أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 فبراير 2025

الرباط المُقدّس توفيق الحكيم بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الرباط المُقدّس

توفيق الحكيم

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

       تمهيد: هذه الرواية الجميلة تُمثّل قيمة الأدب والفكر في البُعد الإنساني، وأن الأدب روحٌ يسكنُ كُلَّ فردٍ منّا، ولا ينقصه غير الكشف عن أعماقه؛ حتى يتدفّق ماؤه العذب، فيروي النفوس بعذوبته، ويُنعش الأذهان بصفائه.

والمؤلف يحكي فيها ما يجب على رجل الفكر والقلم أن يُدخله على عقول البشر من الإيمان، بأن في إمكانهم أن يسموا على أنفسهم، ويقاوموا رغباتهم، وهذا الواجب يفرض عليه هو أن يعيش حياةً سامية، لا مطعن فيها ولا غُبار.

كما أن وظيفة الأديب ليس في تجنُّب مزالق الجسد، ولا حتى تحاشي مواطن الزلل، بل في مواجهة ذلك بمصباح الحقائق ونور المُثل العُليا، وقد مثّلت هذه الرواية حسرة الجمال، وأسى الحُب، ولوعة الخيانة، وعذاب الروح، وبساطة الحياة أيضاً.

       كما يلفت النظر إلى قضية في بالغ الأهمية، وهي أن الأدب بالذات لا يمكن التعامل معه بإلمامٍ تام، لكن ليكون القارئ فيه كالذوّاقة، الذي يدخل مطابخ الآخرين، ويأخذ لعقةً من كل إناء؛ فيُدرك في لحال كيف صُنع اللون، وما استُعمل في إعداده، وما أُدخل في تركيبه، وكذلك القارئ ينفذ بقراءته إلى عالم المعاني، وبقدر ما يتناول من كتبه تحصل له.

ذلك أن خياله الذي اعتاد طويلا خلق الأشباح من الحقائق، وذهنه الذي تعمره مخلوقات بعضها يعيش فى الحياة، وبعضها يعيش في الكتب، ونفسه التي تسبح في أعماقها عوالم . وتقوم بين طياتها دول، وتدول دول، وتشرق شموس وتغيب شموس، وروحه المنعزلة التي تدور.

ولعل الموضوع الأساس الذي تناقشه الرواية هي المغامرات الغرامية التي تحلم به كل امرأةٍ في هذا العالم، بقلبها وروحها، اطرح من حسابك تلك التي لا تستطيع ....


يقول الكاتب في روايته: لقد أصبح اليوم مما يمس كرامة المرأة الجميلة أن يقال: إنها عاطلة من المعجبين، وإنهن ليتباهين أحيانا فيما بينهن بعددهم، ويتبارين في اكتساب أجملهم وأشهرهم وأغناهم ...

إنى أعرف صديقة متزوجة، تفخر بأنها تملك أثمن مجموعة من المحبين .... مجموعة يمثل كل رجل فيها ما تشتهيه المرأة من صفة : فلديها الثرى، ولديها الشاب الوسيم، ولديها صاحب الاسم والجاه ولديها صاحب النكتة والظرف .... وكل واحد من هؤلاء يظنها أنها له وحده، ولكن الحقيقة أنهم هم كلهم لها وحدها !... كل هذا يحدث، وأخشى ألا تصدقنى إذا قلت لك: إن هذا يكاد يأخذ مجرى الحياة العادية في كثير من البيوت والأسر، دون أن يقع ما يعكر صفو الزوجية، أو يحطم ذلك الرباط المقدس ....

ويذكر المؤلف يوم كانت زينة المرأة شيئا خفيا، يتم في حجرة مغلقة ؛فإذا هو اليوم عمل علنى تجريه فى كل مكان تحت أنظار الرجال والسيجارة كانت لا تدخنها من النساء غير العاهر، والخمر لا يحتسيها غير المومس .... فإذا حرائر النساء يدخن ويسكرن علانية في السهرات والمجتمعات والحفلات .... كذلك كلمة الخليل أو العشيق كانت تلفظها المرأة قديما هامسة بين طيات الحجب، وكأنما تلفظ إثما فلا عجب ...

وما دام كل شيء يتطور، إذا تحدثت النساء اليوم عن العشاق المعجبين بملء أفواههن أمام الناس، كأنما يتحدثن عن أثوابهم، ويشدن بأحاديث المغامرة بالبساطة التي يدخن بها (سيجارة)، ويصفن حوادت الغواية بالعناية التي يطلين بها الشفاه … ويتحدث عن محافظة المرأة على بيت زوجها بمقتضى عقد الزوجية، وإذا تغيّرت عواطفها ومشاعرها تجاه زوجها فلها فك هذا العقد..

ويمكن رد ذلك بأنه: إذا تغيرت عواطفك تجاه زوجك فغيرى العقد .... اذهبي إلى زوجك، وقولى له بكل هدوء:

يقول الكاتب على لسان تلك الغاوية في القصة."  إن عواطفى قد اتجهت إلى شخص آخر، ولم يعد في استطاعتى القيام بتعهداتي في الوفاء لك منذ اليوم .... والأمانة تقتضيني أن أطلب إليك الطلاق، ولقد حافظت على اسمك وشرفك حتى هذه اللحظة ..... هذا ما يجب أن تفعله المرأة إذا وثقت من صدق عواطفها، ولم تكن هازئة ولا مغامرة ولا ضعيفة عن صد شهوة عابرة ... ولكن المرأة تريد أن تأخذ من الزوج اسمه وماله وبيته، لتجعل من ذلك كله إطارا براقا لخيانتها .... إنها تريد أن تدخل الغش فى العش، والتدليس في العقد، هذا العقد القائم في الحقيقة على وجود كل من الطرفين ... الزوج عليه الكفاح في سبيل اللقمة، أو فى سبيل رفاهية الزوجة !... والزوجة عليها الكفاح على الأقل - ضد نزعات نفسها، ثم إنفاق موارد الزوج في معاشهما المشترك، فلماذا تريد الزوجة أن تختلس مال الزوج، کی تتزين به لرجل آخر !... لماذا يشقى الزوج من أجل امرأة تخونه مع رجل لم يشق من أجلها ؟... تهزئين بحزام العفة، وبأولئك الفرسان النبلاء، ولا ترثين لهم.

يرد عليها: وهم يذهبون لبذل أرواحهم فى الحروب دفاعا عن بيوتهم وزوجاتهم، ليعودوا فيجدوا هاته الزوجات قد بذلن عرضهن لمن لم يسفك من أجلهن قطرة دم ؟!... لماذا يحلو للزوجة دائما أن تجعل من زوجها ثورا، يدور ويكد ويكدح في ساقية الحياة، ليروى ظمأ ملذاتها ؟!...

لا أقول إن الرجل يجب أن يخون، ولكنه إذا خان خان من ماله .... ولكن الزوجة تخون من مال زوجها ...

 يالله !... ما أقوى ذلك الرباط المقدس عند الرجل !... إنه في الحقيقة رباط الرجل بطفله ... وإن منبع القداسة فيه ذلك الدم الذي يجب أن يجرى بينهما نقيا، فإذا تلوث أو تدنس، أو داخله الغش، أو خالطه التدليس، أو مر عليه شبح الشك والارتياب .... فإن الرجل قلما يحتمل ذلك !... هذا ما لا تفهمه المرأة، لأن كل طفل يخرج من بطنها هو لها، دون حاجة إلى أن تفرز أو تميز بين دم ودم .... ولهذا قل أن تدرك معنى لقداسة ذلك الرباط ..... لا قداسة عندها لشيء إذا اصطدم بغريزتها، أو وقف في طريق شهوتها !...

هذا هو نوع الحب الذى تريد مثلها اليوم أن تثيره في النفوس .... يا للمرأة !... ذلك الجهاز المشبع بالكهرباء ... الذي يلقى منذ مطلع الأجيال تيارات وموجات، لا تلتقطها غير الغرائز، فما العطور التي عرفتها المرأة منذ فجر التاريخ - بما تذيعه في الجو من شذا ـ إلا إشارات لاسلكية تخاطب بها حواس الرجال، وكذا النظرات والبسمات والتنهدات ..... وكل ما هيئ لكى يحدث على البعد أثرا يطيش بالعقول ولطالما حاول الشعراء أن يلتقطوا تلك الإشارات بنفوسهم الرفيعة، وأن يفسروها بلغة النفس العليا، ولكن ... هذا تفسيرهم هم، ولا شأن له بما يرمى إليه جهاز الإصدار

إن الحسناء المزينة المصنعة، هي كالمصباح البديع المصنوع من الذهب الإبريز، ولكن أين النور .... النور شيء معنوي !... إنه ليس اللهب، وليس الشرر، إنه النور، ذلك الإشراق الهادئ الطاهر الذي لا يحرق ولا يؤذى، ذلك الشيء الذي ليس بمادة تلمس، ولكنه يبعث في النفس متعة لا تدنس، ذلك السر الذى يمكن أن يودع في المرأة كما أودع في الزهرة، فأضاءها بألوان تلقى الخشوع عن بعد في نفوس الناظرين وجعلها تعبد لذاتها على عرش آنيتها، وصانها من عبث الانتفاع المادى الرخيص، الذي لا يرى فيها غير نبت يصلح للاعتصار ثم يلقى، وثمرة تقتطف للاستقطار ثم ترمى .....

إذا حرصت المرأة على اقتناء ذلك النور الداخلي ... فقد انقلب جهازها اللاسلكي نعمة كبرى ... تتحرك وتتنقل فترسل حيثما تسير موجات من الأضواء العلوية تنير القلوب، وتيارات من الأفكار السامية تلهم النفوس، وإشارات تخاطب الجوانب الرفيعة في الإنسان !

 إن اللذة الحسية ليست كل اللذة .... هنالك أيضا اللذة المعنوية ... إذا استمعنا إلى صياح حواسنا وخلايانا وحدها، وصدقنا مطالبها لما كان الإنسان أكثر من حيوان ..... ولكن هنالك لذات لا تعرفها أعضاؤنا المادية !... إن للتضحية في سبيل الواجب لذة، وللحرمان في سبيل الشرف لذة، إن الحياة بغير القيم المعنوية هي حياة تافهة لا معنى لها ..... وماذا يكون الفارق بين ( راهب الفكر ) وثور في حقل إذا فقد اللذات الروحية، ولم يكن له غير لذات الأنسجة والذرات ؟!... كلا .... إن الروح في حياتنا القصيرة ليست مصدر شقاق وشغب وشقاء تلك الروح في حياتنا القصيرة ليست مصدر شقاق وشغب وشقاء ... مزاعم الجسد .... ولكنها منبع سعادة من نوع آخر .... ولو آمنت المرأة بأن كبح جماح النفس من أجل واجب الزوجية يمنحها من السعادة الروحية، ما يعوض عليها ملذات البدن.

- لما استهانت برباطها المقدس لحظة واحدة، فكيف إذن ( براهب الفكر ) هو الذي يعيش للجمال الفكرى، ويبصر بنور الروح، أيستهين برباطه المقدس، الذي يربطه بالقيم المعنوية ؟!

- أعيش مع الشيء الباقي ... إن الأفكار لا تموت -...

-فضحكت وقالت : بل لا شيء يموت مثل الأفكار، إن لكل جيل أفكاره كما أن لكل عصر ثيابه ... إن الأفكار كورق الأشجار تتساقط في كل خريف .....

يقول بو بكر الرازي في بعض كتب الفلسفة: إن مفارقة المحبوب أمر لا بد منه اضطرارا بالموت، وإن سلم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبددة للشمل، المفرقة بين الأحبة، وإذا كان لا بد من إساغة هذه الغصة، وتجرع هذه المرارة فإن تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها ؛ لأن ما لا بد من وقوعه متى قدم أزيحت مؤونة الخوف منه مدة تأخيره، وأيضا فإن منع النفس من محبوبها قبل أن يستحكم حبه، ويرسخ فيها ويستولى عليها؛ أيسر وأسهل …

 وأيضا فإن العشق متى انضمت إليه ( الألفة، عسر النزوع عنه، والخروج منه، فإن بلية (الألفة) ليست بدون بلية العشق، بل لو قال قائل إنه أوكد وأبلغ منه لم يكن مخطئا، ومتى قصرت مدة العشق، وطال فيه لقاء المحبوب كان أحرى ألا تخالطه وتعاونه (الألفة) !... 

والواجب في حكم العقل من هذا الباب أيضا المبادرة فى منع النفس، وزمها عن العشق قبل وقوعها فيه، وفطمها منه إذا وقعت، قبل استحكامه فيها ... وهذه الحجة يقال إن (أفلاطون) الحكيم احتج بها على تلميذ له، بلى بحب جارية، فأخل بمركزه من مجلس (أفلاطون)، فأمر أن يطلب ويؤتى به، فلما مثل بين يديه قال له: 

-أخبرني يا فلان .... هل تشك فى أنه لا بد لك من مفارقة حبيبتك ) هذه يوما ما ....

قال: ما أشك في ذلك ....

-فقال له (أفلاطون): فاجعل تلك المرارة المتجرعة فى ذلك اليوم في يومنا هذا، وأرحما بينهما من خوف المنتظر..

- الباقى بحاله الذي لا بد من مجيئه، وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام، وانضمام الألفة إليه ....

فيقال: إن التلميذ قال (لأفلاطون): إن ما تقول أيها السيد الحكيم حق ... لكني أجد انتظارى له سلوة بمرور الأيام عنى أخف على ...

فقال له (أفلاطون): -وكيف وثقت بسلوة الأيام ولم تخف ألفتها ؟... ولم آمنت أن تأتيك الحالة المفرقة قبل السلوة وبعد الاستحكام، فتشتد بك الغصة، وتتضاعف عليك المرارة .....

فيقال (إن هذا الرجل سجد في تلك الساعة (الأفلاطون) . وشكره، ودعا له، وأثنى عليه، ولم يعاود شيئا مما كان فيه، ولم يظهر منه حزن ولا شوق ... إلخ

يقول المؤلف شاكياً حاله: الفلاسفة، ولكن الفلاسفة، رقدوا فى بطون كتبهم، متدثرين في صحائف منطقهم البارع، وتركوه ساهرا يدمى جفنه الأرق، ويحرق قلبه الشجن ....



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق