المنح المكية في شرح الهمزية المسمى (أفضل القرى لقراء أم القُرى)
للإمام العلامة الفقيه المحقق شهاب الدين
أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي
رحمه الله تعالى (٩٠٩ -٩٧٤ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب وضعه العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح همزية الإمام البوصيري في السيرة النبوية، والتي تعد إحدى أشهر قصائد المديح النبوي عند المسلمين، وهي من بحر الخفيف، وتقع في (٤٥٦) بيت، وتتميز ببلاغتها وقوة نظمها، وشموليتها بحيث تتناول الكثير من موضوعات السيرة النبوية والشمائل المحمدية، إضافةً إلى ما فيها من ذكر للصحابة وفضلهم، لا سيما الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، والآل، وأمهات المؤمنين، وقد وصف نفسه في مدحه للآل (بحسان مدحهم).
وتحدث البوصيري -فيها عن مقتل الحسين بكربلاء، والرد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والحمل على المنافقين وختم، بالدعاء والتوسل، وأدب الزيارة النبوية، وغير ذلك من المواضيع الدالة على سعة اطلاعه، ومعرفته وتبحره، يقول في مطلعها:
(كيف ترقى رُقيّك الأنبياء … يا سماءً ما طاولتها سماءُ)
ولم تخل الهمزية من الحكمة الرائقة، والهدايات الدينية، كالدعوة إلى الحلم، وأن القلب الذي ورث الهداية تنشط أعضاؤه للعبادة، وأن الموصول من وصله الله، والمقطوع هو من حُرم من ثواب الله، وذلك في قوله:
(٤٥ -وإذا حلت الهداية قلباً … نشطت للعبادة الأعضاء)
(٢٧٢ -فدعوا أحلم البرية والعفو … جوابُ الحليم والإغضاء)
(٢٧٥ -وإذا كان الوصل والقطع لله … تساوى التقريب والإقصاء)
وقد بين الشيخ ابن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى -في كتابه هذا معنى كل بيت وذكر ما يناسبه من بردة البوصيري، ويذكر في جملة ذلك من التنبيهات والجمع بين المتعارضات، والفوائد والمهمات اللغوية والنحوية والصرفية والبديعية الشيء الكثير، مع حشده الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وذكره القصص النبوي، وشيء من أحداث السيرة المباركة، وهو في ذلك يُصور معانيه ومقاصده بأبدع الألفاظ، وهو شرح نفيس جليل القدر، مع بعض الهنات التي أشرنا إليها في هذا المقال والبحث.
وفي هذا البحث تطرقنا إلى بيان أمورٍ، أهمها:
١-تعريف موجز بالبوصيري
٢-غرض البوصيري من تأليف الهمزية.
٣-تفوق همزية البوصيري على غيرها.
٤-إسناد ابن حجر المكي إلى همزية البوصيري، وكافة أشعاره.
٥-بيان الأبيات التي فيها غلو في همزية البوصيري.
٦-منهج ابن حجر الهيتمي في تقرير العقائد.
٧-آراء ابن حجر الهيتمي في الخصائص النبوية، وتقويم ذلك.
٨-الشروحات الموضوعة على همزية البوصيري.
أولاً: التعريف بالبوصيري -صاحب الهمزية:
والإمام البوصيري هو محمد بن سعيد البوصيري، ويُقال له: الدلاصيري، نسبة إلى مدينتي دلا وصير، ثم اشتهر بالبوصيري، قيل: ولعلها بلد أبيه فغلبت عليه. وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر، ولو لم يكن له إلا قصيدته المشهورة بالبردة لكفاه.
ويُروى أن سبب نظم البردة هو وقوع فالج به أعيا الأطباء، ففكر في إعمال قصيدة في النبي صلى الله عليه وسلم يتشفع بها إليه صلى الله عليه وسلم، ثم به إلى ربه، فأنشأها، فرآه في المنام، ماسحاً بيده الكريمة عليه، فعوفي لوقته، ثم لما خرج من بيته . . لقيه عبد صالح فطلب منه سماعها فعجب منه ؛ إذ لم يخبر بها أحدا ، فقال : سمعتها البارحة تنشد بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يتمايل كتمايل القضيب، قال: فأعطيته إياها.
وقيل : إنه اشتد رمده بعد نظمها، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقرأ عليه شيئاً منها، فتفل في عينيه فبرىء لوقته. . وهذا الاضطراب حول سبب نظم البردة يجعل مثل هذه الحكايات المروية غير مقبولة، لأن التحريف والزيادة بطبيعة الحال تعتري ما هو دون ذلك من الأخبار، فأن تعتري هذه الحكاية من باب أولى، وبالطبع فإن ذلك لا يؤثر على شهرة هذا النظم وروعته، إلا أننا لا نلقي لتلك الأسباب بالاً، مع إمكان صدق تلك الرواية.
ثانياً: الغرض من تأليف همزية البوصيري:
ويُلخص لنا البوصيري قصيدته في بيتين من الشعر، يقول فيهما:
(لم أُطل في تعداد مدحك نُطقي … ومُرادي بذلك استقصاءُ)
(غير أنِّي ظمآنُ وجدٍ وما لي … بقليلٍ من الوُرود ارتواءُ)
وهذا يُنبيك أن الدافع الأول للبوصيري هي عاطفته الجياشة تجاه النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومحبته الشديدة له، وتعلقه بشمائل المصطفى وخصاله وأخلاقه وسيرته الزكية العطرة، وهو أمرٌ مشروع بل ومُرغَّبٌ فيه، ومن الفضائل والمحاسن بل والمستحبات.
ثالثاً: تفوق همزية البوصيري على غيرها:
وقد أثنى العديد من الشعراء والعلماء على همزية البوصيري، ووصفوها بأنها عذبة الألفاظ جزلة المباني، عجيبة الأوضاع، بديعة المعاني، عديمة النظير، بديعة التحرير؛ إذ لم ينسج أحد على منوالها، ولا وصل إلى علا حسنها وكمالها، وكل من حاول معارضتها فإنه لم يأتِ على نسقها في الإبداع والتحرير كابن زكري وغيره.
يقول الهيتمي في "مقدمته": حتى الإمام البرهان القيراطي، المولود (ت ٧٨١ هـ)؛ فإنه مع جلالته وتضلعه من العلوم العقلية والنقلية، وتقدمه على أهل عصره في العلوم العربية والأدبية، لا سيما علم البلاغة، ونقد الشعر وإتقان صنعته، وتمييز حلوه من مره، ونهايته من بدايته. . أراد أن يحاكيها ففاته الشنب، وانقطعت به الحيل عن أن يبلغ من معارضتها أدنى ريب، وذلك لطلارة نظمها، وحلاوة رسمها، وبلاغة جمعها، وبداعة منعها، وامتلاء الخافقين بأنوار جمالها، و إدحاض دعاوى أهل الكتابين ببراهين جلالها، فهي دون نظائرها الآخذة بأزمة العقول، والجامعة بين المعقول والمنقول، والحاوية لأكثر المعجزات، والحاكية للشمائل الكريمة على سنن قطع أعناق أفكار الشعراء عن أن تشرئب إلى محاكاة تلك المحكيات، والسالمة من عيوب الشعر من حيث العروض، كإدخال عروض على أخرى، وضرب على آخر، ومن حيث فن القوافي، كالإيطاء وهو: تكرير لفظ القافية بمعناه قيل سبعة أبيات، وقيل: عشرة، وكالإكفاء وهو: اختلاف حرف الروي ، والإقراء وهو: اختلاف حركته، كلها وإن شرحت، فتعاورتها الأفكار وخدمت.
رابعاً: رواية ابن حجر الهيتمي لهمزية البوصيري:
يقول ابن حجر الهيتمي في "مقدمته": وقد حصلت لي رواية هذه القصيدة وغيرها من شعر الكاظم من طرق متعددة، منها، بل أعلاها: أني أرويها عن شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الحفاظ والمتأخرين، أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي:
عن العز أبي محمد بن الفرات عن العز أبي عمر بن البدر ابن جماعة عن ناظمها.
وعن حافظ العصر ابن حجر، عن الإمام المجتهد السراج البلقيني والسراج ابن الملقن والحافظ زين الدين العراقي، عن العز ابن جماعة رحمهم الله تعالى، عن الناظم.
وأرويها أيضا عن مشايخنا، عن الحافظ السيوطي، عن جماعة منهم الشمني، بعضهم قراءة وبعضهم إجازة، عن عبد الله بن علي الحنبلي كذلك، عن العز ابن جماعة عن الناظم .
خامساً: بيان الأبيات التي فيها الغلو في همزية البوصيري:
١- والبوصيري كغيره من غلاة الصوفية الذين يعتقدون أن الدنيا بمن فيها لم تخلق إلا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع المخلوقات وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ذكره في البردة وغيرها.
قال في البردة:
(وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ منْ … لولاه لم تخرجِ الدنيا من العدمِ)
يؤيده البيت الخامس من الهمزية:
(لك ذات العلوم من عالم الغيـ … ـــب ومنها لآدم الأسماءُ)
لذلك قال الهيتمي في شرح هذا البيت: (إن آدم لم يحصل له من العلوم إلا مجرد العلم من أسمائها، وأن الحاصل لنبينا هو العلم بحقائقها، ومسمياتها، ولا ريب أن العلم بهذا أعلى وأجل، من العلم بمجرد أسمائها، لأنها إنما يؤتى بها لتبيين المسميات فهي المقصودة بالذات، وتلك بالوسيلة، وشتان ما بينهما، ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم إنما هو خلق نبينا -صلى الله عليه وسلم -من صلبه فهو المقصود بطريق الذات، وآدم بطريق الوسيلة. ومن ثم قال بعض المحققين: إنما سجد الملائكة لأجل نور محمد -صلى الله عليه وسلم -الذي في جبينه).
٢- وقال في الهمزية مؤكدًا هذا المعنى:
(كلُّ فضلٍ في العالمين فمِن … فضلِ النبي استعاره الفضلاءُ)
قال الهيتمي في "شرح البردة": (فإنما اتصلت من نوره بهم: أي وصلت منه إليهم بطريق الاستمداد وذلك لأن نوره -صلى الله عليه وسلم -كان مخلوقًا قبل آدم صلوات الله وسلامه عليه بل قبل سائر المخلوقات من السموات وما فيها والأرض وما عليها وغير ذلك)، وهذا من خرافات الصوفية فالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ولدُ آدم وخُلق بعد آدم، فكيف يكون نوره خلق قبله؟! عليه صلوات ربي وسلامه.
وقال في "شرح الهمزية": (لأنه -صلى الله عليه وسلم -الممد لهم، إذ هو الوارث للحضرة الإلهية، والمستمد منها بلا واسطة دون غيره، فإنه لا يستمد منها إلا بواسطته ﷺ، فلا يصل لكامل شيء إلا وهو من بعض مدده وعلى يديه، فآيات كل نبي إنما هي مقتبسة من نوره، لأنه كالشمس، وهم كالكواكب، فهي غير مضيئة بذاتها وإنما هي مستمدة من نور الشمس، فإذا غابت أظهرت أنوارها فهم قبل وجوده -صلى الله عليه وسلم -إنما كانوا يظهرون فضله، وأنوارهم مستمدة من نوره الفائض ومدده الواسع). وهو كلام لا دليل عليه لا عقلي ولا نقلي، إنما هو كلام في كلام، لا زمام له ولا خطام.
٣-قوله ببعض أنواع التوسلات البدعية، كقوله
(الأمان الأمان إن فؤادي … من ذنوبٍ أتيتُهنَّ هواء)
يقول ابن حجر المكي (ص ٦٢٠): قوله (الأمان) أي أقسم عليك بهؤلاء المذكورين، وما منحتهم به، أن تُنيلني من حضرتك بواسطة شفاعتك فيَّ إلى من لا يُخيِّيبُ شفاعتك، وأن تؤتيني الأمان، (الأمان) الثانية تأكيد، أي: من عقاب ما اقترفته من الذنوب.. (فؤادي من) أجل (ذنوبٍ أتيتُهنَّ هواء) أي خالٍ عن فهم ما ينفعني في ديني ودنياي. انتهى.
٤-وقوله في بعض الأبيات يوهم التوسل الممنوع، لكن فسره ابن حجر بمعنىً آخر مشروع، يقول البوصيري:
(وأبى الله أن يمسَّني السوءُ … بحالٍ ولي إليك التجاءُ)
(قد رجوتك للأمور التي … أبردُها في فؤادنا رمضاءُ)
يقول ابن حجر الهيتمي في "شرحه" (ص ٦٢٣ -٦٢٤): (أن يمسني السوء بحالٍ) أي في حالٍ من الأحوال الدنيوية والأخروية، (و) الحال أني (لي إليك التجاءُ) أي استناد، لمزيد محبتي لك، وخدمتي لجنابك، ومن هو كذلك حقيقٌ بأنه لا يناله من ربه عذاب ولا سخط ولا حرمان، ولا قطيعة. (قد رجوناك) معشر محبيك وخدامك أيها النبي الكريم، أي أملنا فيك (للأمور) الخطيرة العظيمة من الذنوب والمخالفات، والغفلات والشهوات (التي أبردها) أي أيسرها (في فؤادنا رمضاء) أي نارٌ تتقد من شدة خوف المؤاخذة بما كسبته قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا. انتهى.
٥-قوله في الاستغاثة، والتي فسرها ابن حجر المكي بطلب التشفع من النبيَِّ -صلى الله عليه وسلم -إلى الله تعالى، يقول البوصيري:
(فأغثنا يا من هو الغوث والغيث … إذا أجهد الورى اللأواء)
و(يا نبيَّ الهُدى استغاثة ملهوفٍ .. أضرَّت بحاله الحوباءُ)
يقول ابن حجر الهيتمي في "شرحه" (ص ٦٣٥): (فأغثنا) بها -أي بالتشفع إلى الله -لتقضى جميع حاجاتنا، لوفور جاهك، وعظيم منزلتك عند ربك، (يا من هو الغوث) للمكروبين، والملجأ للمنقطعين، المنقذ لهم من الشدائد، (والغيث) المريع -الخصيب -للمضطرين، المشبع للجائعين، المجزل لهم من العوائد، فأزل شكوانا، وارفع لأواءنا، (إذا أجهد الورى اللأواء) أي: إذا ضيق على الخلق الجدب حتى أشرفوا على التلف.
ويقول الهيتمي في "شرح البيت الآخر" (ص ٤٢١): قوله (استغاثة) أي مسؤولي وهي نداء من يُخلِّصُ من شدَّةٍ أو يُخففها، .. أي أستغيث بك استغاثة، أي أناديك نداء (ملهوفٍ) أي مضطرب متحير محتاج إلى من ينقذه مما يهلكه (أضرت بحاله الحوباء) أي مسكنة ذنوبه، وضعف همته. والاستغاثة محمولة على طلب التشفع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
سادساً: منهج ابن حجر الهيثمي في تقرير العقيدة:
(عن رسالة آراء ابن حجر الهيثمي الاعتقادية عرض وتقويم في ضوء عقيدة السلف، تأليف: محمد بن عبد العزيز الشايع، ص ٦٦- ٨١).
سلك ابن حجر -عفا الله عنه -في تقرير العقيدة منهج المتكلمين، وبرز ذلك في عدة جوانب منها:
١-معارضته النقل بالعقل، وتقديمه العقل عليه، وحكمه بموجبه، هذا مع أن المعارضة بين النقل الصحيح والعقل الصريح وهمٌ عقلي، لا وجود له في الواقع.
وأول من عارض بين العقل والنقل وقد المعقول على المنقول هم الجهمية، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة، وتبعهم عليه الأشاعرة، والماتريدية وبخاصة المتأخرون منهم، حتى صار ذلك علامة عليهم تميزهم عن أهل السنة والجماعة.
يقول العلامة أبو المظفر السمعاني -رحمه الله: «اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول» (نقله عنه السيوطي في "صون المنطق").
وشبهة هؤلاء على اختلافهم أن العقل هو الذي دل على صحة النقل، وذلك بمعرفة الله وصدق الرسول، فلو قدم النقل على العقل لكان في ذلك تقديم للفرع على الأصل، ولكان فيه إبطال للأصل، وإذا بطل الأصل الدال على الفرع بطل بالتالي الفرع المترتب عليه، وقد ذكر هذا المعنى كثير من أهل الكلام بعبارات متنوعة، وأساليب مختلفة.
وقد قرر ابن حجر الهيتمي ـ عفا الله عنه ـ ذلك في كتبه، وفرع عليه جملة من المسائل العقدية. حيث قال: (وكالنص، حكم العقل القطعي، فالاعتقاد المستند إليه صحيح، وإن لم يرد فيه نص، بل لو ورد النص بخلافه، وجب تأويل النص إليه، كآيات الصفات وأحاديثها؛ إذ ظاهرها محال على الله عقلا، فوجب صرفها عنه بتأويلها بما يوافق العقل)
وبناء على هذا أوَّل ابن حجرـ غفر الله له ـ نصوص الصفات كالعلو، واليمين، والأصابع، والنور، والصورة، والكلام، والنزول، والقرب، والمحبة، والرحمة، والغضب، ونفى دلالاتها اللائقة بالله تعالى.
ولا شك في بطلان ما قرره ابن حجر من المعارضة بين العقل والنقل وتقديم العقل والحكم بموجبه عليه، لما يلزم على ذلك من فتح باب الزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه على مصراعيه، بدعوى مخالفتها لصرائح العقول.
ولهذا فمن طرد هذا الأصل الباطل أذاه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق العقل والنقل وظهر ما في قوله من التفريق بين المتماثلات القاضي ببطلانه وفساده أنكر على المعتزلة وهو ما وقع فيه ابن حجر ـ غفر الله له ـ حيث طردهم هذا الأصل، ومعارضتهم النقل بالعقل وحكمهم بموجبه بزعمهم في جملة من المسائل كذبح الموت، وفتنة القبر، وعذابه ونعيمه، والصراط، والميزان، والحوض، والرؤية، وبسط الكلام في بيان بطلان هذا الأصل، والرد عليه مذكور في مواضعه من كتب أهل العلم.
٢ - إعماله المجاز والتأويل والتفويض في بعض نصوص الكتاب والسنة:
فمن الأصول المقررة - عند القائلين بالمجاز ـ أن الأصل في الكلام الحقيقة، وأن المجاز على خلاف الأصل، فلا يعدل عنها إلا لقرينة.
وقد قرر ذلك ابن حجر -رحمه الله -في مواضع متعددة، وكرره في مواطن مختلفة، منها قوله:
«كل ما يمكن حمله على ظاهره يتعين حمله عليه، ولا يؤول إلا لدليل يمنع من الحمل على ظاهره» (فتح الإله، ص ٣٤٦).
وأنكر -رحمه الله -على من صرف ألفاظ النصوص عن حقائقها إلى مجازاتها، وتأولها بما ينافي ظاهرها، كإنكاره على من تأول شفاعة الصيام والقرآن يوم القيامة، ومن تأول نزول الحجر الأسود أبيض من الجنة، ومن تأول بقاء الملائكة على أسوار مكة والمدينة لحراستها من الطاعون والدجال.
إلا أن ابن حجر ـ غفر الله له ـ خالف ذلك ووقع فيما أنكره على غيره حيث أعمل المجاز والتأويل والتفويض في نصوص الصفات، وحرف دلالاتها عن حقائقها، ومن أمثلة ذلك:
أ - قوله بأن حقيقة اليمين مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن مزيد الرضا والقبول وإعظام الجزاء، وتأويله لها بذلك" (فتح الإله، ص ٣١٢).
ب - قوله بأن حقيقة الأصابع مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن إرادة الخير والشر في العبد، وتأويله لها بذلك (فتح الإله، ص ٣١٤).
ج- قوله بأن حقيقة النزول مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن نزول أمره أو بعض ملائكته، وتأويله لها بذلك. (فتح الإله، ص ٣٤٠).
د-قوله بأن حقيقة القرب مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن مزيد الإنعام، وتأويله لها بذلك. (فتح الإله، ص ٣٤٧).
هـ-قوله بأن حقيقة المحبة مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن التفضيل والإنعام، وتأويله لها بذلك. (فتح الإله، ص ٣٤٩).
و-قوله بأن حقيقة الرحمة مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن إرادة الإنعام أو الإنعام نفسه، وتأويله لها بذلك. (فتح الإله، ص ٣٥٢).
ز-قوله بأن حقيقة الغضب مستحيلة على الله تعالى، وأنها مجاز عن إرادة الانتقام أو الانتقام نفسه، وتأويله لها بذلك. (فتح الإله، ص ٣٥٤).
وإعمال ابن حجر ـ عفا الله عنه ـ المجاز والتأويل والتفويض في هذه المسائل مخالف لما قرره هو من جهة، ومنافي للصواب من جهة أخرى، وسيأتى لذلك مزيد بسط ـ بإذن الله.
٣ - قصره شمولية بعض النصوص الشرعية، وذلك بتقييده مطلقها وتخصيصه عموماتها دون دليل شرعي:
فالأصل بقاء شمولية النصوص الشرعية على ما تدل عليه، فلا تقيد إطلاقاتها أو تخصص عموماتها إلا بدليل؛ إذ قصر شموليتها بالتقييد أو التخصيص دون دليل تحكم وقول على الله بلا علم، وهو منهج أهل الأهواء على اختلافهم.
وقد قرر ابن حجر أفه ذلك، وأنكر على من خالفه، حيث قرر عموم النصوص الدالة على تحريم الحلف بغير الله، ورد على من استثنى من ذلك الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك تحكما لا دليل عليه.
يقول في ذلك: (نهى -صلى الله عليه وسلم -الناس عن الحلف به وبغيره من الخلق على حد واحد، فتحريم بعض الصور فقط تحكم) (تنبيه الأخيار -مخطوط).
إلا أن ابن حجر ـ غفر الله له - وقع في نحو ما أنكره حيث قصر شمولية النصوص الشرعية فقيد مطلقها، وخصص عامها في جملة المسائل العقدية دون دليل، ومنها:
أ- قصره النصوص الدالة على تحريم اتخاذ القبور مساجد على من اتخذها بقصد التبرك والتعظيم، وقوله بكراهة ذلك مع عدمه. (فتح الإله، ص ٢٠٧).
ب- قصره النصوص الدالة على تحريم اتخاذ السرج على القبور على من فعل ذلك بقصد التبرك بصاحب القبر وتعظيمه، وقوله بكراهة ذلك مع عدمه. (فتح الإله، ص ٢١٠).
ج- قصره النصوص الدالة على تحريم البناء على القبور على المقابر المسبلة والموقوفة، وقوله بكراهة ذلك في المملوكة!. (فتح الإله، ص ٢١٣).
د-قصره النصوص الدالة على تحريم تجصيص القبور على غير قبور الأنبياء والأولياء، وقوله بجواز ذلك في قبورهم. (فتح الإله، ص ٢١٣).
هـ-قصره النصوص الدالة على تحريم الكتابة على القبور على الكتابة التي لا تدل على المقبور، وقوله بجواز كتابة ما يدل عليه، بل واستحبابها في قبور الأنبياء والأولياء. (فتح الإله، ص ٢١٧).
٤-استدلاله بالأحاديث الضعيفة في تقرير المسائل العقدية:
ومن المتقرر عند أهل العلم أن المسائل العقدية لا -تبنى إلا على صحيح الأخبار دون سقيمها، «فالأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة ـ إما لضعف رواتها أو جهالتهم، أو لعلة فيها ـ لا يجوز أن يقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها».
وقد قرر ابن حجر لله ذلك وأكد عليه، حيث قال: المغيبات عنا لنا لا يجوز أن نقدم على الإخبار بشيء منها إلا إن صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يصح سنده لا يجوز ذكره إلا مع بيان ضعفه أو مخرجه، وأما الجزم فلا يجوز إلا بما علمت صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلا أن ابن حجر ـ غفر الله له ـ لم يلتزم بما ذكر في استدلاله على المسائل العقدية، بل إنه استدل بالضعيف والموضوع وما لا أصل له، وقد أوقعه ذلك في الخطأ في جملة من المسائل العقدية"، منها:
أ-قوله باستحباب شد الرحال لمجرد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- قوله باستحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بطلب الدعاء منه بعد وفاته أو التوسل بذاته أو جاهه.
ج- قوله بنبوة إبراهيم ابن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.
د- عده جملة من الخصائص لنبينا محمد-صلى الله عليه وسلم -وهي غير ثابتة.
هـ- ذكره لبعض علامات المهدي وخصوصياته وهي غير ثابته له.
و-ذكره لبعض صفات يأجوج ومأجوج وهي غير ثابتة.
٥-تجويزه الاحتجاج بالحديث الضعيف في المناقب، واستدلاله به فيها:
و«مسلك أهل التحقيق أن الحكم بفضيلة لأحد حكم شرعي، وأحكام الشرع متساوية الأقدام، فلا وجه للتمسك بالضعاف فيها بل لابد أن يكون الخبر صحيحا لذاته أو لغيره، وكذا الحسن، فلا يحتج بالضعيف إلا على طريق الشهادة والمتابعة إذا كان موافقا لهما» .
إلا أن ابن حجر -عفا الله عنه ـ خالف ذلك حيث قرر جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف في المناقب، بل حكى عن بعضهم الاتفاق على ذلك.
يقول في ذلك: الضعيف يعمل به في المناقب، قال بعض حفاظ المتأخرين: (اتفاقاً كالفضائل) انتهى. . ، (فاستحضر ذلك عند رؤيتك لكل حديث ضعيف وجدته في المناقب فإن هذه القاعدة مما يعظم نفعها جدا، ويجهلها أكثر المحصلين) (المنح المكية: ١/ ٢٧٧).
وقول ابن حجر ـ غفر الله له ـ متعقب من وجوه:
الأول: أن المناقب من الأحكام العقدية، والحكم بها حكم شرعي، لا بد فيه من تحقق صحته.
الثاني: أن القول بذلك ولج منه الرافضة والمتصوفة وغيرهم لإثبات كثير من عقائدهم الباطلة.
الثالث: أن هذا القول قد جر كثيرا من القائلين به إلى الاستدلال بالأحاديث الموضوعة وما لا أصل له، ومنهم ابن حجر نفسه - كما سيأتى.
الرابع: أن الذي عليه المحققون من أهل العلم كما سبق - عدم الاستدلال بالحديث الضعيف في المناقب والفضائل"، وعدم اعتباره حجة فيها، فضلا عن القول باتفاقهم على قبوله.
وقد أوقع ابن حجر ـ غفر الله له ـ وتجاوز عنا وعنه - القول بذلك في الخطأ في جملة من المسائل العقدية، منها:
أ- قوله باختصاص نبينا محمداً بأنه أول النبيين في الخلق والنبوة.
ب- قوله باختصاص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خلق من نور.
ج-قوله باختصاص نبينا محمدا بأنه المقصود من الخلق، والممد لهم، وخليفة الله.
د- قوله باختصاص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بإحياء أبويه له وإيمانهما به.
هـ- قوله بنبوة إبراهيم ابن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
٦ - حكايته الإجماع على غير وجهه، ودعواه تحققه باتفاق طائفته:
ومن معالم منهج المتكلمين على اختلافهم حكايتهم الإجماع بحسب ما يعتقدون أنه من دين الإسلام، والإجماع فيه غير متحقق، بل قد يكون الإجماع منعقدا على خلافه، ولهم في ذلك أمثلة متعددة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -في وصفهم: «فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو على ما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين، طائفة أو طائفتين أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف.
والأول كثير في أصول الدين وفروعه كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجا عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته؛ مثل: مسألة القرآن، والرؤية، والقدر، وغير ذلك» (مجموع الفتاوى).
وقد جرى ابن حجر ـ غفر الله له ـ على هذا في مواضع من كتبه، وحكى الإجماع في مسائل عدة، الإجماع فيها غير متحقق، أو منعقد على خلاف ما ذكر، منها:
أ- حكايته الإجماع على أن أول واجب على المكلف هو القصد إلى النظر، وزعمه أن ذلك مما لا خلاف فيها.
ب-ـ حكايته الإجماع على استحباب شد الرحال لمجرد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ج- حكايته الإجماع على استحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الدعاء منه، أو التوسل بذاته أو جاهه.
د-حكايته الإجماع على أن ظواهر نصوص الصفات غير مرادة، والاتفاق على لزوم تأويلها.
٧-استعماله المصطلحات البدعية، والألفاظ المجملة:
والألفاظ والمصطلحات هي طريق التعبير عن العلوم على اختلافها، وبها يحصل بيانها وتوضيحها.
وقد شغف المتكلمون على اختلافهم بإحداث المصطلحات البدعية، والتعبير بالألفاظ المجملة لترويج باطلهم والتشغيب بها على أهل الحق، حتى أصبح ذلك من سماتهم. ولهذا يقول الإمام أحمد -رحمه الله -في وصفهم: (يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، نعوذ بالله من فتن المضلين) (الرد على الزنادقة).
وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس يتضمن ما أحدثوه من المصطلحات البدعية والألفاظ المجملة التي عارضوا بها نصوص الكتاب والسنة.
وقد جرى ابن حجر ـ عفا الله عنه ـ على سبيلهم وسلك طريقهم في مواضع عديدة، حيث أطلق جملة من هذه المصطلحات والألفاظ وعارض بها دلائل الوحيين، منها:
أ- إطلاقه لفظ (الجسم) ومعارضته به النصوص الدالة على اتصاف الله تعالى بما يليق به من الصفات.
ب- إطلاقه لفظ (الجهة) ومعارضته به النصوص الدالة على علو الله عز وجل.
ج- إطلاقه لفظي (الحركة) و(الانتقال) ومعارضته بها النصوص الدالة على نزوله تعالى.
د-إطلاقه ألفاظ (الحيز) و(المكان) و(الجهة) ومعارضته بها النصوص الدالة على رؤية الله تعالى في الجنة إلى جهة العلو.
والحق الذي لا محيد عنه أن هذه الألفاظ ألفاظ مجملة، وهي ألفاظ اصطلاحية يراد بها معان متنوعة، ولم ترد في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات، فالمعارضة بها ليست معارضة بدلالة شرعية.
والألفاظ من حيث هي قسمان:
الأول: ألفاظ وردت في كتاب الله أو سنة رسوله ينه، فهذه يجب إثباتها والقول بما دلت عليه.
والثاني: ألفاظ لم ترد في كتاب الله أو سنة رسوله نه، فهذه لا تنفى ولا تثبت حتى يستفسر عن المراد بها، فإن تضمنت حقا أثبتت، وعبر عنه بالألفاظ الشرعية الواردة، وإن تضمنت باطلا ردت جملة وتفصيلاً.
٨ - اعتماده على غيره في تقريره لبعض المسائل العقدية، وتقليده لهم، دون تحققه من صحة كلامهم:
ومما عرف المتكلمون به تتابع بعضهم على تقليد بعض في المسائل العقدية مع زعمهم تحريم التقليد وقولهم بوجوب النظر في أصول الدين على آحاد المسلمين!
وبالنظر في آراء ابن حجر ـ غفر الله له ـ في المسائل العقدية، ومقارنتها بآراء غيره يظهر جليا اعتماده على غيره في بعضها وتقليده له دون تحققه من صحة كلامه.
ويتضح ذلك في متابعته لبعض أهل العلم في جملة من المسائل العقدية ومشاركته لهم في أخطائهم، ومن ذلك:
أ- اعتماده على تقي الدين السبكي في مسألتي شد الرحال لمجرد زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، والتوسل.
ب-اعتماده على الحافظ السيوطي فيما ذكره من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام على المهدي.
ج-اعتماده على الحافظ السخاوي فيما ذكره من أشراط الساعة.
د-اعتماده على العلامة القرطبي في مسألة السماع ومباحثها.
واعتماد ابن حجر ـ غفر الله له ـ على هؤلاء متفاوت بين اختصاره
لبعض كتبهم دون نقد أو تعليق، أو تبنيه لآرائهم في المسائل العقدية دون تحقق من صحتها، وهو في الغالب لا يشير إلى ذلك، وإنما يعرف بالبحث والمقارنة .
٩ - تعصبه لمذهبه، وحصره الحق فيه:
ومن سمات أهل الكلام ومعالم منهجهم أنهم يوهمون الناس بأنهم وحدهم الذين على الحق والاستقامة ولزوم السنة والجماعة، ويتجاهلون أهل السنة والجماعة على الحقيقة، أو يلمزونهم؛ ليصرفوا أنظار الناس «فإذا قالوا: قال أهل الحق، أو المحققون، أو اتفقوا، أو أجمعوا، أو نحو ذلك فإنما يعنون طائفتهم من أهل الكلام، أو سائر أهل الكلام من غير اعتبار لأهل السنة غالبا، وإذا ذكروا أهل السنة لمزوهم بالحشوية، أو المقلدة، أو أهل الحديث، أو الحنابلة، أو العامة.. ـ
وقد جرى على هذا ابن حجر ـ غفر الله له- حيث زعم أن أهل الحق طائفتان هما: الأشاعرة والماتريدية، وأن أهل البدع من خالفهم:
يقول في ذلك: «المراد بأصحاب البدع من كان على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، والمراد بهم: أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي إمامي أهل السنة»:
بل إنه تجاوز ذلك فادعى أن المدار في الاعتقاد ليس إلا ما عليه أهل السنة والجماعة، الذين هم بزعمه الأشاعرة والماتريدية.
حيث قال: «اعلم أن المدار في الاعتقاد ليس إلا ما عليه أهل السنة والجماعة وهم: أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي وتابعوهما، وأنهما أعني الأشعرية والماتريدية، إذا اختلفا في مسألة فالتحقيق والمعمول به ما عليه الأشاعرة كما هو مقرر في الأصول.
على أن: المحققين منا معشر الأشاعرة بين أن الاختلاف الواقع بين الفريقين إنما في مسائل قليلة وأنه يرجع إلى الاختلاف اللفظي؛ لأنه إذا حقق المناط رُئي أن كلا من الفريقين لا يخالف الآخر» (المولد الشريف، ص ٦٥ -٦٦).
والحق أن أهل السنة له إطلاقان:
أحدهما: عام:
والمراد به ما يكون مقابل الرافضة، فيدخل فيه جميع الفرق المنتسبة إلى الإسلام . عدا الرافضة.
وثانيهما: خاص.
والمراد به ما يكون مقابل أهل البدع والمقالات المحدثة، فلا يدخل فيه إلا أهل السنة والجماعة المحضة. (منهاج السنة النبوية، لابن تيمية: ٢/ ٢٢١).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى -: لفظ أهل السنة:
يراد به من أثبت خلافة الثلاثة، فيدخل في ذلك ـ أي: في لفظ أهل السنة ـ جميع الطوائف إلا الرافضة.
وقد يراد به: أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل السنة والحديث».
وعليه فدعوى ابن حجر ـ غفر الله له ـ أن الأشاعرة والماتريدية هم أهل الحق وأهل السنة والجماعة، وهم الذين عليهم المدار في الاعتقاد منقوضة من وجوه:
أ ـ أن مصطلح أهل السنة والجماعة معروف في صدر الإسلام، وقد ورد التعبير به على ألسنة جماعة من السلف قبل الأشعري والماتريدي، فحصره فيهما ومن سار على منهجهما لا يصح (= ورد التعبير بذلك عن ابن عباس جيه وأيوب السختياني، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل، وابن جرير، والطحاوي رحمهم الله تعالى).
ب - أن أهل الشيء في اللغة هم أخص الناس به، يقال: أهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكانه، وأهل الإسلام: من يدين به وعليه فمعنى أهل السنة والجماعة: هم أخص الناس بها، وأكثرهم تمسكاً بها، واتباعا لها، قولاً وعملاً واعتقاداً، وهذا الوصف إنما يتحقق في الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن سلك سبيلهم.
وأما الأشاعرة والماتريدية فإن هذا الوصف بإطلاقه لا يتحقق فيهم، لإعمالهم العقل وتقديمه على النقل، وردهم خبر الآحاد واستعاضتهم عنه بمعقولاتهم.
ج - أن الحق واحد لا يتعدد، والأشاعرة والماتريدية اختلفوا في جملة من المسائل العقدية الكبار، وقد عني جماعة منهم بتحقيق الخلاف فيها، واضطربت أقوالهم في الترجيح بينها)، ومما أقروا بأن الخلاف فيه بينهم حقيقي: معرفة الله تعالى وهل تجب بالشرع أم العقل، وصفة الإرادة، وصفة الكلام، وصفة التكوين، والتكليف بما لا يطاق، والحكمة والتعليل، والتحسين والتقبيح، والاستطاعة، وأفعال العباد، وحكم إيمان المقلد.
ولا شك أن بعض هذه المسائل من المسائل الكبار، والكلام فيها تبنى عليه فروع عديدة؛ فالقول بأن الخلاف لفظي ليس على إطلاقه في كثير من المسائل، ودعوى أن الخلاف الحقيقي إنما هو في مسائل قليلة مردودة بما سبق.
١٠- عداؤه الشديد لمن خالفه، وخصومته له، وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمهما الله - كما سيظهر في المبحث التالي.
ونتيجة لهذا المنهج الذي سلكه ابن حجر ـ غفر الله له ـ في تقرير العقيدة وقع في الاضطراب والتناقض، شأنه في ذلك شأن كل من أعرض عن منهج أهل السنة والجماعة وتنكب طريقهم.
يقول العلامة الألوسي -رحمه الله تعالى: (انظر إلى ما قاله ابن حجر في التحفة والزواجر مع ما ذكره في الجوهر المنظم تجد المناقضة ظاهرة…) (غاية الأماني: ١/ ٢٥٠).
ويقول في معرض تعقبه على كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين: (لم يبين ما ذكره أهل العلم فيه من تعصبه في مذهبه... واضطرابه في أقواله، وعدم ثباته على قول، ومن يراجع أقواله في الزواجر والقواطع ثم يوازن بينها وبين أقواله في الجوهر المنظم والفتاوى الحديثية يجد ما قيل فيه واضحا صريحاً) (غاية الأماني: ٢/ ٧٨).
سابعاً: آراء ابن حجر الهيثمي في خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
(عن رسالة آراء ابن حجر الهيثمي الاعتقادية عرض وتقويم في ضوء عقيدة السلف، تأليف: محمد بن عبد العزيز الشايع، ص ٤٤٧- ٨١).
ثانياً: خصائصه -صلى الله عليه وسلم:
١ - تعريف الخصائص، وأقسامها:
يرى ابن حجر -رحمه الله -أن كمالات نبينا لا تحصى، وأن خصائصه لا تستقصى، يقول في ذلك: «مما يتعين على كل مكلف أن يعتقد أن كمالات نبينا لا تحصى، وأن أحواله وصفاته وشمائله لا تستقصى، وأن خصائصه ومعجزاته لم تجتمع قط في مخلوق، وأن حقه على الكمل فضلا عن غيرهم أعظم الحقوق... » (المنح المكية).
التقويم:
الخصائص: جمع خصيصة، يقال: خصه بالشيء يخصُّه خصاً وخصوصية وخصوصية، والفتح أفصح، واختصه: أي أفرده دون غيره.
وعليه فالخصائص النبوية: هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي -صلى الله عليه وسلم وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء، وإما عن سائر البشر.
وهي ضربان:
الأول: خصائص تشريعية: وهي ما اختص به النبي من التشريعات الإلهية.
والثاني: خصائص تفضيلية: وهي الفضائل والتشريفات التي كرم الله بها نبينا دون غيره.
٢ - ما ذكره من خصائصه -صلى الله عليه وسلم:
أورد ابن حجر جملة من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، ويمكن تقسيم ما أورده إلى قسمين:
الأول: ما عده من خصائصه وهو ثابت.
الثاني: ما عده من خصائصه ؤ وهو غير ثابت.
وفيما يلي سياق ما ذكره وفقا لذلك.
القسم الأول: ما عده من خصائص نبينا تؤ وهو ثابت:
قال في سياقه لجملة منها: (رسول الله هو سيد الأولين، والآخرين، والملائكة المقربين، والخلائق أجمعين، وحبيب رب العالمين، أكمل رسل الله، وأفضل خلق الله، المخصوص بالشفاعة العظمى يوم الدين، والمنصوص على عموم رسالته إلى العالمين من الإنس، والجن، والملائكة السابقين واللاحقين، صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود؛ والحوض المورود...
فهو الذي اصطفاه بالمحبة والخلة.
والقرب والدنو المنزه عن الإحاطة والجهة.
والمعراج.
والصلاة بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
والشهادة عليهم وعلى أممهم.
ولواء الحمد.
والوسيلة.
والبشارة والنذارة.
والهداية والإمامة.
والرحمة للعالمين.
وبالكوثر.
وأنه يعطيه حتى يرضى .
وبإتمام النعمة.
وبشرح الصدر.
ورفع الذكر فلا يذكر تعالى إلا ويذكر معه.
وبغرة النصر.
والتأييد بالملائكة لج .
وبنزول السكينة.
والسبع المثاني.
وإجابة الدعوة.
وبالقسم بحياته. . .
ودوام الصلاة عليه من الله وجميع ملائكته الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى ومن أمته في سائر الأزمنة والأمكنة ... إلى غير ذلك مما لا يطمع في حصره ولا غاية لاستقصائه) (الدر المنضود).
وذكر في مواضع أخرى من كتبه اختصاصه بختم النبوة، وجوامع الكلم، وإسلام قرينه من الجن، وإحلال الحرم له يوم الفتح (انظر المولد الشريف له).
التقويم:
الخصائص الثابتة لنبينا فثؤ كثيرة، وما ذكره ابن حجر طرف منها، والكلام عليها وبيان أدلتها يطول، وقد أفردها غير واحد من أهل العلم بمصنفات خاصة؛ ولهذا سأطوي الكلام عليها مكتفيا بالإحالة على مصنفات أهل العلم فيها (وقد ذكر المنجد في معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جملة منها ص ١٧٨ -١٩٠).
القسم الثاني: ما عده من خصائص نبينا -صلى الله عليه وسلم -وهو غير ثابت:
يرى ابن حجر تخفه أن تعظيم النبي يجب أن يكون بما ثبت له، وأذن به، دون مجاوزة ذلك، حيث يقول: (يتعين على كل أحد أن لا يعظمه إلا بما أذن الله لأمته في جنسه مما يليق بالبشر، فإن مجاوزة ذلك تفضي إلى الكفر والعياذ بالله، بل مجاوزة الوارد من حيث هو ربما تؤدي إلى محذور؛ فليقتصر على الوارد…) (الجوهر المنظم، ص ٦٤).
ولكن ابن حجر لم يتقيد بما ذكره هنا حيث ادعى للنبي -صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما لم يثبت له، ولم يأذن به، وفيما يلي بيان ذلك:
١ - اختصاصه بأنه أول النبيين في الخلق والنبوة:
يقول في ذلك: «اعلم أن الله شرف نبيه ن بسبق نبوته في سابق أزليته؛ وذلك أن الله تعالى لما تعلقت إرادته بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المحمدية من محض نوره... ثم أعلمه بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن. . روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، ومن جملة ما كتب في الذكر وهو أم الكتاب أن محمدا خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته... ) وصح أيضا: متى كنت نبيا؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد.. ) وجاء: (أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا. ..) (انظر: المولد الشريف، ص ٢٧، والمنح المكية، وغيرهما).
التقويم:
القول بأن نبينا محمداً أول الكائنات خلقا، وأنه متقدم على سائر الأنبياء بالنبوة قرره غير واحد من غلاة المتصوفة ومن وافقهم.
وما ذكره ابن حجر ـ عفا الله عنه ـ لا يخرج عما قرروه، وهو باطل من وجوه:
الأول: أن الأدلة النقلية والعقلية والحسية كلها تدل على أن نبينا محمداً هو آخر الأنبياء خلقا، وخاتمهم نبوة.
الثاني: أن النصوص الشرعية وإن اختلفت في تحديد أول ما خلق الله من الكائنات إلا أنه لم يصح في شيء منها أن أول المخلوقات نبينا محمد كذ أو نوره ـ كما سيأتي.
الثالث: أن ما استدل به ابن حجر على دعواه لا يصح، وبيان ذلك فيما يلي:
١ ـ قوله -صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، ومن جملة ما كتب في الذكر وهو أم الكتاب أن محمداً خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته».
الحديث بهذا اللفظ لم يخرجه مسلم ـ كما ذكر ابن حجر ـ وإنما خرَّج أوله.
وأما آخره -ومحل الاستدلال منه -وهو قوله: «ومن جملة ما كتب في الذكر...» فقد أخرجه أحمد، والبخاري في التاريخ الكبير، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي، ويعقوب بن سفيان، وأبو نعيم، من طرق عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية أن رسول الله قال: «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم و لمنجدل في طينته...».
وهو بهذا الإسناد لا يصح فيه سعيد بن سويد الكلبي.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني عنه: سعيد بن سويد الكلبي الشامي، روى عن العرباض بن سارية، وربما أدخل بينهما عبد الأعلى بن هلال. . . ذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: لم يصح حديثه، يعني الذي رواه معاوية عنه مرفوعا: «إني عبد الله وخاتم النبيين في أم الكتاب، وآدم منجدل في طينته»، وخالفه ابن حبان والحاكم فصححاه… (انظر ص ٤٥٣).
٢ - قوله جواباً لمن سأله: متى كنت نبيا؟: «وآدم بين الروح والجسد».
الحديث أخرجه الترمذي، والحاكم، وأبو نعيم من طرق عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه -به .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
والجواب عنهما: أن الحديثين لا يدلان على ما ذهب إليه ابن حجر من تقدم نبينا محمد ذ على غيره من الأنبياء في الخلق والنبوة، وإنما غاية ما يدلان عليه أنه يج كتب نبيا وآدم لم تنفخ فيه الروح بعد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى: هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم -كان حينئذٍ موجوداً، وأن ذاته خلقت قبل الذوات...
والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى؛ كتبه نبياً بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه.
وهو موافق لما أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك...» إلى آخره.
وقد بين فيه خلق الجنين، وتنقله من حال إلى حال، فناسب هذا أنه بين خلق آدم ونفخ الروح فيه تكتب أحواله، ومن أعظمها كتابة سيد ولده.
٣ - قوله صلى الله عليه وسلم «أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً»:
الجواب عنه: أن الحديث أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو نعيم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وهو بهذا الإسناد لا يصح، لما يلي:
أ- عنعنة الحسن البصري، وهو معدود فيمن احتمل الأئمة تدليسه، إلا أن في سماعه من أبي هريرة كلام، والصحيح أنه سمع منه أحاديث معدودة ليس هذا منها (التدليس في الحديث، للدميني، ص ٢٩١)..
ب- عنعنة قتادة بن دعامة السدوسي، وهو معدود فيمن أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع (تعريف أهل التقديس، ص ١٤٦).
ج- ضعف سعيد بن بشير، خاصة في روايته عن قتادة، والحديث من روايته عنه، ولهذا ذكره الذهبي في ترجمته وعده من غرائبه (ميزان الاعتدال، ٢/ ١٢٩).
وعليه فالحديث ضعيف لا تقوم به حجة.
٢ - اختصاصه بأنه خلق من نور:
يقول في ذلك: «نور نبوته متقدم على جميع المخلوقات، وشاهده: حديث عبد الرزاق بسنده عن جابر -رضي لله عنه، قال: يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء، قال: (يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره،
فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح، ولا قلم، ولا جنة، ولا نار، ولا ملك، ولا سماء، ولا أرض، ولا شمس، ولا قمر، ولا جن، ولا إنس، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء:
فخلق من الجزء الأول: القلم، ومن الثاني، اللوح، ومن الثالث: العرش،
ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء:
فخلق من الأول: السماوات، ومن الثاني: الأراضين، ومن الثالث: الجنة والنار،
ثم قسم الرابع أربعة أجزاء :
فخلق من الأول: نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني: نور قلوبهم وهو المعرفة بالله، ومن الثالث: نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله...» الحديث.
وفي حديث... (كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر عام)!
وفي الخبر: (لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور يدور في ظهره، فكان يلمع في جبينه، فيغلب على سائر نوره» الحديث.. .(المنح المكية: ١/ ١٣٩).
(وكان يكثر الدعاء بأن الله تعالى يجعل كلا من حواسه وأعضائه وبدنه نوراً، إظهاراً لوقوع ذلك.. . )
-ومما يؤيد أنه صار نوراً:
"أنه كان إذا مشى في الشمس أو القمر لم يظهر له ظل؛ لأنه لا يظهر إلا لكثيف، وهو صلى الله عليه وسلم -قد خصه الله من سائر الكثائف الجسمانية، وصيره نوراً صرفاً لا يظهر له ظل أصلا خرقا للعادة، كما خرقت له في شق صدره وقلبه مررا ولم يتأثر بذلك".
التقويم:
ما ذكره ابن حجر ـ غفر الله له ـ من كون نبينا محمده خلق من نور منقول عن جماعة من غلاة الصوفية، وهو قول باطل من وجوه:
١-أن القول بذلك ينافي بشرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن البشر مخلوقون من التراب لا من النور، قال تعالى: و{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} (الروم: ٢٠).
وقال -صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم). فهذا خبر عام في جميع البشر، فتخصيص نبينا محمد بأنه خلق من نور يحتاج إلى مخصص، ولا مخصص.
٢- أن القول بذلك يفضي إلى بعض العقائد الفاسدة كاعتقاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم -مخلوق من نور الله تعالى، وأن العالم كله خلق من نوره، وأنه أول المخلوقات، وأن خلقه متقدم على العرش والقلم، وقد التزم جماعة من القائلين بذلك بهذه العقائد، ومنهم ابن حجر.
٣-أن القول بذلك مأخوذ من بعض الفلسفات القديمة، والنظريات الفاسدة
٤-أن ما استدل به القائلون بذلك- ومنهم ابن حجر ـ لا يصح، وبيان ذلك فيما يلي:
أ ـ أما حديث جابر رضي الله عنه: «إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره..».
فهو حديث باطل، ولم يخرجه أحد من أئمة الحديث، ومن القواعد المقررة التي يعرف بها وضع الحديث أن لا يتداوله المحدثون في كتبهم.
وعزو ابن حجر الحديث إلى عبد الرزاق باطل؛ إذ هو ليس في شيء من كتبه (انظر: تنبيه الحُذاق على ما شاع بين الأنام من حديث النور للشنقيطي، النور المحمدي لعذاب الحمش، ص ٥٠)..
ب ـ وأما حديث: «كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر عام»
فلم أجد من أخرجه بهذا اللفظ، وقد عزاه العجلوني لابن القطان "في أحكامه، وبعد البحث في المطبوع من كتبه لم أجده في شيء منها.
وقد أخرج القطيعي في زوائده على فضائل الصحابة لأحمد، وابن عساكر في تاريخه، من طريق الحسن بن علي البصري، عن أحمد بن المقدام العجلي، عن الفضيل بن عياض، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان الفارسي تينه حديثا بنحوه، ولفظه: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله شتك قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام...».
وفيه: الحسن بن علي البصري، متهم بالكذب، والحديث معدود في طوامه.
قال العلامة محمود شكري الألوسي: هذا الحديث موضوع بإجماع أهل السنة.
ج ـ وأما حديث: «لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور يدور في ظهره».
فلم أجد بعد البحث من خرجه من أهل الحديث، وإنما ذكره بعضهم دون عزو.
وأما ما زعمه ابن حجر من كون دعاء النبي أن يجعل كل حواسه نوراً إظهاراً لوقوع ذلك، وأنه لم يكن له ظل لكونه نورا صرفا فهو من مجازفاته؛ إذ دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم -بذلك لا يعني إظهار وقوعه وإلا لمنعت أمته من الدعاء بمثله، ودعوى كونه -صلى الله عليه وسلم -نوراً صرفاً لا ظل له لم يشهد لها ما يدل عليها ومثلها مما تتوافر الهمم لنقله.
٣ - اختصاصه -صلى الله عليه وسلم بأنه المقصود من الخلق، والممد لها، وخليفة الله فيها:
يقول ابن حجر في "العمدة شرح البردة" (ص ٢٢٠): اعلم أن الله تعالى شرف نبيه بسبق نبوته في سابق أزليته، وذلك أنه تعالى لما تعلقت إرادته بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المحمدية من محض نوره، قبل وجود ما هو كائن من المخلوقات بعد، سلخ العوالم كلها، ثم أعلمه تعالى بسبق نبوته وبشره بعظيم رسالته، كل ذلك وآدم لم يوجد، ثم انبجست منه عيون الأرواح فظهر بالملأ الأعلى أصلا ممدا للعوالم كلها».
ويقول في شرحه لقول البوصيري:
(كلُّ فضلٍ في العالمين فمن فضل … النبي استعاره الفضلاء)
«كل فضل وجد في العالمين الإنس والملائكة والجن فهو كائن من فضل ذلك النبي الأكرم على ربه من سائر الأنبياء والمرسلين، والملائكة الفضلاء؛ لأنه الممد لهم، إذ هو الوارث المقربين، .. استعاره... للحضرة الإلهية، والمستمد منها بلا واسطة دون غيره، فإنه لا يستمد منها إلا بواسطته، فلا يصل لكامل شيء إلا وهو من بعض مدده، وعلى يديه، فآيات كل نبي إنما هي مقتبسة من نوره ،لأنه كالشمس وهم كالكواكب، فهي غير مضيئة بذاتها، وإنما هي مستمدة من نور الشمس، فإذا غابت أظهرت أنوارها، فهم قبل وجوده فن إنما كانوا يظهرون فضله، وأنوارهم مستمدة من نوره الفائض ومدده الواسع.
ألا ترى أن ظهور خلافة آدم، وإحاطته بالأسماء كلها، إنما هو مستمد من جوامع الكلم المخصوص به نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم توالت الخلائق إلى زمن بروز جسمه الشريف، فلما أبرز كان كالشمس اندرج في نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء…(المنح المكية: ٣/ ٦٥٣)..
ويقول في معرض ذكره لآداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: ينبغي له أن يستحضر حياته المكرمة في قبره المكرم، وأنه يعلم بزائريه على اختلاف درجاتهم وأحوالهم وقلوبهم وأعمالهم، وأنه يمد كلاً منهم بما يناسب ما هو عليه، وأنه خليفة الله الذي جعل خزائن كرمه، وموائد نعمه طوع يديه وتحت إرادته يعطي منهما من يشاء، ويمنع منهما من يشاء، وأنه لا يمكن أحدا أن يصل إلى الحضرة العلية من غير طريقه… (الجوهر المنظم: ص ٤٢).
التقويم:
ما ذكره ابن حجر ـ غفر الله له - من كون النبي -صلى الله عليه وسلم -هو المقصود من الخلق، وهو الممد لها، وخليفة الله فيها، منقول عن جماعة من غلاة المتصوفة، وهو باطل من وجوه:
١ ـ أن القول بذلك يعارض النصوص الشرعية الدالة على أن المقصود من الخلق ابتلاؤهم بالعبادة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦). وقوله سبحانه:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: ٢)، وأن الله تعالى هو الممد للمخلوقات والمتصرف فيها كيف يشاء كقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (البقرة: ٢٨٤). وقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(المائدة: ١٧).
٢ - أن القول بذلك ينافي بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم -وما أخبر الله به عنه، وأخبر هو عن نفسه كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف: ١١٠)، وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨)، وقوله ؤ: «يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا» .
٣- أن هذا القول مأخوذ من بعض الفلسفات الفاسدة، والعقائد الباطلة كالفلسفة الهندية، والعقيدة النصرانية
٤- أن ابن حجر لم يذكر دليلا يعتمد عليه في دعواه، والقائلون بقوله غاية ما استدلوا به أحاديث موضوعة لا تقوم بها الحجة.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: «ما يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كوكبا، أو أن العالم كله خلق منه، أو أنه كان موجوداً قبل أن يخلق أبواه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل، وأمثال هذه الأمور، فكل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بسيرته.
والأنبياء كلهم لم يخلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل خلق كل واحد من أبويه، ونفخ الله فيه الروح.
ولا كان كلما يعلم الله لرسله وأنبيائه بوحيه يأخذونه بواسطة سوى جبريل، بل تارة يكلمهم الله وحيا يوحيه إليهم، وتارة يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى بن عمران، وتارة يبعث ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء، ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره، كما كان أنبياء بني إسرائيل على شريعة التوراة.
وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل الاتحاد من أهل الوحدة والاتحاد كابن عربي صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما» (مجموع الفتاوى: ١٨/ ٣٦٧ -٣٦٨).
٤ - اختصاصه -صلى الله عليه وسلم -بإحياء أبويه وإيمانهما به:
يقول في ذلك: «اختلف الناس في أبويه هل هما مؤمنان في الجنة أم واعلم أن الحق الواضح الجلي الذي لا غبار عليه أن أبوي النبيّ ناجيان لا عقاب عليهما، وكذا أهل الفترة جميعهم...
روى الطبراني بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه ترك الحجون كئيباً حزيناً، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسروراً، قال: سألت ربي عز وجل، فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها».
ورواه ابن شاهين، عنها بلفظ: حج بنا رسول الله حجة الوداع، ومر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه نزل، فقال: «يا حميراء، استمسكي» فاستندت إلى جنب البعير، فمكثت ملياً، ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم فقال: (ذهبت لقبر أمي، فسألت ربي أن يحييها، فأحياها فآمنت بي)
وكذا جاء من حديثيهما أيضاً: أحيا أبويه يؤ ورضي عنهما حتى آمنا به، رواه الخطيب وكذا السهيلي، وقال: في سنده مجاهيل، وابن كثير قال: منكر جدا وسنده مجهول، وليس كما قال مطلقاً.
«والأحاديث مصرحة لفظا في أكثره، ومعنى في كله، أن آباء النبي -صلى الله عليه وسلم -غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر؛ لأن الكافر لا يقال في حقه إنه مختار، ولا كريم، ولا طاهر، بل نجس كما في الآية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: ٢٨)، .. وأيضاً قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الشعراء: ٢١٩) على أحد التفاسير فيه أن المراد تنقل نوره من ساجد إلى ساجد...» (المنح المكية: ١/ ١٥١).
التقويم:
القول بحياة أبوي النبي وإيمانهما به بعد وفاتهما قرره غير واحد من المتصوفة، وهو قول باطل من وجوه:
الأول: أن القول بذلك معارض بدلالة الكتاب والسنة والإجماع:
فمن دلالة الكتاب: قوله تعالى: إ{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النساء: ١٧، ١٨).
وقوله سبحانه: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: ٨٥).
وقوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (النوبة: ١١٣).
ومن دلالة السنة: قوله -صلى الله عليه وسلم -لمن سأله عن والده: «إن أبي وأباك في النار» (رواه مسلم).
وقوله: «إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي» (رواه مسلم).
وأما الإجماع: فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك؛ من غير إظهار خلاف لما هنالك، والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق».
الثاني: أن القول بذلك ينافي «القواعد الشرعية الدالة على عدم قبول الإيمان بعد مشاهدة الأحوال الغيبية، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى إثبات بالأدلة القوية.
وأما الاستدلال بالقدرة الإلهية، وقابلية الخصوصية للحضرة النبوية، فأمر لا ينكره أحد من أهل الملة الحنيفية، وإنما الكلام في إثبات هذا المرام، بالأدلة على وجه النظام، لا بالاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال، خصوصا في معارضة نصوص الأقوال» (أدلة معتقد أبي حنيفة، ص ٨٨ -٨٩).
الثالث: أن القول بذلك قد جر بعض القائلين به ـ ومنهم ابن حجر -إلى القول بنجاة كل أصول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رد ذلك العلامة القاري -رحمه الله -فقال: «وأما ما ذكر ابن حجر المكي... من أن الأحاديث مصرحة لفظا في أكثره، ومعنى في كله، أن آباء النبي -صلى الله عليه وسلم -غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء، ليس فيهم كافر؛ لأن الكافر لا يقال في حقه إنه مختار، ولا كريم، ولا طاهر؛ فمردود عليه، إذ ليس في الأحاديث لفظ صريح يشير إليه، وأما المعنى؛ فكأنه أراد به لفظ:
(المختار) و(الكريم) و(الأطهار)، وهو لا دلالة فيه على الإيمان أصلا، وإلا فيلزم منه أن تكون قبيلة قريش كلهم مؤمنين؛ لحديث: «إن الله اصطفى بني كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة» (رواه مسلم). ولم يقل به أحد من المسلمين. . . فتأمل؛ فإنه موضع زلل، ومقام خطل، واحذر أن تكون ضالا مضلا في الوحل.
الرابع: أن الأدلة التي ساقها ابن حجر في الدلالة على قوله لا تصح، وبيان ذلك فيما يلي:
١ ـ أما استدلاله بكونهم من أهل الفترة على نجاتهم فهو مردود من وجهين:
أ ـ أن ذلك معارض بقوله بحياتهما بعد وفاتهما وإيمانهما بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنهما لو كانا من أهل الفترة لما احتاجا إلى الإحياء والإيمان بالنبوة بناء على أنهما من أهل النجاة.
ب - أن أهل الفترة القول الصحيح في حقهم أنهم يمتحنون بنار في عرصات القيامة، لا القول بنجاتهم مطلقاً.
٢ - أن الأحاديث التي أوردها ابن حجر في الدلالة على قوله موضوعة لا تصح.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية خلفه هل صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أن الله تعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك؟
فأجاب بقوله: الم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل الحديث متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روي. .. بإسناد فيه مجاهيل... فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبا؛ كما نص عليه أهل العلم؛ فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة. ..(مجموع الفتاوى: ٤/ ٣٢٤).
وأما تفصيل الكلام على ما أورده منها، فيمكن بيانه فيما يلي:
أ ـ حديث عائشة -رضي الله عنها -في زيارته لقبر أمه -صلى الله عليه وسلم -بالحجون، وحياتها وإيمانها: أخرجه ابن شاهين، ومن طريقه الخطيب، وعنه الجورقاني، والدارقطني، وابن عساكر من طريق محمد بن الحسن النقاش، عن أحمد بن يحيى الحضرمي، عن محمد بن يحيى الزهراني، عن عبد الوهاب بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها -به .
قال ابن الجوزي في (الموضوعات: ١/ ٢٨٣ -٢٨٤): "موضوع بلا شك: النقاش ليس بثقة، وأحمد بن يحيى ومحمد بن يحيى مجهولان... وأم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة، وليست بالحجون".
والحديث ذكره عامة من ألف في الموضوعات والأحاديث المشتهرة.
ب ـ حديث: «أن رسول الله ين سأل ربه أن يحيي أبويه، فأحياهما له وآمنا به» .
ذكره السهيلي فقال: وروي حديث غريب لعله أن يصح، وجدته بخط جدي... بسند فيه مجهولون، ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد يرفعه إلى ابن أبي الزناد عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها، فذكره.
والحديث ظاهر البطلان؛ إذ ليس له إسناد يثبت، فضلا عما ذكره السهيلي من جهالة بعض رواته.
٥ـ اختصاصه بجواز رؤيته يقظة بعد وفاته:
سئل ابن حجر -رحمه الله -هل تمكن رؤية النبي فنذ في اليقظة؟
فأجاب بقوله: "أنكر ذلك جماعة، وجوزه آخرون وهو الحق.. واستدل:
بحديث البخاري: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» أي: بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه، واحتمال إرادة القيامة بعيد من لفظ اليقظة، على أنه لا فائدة في التقييد حينئذ لأن أمته كلهم يرونه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره في المنام.. . والحكايات في ذلك عن أولياء الله كثيرة جدا، ولا ينكر ذلك إلا معاند أو محروم.
وأكثر ما تقع رؤيته فنه بالقلب ثم بالبصر لكنها به ليست كالرؤية المتعارفة وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني فلا يدرك حقيقته إلا من باشره كذا قيل.
ويحتمل أن المراد الرؤية المتعارفة بأن يرى ذاته طائفة في العالم أو تنكشف الحجب له بينه وبين النبي وهو في قبره فينظره حيا فيه رؤية حقيقية إذ لا استحالة، لكن الغالب أن الرؤية إنما هي لمثاله لا لذاته.. .
التقويم:
ما ذكره ابن حجر ـ غفر الله له ـ من جواز رؤيته يقظة بعد وفاته قرره جماعة من الصوفية، وهو باطل من وجوه:
الأول: أن القول بذلك معارض بالأدلة النقلية والعقلية والحسية الدالة على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرد على ذلك حياته في قبره إذ حياته فيه حياة برزنحية.
الثاني: أن رؤيته -صلى الله عليه وسلم -يقظة بعد وفاته لو كانت ممكنة، لكان أولى الناس بها أصحابه -رضي الله عنهم -ولا سيما مع قيام المقتضي لهذه الرؤية، فإنه قد جرى بين الصحابة من النزاع في كثير من المسائل ما يستدعي ظهوره لهم وفصله بينهم.
الثالث: أن القول بذلك يلزم منه لوازم باطلة، منها: القول باستمرار التشريع، وأن يخلو القبر من جسده فن فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب، وأن يكون من رآه صحابياً وغيرها.
الرابع: أن القائلين بذلك اضطربوا في رؤيته -صلى الله عليه وسلم - هل هي رؤية لذاته على الحقيقة أو رؤية مثال لها، وهل تكون بالقلب أو بالبصر، وهذا الاضطراب كاف لرد القول بجواز رؤيته بعد وفاته يقظة؛ إذ الرؤية أمر محسوس والاختلاف فيها على هذا الوجه يدل على عدم تحققها.
الخامس: أن القائلين بذلك ـ ومنهم ابن حجر ـ لم يذكروا على قولهم هذا دليلاً يعتمد عليه، وما ذكره ابن حجر أمران:
١ ـ حديث: (من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة):
والحديث أخرجه البخاري من طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن محمد بن شهاب الزهري، عن أبي هريرة رضي الله عنه -به
والجواب عنه من وجهين :
أ ـ أن أهل العلم اختلفوا في المراد بالحديث على أقوال، أصحها أن المراد به التشبيه والتمثيل، ويدل لذلك روايات الحديث الأخرى فقد رواه بقية أصحاب الزهري بلفظ: (ومن رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بى)
ب - أن حمل الحديث على رؤيته نؤ يقظة بعد وفاته وإن كان أحد الأقوال في المراد بالحديث إلا أنه قول ضعيف؛ إذ إن جماعة رأوه في المنام ولم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، ومعلوم أن خبر الصادق لا يتخلف.
٢ - الحكايات التي يذكرها المصنفون في الكرامات أو يتناقلها العامة:
وهذه الحكايات ليست حجة شرعية يجب المصير إليها؛ إذ هي كذب مختلق، أو تزوير شيطان مرق؛ ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان!؟
ثالثاً: حكم سبه -صلى الله عليه وسلم:
يرى ابن حجر -رحمه الله: كفر من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله ما لم يتب.
قال: "من كفر بسبه -صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه صريحا أو ضمنا ومثله المَلَك فاختلفوا في تحتم قتله" (الإعلام بقواطع الإسلام، ص ٣١٩).
"فيقتل ما لم يتب على الأصح عندنا. ومطلقاً عند مالك وجماعة من أصحابنا، وبالغ بعضهم فنقل عليه الإجماع…" (أشرف الوسائل، ص ٣٤٣).
التقويم:
السب: هو كل كلام قبيح يوجب الإهانة، والنقص، والاستخفاف.
وضابطه العرف، فإن الكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر وجماع ذلك أن ما يعرف الناس أنه سب فهو سب، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره وشبهه.
وسبُّ النبي -صلى الله عليه وسلم - من نواقض الإيمان التي توجب الكفر ظاهراً وباطناً، سواء استحل ذلك أو لم يستحله!.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تطفه: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن الكتاب: قوله تعالى:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (التوبة: ٦١- ٦٣)
وقوله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: ٦٥).
وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (الأحزاب: ٥٧).
ومن السنة: ما روي عنه أنه لما دخل مكة عام الفتح جاءه رجل ، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» (متفق عليه).
وأما الاجماع: فقد أجمعت الأمة على كفر من سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ونقل إجماعها على ذلك غير واحد من أهل العلم.
ومن سب النبي لا يخلو من حالين:
الأول: أن يصر على سبه دون توبة، فهذا يقتل باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن يتوب من سبه، فهذا اختلف أهل العلم في توبته وقتله.
على ثلاثة أقوال:
١ - القول بقتله بكل حال وعدم قبول توبته، والمراد بعدم قبولها أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة.
٢ - القول بقبول توبته وعدم قتله.
٣ - القول بقبول توبة الساب الذمي دون الساب المسلم، وتوبة الذمي إسلامه أو العود إلى الذمة كما كان.
والراجح الأول، وهو قول الجمهور؛ لأنه حد من الحدود، والحدود لا تسقط بالتوبة (ص ٤٧١).
وبناء عليه فما ذهب إليه ابن حجر -رحمه الله -من القول بقبول توبة الساب مخالف لقول جمهور أهل العلم.
ثامناً: شروحات الهمزية للبوصيري:
يقول ابن حجر الهيتمي في "مقدمته": وهذه القصيدة تحتاج إلى شرح جامع، ودستور مانع، يجلو عرائس أبكارها يحرك منصات الألباب مع الاختصار، ويظهر مخبئات أسرارها ظهور الشمس في رابعة النهار، ويفتح مقفلات معمياتها عما قد يوجب القصور والعثار، وينبه على نفائس فرائدها، وينوه بجلالة عرائن فوائدها، ويعرب عن غرائب تعقيدها، ويفصح عن فنون بلاغتها وبدائع تأنيقها وتشددها فاستخرت الله تعالى في شرح كذلك، وإن كنت لست هنالك، راجيا أن أندرج به في سلك خدمة جنابه صلى الله عليه وسلم… وسميته «المنح المكية في شرح الهمزية» ثم بلغني أن الناظم سماها «أم القرى» تشبيها لها بمكة، بجامع أنها حوت بطريق التصريح أو الإيماء ما في أكثر المدائح النبوية، وحينئذ سميته: «أفضل القرى لقراء أم القرى»، وقد بين شارحها الإمام، المحقق في العلوم الأدبية، الشمس الجوجري سعيه.. بحرها وعروضها وفريها وقافيتها، وما يدخلها من العلل والزحاف بما أطال فيه ، للكنه ليس له كبير جدوى هنا؛ لأن من يعرف فن العروض وتوابعه لا يحتاج إليه إلا لمجرد التذكير، ومن لا يعرفه يستوي عنده ذكر ذلك وحذفه اليسير منه والكثير.
وقد ازدادت شهرة الهمزية إلى أن صار الناس يتدارسونها، وكتب العلماء عليها شروحاً كثيرة، أهمها:
شرح شمس الدين محمد بن عبد المنعم بن محمد الجوجري (ت ٨٨٩ هـ).
شرح شهاب الدين أحمد الهيتمي المكي الشافعي (ت ٩٧٤ هـ)، واسمه المنح المكية في شرح الهمزية.
شرح شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي (ت ٩٩٠ هـ).
شرح الشيخ محمد بن أبي الوفاء الخلوتي الحموي، واسمه نهاية الأمنية في شرح الهمزية.
شرح الشيخ أحمد بن يوسف البرلسي ابن الأقيطع (ت ١٠٠١ هـ) واسمه النخبة السنية.
شرح الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الله الغزي الحنفي المعروف بالتمرتاشي.
شرح الشيخ أحمد بن عبد الوهاب الفاسي.
شرح الإمام سليمان الجمل (ت 1204هـ) سماه الفتوحات الأحمدية بالمنح المحمدية على متن الهمزية، وهو شرح مختصر لخصه من شرح ابن حجر «المنح المكية».
شرح الشيخ محمد بن أحمد بنيس واسمه لوامع أنوار الكوكب الدري في شرح همزية البوصيري، ينقل فيه عن ابن حجر كثيراً.