دراسة في كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري، منهجاً ومضموناً
عوض الذنيبات
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذه ورقة بحثية تناولت دراسة عامة لمنهج ومضمون "فتوح البلدان" للعالم المتبحر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري: وهو عالم ومؤرخ، وجغرافي، ونسابة، وله شعر جيد، من أهل بغداد. ولد سنة (١٩٠ هـ)، وتوفي سنة (٢٧٨ هـ) وقيل أصيب في آخر عمره بذهول شبيه بالجنون، فحُبس بالبيمارستان إلى أن توفي.
وهذا الكتاب "فتوح البلدان" يعد من الكتب الموسوعية التي ضمت بين جنباتها الكثير من المعلومات حول صدر الإسلام وما يتعلق بجغرافيا المسلمين، كما يُعد مصدراً مهماً من المصادر التي يعتمد عليها العلماء والمهتمون في شتى الفنون: من التاريخ، والهندسة، والجغرافيا، والمساحات، والعمران، وتسميات الأماكن والبلدان.
بالإضافة إلى ما يجري في فلك الاقتصاد، والسياسة، وما جاء في الفتوحات، وكذلك ما ورد في الأوائل، والأنساب، والتراجم، بل يُعد معجماً في اللغة، ومادة غنية بالأدب، لأنه لا يكاد يذكر غزوةً أو فتحاً أو حادثة عامة إلا ويرفقها بأبيات من الشعر، وحتى في تفسير الآيات وبيان أسباب نزلوها، وشرح بعض الأحاديث.
وقدمت هذه الورقة إلى قسم التاريخ، بجامعة مؤتة، الكرك، الأردن. تاريخ استلام البحث ٢٠١٢/١١/٢٥ م، وتاريخ قبوله ٢٠١١/٩/١٣ م.
قال ابن كثير في (البداية والنهاية): "البلاذري المؤرّخ واسمه أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أبو الحسن ويقال أبو جعفر ويقال أبو بكر البغدادي البلاذري صاحب التاريخ المنسوب إليه، سمع هشام بن عمار وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا الربيع الزهراني وجماعة، وعنه يحيى بن النديم وأحمد بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن قرقارة الأزدي.
وقال الحافظ ابن عساكر: "كان أديباً ظهرت له كتب جياد، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، وتوفي أيام المعتمد، وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره ... ".
وقال مؤرخ الاسلام الذهبي عنه في (السير) ٨/ ٤٩٩: "البَلاذُرِي العَلاَّمَة، الأديب، المصَنَّف، أبو بكر، أحمد بن يحيى بن جابر البَغدادي البلاذُرِي، الكاتب، صاحِب «التَّاريخ الكبير». سمع: هَوْذَة بن خَلِيفة، وعبد الله بن صَالح العِجْلي، وعَفَّان، وأبا عُبَيْد، وعلي بن المَديني وخَلف بن هِشَام، وشَيْبَان بن فَرُّوخ، وهِشام بن عَمَّار، وعِدَّةً. وجالَسَ المتوكِّل، ونادَمَه.
روى عنه: يحيى بن المِنَجِّم، وأحمد بن عَمَّار، وجَعْفَر بن قُدَامَة، ويعقوب بن نُعَيْم قَرْقَارَة، وعبد الله بن أبي سَعد الوَرَّاق.
وكان كاتباً بليغاً، شاعراً محسناً، وُسْوِسَ بأخَرَة لأنَّه شَرِبَ البلاذُر للحِفْظ.
وله مَدَائح في المأمون وغيره. وقد ربط في الْبِيمارِسْتَان، وفيه مات.
وقيل: كان يكنى أبا الحَسَن. وقيل: أبا جعفر. توفي بعد السَّبعين ومائتين، رَحِمَه الله. وكان جدُّه جابر كاتباً للخَصِيب أمِير مصر. "
ملخص
هذه دراسة في كتاب "فتوح البلدان" لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، من حيث المنهج والمضمون. قدم الباحث فيها نبذة عن حياة البلاذري: اسمه، نسبه، شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وتلاميذه، وآثاره، ومصنفاته، ووفاته.
وقد اعتمد الباحث منهج البحث التاريخي التحليلي أثناء دراسته للكتاب. وبين البحث المنهج الذي سار عليه المؤلف في كتابه، وكذلك المضمون؛ أي الموضوعات التي احتوى عليها الكتاب نفسه، بهدف بيان أهميته ومكانته بين المصادر التاريخية.
وختم الباحث دراسته بإبراز النتائج والتوصيات التي انتهى إليها الباحث
الكلمات الدالة كتاب "فتوح البلدان، البلاذري، المنهج، المضمون.
المقدمة
يعد البلاذري (ت279هـ /892 م)، من أبرز أعلام حركة التأليف التاريخي التي بدأت في الظهور منذ منتصف القرن الثالث الهجري، التاسع ميلادي، ومن الذين استعملوا بحرية كل ما أتيح لهم من مصادر على الرغم من تنوعها، وامتاز بالنظرة المتفحصة الناقدة للمادة التي انتقاها أساساً لمؤلَّفاته، وأعطى أهمية خاصة للروايات التي استقاها من مصادر إقليمية معايشة للحدث الذي يكتب عنه.
لعلَّ الناظر في مؤلفات البلاذري – وهي متنوعة –يجدها تكشف عن مكانته العلمية ودوره في تأصيل الكتابة التاريخية.
ويعد كتاب "فتوح البلدان"، أحد أبرز مؤلفاته، وهو يزخر بالمعلومات التاريخية من فتوح وأنساب ونوادر، بالإضافة للمعلومات الجغرافية واللغوية والأدبية والدينية من تفسير وحديث وفقه وغير ذلك، بحيث يمكن أن يوصف بالموسوعية، لما يمتلكه صاحبه من نظرة تكاملية للمعرفة.
وتزداد أهمية الكتاب بالمنهج الذي سار عليه صاحبه من خلال اهتمامه بالإسناد وبيان موارده التي استقى منها مادته التاريخية، وقد كان واضحاً ودقيقاً ومباشراً في الإشارة إلى جانب من منهجه في كتابه حين قال: "أخبرني جماعة من أهل العلم بالحديث والسيرة وفتوح البلدان، سقت حديثهم واختصرته ورددت من بعضه على بعض".
لاحظ الباحث أثناء دراساته في هذا المصدر، القيمة العلمية والمنهجية التي يتمتع بها، ولما تأكد له عدم وجود دراسة متخصصة ومستقلة حوله على النحو الذي حظي به كتابه "أنساب الأشراف"، شرع بتخصيص هذا البحث للوقوف على المنهج الذي سار عليه المؤلف فيه، وعلى موضوعاته ومضمونه.
بدأ الباحث عمله بدراسة الكتاب، وحصر الجوانب التي تخص المنهج الذي اعتمده المؤلِّف، والموضوعات والاهتمامات التي تضمنها.
وجد الباحث أن من الضروري التعريف بنشأة البلاذري، من حيث اسمه ونسبه وشيوخه وتلاميذه، وآثاره ومصنَّفاته ووفاته؛ لرسم صورة متكاملة للمؤلِّف وتكوينه الثقافي.
اعتمد الباحث المصدر نفسه مصدراً أساسياً للدراسة، بالإضافة إلى مصادر أخرى؛ معجمية وتراجم ومراجع ودراسات حديثة ذات صلة بموضوع البحث.
وفي النهاية ختم الباحث دراسته بإبراز أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها، مع قائمة مستقلة بهوامش مستقلة.
1- نشأة البلاذري:
أ- اسمه ونسبه: أحمد) بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري البغدادي الكاتب، يكنى أبا الحسن، وأبا جعفر، وأبا بكر. أما عن نسبه، فلم تذكر المصادر شيئاً عنه، رغم أن بعض المحدثين نسبوه إلى أصل فارسي، إلا أن المشهداني في دراسته عن موارد البلاذري عن الأسرة الأموية في كتابه "أنساب الأشراف"، يرجح أن نسبه يعود إلى أصل عربي من خلال ما ذكره المسعودي في كتابه "مروج الذهب"، إذ أشار إلى كتاب "الرد على الشعوبية" الذي صنفه أبو الحسن أحمد بن يحيى، على الرغم من أنه لم يُشر إلى أنه هو البلاذري صراحة، لكن يبدو أنه هو المقصود، حيث إن مثل هذا العمل الكتاب لا يقوم به شخص لا يشعر بعروبته شعوراً واضحاً.
كان جده يكتب للخصيب صاحب مصر، وكان هو من رجال البلاط في سامراء، جالس المتوكل والخلفاء من بعده، حتّى أيَّام المعتمد على الله، وهو عالم بالأنساب، وراوية متقن، نشأ ببغداد، وأخذ عن أئمة فقهائها وأعلام أدبائها، وكبار الإخباريين فيها.
ب- شيوخه:
ذكرت المصادر أنَّه سمع بدمشق من هشام بن عمار، وأبي حفص عمر بن سعيد، وبحمص من محمد بن مصفى، وأبي البزار، وعمرو، وبأنطاكية من محمد بن عبد الرحمن ابن سهم، وأحمد بن برد الأنطاكي، وبالعراق من عفان بن مسلم، وعبد الأعلى ابن حماد، وعبد الواحد بن غياث، وشيبان بن فروخ، وعلي بن المديني، وعبد الله ابن صالح العجلي، ومصعب الزبيري، وعبيد بن سلام، وإسحق ابن أبي إسرائيل، وخلف الناقد، والحسين بن علي بن الأسود العجلي، وعثمان بن أبي شيبة، وأبي الحسن علي بن محمد المدائني، ومحمد ابن سعد كاتب الواقدي، ومحمد بن الصباح الدولابي، وعباس بن الوليد، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وجماعة سواهم.
ومن خلال نظرة في تراجم ،شيوخه، نجد أنهم من بيئات ،مختلفة، وأصحاب اختصاصات متعددة في العلوم، منهم القراء، ومنهم المحدثون والفقهاء، ومنهم الأدباء، وبهذا يمكن القول إن ثقافة صاحبنا في هذه الدراسة كانت متعددة العلوم والمعارف.
وقد أدى هذا إلى تأثره بأساليبهم وبعض مناهجهم في دراساته التاريخية، وتبين ذلك من خلال عرضه للمعلومات التاريخية التي تناولها، والتي نجد فيها اهتماماً شديداً بالسند، حيث استخدم بشكل كبير صيغ المحدثين وألفاظهم التي كانوا يستعملونها في إسنادهم، وهذا ما ستناوله أثناء الحديث عن منهجه في كتابه موضوع البحث.
ويخرج القارئ لشيوخ البلاذري ومصادر رواياته بنتيجة أنه تكبد مشاق السفر، فزار كثيراً من البلدان، فزار مدن الشام؛ دمشق وحمص، وأنطاكية، وحماة، وأخذ عن علمائها، واستمع إلى رواتها، ولا يخفى تأثير مثل هذه الرحلات على المؤرخ المعني بجمع الأخبار، فقد توفرت لدى البلاذري معلومات محلية غزيرة عن الأمصار التي زارها.
ج -تلاميذه:
أَمَّا عن تلاميذه الذين أخذوا عنه، فمنهم يحيى بن النديم، وأحمد بن عمار، وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن فزارة الأزدي، وعبد الله بن أبي سعيد الوراق، وجعفر بن قدامة، وعبد الله بن المعتز.
د -آثاره، ومصنفاته:
لم يكن البلاذري من المكثرين في التأليف من حيث عدد الكتب والمصنفات التي خلفها، إلا أن بعض كتبه قد نالت مكانة كبيرة.
والذي تم الوقوف عليه من كتبه كما ذكر ابن النديم في الفهرست كتاب البلدان الصغير"، وكتاب "البلدان الكبير"، وكتاب "الأخبار" والأنساب"، وكتاب "عهد أردشير" ترجمه بشعر، وكتاب "فتوح البلدان"، وهو مدار بحثنا هذا، قالت عنه المصادر: "وله كتاب في البلدان وفتوحها وعنوة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما فتح في أيامه وعلى يد الخلفاء من بعده، وما كان من الأخبار في ذلك، وصنف البلدان في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولا نعلم في فتوح البلدان أحسن منه".
وقال فيه ابن العديم: "قرأت في كتاب البلدان وفتوحها وأحكامها تأليف أحمد بن يحيى البلاذري"، وذكره المسعودي في "التنبيه والأشراف" وذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان"، وذكره الصفدي في "الوافي بالوفيات"، وكذلك حاجي خليفة في "كشف الظنون".
وعلى الرغم من أن عدداً من المؤلفين قد كتبوا في هذا الحقل قبل البلاذري، إلا أن كتابه احتل موضعاً مرموقاً بين الكتب التي ألفت في هذا الموضوع؛ نظراً لضياع معظم الكتب السابقة، باستثناء بعض الكتب القليلة، ومنها ما كتبه الواقدي، مثل "فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان"، و"فتوح الشام"، و"فتوح إفريقية"، وكان ابن أعثم الكوفي (ت 314 هـ/ 1926 م)، قد صنف في الفتوح، رغم تأخُّره نسبياً عن زمن البلاذري.
وقد قام المستشرق الألماني دي خويه (De Goeje) بطبعه في لايدن سنة 1866م، بعنوان "فتوح الأقاليم"، ثم نشرته المطبعة الرحمانية عن طبعة دي خويه بالقاهرة سنة 1901م، كما نشر ثانيةً سنة 1932م، ونشره الدكتور صلاح الدين المنجد ما بين 1956 و 1958 م، ثم نشره عمر أنيس الطباع في بيروت سنة ،1957 ونشره أيضاً سنة 1978م، وقام هامكر بترجمته إلى اللاتينية، ترجمة موجزة سنة 1884 م.
ثم قام الأستاذ فيليب حتّي بترجمة قسم منه إلى الإنكليزية سنة 1916م، كما ترجمه كاملاً، فرانسيس كلارك مورجوتن سنة 1924م، وترجمه ريشير (Rscher) إلى الألمانية بين عامي 1917م و 1924م، كما ترجم سوفاجيه قطعة منه إلى الفرنسية في كتابه عن المؤرخين العرب.
وقد اعتمد الباحث في دراسته هذه على النسخة التي حقَّقها عبد الله أنيس الطباع، نشر مؤسسة المعارف، بيروت، 1987م.
هـ- وفاته:
توفي سنة 279 هـ/892 م، أيام المعتمد على االله، ونفى ياقوت الحموي أن يكون قد أدرك أيام المعتضد بالله، أحمد بن الموفق باالله، أبو العباس، الخليفة العباسي (ت289هـ/901م)، كما ذكر الصفدي في الوافي بالوفيات، علماً بأن الباحث لم يجد في المصادر ذات العلاقة ما يشير إلى ما أورده الصفدي في الوافي بالوفيات؛ مما يؤكِّد أن وفاته كانت سنة (279هـ/901م)، وهذا الرأي أخذ به محمد جاسم المشهداني في دراسته عن الأسرة الأموية في كتاب "أنساب الأشراف" للبلاذري.
و- منهج البلاذري في كتابه:
إن فكرة التأليف في كتابة تاريخ أمة، أو فترة خاصة كما يقول فرانز روزنتال في كتابه "علم التاريخ عند المسلمين": "لا يعني إلاَّ شيئاً واحداً، هو: "إظهار تطور الفكرة التاريخية لدى مؤرخي تلك الفترة أو الأمة، وتطور معالجتهم العلمية للأحداث، ووصف أصول صور التعبير الأدبي ونحوها أو انحطاطها، تلك الصورة التي استعملت لعرض المادة التاريخية".
ويضيف: "والمؤرخ ذو البصيرة النفَّاذة إلى الحقائق المهمة يعطي كتابه أهمية كمصدر تاريخي، وقيمة أي مصدر تاريخي يقررها قدمه، وقربه من الحوادث التي يصفها، أو استخدامه لكتب مفقودة أو قريبة من المعاصرة للحدث".
هذه الرؤية التي ضمنها روزنتال لكتابه ظهرت بشكلٍ واضحٍ في الكتاب الذي نحن بصدده في هذه الدراسة، فهو مليء بالجوانب التي تستوقف القارئ وتستحق القراءة، وبخاصة من حيث المنهج الذي اعتمده في الكتاب، ومن حيث الموضوعات ذات القيمة التاريخية –وهي التي تعكس اهتماماته بشكلٍ مباشر-، وهذان الجانبان هما اللَّذان عناهما الباحث في دراسته للكتاب.
لقد كان المؤلِّف واضحاً ودقيقاً ومباشراً في الإشارة إلى جانب من منهجه في الكتاب، حين قال: "أخبرني جماعة من أهل العلم بالحديث والسيرة وفتوح البلدان، سقت حديثهم واختصرته ورددت من بعضه على بعض".
هذه الرواية تؤكِّد أن البلاذري يميل في منهجه إلى الاختصار ما أمكن في التخلُّص من تكرار الأسانيد، وقد ظهر هذا بشكلٍ واضحٍ في الإكثار من استخدام الصيغة اللفظية "قالوا" التي يبدأ بها مطلع رواياته بعد رؤوس الموضوعات مباشرة، وكأنَّه يقول أن نوعاً من الإجماع قد تم حول قبول بعض الروايات والرواة، ويعرف هذا بأسلوب جمع الروايات والأسانيد.
ولعلَّ هذا من بين أسباب التأثُّر بأسلوب المحدثين في رواياتهم، ويمكن إعادة أسباب هذا التساهل في الإسناد واستخدام الإسناد الجمعي؛ لكونه ثقة كما أشارت المصادر، فلا داعي لذكر مصادره، وعلى اعتبار أن التاريخ لا تقام عليه أحكام شرعية كما هي الحال في الحديث.
والمتتبع لمنهج البلاذري في كتابه سيلحظ بشكلٍ لافت للنظر عنايته بالإسناد ما أمكن، واستعماله للكثير من الصيغ اللفظية الدالة على "السماع"، و"المشافهة" من شيوخه مباشرةً، من ذلك قوله: "حدثنا"، و"حدثني"، و"حدثني جماعة من أهل العلم"، و"حدثني بعض أهل العلم"، و"حدثني عدة من أهل العلم منهم جار لهشام بن عمار"، و"حدثني من أثق به"، و"حدثني بعض من أثق به من الكتَّاب"، و"حدثني أبو مسعود الكوفي قال"، و"حدثني أبو مسعود الكوفي وغيره"، و"حدثني القاسم بن سلاَّم وغيره"، وحدثني علي بن محمد المدائني"، و"حدثني المدائني والعباس بن هشام الكلبي"، و"حدثني أحمد بن حماد الكوفي"، و"حدثني الوليد بن صالح"، و"حدثنا الحسين بن إبراهيم بن مسلَّم الخوارزمي، و"حدثنا الحسين بن الأسود قال"، و"أخبرني بكر بن الهيثم"، و"أخبرني معافى بن طاووس"، و"أخبرني داود بن حبال الأسدي"، و"أخبرني أمير المؤمنين المتوكِّل"، و"سمعت من يذكر"، و"سمعت بعض العلماء يذكر"، و"سمعت بعض أهل الحيرة يذكر".
على أن الأسانيد وصحتها وتسلسلها لا يقتضي بالضرورة أن يكون البلاذري قد أخذها عن شيوخه عن طريق السماع والمشافهة فقط، فالشيخ لا بد له من أصل مدون يحدث منه.
ويظهر للباحث أن البلاذري في مادته التاريخية قد أعطى أهمية خاصة للروايات التي تعود للمنطقة التي وقعت فيها الحادثة واعتمدها في كتابه – أهل البلاد أنفسهم كشهود عيان وكذلك كتبهم- مع أنَّه أحياناً يضطر إلى إتمامها بروايات أخرى حول الموضوع نفسه، ومن الشواهد الواردة في كتابه – فتوح البلدان- الدالة على هذا الجانب من منهجه في إسناد رواياته قوله: "حدثني شيخ من الكوفيين"، وقوله: "حدثني شيخ من أهل الحيرة"، و"حدثني شيخ من أهل واسط"، و"حدثني مشايخ من أهل بغداد"، و"حدثني مشايخ من أهل المفازة"، و"حدثني بعض أهل قزوين"، و"حدثنا بعض أهل بابغيش"، و"حدثنا شيخ من أهل تكريت"، و"حدثني جماعة من أهل البصرة"، و"حدثني شيخ من أهل حمص"، و"حدثني جماعة من أهل العلم بأمر الشام قالوا"، و"حدثني مشايخ من أهل إنطاكية"، و"حدثنا مشايخ من أهل إنطاكية وغيرهم"، و"أخبرني بعض أهل الثغر"، و"حدثني بعض أهل اليمامة"، و"حدثني عدة من أهل الرقة قالوا"، وشواهد أخرى متنوعة وكثيرة.
وهي شواهد تدلِّل على أن البلاذري لم يقتصر في كتابه على موارد بغدادية فقط، وإنَّما قام برحلات عديدة إلى بلاد الجزيرة الفراتية والشَّام وبعض الثغور، إضافة إلى رحلات في المدن العراقية، وبهذا نجده قد نوع موارد كتابه من مختلف المدن والأمصار، ومن مختلف الأصناف، فنجد بين موارده قراء، ومفسرين، ومحدثين، وفقهاء، ونسابين، وأدباء وغيرهم.
وقد حشد أحياناً للخبر الواحد العديد من الشواهد منها القرآنية، ومنها الأدبية، ومنها الشعرية، وغير ذلك، حتَّى تكتمل صورة الخبر بشكلٍ دقيق، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أنَّه كان من السباقين إلى استخدام المنهج التكاملي في المعرفة.
وقد أفاد البلاذري من المدونات السابقة لعصره والتي كان مصنِّفوها من غير شيوخه، واستوعب الكثير منها، غير أنَّه لم يذكر أسماء تلك المصنَّفات البعيدة عن عصره، ولا بد أنَّه بذل جهداً كبيراً من أجل الحصول على تلك المواد لعدم تيسر وانتشار تلك المدونات بالسهولة التي عليها اليوم، ولكي يعالج مسألة الفارق الزمني بينه وبين أحداث التاريخ موضوع كتابه الفتوح، نجد أنَّه عني عناية فائقة في تبيان الطرق التي وصلت فيها تلك المعلومات إليه ما أمكنه ذلك، أو نص على النقل منها مباشرة؛ ليضفي صفة التوثيق على أخباره ورواياته، ويقدم مصدر الخبر ما وسعه ذلك، فمن ذلك قوله: "واسمه فيما ذكر ابن الكلبي"، و"قال الواقدي"، و"بعض الرواة يقول"، و"هذه رواية الشرقي بن القطامي"، و"روى الواقدي في إسناده"، و"روى محمد بن سعد"، و"قال بعض أهل السيرة""، ومن طرق الإسناد التي اتَّبعها البلاذري في الكتاب الذي نحن بصدده اعتماده على أكثر من مورد للخبر الواحد، كقوله: "قال أبو مخنف وغيره"، و"قال القحذمي المدائني"، و"قال القحذمي وغيره"، و"قال الكلبي وأبو اليقظان"، و"قال معمر ابن المثنى وغيره"، و"قال غير الواقدي"، و"قال غير هشام الكلبي"، و"حدثني بعض أهل العلم من الشاميين وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم"، و"حدثني جماعة من مشايخ أهل إنطاكية منهم ابن برد الفقيه"، و"حدثني ابن برد الأنطاكي وغيره قالوا".
وقد أظهر البلاذري في الكتاب موقفاً نقدياً تجاه مصادره، سواء كانت المدونة أو الشفوية، وهو بهذا يرجح روايات على أخرى، وفي هذا إشارة صريحة إلى تضعيفه لبعض الرواة الذين أخذ عنه، على نحو قوله في نهاية متن رواياته: "والخبر الأول أثبت"، و"الخبر الأول أثبت هذه الأخبار"، و"الأول أثبت"، و"أثبت الخبر أنَّه"، و"ذاك أثبت"، و"استشهاده أثبت"، و"الثبت أن"، و"الثبت عندهم أن"، و"ليس ذلك بثبت"، و"الخبر الأول أصح"، "والأول أصح وأثبت"، و"رواية الواقدي أثبت".
ومن الشواهد الدالة على صدقه ودقته وحياديته وموضوعيته وضبطه للإسناد، قوله: "وقد روي ذلك ولا أدري من أين جاء به من رواه"، و"حدثني هشام بن عمار في إسناد له لم أحفظه"، أما الروايات التي لم يستطع الجزم بصحتها فإنَّه لا يقول فيها قولاً نهائياً، ويكتفي بقوله: "والله أعلم". ما يدلُّ على موقف مضمر للمؤرخ يفهمه القارئ اللَّبيب؛ نظراً لوجود محاذير تحول دون الإفصاح.
إن نقد البلاذري لمصادر رواياته يدلّ على رجاحة عقليته التاريخية وعلو ملكة النقد التاريخي عنده، وتمتُّعه بخلفية عميقة للفهم التاريخي مكَّنته من قبول بعض الروايات ورفض البعض الآخر. إن اهتمام البلاذري بهذا الجانب يبين لنا أهمية كتابه من جهة، ومنهجيته ومدى عدالته وضبطه من جهة أخرى.
المضمون:
إن الناظر في هذا الكتاب – فتوح البلدان- يجد أنَّه من الكتب التي يمكن تصنيفها مجازياً من الكتب الموسوعية ذات الاهتمامات المتعددة؛ يأخذ منه المؤرخ والجغرافي، واللغوي والأديب، ويأخذ منه المفسر والمحدث والفقيه، وغير ذلك من أصناف العلوم على تنوعها.
يأخذ منه المؤرخ أسلوب قصص الأيام، وما ظهر في كتابات الإخباريين الأوائل، مثل عوانة بن الحكم، والهيثم بن عدي، و المدائني، وفي هذا إشارة إلى أن البلاذري كان لديه شعور تاريخي، أو تعبير عن هذا الشعور، وأن الشِّعر والنَّثر الذي تضمنه قصص الأيام، راجعاً إلى اهتمامه بالأدب الذي وظَّفه لخدمة الخبر التاريخي.
ويأخذ منه أيضاً المهتمون في التاريخ الاقتصادي الإسلامي؛ في الزكاة والصدقات، والجزية والخراج، والقطائع والغنائم والفيء.
وكذلك يأخذ منه المهتمون بالجوانب الإدارية في صدر الإسلام، عن قادة الفتوح والولاة والقضاة، زيادة على أن الكتاب يمكن أن يعتمد وثيقة للكتب التي وقَّعها الرسول -صلى الله عليه وسلم -وقادة الفتوح مع أهل البلدان التي تم فتحها.
بالإضافة إلى ذلك أبدى اهتماماً في الجوانب العمرانية، وما يتَّصل فيها من بناء المدن والمساجد ومؤسسات الدولة، وبخاصة ما يتعلَّق بتاريخ مكة والمدينة ومساجدهما – الحرم المكي والمسجد النبوي- وبعض التطورات والترميمات التي أُحدثت على هذه المساجد، وكذلك السيول التي تعرضت لها مدينة الرسول.
ويجد القارئ للكتاب اهتماماً واضحاً للبلاذري بعنصر الزمن فيما يخص تاريخ الغزوات والفتوح وبناء المدن، زيادة على جانب اهتمامه بالأوائل، والأنساب، والتراجم.
وتفيد المعلومات الواردة في الكتاب أن البلاذري، لديه اهتمام كبير في الجوانب الجغرافية، بحيث يمكن تصنيف المعلومات التي قدمها في هذا الجانب بأنَّها ذات طابع معجمي؛ مثل من أين جاءت تسميات بعض الأماكن والبلدان، وبعض المدن والقرى، والقصور، والمساجد، والأديرة، والدور، والحصون، والسكك، والآبار ومواقع المياه، والأنهار، والسيول، والحمامات، والجبانات، والرايات، والجزر، وغير ذلك.
ويستطيع الباحث أن يستخرج من الكتاب الكثير من المفردات اللغوية ودلالاتها، وأحياناً الكلمة ومعناها باللغة الفارسية.
أما الأدب، فلا تكاد صفحة من صفحات الكتاب تخلو من الشِّعر؛ شعر في المعارك والغزوات والفتوح، وشعر في شؤون الحياة العامة، والردة، وفي الأحلاف التي كانت بين قريش وخزاعة، وهكذا.
وقد ضمن المؤلِّف كتابه الكثير من الآيات القرآنية مع تفسيرها وتوضيح أسباب نزولها، بالإضافة للعديد من الأحاديث النبوية، والقضايا الفقهية، التي تتعلَّق بحياة المسلم.
وقد برز للباحث أثناء قراءته في الكتاب اهتمام البلاذري بالأعداد، الأطوال والمسافات، والمساحات، والألقاب، والنوادر، وهذا ما يؤكِّد صحة ما ذكرنا من أن صاحبنا كان سباقاً إلى النظرة التكاملية في المعرفة، مما أضفى على كتابه موضوع دراستنا هذه صفة الموسوعية، هذا المنهج ظهر للباحث عند البلاذري، وعند ابن دريد الأزدي في كتابه "الاشتقاق"، من خلال حشد آيات عدد من آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والأشعار حول الخبر الواحد لتأكيده وتوضيحه.
الخاتمة
إن الباحث في مؤلَّفات البلاذري يجد فيها أنَّه من العلماء الذين أسهموا في تأصيل الكتابة التاريخية عند المسلمين، وأن تعدد مصادر رواياته وتنوع شيوخه الذين تتلمذ عليهم شاهد على أنَّه تكبد مشاق السفر، وزار الكثير من البلدان؛ زار مدن الشام، زار دمشق وحمص وإنطاكية وحماة، وأخذ من العلماء فيها، واستمع إلى رواتها، وبهذا تولَّدت لديه معلومات محلية غزيرة عن الأمصار التي زارها.
ولأهمية كتاب "فتوح البلدان"، قام العديد من المستشرقين وأصحاب دور النشر، بنشر الكتاب وترجمته منذ عام 1866م، بحيث ترجم إلى العديد من اللغات، ترجم إلى اللاتينية والإنجليزية والفرنسية، وكان آخر نشر له سنة 1987م، من قبل عمر أنيس الطباع، طبع دار المعارف ببيروت.
أما عن النتائج التي توصل إليها البحث، فيمكن تحديدها بما يلي:
- إن البلاذري في كتابه "فتوح البلدان"، كان واضحاً ودقيقاً ومباشراً في الإشارة إلى جانب من منهجه ومصادره في الكتاب حين قال: "أخبرني جماعة من أهل العلم بالحديث والسيرة وفتوح البلدان، سقت حديثهم واختصرته ورددت.
- إن البلاذري في كتابه يميل إلى الاختصار للتخلُّص من تكرار الأسانيد، وأنَّه تأثَّر كثيراً بأسلوب المحدثين في رواياتهم، وأنَّه أعطى أهمية خاصة للروايات التي تعود للمنطقة التي وقعت فيها الحادثة واعتمدها في كتابه.
- استخدامه صيغاً لفظية معيّنة: وهي شواهد دالّة على دقَّته وضبطه للإسناد.
- إن نقده لمصادر رواياته يدل على علو ملكة النقد التاريخي عنده وتمتُّعه بخلفية عميقة للفهم التاريخي، مكَّنته من قبول بعض الروايات، ورفض بعضها؛ لاعتماده على أكثر من مورد للخبر الواحد.
- إن الناظر في هذا الكتاب – فتوح البلدان- يجد أنَّه من الكتب التي يمكن تصنيفها مجازياً من الكتب الموسوعية ذات الاهتمامات المتعددة؛ يأخذ منه المؤرخ والجغرافي، واللغوي والأديب، ويأخذ منه المفسر والمحدث والفقيه، وغير ذلك من أصناف العلوم على تنوعها. وهذا شاهد على أن صاحبنا كان من السباقين إلى النظرة التكاملية في المعرفة، مما أضفى على كتابه صفة الموسوعية.
هذا بعض ما توصل إليه الباحث من جوانب حول منهجية البلاذري في كتابه "فتوح البلدان"، وموضوعاته واهتماماته، والمجال لا يتَّسع لمزيد، فإن فكرة البحث تحتاج إلى رسالة علمية واسعة جديرة أن تخرج في كتاب مستقل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق