاريخ (ق1/ ج1 /69) : فيه نظر. وقال إسحاق بن منصور: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار أنهما كذابان. تاريخ بغداد (2 /263).

(8) الأمر كما ذكره المؤلف رحمه الله، راجع الكاشف (1 /52، 53) ، والتقريب (1 /11، 12) ، والتذكرة (ص 482)، وكأن شيخ الإسلام رحمه الله أراد بهذا التقرير أن يُبيِّن أن مُحمَّد بن حُميد تفرَّد بهذه القصة المنكرة، ولم يروها أحدٌ من الرواة عن مالك حتى آخرهم وفاةً.

(9) لعله يشير بهذا إلى معظم رجال الإسناد من ابن دلهات إلى يعقوب بن إسحاق، يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: وقد أخبرتُ أني لم أقف لهم على خبر بعد بحث، فلعل واحداً من هؤلاء المجهولين اخترع هذه الحكاية إن سلم من اختراعها ابن حميد. (انظر: قاعدة جليلة 1/ 133).

(10) يريد بهذا شيخ الإسلام أن ابن حميد على ما فيه من بلاء لم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث؛ كسمعت مالكاً، أو حدثني، أو أخبرني، أو عن مالك، أو قال مالك، وإنما قال: ناظر مالك فهي بهذا التعبير مرسلة، فإن سلم محمد بن حميد من تبعتها، فهناك احتمال آخر أن يكون رجل كذاب اخترع هذه الحكاية، ونسبها إلى مالك، أو يكون هناك عدد من الوسائط بين محمد بن حميد وبين مالك فيهم كذاب أو كذابون تداولوا هذه الحكاية حتى وصلت إلى محمد ابن حميد.

(11) يقصد شيخ الإسلام أن محمد بن حميد مع عدم إدراكه لمالك، فقد انفرد من بين أصحاب مالك على كثرتهم، وكثرة الأئمة الحفاظ فيهم، وعلى كثرة من لازمه منهم، ومع معرفتهم وحفظهم وإتقانهم لحديثه. ومثل محمد بن حميد - وأصدق منه - إذا انفرد عن أصحاب مالك بحديث، أو مثل هذه الحكاية، لا تقبل منه، ولو أسندها فكيف إذا أرسلها.

(12) بل عدها بعضهم من الأحاديث المتواترة. انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص 149) . ومنها على سبيل المثال؛ حديث أنس في صحيح مسلم (322، 326). ومثله حديث جابر حديث (320)، وحديث أبي هريرة في البخاري (3340). وفي مسلم حديث (327)، وأحمد (2 /435)، وحديث حذيفة، وأبي هريرة في مسلم (329).

(13) ذكر القاضي عياض كل هذا في كتابه الشفاء (2 /85، 86)، وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: وهذه الحكايات تحتاج إلى أسانيد، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء، ثم على تسليم أنهم فعلوا ذلك فذلك بالنسبة لأشياء عرفوا حق اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باشرها بنفسه بجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه. 

فأين عمل الناس الآن، وهم يتبركون بكل شيءٍ من المسجد وغيره من الأشياء التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرون ؟!.

وقد كره مالك وغيره طلب موضع شجرة بيعة الرضوان. انظر: شرح الزرقاني للموطأ (1 /351). وقد نهى عمر - رضي الله عنه - عن تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في ذلك تشبهاً باليهود والنصارى.

(14) الشفاء (2/86)، وهو في الموطأ (1/166)، برقم (68)، مالك عن عبد الله بن دينار، "رأيتُ ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -".

وفي المصنف لعبد الرزاق (3/576) ، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث (6724): "عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه!".

وأخبرناه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: "لا نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر".

أقول (يعني ربيع بن هادي المدخلي): يُستفاد من قول عبيد الله بن عمر، الإمام المدني، الثقة الثبت، أن الصحابة الكرام - وفيهم الخلفاء الراشدون - ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إذا قدم من سفر، مع حبهم الشديد لرسول الله وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقيادهم له. 

فهل آن للأمة الإسلامية أن تثوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء. وإننا على ثقةٍ أنهم ما وقفوا جميعاً هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واعٍ لمقاصد الشريعة وأهدافها، إنه ما كان ذلك منهم - مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تنفيذاً لتوجيهاته الكريمة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا". ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد". ومثل قوله صلى الله عليه وسلم - وبأبي وأمي هو -: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

تنفيذاً لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد، وصيانة العقيدة الإسلامية من شوائب الغلو والضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب، كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها، فما هم إلا جندٌ الله، ثم جندٌ محمد صلى الله عليه وسلم، جند له في حياته يفدونه ورسالته بمهجهم وأموالهم وأرواحهم، وجند له أوفياء بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلله درهم ما أفقههم وأنبلهم وأوفاهم!.

فهل للأمة الإسلامية أن تتأسى بهؤلاء العظماء الأوفياء في تنفيذ هذه التوجيهات وغيرها مما جاء به خاتم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ ولله در إمام دار الهجرة - رحمه الله - إذ قال حين خالف بعض الناس بعض هذه التوجيهات وبدأوا يترددون على القبر: "لا أعرف هذا عمن مضى، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". وسيأتي كلامه فنشير إلى مصدره في موضعه.

(15) الشفاء (2 /86).

(16) انظر: في المنتقى (1 /296) والشفاء (2/ 86)، والرد على الأخنائي (ص 105).

(17) الشفاء (2 /86).

(18) الشفاء (2 /88).

(19) الشفاء (2 /88).

(20) الشفاء (2 /88)، وفي المنتقى (1/ 296) . قال ابن القاسم: وهو رأيٌ.

(21) الشفاء (2/ 88 - 89) منقول كله بالحرف.

(22) صحيح، رواه مالك في الموطأ (85)، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. وعبد الرزاق في المصنف، برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. لكنه قد جاء موصولاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه أحمد (2 /246) . وأبو نعيم في الحلية (7/ 317) . والحميدي (1024). كلهم من طريق سفيان بن عيينة. قال: حدثنا حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وهذا إسناد حسن. وحمزة بن المغيرة. قال الحميدي في شأنه: وكان من سراة الموالي، ولعله من قول سفيان. وقال أبو النضر: كان رجل الكوفة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال (1/ 334). ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 283) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي حدثني أبي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وعلى كل حال فالحديث صحيح، انظر: الزرقاني (1/385).

(23) حسن، أخرجه أحمد في المسند (2 /367) . وأبو داود في سننه (2042)،  وهو إسناد حسن.

(24) وفي الشفا (2/ 88): أحمد بن سعيد الهندي.

(25) أي يقدم صلاة تحية المسجد على الزيارة.

(26) وهذا تلخيصٌ جَيِّدٌ لما نقله سابقاً من كلام مالك وأصحابه.

(27) أي الحكاية المنقطعة المنقولة عن محمد بن حميد الرازي عن مالك، ومحمد بن حميد لم يلق مالكاً. وقد تقدمت الحكاية ونقدها أعلاه.

(28) ضعيف، أخرجه أبو داود في سننه (4726) من طريق: محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده مرفوعاً، وهو ضعيف لأن في إسناده محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن في هذا الإسناد وفيه جبير بن محمد بن جبير، قال الحافظ فيه: مقبول من السادسة تقريب (1/ 126).





فصلٌ في إبراز قبر النبي صلى الله عليه وسلم -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

فصلٌ في إبراز قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

١- الإبراز، هو الإظهار، والإخراج، وهو مصدر: أبرز يُبرز إبرازاً، فهو بارز، والبروز النتوء (١).

٢- والمقصود من إبراز قبره صلى الله عليه وسلم هو: دفنه خارج بيته في مكان آخر حتى يراه الناس ويشاهدوه.

٣- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (٢).

فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً، دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها، فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لم أدخلت في المسجد سُدَّت وبنى الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره، كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كان سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبر البتة ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبر عن وجوده.

٤- قالت عائشة: (لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (٣).

وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، فقال: (اللهمَّ لا تجعلْ قبري وَثَنًا يُعبدُ).

ونهى عن اتخاذ القبور مساجد بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة، وهم أعلم الناس بمثل ذلك.

ولو كان في هذا حديثٌ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله -من علماء المدينة الأخيار- النطق بلفظ تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه؟ ولكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى.

بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك، في مسجد يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره، وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره.

وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم، أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك.

ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تُزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد. 

وإن بُنى عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين.

     ويُفهم من ذلك أمور منها:

أ. خشيته صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجدا (مكاناً للصلاة)، ولولا ذلك لأبرز قبره للناس، ودفن خارج بيته. ودفنه خارج بيته يقتضي أمران، هما:

  • دفنه داخل المسجد، وهو محرم باتفاق، لورود النهي الشديد عن ذلك.

  • أو دفنه في غير المسجد، وهو ما خشي حصوله؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بغلو طائفة من الناس بأنبيائهم، فلم يبق إلا أن يدفن في حجرته؛ وهو ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم.

ب. أن الصحابة دفنوه في حجرته امتثالاً لأمره في ذلك (*)، وبذلك حسمت قضية القبر في عهد الصحابة. ومعلوم أن بين الحجرة والمسجد جدار لا يجعل القبر داخل المسجد.

٤- والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) (٤)، وهذا هو الثابت في الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى؛ فقال "قبري"، وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قُبِرَ بعدُ صلوات الله وسلامه عليه.

٥- وبقي الأمر على ذلك حتى خلافة الوليد بن عبد الملك (ت ٩٦ هـ)، الذي هدم المسجد وما حوله، ثم بناه من جديد، وأدخل الحجرة فيه سنة (٩٤هـ) تقريباً، وذلك بعد موت عامة الصحابة بالمدينة وآخرهم جابر بن عبد الله (ت ٧٨هـ).

وكان بناء المسجد فيما بين موت جابر وموت الوليد، وقد أمر الوليد بن عبد الملك نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجرة ويزيدها في المسجد، وكانت الحجرة من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد، وبنوا الحائط الخارجي مسنما مُحَرّفاً (٥).

٦- ومعلوم أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قاما بتوسيع المسجد، ولم يُدخلا القبر فيه، وهذا من كمال فقههما، وفعل الوليد مخالف لهدي الصحابة، وبهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد، فكان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة (٦).

٧- ويرى الباحث أن إدخال الحجرة في المسجد مع ما فيه من المخالفة لفعل الصحابة وهديهم، فإن فيه مصلحةٌ أيضاً، وهو صيانة القبر عن عبث العابثين وبدع المخالفين الذين هم فريقان:

  • الأول: المغالين في عبادة القبور والصالحين.

  • لثاني: المارقين العابثين الذين قد تتطاول أيديهم على القبر خاصة أيام الفتن والاختلاف.

٨- ويرى الباحث أنه لا حجة لمن اتخذ هذه الحادثة دليلا على بناء المساجد على القبور؛ لورود النهي عن ذلك.

٩- كذلك فإن القبر حالياً محاط بثلاثة جدران كالمثلث، بحيث تصبح قاعدته الجنوبية عريضة، ورأسه في زاوية منحرفة عن القبلة شمالا، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى(٦).

١٠- ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون ويستجيرون به وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيما مخلوق .

١١- وكان من حكمة الله: دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه والزيارة له، ونحو ذلك، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله.

١٢- وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يحصل ذلك عندها، وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته، فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال (٨).

١٢- واوصي العلماء والباحثين بوجوب تبيين الحق في مثل هذه الأمور، وتصحيح العقائد، وكشف الشبهات، وحماية جناب التوحيد، والرد على أهل الفرق الزائغة المنحرفة.


وكتبه: أ. محمد حنُّونة، غزة -فلسطين

حقوق النشر محفوظة 18/ مارس/ 2017م

...............................

(١) معجم اللغة العربية المعاصرة.

(١) رواه البخاري في صحيحه (٢\١٠٢، برقم: ١٣٩٠)، ومسلم (٢\٧٢، برقم: ١٢١٢).

(٣) المصدر السابق نفسه.

(٤) رواه البخاريُّ في صحيحه (١٨٨٨)، ومسلم (١٣٩١). وأما لفظ: (ما بَيْنَ قبري ومِنبَري)؛ فرواه الطبراني في الأوسط (١/ ٢٢٣ )، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن ابن خثيم إلا يحيى بن سليم تفرد به أبو حصين"،وأخرجه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (٣ /٢٦١)، وقال: فيه أبو بكر بن أبي سبرة العامري ، وهو ضعيف، وأخرجه الحارث في «مسنده» (٣٩٩)، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (٣ /٢٦١): فيه الواقدي ، وهو ضعيف، وأكثر الحُفّاظ على تضعيفه.

(٥) الصارم المنكي في الرد على السبكي، ابن عبد الهادي (ص  ٤٧، ١٥١).

(٦) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (ص ٦٥).

(٧) القول المفيد على كتاب التوحيد، للعثيمين (١\٣٩٩).

(*) الحديث: (مَا قَبَضَ الله تَعَالَى نَبِيّاً إِلاَّ فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ) عن ابي بكرة مرفوعا، صحيح الجامع: ١٠٥٨٦.

(٨) القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي (ص ٦)، وإسناد القصة حسن، وأحمد شيخ ابن إسحاق هو ابن عبد الجبار بن محمد العطاردي أبو عمرو الكوفي ضعيف وسماعه للسيرة صحيح كما في التقريب.



الخميس، 4 يونيو 2020



رسالة بعنوان
الجواب على استدلال القبوريين بحديث
(يا عباد الله احبسوا)
تأليف
أ.د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
الأستاذ بقسم العقيدة
بجامعة المدينة المنورة

اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

****
بسم الله الرحمن الرحيم 
الجواب عن استدلال القبوريين بحديث: (يا عباد الله احبسوا) 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: 

فإن من الشُّبه التي يلهج بها القبوريون المستغيثون بغير الله: 

ما يروى في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا انفلتت دابةُ أحدكم بأرض فلاة فليناد:يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه). [أخرجه أبو يعلى في مسنده (5269)، والطبراني في معجمه الكبير (10518)]. 

ونحوه ما جاء في حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد أحدكم عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عبادا لا نراهم). [أخرجه الطبراني (290)]. 

ونحوه ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر؛ فإذا أصاب أحدكم عَرْجَة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله) [أخرجه البزار (4922)]. 

حيث زعموا أن هذه الأحاديث تدل على جواز دعاء الملائكة والجن، بل والموتى! 

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: 

أولا: أن هذه الأحاديث ضعيفة، لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال، ولم يصح منها عنه حرف واحد، وكلُّ حديثٍ منها مسلسلٌ بعلل عدة، ورغبة في الاختصار أُحيل في بيانها إلى سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 112-108). 

وقد روي الحديث الأخير موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما [أخرجه ابن أبي شيبة (29721)]. 

ولا يثبت أيضا، ففي إسناده أسامة بن زيد الليثي، وهو ممن يخطئ في روايته، وفي أحاديثه مناكير، وكثيرٌ من الحفاظ على تضعيفه [انظر: تهذيب التهذيب (1/ 209)])، 
ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب [98]: (صدوق يهم)؛ فمثله لا يُقبل تفرده بهذا عن ابن عباس؛ فمدار الحديث -مرفوعاً وموقوفاً- عليه. 

ثانياً: لو قيل -تنزلاً- بصحة هذه الأحاديث؛ فإنها لا تدل على ما ادعوا، وتوضيح ذلك: 

أن الأصل في هذا الباب أن الدعاء عبادة، لا شك في هذا ولا ريب، والأدلة على هذا، وعلى وجوب أن يكون الدعاء لله وحده -كثيرة، ومنها: قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18). 

ومنها: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح. 

ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح. 

فالواجب استصحاب هذا الأصل، ومتى ما دل دليل على استثناء شيء منه: فالواجب الجمع بين الأدلة، لا ضرب بعضها ببعض، وقد دل الدليل على جواز دعاء الحي الحاضر القادر، كما في قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فاستغاثهُ الَِّذي ِمن ِشيعتِِه على الَِّذي ِمن عدِوهِ} (القصص: 15) ونحوه من الأدلة؛ فهو إذن استثناء من هذا الأصل له حكمه، وبذا تجتمع الأدلة وتأتلف. 

وهذه الأحاديث الواردة في هذا الموضوع -إن ُسلم بصحتها- لا تخرج عن هذا الاستثناء؛ فإن النداء فيها نداء لحيٍّ حاضرٍ قادرٍ على الإغاثة، كما سيتضح فيما يأتِ

ثالثاً: التأمل في هذه الأحاديث تظهر به أمور
1- أن فيها نداءً لمعين، وهم طائفة من الملائكة أو الجن أو غيرهم من جنود الله سبحانه وتعالى. 
2-أنه نداء لحاضر يسمع؛ فهذا هو المعقول من الأمر بالنداء، وهو ما ورد في الحديث: (فإن لله حاضراً في الأرض). ومفهوم الحديث: أن من ليس حاضرا: لا ينادى! 
3- أنه نداءٌ لمن هيأه الله للإجابة، ووكله بها، وأقدره عليها؛ ففي الحديث: (فإن لله حاضراً في الأرض سيحبسه). 
4-أن العبد هنا مأمور بهذا النداء: (فليناد: يا عباد الله ...)، فهو لا ينادي اجتهادا من تلقاء نفسه؛ فوجود هؤلاء العِباد، وسماعهم، وإجابتهم: شيء غيبي لا سبيل إلى علمه به، وإنما علِمه من الحديث، فاستجاب للأمر الوارد فيه. 

فهو إذن دعاءٌ مخصوص، اجتمعت فيه كل هذه الأمور -وهي معتبرة مؤثِرة في الحكم، لا حشو- فمتى اجتمعت جاز الدعاء، وإلا لم يجز

وعليه فأيُّ دعاءٍ لملك -سوى هؤلاء- أو لجني أو ميت ُيُتاج فيه إلى ثبوت هذه الأمور حتى يقال بجوازه؛ وأنى لأحد إثبات هذا؟! 

فمن أجاز دعاء الملائكة عموماً، أو الأنبياء أو الاولياء من الميتين أو الغائبين أخذا بما جاء في هذه الأحاديث وقياساً على ما تضمنته - فقد أبعد النجعة؛ وكان كالذي يقيس ِحل الخمر على حل الماء بجامع أن كليهما شرابٌ سائل! وتغافل عن الأوصاف المعتبرة المؤثرة في ُحكمي هذا وهذا. 

وهكذا الذي يبني جواز الاستغاثة بميت على استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة، أو استغاثة الإسرائيلي بموسى عليه السلام. 

والخلاصة أن ما جاء في هذه الروايات -على فرض صحته- لا يعدو أن يكون دعاء لحيٍّ حاضر قادر، وهذا لا أحد يخالف في جوازه

أما الدعاء الشركي فهو: دعاء الميت مطلقاً، أو الحي الغائب مطلقاً، أو الحي الحاضر فيما لا يقدر عليه الأحياء، فالدعاء في هذه الصور شرك أكبر، لأنه صرفُ خالصِ حق الله -وهو العبادة- لغير الله، والدعاء عبادة كما مضى. 

وعليه فدعاءُ نبيٍّ أو ولي ميت: دعاءٌ لغير حي، لا يقدر، ولا يسمع، وِمثله دعاءُ الأشجار والأحجار والأصنام

ودعاء الملائكة والجن -سوى ما جاء في هذه الأحاديث، على فرض صحتها- باق على الأصل؛ فهو دعاء لغائبين؛ فالملائكة والجن عالـم غيبي، ولا علم لنا بسماعهم ولا بقدرتهم على الإجابة، ثم إن الملائكة -عليهم السلام- لا يفعلون إلا ما أُمروا به من ربهم فحسب {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 27)، وليسوا هم خدماً للبشر؛ يأمرونهم فيفعلون! وحاشاهم، بل هم عباد مكرمون. 


قال أبو العباس ابن تيمية: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) [مجموع الفتاوى [1 /124]. 

وقال رحمه الله: (لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم، فضلاً عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها، فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل) [الجواب الصحيح: 5/ 74]. 

وقال رحمه الله: (دعاء الملائكة ومسألتهم: إشراك بالله) [بيان تلبيس الجهمية 4/ 524]. 

وقال رحمه الله: (قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56، 57). 
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي؛ فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون) [مجموع الفتاوى: 1/ 330 ]. 

وقال رحمه الله: (وكل من جعله الله إماماً؛ فإنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة، ينهون عن دعاء الملائكة والأنبياء فضلاً عمن سواهم، وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه) [الإخنائية 165]. 

رابعاً: هذه الأحاديث دليل على القبوريين -المستدلين بها على جواز دعاء الملائكة والجن والأموات- وليست دليلا لهم؛ فورودها -على تسليم صحتها- بنداء مخصوص، لمنادى مخصوص، في حال مخصوصة: برهانٌ على أن هذا الباب ليس مُشرعاً لكل من أراد أن يزيد وينقص؛ إنما هي حال خصَّها الدليل، فليس لأحدٍ أن يتجاوزها، ولم تأت الأحاديث بمناداة للملائكة والجن والأموات عموما، في كل حال -كما هو حال القبوريين-. 

ولو كانت شريعة الإسلام وملة التوحيد هي ما عليه القبوريون -أهل الشرك وُدعاته- لجاءت بالحث على دعاء غير الله مطلقاً؛ كالاستغاثة بسيد ولد آدم وأرفعهم مقاماً -صلى الله عليه وسلم-بعد موته، وبجبريل وغيره من الملائكة، وبسادة الأولياء: أبي بكر وعمر وإخوانهما -رضي الله عنهم-؛ في البر والبحر، والقرى والفيافي، وفي حال العسر واليسر، وبطلب تفريج الكروب وتيسير الأمور صغيرها وكبيرها - وليس بإباحة نداء ملائكة مخصوصين حاضرين في حالة نادرة -وهي انفلات دابة في فلاة-، لا تقع لأكثر الناس! 

هذا على سبيل التسليم الجدلي، وإلا فالحق أن تلك الأحاديث معلولة، الشريعة لم تأت بهذا والحمد لله، إنما جاءت -من أولها إلى آخرها- بتعليق القلوب والجوارح برب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وتعبيدها لرب الناس، ملِك الناس، إله الناس، سبحانه وبحمده. 

خامساً: مما يدل على أن نداء هؤلاء الملائكة -على فرض صحة تلك الأحاديث- شيءٌ خاص لا يصح تجاوزه إلى غيره أو القياس عليه: مجيء التعليل في الحديث عقيب الأمر بالنداء: (فإن لله حاضراً في الأرض سيحبسه،) أو: (فإن لله عباداً لا نراهم)، فمجيء هذا التعليل دليلٌ على خصوصية هذه الصورة؛ والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. 
وهذا الوجه يؤكد أن هذه الروايات دليلٌ على أولئك، لا لهم؛ فمن أين لهم مثل هذا التعليل في استغاثاتهم الشركية؟! 

سادساً: مجيء هذا التعليل فيه -أيضا- فائدة، وهي أنه مشعر بأن هذا النداء خلاف الأصل؛ إذ لو كان الأصل في نداء الملائكة الإباحة، وأنه كنداء الأحياء الحاضرين من البشر لما احتيج إليه، وهذا ظاهر. 
وهذا الوجه يؤكد -أيضا- أن هذه الروايات دليل على أولئك، لا لهم. 

ويبقى -بعد ما سبق- التنبيه على استدلال بعض الناس بما جاء عن بعض العلماء من العمل بالأحاديث السابقة
والنظر ههنا له وجهان: 
الأول: قد عُلم أن ما روي في هذا الباب لم يثبت منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا يجوز العمل به؛ فالمقام مقام غيبي توقيفي، لا عقلي اجتهادي.
ولا عصمة لأولئك العلماء على جلالة قدرهم، ولا حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك. 

الثاني: التماس العذر لأولئك العلماء فيما ذهبوا إليه؛ فظاهر حالهم ظنهم ثبوت تلك الروايات، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، وأهل السنة أهل عدل ورحمة؛ فأولئك وإن أخطأوا إلا أن لهم شبهةً وعذراً؛ فلا يُتابعون، ولا يُسقطون. 

وفق الله المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، والسلامة من الأهواء وأهلها. 
وصلى الله وسلم على نبينا مَمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 
وكتبه: 
أ.د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي 
10 - شوال - 1441 هجرية 
لتحميل هذه المادة انقر على الرابط 


لزيارة موقع الشيخ: