أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 14 مايو 2022

أخلاق أهل القرآن لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري

أخلاق أهل القرآن

لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا يخفى على كل ذي لُب الفضيلة السامية، والدرجة الرفيعة العالية التي ارتفع بها القرآن الكريم على سائر الكتب السماوية، فهو الكتاب الذي تعبدنا الله بتلاوته، وتكفل لنا بحفظه، وجمع فيه علوم الأولين والآخرين، وتحدى به أرباب الفصاحة والبيان؛ فتحداهم أن يأتوا بسورةٍ مثله فعجزوا عن ذلك، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، ولا يزال هذا التحدي قائماً إلى يومنا هذا، ما يؤكد عجز عقول البشر وقصورها عن إدراك ذلك، الأمر الذي أكده سبحانه في الآية: بتكرار قوله: (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) في نفس السياق.

ثم قطع طمع الفصحاء والبلغاء عن ذلك، بقوله: (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، أي ولو كانوا مجتمعين متظافرين ومتعاونين، كأنهم يدٌ واحدة، فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو عمدوا وحاولوا ليلاً ونهاراً. وكل ذلك يدل على عظمة شأنه وعلو منزلته.

وقد أنزل الله سبحانه هذا الكتاب المبارك على صفوته من عباده، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة الملك جبريل عليه السلام، منجماً مُفرقاً بحسب الأحداث والوقائع، وضمَّنه الأحكام والشرائع والقصص والمواعظ والأخلاق.

وجعل سبحانه أهله هم أهله وخاصته، وجعل لمن يقرؤه في كل حرفٍ منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وربط الخيرية بمدى التعلق به تعلماً وتعليماً، فأنزله وجعله عصمةً من الفتن، وحرزاً من النار، وشفاءً من الأدواء، ورحمةً وبركة شاملة.

من أجل ذلك وغيره، استنبط العلماء صفاتٍ أخلاقية وآدابٍ سماوية ربانية، ينبغي لحامل القرآن وتاليه والمشتغل به أن يتخلق بها، سواءً كان حافظاً أو معلماً أو داعياً إليه أو ممن يقوم يقوم آناء الليل ويتلوه أطراف النهار، وصنفوا في ذلك المصنفات والكتب الكثيرة، المطولة والمختصرة، فكان من جملتها هذا الكتاب المبارك (أخلاق أهل القرآن) للإمام الآجري، محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى.

وهذا الكتاب تضمن جملة من الآداب العظيمة، والشيم والأخلاق الرفيعة الكريمة التي ينبغي لحامل القرآن أن يتصف بها، ونحن نختصر على أهم ما فيها، مع وضع عناوين فرعية بين قوسين، لعله يُنتفع بها.

[تقوى الله عز وجل، والورع في معاملة الخلق]

 يقول الإمام الآجريّ:

فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَحامل القرآن أَنْ يَسْتَعْمِلَ تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، بِاسْتِعْمَالِ الْوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ، بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ، فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلَى دِينِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمَرِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، مُمَيِّزًا لَكَلَامِهِ. إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا.

قَلِيلُ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ عَدُوَّهُ، يَحْبِسُ لِسَانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ؛ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وَشَرَّ عَاقِبَتِهِ.

قَلِيلُ الضَّحِكِ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، إِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَقَّ تَبَسَّمَ، يَكْرَهُ الْمِزَاحَ خَوْفًا مِنَ اللَّعِبِ؛ فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا.

[بسط الوجه ولين الكلام وحُسن الخُلق]

بَاسِطُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الْكَلَامِ، لَا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟ يُحَذِّرُ نَفْسَهُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلَاهُ، لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَحْقِرُ أَحَدًا، وَلَا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلَا يَشْمَتُ بِمُصِيبِهِ، وَلَا يَبْغِي عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَحْسُدُهُ، وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، وَيَظُنُّ بِعِلْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ عَيْبٍ بِعِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فِيهِ بِعِلْمٍ. وَقَدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، حَافِظًا لِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ بِعِلْمٍ.يَجْتَهِدُ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

[الحلم والعدل والصبر والتواضع]

لَا يَجْهَلُ؛ فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ، لَا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا، لَا يَبْغِي، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِمُ غَيْظَهُ لِيُرْضِيَ رَبَّهُ وَيَغِيظَ عَدُوَّهُ، مُتَوَاضِعٌ فِي نَفْسِهِ، إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقُّ قَبِلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.

يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، مَاقِتًا لِلْكِبْرِ، خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لَا يَتَآكَلُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ الْحَوَائِجَ، وَلَا يَسْعَى بِهِ إِلَى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلَا يُجَالِسُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ لِيُكْرِمُوهُ، إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا الْكَثِيرَ بِلَا فِقْهٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، كَسَبَ هُوَ الْقَلِيلَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ، إِنْ لَبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الْفَاخِرَ، لَبِسَ هُوَ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ.

[زاهدٌ، قانعٌ، عالم]

يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُطْغِيهِ يَتْبَعُ وَاجِبَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، يَأْكُلُ الطَّعَامَ بِعِلْمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيَنَامُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الْإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزُورُهُمْ بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاوِرُ جَارَهُ بِعِلْمٍ.

[بر بوالديه]

يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِرَّ وَالِدَيْهِ: فَيَخْفِضُ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفِضُ لِصَوْتِهِمَا صَوْتَهُ وَيَبْذُلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالرَّحْمَةِ، يَدْعُو لَهُمَا بِالْبَقَاءِ، وَيَشْكُرُ لَهُمَا عِنْدَ الْكِبَرِ، لَا يَضْجَرُ بِهِمَا، وَلَا يَحْقِرُهُمَا، إِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةٍ أَعَانَهُمَا، وَإِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَرَفَقَ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُمَا بِحُسْنِ الْأَدَبِ؛ لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَا مِمَّا لَا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُهُ.

[واصلٌ للرحم]

يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَكْرَهُ الْقَطِيعَةَ، مَنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمٍ، وَيُجَالِسُهُمْ بِعِلْمٍ، مَنْ صَحِبَهُ، نَفَعَهُ حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفَقَ بِهِ، لَا يُعَنِّفُ مَنْ أَخْطَأَ وَلَا يُخْجِلُهُ، رَفِيقٌ فِي أُمُورِهِ.

[صبور على تعليم الناس الخير]

صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْخَيْرِ، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرَحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا، مُؤَدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مُؤَدِّبَانِ؛ يَحْزَنُ بِعِلْمٍ، وَيَبْكِي بِعِلْمٍ، وَيَصْبِرُ بِعِلْمٍ، يَتَطَهَّرُ بِعِلْمٍ، وَيُصَلِّي بِعِلْمٍ، وَيُزَكِّي بِعِلْمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِعِلْمٍ، وَيَصُومُ بِعِلْمٍ، وَيَحُجُّ بِعِلْمٍ وَيُجَاهِدُ بِعِلْمٍ، وَيَكْتَسِبُ بِعِلْمٍ، وَيُنْفِقُ بِعِلْمٍ، وَيَنْبَسِطُ فِي الْأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَيَنْقَبِضُ عَنْهَا بِعِلْمٍ قَدْ أَدَبَّهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، يَتَصَفَّحُ الْقُرْآنَ؛ ليُؤَدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرَضَ اللَّهُ بِجَهْلٍ.

[فقيه القلب والنفس]

قَدْ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ إِذَا دَرَسَ الْقُرْآنَ فَبِحُضُورِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، هِمَّتُهُ إِيقَاعُ الْفَهْمِ لِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ: مِنَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟ هِمَّتُهُ مَتَى أَسْتَغْنِي بِاللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَاشِعِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّادِقِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَائِفِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الرَّاجِينَ؟ مَتَى أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا؟ مَتَى أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ؟ مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ الْمُتَوَاتِرَةَ؟ مَتَى أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا؟ 

مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَفْقَهُ مَا أَتْلُو؟ مَتَى أَغْلِبُ نَفْسِي عَلَى مَا تَهْوَى؟ مَتَى أُجَاهِدُ فِي اللَّهِ حَقَّ الجِهَادِ؟ مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي؟ مَتَى أَغُضُّ طَرْفِي؟ مَتَى أَحْفَظُ فَرْجِي؟ مَتَى أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ؟ مَتَى أَشْتَغِلُ بِعَيْبِي؟ 

مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي؟ مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي؟ مَتَى أَتَزَوَّدُ لِيَوْمِ مَعَادِي؟ مَتَى أَكُونُ عَنِ اللَّهِ رَاضِيًا؟ مَتَى أَكُونُ بِاللَّهِ وَاثِقًا؟ مَتَى أَكُونُ بِزَجْرِ الْقُرْآنِ مُتَّعِظًا؟ مَتَى أَكُونُ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مُشْتَغِلًا؟ 

مَتَى أُحِبُّ مَا أَحَبَّ؟ مَتَى أُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ؟ مَتَى أَنْصَحُ لِلَّهِ؟ مَتَى أُخْلِصُ لَهُ عَمَلِي؟ مَتَى أُقَصِّرُ أَمَلِي؟ مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلِي؟ مَتَى أُعَمِّرُ قَبْرِي، مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمَوْقِفِ وَشِدَّتِهِ؟ مَتَى أُفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي؟ مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمُنْقَلَبِ؟ 

[يجمع بين الخوف والرجاء]

مَتَى أَحْذَرُ مِمَّا حَذَّرَنِي مِنْهُ رَبِّي مِنْ نَارٍ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ وَعُمْقُهَا طَوِيلٌ، لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا فَيَسْتَرِيحُوا، وَلَا تُقَالُ عَثْرَتُهُمْ، وَلَا تُرْحَمُ عَبْرَتُهُمْ، طَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ، وَشَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

نَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَعَضُّوا عَلَى الْأَيْدِي أَسَفًا عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَرُكُونِهِمْ لِمَعَاصِي اللَّهِ فَقَالَ، مِنْهُمْ قَائِلٌ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) وَقَالَ قَائِلٌ: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون: 100)، وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ وَوُجُوهُهُمْ تَتَقَلَّبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَقَالُوا: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (الأحزاب: 66).

فَهَذِهِ النَّارُ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، حَذَّرَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6). 

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران: 131)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18).

ثُمَّ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفُلُوا عَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، أَلَّا يَضَعُوهُ، وَأَنْ يَحْفَظُوا مَا اسْتَرْعَاهُمْ مِنْ حُدُودِهِ، وَلَا يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِهِ، فَعَذَّبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 19). ثُمَّ أَعْلَنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الحشر: 20).

[يعرض أقواله وأفعاله على القرآن]

فَالْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ كَالْمِرْآةِ، يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا قَبُحَ مِنْهُ، فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ حَذِرَهُ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ، وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ.

فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَدْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَكَانَ لَهُ الْقُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسًا وَحِرْزًا، وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصَفَهُ، نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ، وَعَادَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

[الإخلاص لله عز وجل في تلاوة القرآن وتعليمه]

يقول الإمام الآجري -رحمه الله: فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلدُّنْيَا وَلِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ، مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ، مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ، قَدِ اتَّخَذَ الْقُرْآنَ بِضَاعَةً، يَتَآكَلُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ يُعَظِّمُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَيُحَقِّرُ الْفُقَرَاءَ، إِنْ عَلَّمَ الْغَنِيَّ رَفَقَ بِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُ، وَإِنْ عَلَّمَ الْفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دُنْيَا لَهُ يُطْمَعُ فِيهَا، يَسْتَخْدِمُ بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَيَتِيهُ بِهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، إِنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ، وَيُصَلِّيَ بِهِمْ؛ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْفُقَرَاءُ الصَّلَاةَ بِهِمْ، ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِقِلَّةِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِيهِمْ.

[ذم القارئ الذي يتفاخر ويتعالى ويتكبر]

إِنَّمَا طَلَبُهُ الدُّنْيَا حَيْثُ كَانَتْ، رَبَضَ عِنْدَهَا. كَثِيرَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ. لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ. 

[ذم القارئ الذي يكثر الضحك والمزاح واللغو]

كَثِيرَ الضَّحِكِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ، هُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ، يُوَرِّي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا، فَهُوَ إِلَى كَلَامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إِلَى كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. 

[ذم القارئ الذي لا يخشع عند تلاوته، ويطلب بقراءته حظوظ نفسه]

لَا يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا يَبْكِي، وَلَا يَحْزَنُ، وَلَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْفِكْرِ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِ، وَقَدْ نُدِبَ إِلَى ذَلِكَ، رَاغِبٌ فِي الدُّنْيَا وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا، لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى، إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ، قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ لَا يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ، يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا لِلَّهِ عَلَيْهَا.

[ذم القارئ الذي يغضب لنفسه، ولا يبالي بكسبه]

يَغْضَبُ عَلَى غَيْرِهِ، زَعَمَ لِلَّهِ، وَلَا يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ، مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلَالٍ، قَدْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ، إِنْ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، حَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ. 

[ذم القارئ الذي يقيم الحروف ولا يُضيع الحدود]

لَا يَتَأَدَّبُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لَاهٍ غَافِلٌ عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِ، هِمَّتُهُ حِفْظُ الْحُرُوفِ، إِنْ أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ سَاءَهُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَنْقُصَ جَاهُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، فَتَنْقُصَ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهِ. 

[ذم القارئ الذي يجهل على الناس بأخلاقه]

أَخْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلَاقُ الْجُهَّالِ، الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، لَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ إِذْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ الْعِلْمِ لِمَعْرِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَهِيَ عَنْهُ.

[ذم القارئ القليل المعرفة بالله وأحكامه ونعمه]

قَلِيلُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ، قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي نَدَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَسُولُهُ لِيَأْخُذَ الْحَلَالَ بِعِلْمٍ، وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِعِلْمٍ.

لَا يَرْغَبُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ، وَلَا فِي عِلْمِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، تِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى كِبْرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَتَزَيُّنٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِنْهُ، لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ، فَيَظْهَرَ عَلَى جَوَارِحِهِ، إِذَا دَرَّسَ الْقُرْآنَ، أَوْ دَرَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هِمَّتُهُ مَتَى يَقْطَعُ، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى يَفْهَمُ.

[ذم القارئ الذي لا يتدبر تلاوته]

لَا يَتَفَكَّرُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ بِضُرُوبٍ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُبَالِي بِسَخَطِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ، وَيُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظَى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَنَاءِ مَنْ جَهِلَهُ.

[ذم القارئ الذي يُتبع نفسه هواها]

يَفْرَحُ بِمَدْحِ الْبَاطِلِ، وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ، يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِيمَا تُحِبُّ نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفِّحٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ، غَضِبَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالصَّلَاحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ، يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، وَيَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ لِيَضَعَ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ مِنْ نَفْسِهِ، يَتَمَنَّى أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ

وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ شِعَارَ الصَّالِحِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ضَيَّعَ فِي الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ، وَرَكِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مَوْلَاهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا. 

[ذم القارئ المُعجب بنفسه وعمله]

قَدْ فَتَنَهُ الْعُجْبُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، إِنْ مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْ مُلُوكِهَا، فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ سَارَعَ إِلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ مَرِضَ الْفَقِيرُ الْمَسْتُورُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ ضَيَّعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْكَامِهِ.

أَخْلَاقُهُ أَخْلَاقُ الْجُهَّالِ، إِنْ أَكَلَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ شَرِبَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ لَبِسَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ جَامَعَ أَهْلَهُ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ نَامَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ صَحِبَ أَقْوَامًا أَوْ زَارَهُمْ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِمْ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجْرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْفَظُ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ مُطَالِبٌ لِنَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ. 

[خطر القارئ الجاهل إذا اقتدى به غيره]

قال الإمام الآجري: فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلَاقَهُ صَارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ، اقْتَدَى بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِذَا عِيبَ الْجَاهِلُ، قَالَ: فُلَانٌ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا، فَنَحْنُ أَوْلَى أَنْ نَفْعَلَهُ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لَعَظِيمٍ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلَا عُذْرَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ.

وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ قَبِيحِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ؛ نَصِيحَةً مِنِّي لِأَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَتَخَلَّقُوا بِالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَيَتَجَانَبُوا الْأَخْلَاقَ الدَّنِيئَةَ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاهُمْ للِرَّشَادِ وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنِّي قَدْ رَوَيْتُ فِيمَا ذَكَرْتُ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى مَا كَرِهْتُهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ، فَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَنِي؛ لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا يَنْصَحُ نَفْسَهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. 

باب أخلاق المقرئ إذا جلس يقرئ ويلقن لله عز وجل

ماذا ينبغي له أن يتخلق به؟

قال محمد بن الحسين: ينبغي لمن علمه الله كتابه، فأحب أن يجلس في المسجد، يقرئ القرآن لله، يغتنم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». فينبغي له أن يستعمل من الأخلاق الشريفة ما يدل على فضله وصدقه، وهو أن يتواضع في نفسه إذا جلس في مجلسه، ولا يتعاظم في نفسه.

[ندب استقبال القبلة عند التلاوة]

وأحب أن يستقبل القبلة في مجلسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل المجالس ما استقبل به القبلة». 

[أدب الشيخ مع القارئ]

ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالاً جميلاً وينبغي له أن يستعمل مع كل إنسان يلقنه ما يصلح لمثله، إذا كان يتلقن عليه الصغير والكبير والحدث، والغني والفقير، فينبغي له أن يوفي كل ذي حق حقه.

ويعتقد الإنصاف إن كان يريد الله بتلقينه القرآن: فلا ينبغي له أن يقرب الغني ويبعد الفقير، ولا ينبغي له أن يرفق بالغني ويحذق بالفقير، فإن فعل هذا فقد جار في فعله، فحكمه أن يعدل بينهما، ثم ينبغي له أن يحذر على نفسه التواضع للغني والتكبر على الفقير، بل يكون متواضعا للفقير، مقربا لمجلسه متعطفا عليه، يتحبب إلى الله بذلك.

[مراعاة الشيخ لأحوال القراء]

قال محمد بن الحسين: وأحبُّ له إذا جاء من يريد أن يقرأ عليه من صغير أو حدث أو كبير أن يعتبر كل واحد منهم قبل أن يلقنه من سورة البقرة، يعتبره بأن يعرف ما معه من الحمد، إلى مقدار ربع سبع أو أكثر مما يؤدي به صلاته، ويصلح أن يؤم به في الصلوات إذا احتاج إليه، فإن كان يحسنه وكان تعلمه في الكتاب أصلح من لسانه وقومه، حتى يصلح أن يؤدي به فرائضه ثم يبتدئ فيلقنه من سورة البقرة.

 وأحبُّ لمن يُلَقِّن إذا قرئ عليه أن يحسن الاستماع إلى من يقرأ عليه، ولا يشتغل عنه بحديث ولا غيره، فبالحري أن ينتفع به من يقرأ عليه، وكذلك ينتفع هو أيضاً، ويتدبر ما يسمع من غيره، وربما كان سماعه للقرآن من غيره له فيه زيادة منفعة وأجر عظيم، ويتناول قول الله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف: 204). فإذا لم يتحدث مع غيره وأنصت إليه أدركته الرحمة من الله، وكان أنفع للقارئ عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «اقرأ علي»، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».

[استحباب الإقراء للواحد، والتلقين للجماعة]

قال محمد بن الحسين الآجري: وأحب لمن كان يقرئ أن لا يدرس عليه وقت الدرس إلا واحد، ولا يكون ثانياً معه فهو أنفع للجميع. وأما التلقين: فلا بأس أن يلقن الجماعة، وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ عليه أو غلط: أن لا يعنفه وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، ويصبر عليه، فإني لا آمن أن يجفو عليه فينفر عنه، وبالحري أن لا يعود إلى المسجد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»

[ذم الشيخ الذي يطلب قضاء حوائجه ممن يقرأ عليه]

وقال: إنه ينبغي لمن كان يقرئ القرآن لله أن يصون نفسه عن استقضاء الحوائج ممن يقرأ عليه القرآن، وأن لا يستخدمه ولا يكلفه حاجة يقوم بها، وأختار له إذا عرضت له حاجة أن يكلفها لمن لا يقرأ عليه وأحب أن يصون القرآن على أن يقضى له به الحوائج، فإن عرضت له حاجة سأل مولاه الكريم قضاءها، فإذا ابتدأه أحد من إخوانه من غير مسألة منه فقضاها، شكر الله؛ إذ صانه عن المسألة والتذلل لأهل الدنيا، وإذ سهل الله له قضاءها، ثم يشكر من أجرى ذلك على يديه؛ فإن هذا واجب عليه.

قال: … ومرادي من هذا نصيحة لأهل القرآن لئلا يبطل سعيهم، إن هم طلبوا به شرف الدنيا حُرموا شرف الآخرة، إذ يتلونه لأهل الدنيا طمعاً في دنياهم، أعاذ الله حملة القرآن من ذلك. 

فينبغي لمن يجلس يقرئ المسلمين أن يتأدب بأدب القرآن يقتضي ثوابه من الله عز وجل، يستغني بالقرآن عن كل أحد من الخلق، متواضع في نفسه ليكون رفيعا عند الله.

باب ذكر أخلاق من يقرأ على المقرئ

 قال محمد بن الحسين الآجري: من كان يقرأ على غيره ويتلقن فينبغي له أن يحسن الأدب في جلوسه بين يديه، ويتواضع في جلوسه، ويكون مقبلاً عليه، فإن ضجر عليه احتمله، وإن زبره احتمله ورفق به، واعتقد له الهيبة، والاستحياء منه.

وأحب أن يتلقن ما يعلم أنه يضبط، هو أعلم بنفسه، إن كان يعلم أنه لا يحتمل في التلقين أكثر من خمس خمس، فلا ينبغي أن يسأل الزيادة، وإن كان يعلم أنه لا يحتمل أن يتلقن إلا ثلاث آيات، لم يسأل أن يلقنه خمساً، فإن لقنه الأستاذ ثلاثاًلم يزده عليها، وعلم هو من نفسه أنه يحتمل خمساً سأله أن يزيده، على أرفق ما يكون، فإن أبى لم يزده بالطلب، وصبر على مراد الأستاذ منه، فإنه إذا فعل ذلك، كان هذا الفعل منه داعياً للزيادة له ممن يلقنه إن شاء الله.

[أدب القارئ مع شيخه]

ولا ينبغي له أن يُضجِرَ ممن يلقنه فيزهد فيه، وإذا لقنه شكر له ذلك، ودعا له، وعظم قدره، ولا يجفو عليه إن جفا عليه، ويكرم من يلقنه إن هو لم يكرم، وتستحي منه إن كان هو لا يستحي منك، تلزم أنت نفسك واجب حقه عليك، فبالحري أن يعرف حقك؛ لأن أهل القرآن أهل خير وتيقظ وأدب يعرفون الحق على أنفسهم، فإن غفل عن واجب حقك، فلا تغفل عن واجب حقه، فإن الله عز وجل قد أمرك أن تعرف حق العالم وأمرك بطاعة العلماء، وكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن الحسين: ثم ينبغي لمن لقنه الأستاذ [القرآن] أن لا يجاوز ما لقنه، إذا كان ممن قد أحب أن يتلقن عليه، وإذا جلس بين يدي غيره لم يتلقن منه إلا ما لقنه الأستاذ، أعني بغير الحرف الذي قد تلقنه من الأستاذ، فإنه أعود عليه، وأصح لقراءته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا كما عُلّمتم».

[المواظبة على القراءة والتمكن منها]

قال محمد بن الحسين: من قنع بتلقين الأستاذ ولم يجاوزه فبالحري أن يواظب عليه، وأحب ذلك منه، وإذا أراه قد التقن ما لم يلقنه زهد في تلقينه وثقل عليه، ولم يحمد عواقبه.

وأحب له إذا قرأ عليه أن لا يقطع حتى يكون الأستاذ هو الذي يقطع عليه، فإن بدت له حاجته وقد كان الأستاذ مراده أن يأخذ عليه مائة آية، فاختار هو أن يقطع القراءة في خمسين آية، فليخبره قبل ذلك بعذره، حتى يكون الأستاذ هو الذي يقطع عليه.

وينبغي له أن يقبل على من يلقنه، ويأخذ عليه، ولا يقبل على غيره، فإن شغل عنه بكلام لا بد له في الوقت من كلامه، قطع القراءة حتى يعود إلى الاستماع إليه، وأحب له إذا انقضت قراءته عن الأستاذ، وكان في المسجد، فإن أحب أن ينصرف انصرف وعليه وقار ودرس في طريقه ما قد التقن، وإن أحب أن يجلس ليأخذ على غيره فعل، وإن جلس في المسجد وليس بالحضرة من يأخذ عليه، فإما أن يركع فيكتسب خيرًا، وإما أن يكون ذاكراً لله شاكراً له على ما علمه من كتابه، وإما جالس يحبس نفسه في المسجد، يكره الخروج منه خشية أن يقع بصره على ما لا يحل، أو معاشرة من لم يحسن معاشرته في المسجد، فحكمه أن يأخذ نفسه في جلوسه في المسجد ألا يخوض فيما لا يعنيه، ويحذر الوقيعة في أعراض الناس، ويحذر أن يخوض في حديث الدنيا وفضول الكلام، فإنه ربما استراحت النفوس إلى ما ذكرت مما لا يعود نفعه، وله عاقبة لا تحمد، ويستعمل من الأخلاق الشريفة في حضوره وفي انصرافه ما يشبه أهل القرآن، والله الموفق لذلك.

باب أدب القراء عند تلاوتهم القرآن مما لا ينبغي لهم جهله

 قال محمد بن الحسين: وأحب لمن أراد قراءة القرآن، من ليل أو نهار أن يتطهر، وأن يستاك وذلك تعظيم للقرآن؛ لأنه يتلو كلام الرب عز وجل؛ وذلك أن الملائكة تدنوا منه عند تلاوته للقرآن، ويدنو منه الملك، فإن كان متسوكاً وضع فاه على فيه، فكلما قرأ آية أخذها الملك بفيه، وإن لم يكن تسوك تباعد منه فلا ينبغي لكم يا أهل القرآن أن تباعدوا منكم الملك، استعملوا الأدب، فما منكم من أحد إلا وهو يكره إذا لم يتسوك أن يجالس إخوانه.

وأحب أن يكثر القراءة في المصحف لفضل من قرأ في المصحف، ولا ينبغي له أن يحمل المصحف إلا وهو طاهر؛ فإن أحبَّ أن يقرأ في المصحف على غير طهارة فلا بأس، ولكن لا يمسه، ولكن يصفح المصحف بشيء، ولا يمسه إلا طاهراً. 

[استحباب الطهارة عند التلاوة]

وينبغي للقارئ إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح أمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح. ثم إن أحب أن يتوضأ ثم يقرأ طاهراً فهو أفضل، وإن قرأ غير طاهر فلا بأس منه، وإذا تثاءب وهو يقرأ، أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب.

ولا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن، ولا آية، ولا حرفا واحدا، , وإن سبح أو حمد أو كبر وأذن فلا بأس بذلك وأحب للقارئ أن يأخذ نفسه بسجود القرآن كلما مر بسجدة سجد فيها، وفي القرآن خمس عشرة سجدة، وقد قيل: أربع عشرة، وقد قيل: إحدى عشرة سجدة، والذي أختار له أن يسجد كلما مرت به سجدة؛ فإنه يرضي ربه عز وجل ويغيظ عدوه الشيطان

  روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار".

[سجود التلاوة في موضعها]

  وأحب لمن كان يدرس وهو ماش في طريق، فمرت به سجدة أن يستقبل القبلة ويومي برأسه بالسجود، وهكذا إن كان راكبا، فدرس فمرت به سجدة، سجد يومي نحو القبلة إذا أمكنه. 

وأحب لمن كان جالسا يقرأ أن يستقبل بوجهه القبلة، إذا أمكن؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير المجالس ما استقبل به القبلة». 

وأحب لمن تلا القرآن أن يقرأه بحزن، ويبكي إن قدر، فإن لم يقدر تباكى، وأحب له أن يتفكر في تلاوته، ويتدبر ما يتلوه، ويستعمل غض الطرف عما يلهي القلوب، ولو ترك كل شيء حتى ينقضي درسه كان أحب إلي؛ ليحضر فهمه، فلا يشتغل بغير كلام مولاه. 

[سؤال الله الرحمة ودفع العذاب، في مواضعها]

وأحب إذا درس فمرت به آية رحمة سأل مولاه الكريم، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله عز وجل من النار، وإذا مر بآية تنزيه لله عز وجل عما قال أهل الكنز سبح الله وعظمه، وإذا كان يقرأ فأدركه النعاس، فحكمه أن يقطع القرآن حتى يرقد، حتى يقرأه وهو يعقل ما يتلو. قال محمد بن الحسين: جميع ما أمرت به التالي للقرآن موافق للسنة وأقاويل العلماء.

[محاسبة القارئ نفسه، وكثرة استغفاره]

قال محمد بن الحسين: جميع ما ذكرته ينبغي لأهل القرآن أن يتأدبوا به ولا يغفلوا عنه، فإذا انصرفوا عن تلاوة القرآن اعتبروا نفوسهم بالمحاسبة لها، فإن تبينوا منه قبول ما ندبهم إليه مولاهم الكريم مما هو واجب عليهم من أداء فرائضه، واجتناب محارمه، فحمدوه في ذلك وشكروا الله على ما وفقهم له، وإن علموا أن النفوس معرضة عما ندبهم إليه مولاهم الكريم، قليلة الاكتراث به، استغفروا الله من تقصيرهم، وسألوه النقلة من هذا الحال الذي لا يحسن بأهل القرآن، ولا يرضاها لهم مولاهم إلى حالة يرضاها، فإنه لا يقطع من لجأ إليه، ومن كانت هذه حاله وجد منفعة تلاوة القرآن في جميع أموره، وعاد عليه من بركة القرآن كل ما يحب في الدنيا والآخرة إن شاء الله

باب في حسن الصوت بالقرآن

قال محمد بن الحسين: ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس.

فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفته أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية، وكان مراده أن يستمع منه القرآن؛ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس.

قال محمد بن الحسين: فأحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن عند قراءته، ويتباكى ويخشع قلبه، ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن.

ألم تسمع إلى ما نعت الله عز وجل من هو بهذه الصفة؟، وأخبرنا بفضلهم، فقال عز وجل: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر: 23) الآية.

ثم ذم قوماً استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم، فقال عز وجل: {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} (النجم: 60).

[استحباب الترتيل والتؤدة]

ثم ينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتل كما قال الله عز وجل: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل: 4) قيل في التفسير: تبينه تبيينا، واعلم أنه إذا رتله وبينه انتفع به من يسمعه منه، وانتفع هو بذلك؛ لأنه قرأه كما أمر الله عز وجل في قوله تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء: 106) على تؤدة.

قال محمد بن الحسين: والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحب إلي من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر، ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة وقول أئمة المسلمين.

قال محمد بن الحسين: جميع ما قلته ينبغي لأهل القرآن أن يتخلقوا بجميع ما حثثتهم عليه من جميع الأخلاق وينزجروا عما كرهته لهم من دناءة الأخلاق , والله الكريم يهدينا وإياهم إلى سبيل الرشاد.

انتهى.



الأربعاء، 11 مايو 2022

شرح حديث ما ذئبان جائعان رسالة في ذم الحرص على المال والشرف تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي

شرح حديث ما ذئبان جائعان

رسالة في ذم الحرص على المال والشرف

تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لقد قدم الإسلام للعالم منهجاً تربوياً متكاملاً، يصقل شخصية الفرد، ويبرزه كعلامة فارقة ومؤثرة في المجتمع، ويعده إعداداً كاملاً لحياة الدنيا والآخرة، وكان من أبرز المرتكزات التي قام عليها هذا المنهج: الخضوع لله وحده، وإخلاص العبودية له، والأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى االله عليه وسلم.

فكانت التربية الإسلامية هي المنقذ الوحيد لأجيالنا من الذوبان وفقدان الهوية في هذه الأوضاع التي طغى فيها حب المال والشهرة على الأهداف الشريفة والغايات النبيلة، وقد أضحى المنهج الإسلامي اليوم ضرورة حتمية وشرعية للحياة الآمنة والمطمئنة، التي توازن بين الروح والمادة، وبين الغنى والقناعة، وبين الرفعة والتواضع.

وسعت التربية الإسلامية إلى إيجاد حالة متوازنة في النفس الإنسانية من خلال ضبط سلوكيات الفرد ضمن إطار الحاجة والمسؤولية، وذلك في نصوص قرآنية كثيرة، قال تعالى:{وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).

وفي إطار هذا الحديث، نجد أن الإسلام كثيراً ما ينعى على ابن آدم حرصه على جمع المال وكنزه، وطلب الرياسة والسعي إليها، دون الوفاء بحقوق أيِّ منهما، فتراه يحرص على طلب المال من جميع وجوهه المباحة والمحرمة، ويطلب الشرف والرياسة من كل طريق نظيف ورذيل، ليُخضع الناس لأمره ونهيه، ويتعاظم بذلك ويتكبر على خلق الله، ثم هو يمنع حق المال الواجب، ويقطع الأرحام، ويسيء في معاملة الناس، ويظلم عباد الله.

وأما الشرف الحقيقي، فهو في طلب الآخرة والسعي لها، والبطولة الحقيقية في إيثار الباقي على الفاني، وقد قال صالح بن الإمام أحمد -وذكر عنده رجل؛ فقال: "يا بُنيّ! الفائزً من فاز غداً، ولم يكن لأحدٍ عنده تبعة" (الحلية: 9/ 179).

وقد علم ذلك الحريص بأن رزقه مقسوم، وأجله محتوم، وأن المال والرياسة كليهما لا يدوم. بل إن الحريص على الشرف والمال -في دنياه مُعذَّبٌ مشغول، مغموم محزون، لا يهنأ له عيش، ولا يرقى له بال.. وإن من الشرف في الجاه الزهد فيه، وكان الإمام أحمد يقول: "الزهد ترك حُب الثناء" (المناقب، ص 195).

وقد قيل لبعض الحكماء : فلانا يجمع مالاً! فقال هل جمع أياماً ينفقه فيها؟ قيل: لا. قال: ما جمع شيئاً. فرزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره.. 

وهذه رسالة لطيفة بديعة بيّن فيها الحافظ ابن رجب آفات الحرص على المال والشرف، من خلال شرح حديث: (ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ، لدِينه). 

وهذا مثلٌ عظيم ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبيان الفساد الذي يُصيب دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، ذلك أنه يُضيع عمره في تحصيل هذين الأمرين، ويغفل عن مراعاة أمور دينه، فكان إفسادهما للدين مثل إفساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، وقد غاب عنها رعاتهما ليلاً، فهما يأكلان في الغنم، ويفترسان فيها من غير أن يشعر أصحابها.

فمثَّل الطمع في المال والحرص على الشرف: بذئبين يأكلان دين المرء ويفترسانه، وهذا التصوير يحمل في طياته غاية التحذير، ذلك أن حرص المرء على المال والشرف ليس إفسادهما لدينه بأقل من إفساد هذين الذئبين لهذه الغنم، بل إما إن يكون مساوياً وإما أن يكون أزيد.

وقد ذكر المصنف أنواع الحرص على المال، والتي منها: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة والمحرمة، وفي الحرص على المال جمعٌ لمن لا يحمده، ويقدم به على من لا يعذره.. 

وهذا الحديث مرويٌّ عن ثمانيةٍ من الصحابة الكرام، وهم: كعب بن مالك الأنصاري، وأبو هريرة، وعاصم بن عدي وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم.

وفي حديث عاصم بن عدي بيان سبب ورود الحديث: (قال عاصم: اشتريت أنا وأخي مائة سهم من سهام خيبر، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال يا عاصم ما ذئبان…).

وفي حديث جابر: (غاب عنها رعاتها بأفسد فيها من التماس الشرف والمال لدين المؤمن)، وفي بعض الروايات: (باتا في حظيرة -وفي لفظٍ: زريبة غنم -يفترسان ويأكلان). وفي حديث ابن عباس (من حُب المال والشرف) بدلاً من (الحرص في الدنيا).

وقد بيَّن المُحقق تخريج هذا الحديث، وطُرقه، واختلاف ألفاظه، مع بيان رجاله، وإسناده، ومدى صحته عند أهل العلم المتقدمين والمعاصرين. وقد صححه من أهل العلم الترمذي، وشعيب الأرناؤوط، والألباني، وغيرهم.

شرح الحديث من التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 395)

(ما ذئبان) ضاريان، (جائعان أرسلا) أطلقا وخليا (في غنم بأفسد لها) أي للغنم بإهلاكها وإتلافها (من حرص المرء) هو المفضل عليه (على المال) متعلق بأحرص (والشرف) طلب العلو والرياسة (لدينه) متعلق بأفسد، وقيل: إنها للبيان كأنه قيل لمن أفسد قال لدينه، أي أن الحرص على الشرف والمال أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئب للغنم فهو زجر عن حب المال والحرص عليه وعلى الشرف وإن ذلك متلف للدين (حم ت) عن كعب بن مالك).

شرح الحديث من التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 349)

(مَا) بِمَعْنى لَيْسَ (ذئبان) اسْمهَا (جائعان ارسلا فِي غنم بأفسد) خبر مَا وَالْبَاء زَائِدَة أَي أَشد افسادا (لَهَا) أَي للغنم، وَاعْتبر فِيهِ الجنسية فأنث وَقَوله (من حرص الْمَرْء) هُوَ الْمفضل عَلَيْهِ (على المَال والشرف) أَي الجاه والمنصب (لدينِهِ) لامه للْبَيَان كَأَنَّهُ قيل لأفسد من أَي شئ قيل لدينِهِ، وَالْمَقْصُود أَن الْحِرْص على المَال الشّرف أَكثر افسادا للدّين من افساد الذئبين للغنم؛ لَان الأشر والبطر يفسدان صَاحبهمَا، اما المَال فُلَانُهُ يَدْعُو الى الْمعاصِي فانه يُمكن مِنْهَا، وَمن الْعِصْمَة أَن لَا تجدو لانه يَدْعُو الى التنعم بالمباحات فينبت على التنعم جسده، وَلَا يُمكنهُ الصَّبْر عَنهُ، وَذَلِكَ لَا يُمكن استدامته الا بالاستعانة بِالنَّاسِ والالتجاء الى الظلمَة وَذَلِكَ يُؤَدِّي الى النِّفَاق وَالْكذب، وَأما الجاه فانه أعظم فتْنَة من المَال فان مَعْنَاهُ الْعُلُوّ والكبرياء والعز وَهِي من الصِّفَات الالهية (حم ت عَن كَعْب بن مَالك) واسناده كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ جيد

شرح الحديث من السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (4/ 201)

(ما) بمعنى ليس (ذئبان) اسمها (جائعان) صفة له (أرسلا في غنم) الجملة صفة ثانية (بأفسد خبر ما والباء زائدة أي أشدّ فساداً (لها) أي للغنم (من حرص المرء) هو المفضل عليه لاسم التفضيل (على المال) متعلق بالحرص (والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه وقوله (لدينه) اللام فيه للبيان كان قيل بأفسد لأي شيء قيل لدينه والقصد أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم (حم ت) عن كعب بن مالك قال العلقمي بجانبه علامة الصحة.





الثلاثاء، 10 مايو 2022

ذم من لا يعمل بعلمه لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر (499 -571 هـ)

ذم من لا يعمل بعلمه

لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر

(499 -571 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ ما أتعس أولئك الذين جعلوا الدين مركباً للدنيا، فأعمالهم بحسب الظاهر هي أعمال أهل الإيمان، ولكنَّك إذا فتشت بواطنهم: وجدت الانحراف والزيغ والضلال، فتراهم أبعد الناس عن قوانين الأخلاق، ومبادئ الشرع، بل تراهم مائلين في غالب أحوالهم إلى أهواء السياسيين ورغباتهم، وعاجزين غاية العجز عن قول كلمة الحق بين جدارن البرلمانات وأروقة الحكم، فهؤلاء الذين يُخادعون الناس بأعمالهم، هم الخاسرون يوم القيامة، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، ويحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً.

فالمقصود الأول من العلم تنقية العقل وتزكية الروح وتصفية القلب، فحال طالب العلم بين الناس حال القمر الذي يُضيء، كما قيل: 

(تُضيءُ في الليلة الظلماء سُنّته .. كما يُضيء لمن يسري به القمرُ)

وإن من أكبر آفات التعليم أن يتعلم المتعلم ولا يعمل بعلمه، ولذلك كانت مسؤوليته كبيرة أمام الله وأمام الناس، كما قال الله تعالى: {فلنسئلنَّ الذينَ أُرسلَ إليهم} (الأعراف: ٢٦) أي لنسالنَّ الأمم الذين أرسل الله إليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم.

وقال الله عز وجل: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} (سورة القصص: ٢٦٥). يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن (٥/ ٢٧٠٦) في تفسير آية سورة القصص: (إن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين، ولكنه سؤال التأنيب والترذيل، وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت: ذهول المكروب، وصمت الذي لا يجد ما يقول: {فعميت عليهم الأنباء يومئذٍٍ وهم لا يتساءلون} والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة، وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم، وهم لا يعلمون شيئا عن أي شيء! ولا يملكون سؤالاً ولا جواباً. وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!).

فليس العلم إذن بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية، ورأس العلم تقوى الله حقاً، ولذلك كان العلماء الربانيون مخبتين لله تعالى، يقومون الليل ويستغفرون بالأسحار، ويتركون المعاصي والمحرمات، قال الحسن البصري: (كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده)، رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٤٩١/١)، وابن الدواليبي في كتاب فضل العلم وفضل حملته (ص ٥١).

والأساس الذي ينبغي أن يقود طالب العلم هو الإخلاص، والصدق، والاتباع، وحب نشر العلم، وقد كان من إخلاص الإمام أحمد قوله: "لو وجدتُ السبيل لخرجتُ ولا يكون لي ذكر"، وقوله: "أريدُ أن أكون في بعض الشعاب بمكة حتى لا أُعرف، قد بُليتُ بالشُّهرة، وإني لأتمنّى الموتَ صباح مساء" (أحمد؛ لأبي زهرة: 6). 

فمن أراد التصدُّر للناس فلينطق بعلم، أو يسكت بلحلم، وليجعل لكل مقامٍ مقال، ولكل نُزُلٍ رجال، وإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم.

وإن العالم الحق هو الذي يُظهر الحق للناس ويُبينه، لا الذي يُزين الباطل ويزخرفه، بل إن العالم الحق دوماً في مواجهة الباطل بكل ما يقدر عليه من عبارة وإشارة وبرهان، فيُبطل الباطل ويُميزه ويُشينه ويُقبحه للنفوس بكل طريق مؤدٍّ إلى ذلك، أما الذين كتموا الحق، وتخاذلوا عنه؛ فقد عكسوا الأمور فانعكست أحوالهم، {ومن أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله}.

ومن ينظر لواقع المسلمين اليوم، لا سيما من يظهر بثياب المتشرعين والمُصلحين يجد أننا تأخرنا تأخراً أطمع فينا الثعالب والذئاب، فضربتنا اليد الخالية، واليد العاطلة على السواء، وضحك منا السياسيون وصُنَّاع القرار، ونال منا عُبّاد الأوثان ومن لا يعبد شيئاً قط.

ولا شك -والحالة هذه -أن تعليم العلم الشرعي وبثه بين عموم المسلمين له أجرٌ كبير، وثوابٌ عظيم، وقد قيل في حقِّ من يطلب الخير ثم لا يسعى إليه:

ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها … إن السفينة لا تجري على اليَبَسِ

ويبقى العلم لمن علّمه وبذله طريقاً موصلاً مُدخراً بعد وفاته، وكما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة: (إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثةٍ: من صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو لهُ)، رواه مسلم (1631)، والترمذي (1376).والنسائي (3651)، وأحمد في المُسند (14/ 438)

وهذا استثناءٌ معناه الحصر في هذه الثلاثة فقط. بمعنى أن هذه الأعمال الثلاثة هي التي يبقى أجرها لهم بعد وفاته لكونه سببها، والعلم الذي ينتفع به الإنسان بعد وفاته هو ما خلفه في كتبه، أو علّمه لغيره واستفاد الناس من ذلك الكتاب أو الطلبة الذين علّموا هذا العلم لغيرهم.

وقال الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (1/ 175): "وهذا -أي الحديث -وفضله وعظم ثمرته، وإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع علمه، مع ما له من حياة الذكر والثناء، فجريان أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب أعمالهم حياة ثانية" انتهى.

وهذا الكتاب يمثل المجلس الرابع عشر من مجالس الإملاء التي كان يعقدها الحافظ ابن عسكر في مسجد دمشق، وهو واحد جملة أماليه التي بلغت (408) إملاء، وقد تضمن الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة والموضوعة أحياناً والآثار المُسندة والمُعلقة والمرسلة، والأشعار الموزونة في ذم أولئك الذين يتعلمون العلم ثم لا يعملون به، وفي ذم الذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، وفي ذم علماء السوء.

وجملة ما في الكتاب من الأحاديث (13) حديثاً مرفوعاً، و(4) من الآثار، وقصيدة شعرية واحدة، وقد تعقب كل حديثٍ بالحكم عليه، مُبيناً علته في الغالب، ولكنا نبين ذلك باختصار:

1-عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عبدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عن أربع: عن ماله مما اكتسبه؟ وفيما أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَا صَنَعَ فيه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أَفْنَاهُ؟)) 

[أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في اقتضاء العلم: 1].

2-عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أربع خصال، عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكتسبه؟ وفيما أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فيه؟)) 

[صححه المنذري في الترغيب والترهيب: 4/ 298، والألباني في اقتضاء العلم: 2].

3- عَنْ أَبِي أُمَامَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رُبَّ عابدٍ جَاهِلٍ، وَرُبَّ عالم فاجر، فاحذوا الجُهَّالَ مِنَ العُبَّادِ، والفُجَّارَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ فِتْنَةُ الفُتَنَاءِ)) 

[ضعيفٌ جداً، وأخرجه ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (2/ 14)، والديلمي في «الفردوس» (3249)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/ 171)].

4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَشَدُّ -وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ، إِنَّ أَشَدَّ- النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ- وَفِي حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، لَا يَنْفَعُهُ- الله عز وجل بعلمه)) 

[ضعيفٌ لا يتطرق إليه احتمال التحسين، كما قال المنذري في الترغيب والترهيب: 1/ 103، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير: 1047].

5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ)).

[ضعيفٌ، فيه عثمان البري، والبلاء منه].

6-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عالمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ)) 

[إسناده ضعيف جداً، فيه: عثمان بن مقسم البري متروك].

7-عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ويلٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ، وويلٌ لِمَنْ عَلِمَ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ. ثلاثاً)) 

[إسناده ضعيف؛ لضعف قيس بن الربيع، وضعفه الألباني في اقتضاء العلم: 64].

8-عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، أَوْ أَوْحَى إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ لِغَيرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيرِ الْعَمَلِ. وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ مُسُوكَ الْكِبَاشِ قُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ. أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ. إِيَّايَ يَخْدَعُونَ أَوْ بِي يَسْتَهْزِئُونَ فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ)) 

[منكر، في إسناده عثمان الوقاصي، وهم متهمٌ بالوضع، وقال العراقي في تخريج الإحياء: 1/ 89: إسناده ضعيف].

9-عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ السِّرَاجِ يضيء للناس ويحرق نفسه)).

[حديث حسن، حسنه المنذري في الترغيب والترهيب: 1/ 102، والهيثمي في الزواجر: 1/ 167، والألباني في قيام رمضان: 8].

10-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الله يعافي الأميين يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ)).

[حديث منكر، غريب من حديث ثابت، تفرد به سيار عن جعفر، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: 1741].

11-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا، وَخِيَارُ عُلَمَائِهَا رُحَمَاؤُهَا، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْجَاهِلِ أَرْبَعِينَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبًا وَاحِدًا، أَلَا وإِنَّ الْعَالِمَ الرَّحِيمَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ نُورَهُ قَدْ أَضَاءَ يَمْشِي فِيهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَمَا يسري الكوب الدُّرِّيُّ))

[حديث موضوع باطل، كذا حكم عليه الذهبي في ميزان الاعتدال: 3/ 477، وقال أبو نُعيم في الحلية: غريب من حديث الثوري وابن المبارك، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة 367: باطل].

12-عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي جَهَنَّمَ رَحًى تَطْحَنُ عُلمَاءَ السُّوءِ طَحْنًا)).

[حديث موضوع باطل، قاله الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: 5/ 205، وفيه سويد بن عبد العزيز واهٍ جداً].

13- عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اطَّلَعَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالُوا: بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ؟ وَإِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكُمْ، قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَفْعَلُ)).

[ضعيف، قال ابن الجوزي في القصاص والمذكرين 39: غريب تفرد به أبو العيناء عن أبي عاصم، وضعف إسناده الألباني في اقتضاء العلم: 72].

14- وعن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ.

15-دَخَلَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَلَى الْحَسَنِ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ قَدِمَ زَوْجُهَا أَنْ تَصُومَ مِنْ يَوْمِهَا شَهْرًا. فَقَدِمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ. 

فَقَالَ الْحَسَنُ: صَامَتْ شَهْرَهَا وَوُفِّي نَذْرُهَا. 

قَالَ مَطَرٌ: إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا. 

فَقَالَ الْحَسَنُ: ثكلتك أمك مطر. وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ؟! 

وَهَل تَدْرِي مَنِ الْفَقِيهُ؟ الْفَقِيهُ الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الَّذِي لَا يَهْمِزُ مَنْ فَوْقَهُ وَلَا يَتَضَجَّرُ بِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ وَلَا يَأَخُذُ عَلَى علمٍ عَلَّمَهُ اللَّهُ حُطَامًا.

16-وعن بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ: الْعِلْمُ حَسَنٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ. وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ يَعْنِي بِهِ مَا أَضَرَّهُ! وَقَالَ: هَذِهِ حُجَجٌ أَوْ قَالَ: هَذِهِ حُجَّةٌ يَعْنِي عَلَى مَنْ عَلِمَ.

17-وقال بشر بن الحارث: مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ عَلِمَ وعَمِلَ وعلَّم فَذَاكَ يُدْعَى عظيماً في ملكوت السموات.

18- وقال مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لِبَعْضِهِمْ:

اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ ... لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ

وَالْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَقْوَى اللَّهِ زِينَتُهُ ... وَالْمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ




الاثنين، 9 مايو 2022

الإنصاف والاعتدال عند الحافظ الذهبي (673 - 748 هـ) د. هاني فقيه

الإنصاف والاعتدال عند الحافظ الذهبي

(673 - 748 هـ)

د. هاني فقيه

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ إن الوفاء للحق، والإنصاف في الأحكام، ليس شقشقة لسان، ولا تزوير بيان، بل إنه إخلاصٌ في السعي وتحمُّلٌ للعنت، واستواءُ الظاهر والباطن في مرضاة الله، جل في علاه. فالرجولة كل الرجولة في أن لا تحقد على بشر، ولا تفجر في خصومة، ولا تهضم حقوق الآخرين، والأتقياء دوماً فوق الأهواء، لأن رغبتهم في انتشار الخير وثبوت الحق أسبق في أفئدتهم من رغبة التشفّي وسرعة الانتقام لأشخاصهم. 

الأمر الذي لمسناه واقعاً عملياً في طريقة الحافظ الذهبي في كل من ترجم له أو كتب عنه من الأعلام والمشاهير، فجاءت تراجمه في غاية الوسطية والاعتدال، حتى أنه أنصف المخالفين في قضايا الفكر والمعتقد والسلوك، فأنصف الجميع، وأعطى لكل ذي حقّ حقه، وانتقد ما ينبغي انتقاده، دون إفراط أو تفريط، لا مدحاً ولا ذماً، ودون إعلاءٍ للمساوئ أو طمسٍ للمحاسن، وقد رسم لنا بذلك خطةً محكمة البناء لكل من يتصدى لنقد الأفكار والأشخاص والطوائف.

وهذا الكتاب يُسلط الضوء على نقد بنية الفكر المتطرف، واتجاهات الإرهاب المعاصر وتفكيكها من خلال عرضها على موازين الشريعة، ومن خلال القواعد والأصول التي وضعها مفكرو الأمة ونُقادها وعلمائها الأفذاذ أمثال الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى. الذي حارب التكفير والتبديع والتجهيل لعلماء الأمة وأعيانها لأجل زلة هنا أو خطأ وهناك، محارباً بذلك التحريض على القتل، ومُشدداً في شأن الأرواح والدماء، ومُبيناً أن الغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يُفضي إلى ذلك.

 وقد ذمَّ الإمام الذهبي نحلة الخوارج الذين يُكفرون الناس بالذنب، ويستحلون به الدم والمال والعرض، كما أنه حذََر من المسارعة إلى تكفير أعيان المسلمين من غير حُجَةٍ ولا بُرهان، أو التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.

وحذر من التبديع والتفسيق لأجل خطأ أو زلة لها تأويلٌ سائغ، وأن الإنصاف يقتضي النظر في الحسنات والفضائل ومقارنتها بالأخطاء والزلات، وأن العبرة بكثرة المحاسن. ولا شك أن لهذا المنهج البنّاء دوراً ريادياً في إخماد نار الفتنة بين المسلمين، وطمس جذوة العداوات بين الفرق، وتجاوز الخصومات التي قد تتجدد بين الفينة والأخرى بسبب سوء فهم أو سوء نية.

كما نلمس من طريقة الذهبيِّ التماسه الأعذار للأئمة فيما أخطأوا الاجتهاد فيه، وشواهد هذا كثيرة في تراجمه، لا سيما دفاعه عن الأئمة الأعلام الذين تعرضوا لبعض المحن بسبب هنات وزلات، كما أنه دعا إلى الحفاظ على الأخوة برغم الخلاف، وقرر أن كلام الأقران يُطوى ولا يُروى، خاصةً إذا كان منشؤه البغض والحسد، ودعا إلى ترك الإغراق في الصراعات التاريخية، لا سيما ما جرى بين السلف الأوائل.

كما أن الذهبيّ لا يضع الطوائف في بوتقة واحدة، بل يمنح كل إنسانٍ منهم قدره وحظه من الثناء والذم، بحسب حاله وقربه من السًُّنة أو بُعده عنها، وكان يُفرق بين غُلاة المتصوفة والزهاد، وبين غلاة المرجئة ومرجئة الفقهاء، وكان يُفرق بين غلاة القدرية وغيرهم كالمعتزلة، وفرَّق بين الكافر ببدعته وبين الكافر الأصلي، وأنهما ليسوا في المنزلة سواء.

وكان الذهبيُّ قوياً في قول الحق، لا يمنعه شيءٌ عن قوله، ومع ذلك فقد كان يكره كثرة الخوض في مضائق العقائد ومُعضلاتها، لأنها تسببت في كثير من القلاقل والفتن بين العلماء، ويرى السكوت عليها أولى وأسلم. مع إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

وكره الذهبيُّ القول في المسائل الشاذة، وتوسط في مسألة الاجتهاد والتقليد، فلم يفتحه لكل من هبَّ ودب، ولم يوصده أمام العلماء والمجتهدين، ويرى أن اتباع الحق أولى وأحق، وأن من الفقه ترك التحدث أمام العامة في مسائل تضرُّهم في دينهم، وحذَّر من الغلو في العبادة، والغلو في إطراء الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوسطه في مسألة الأسماء والصفات، واتباعه منهج السلف في الإثبات والسكوت، مع التماسه العذر لمن فوض بعض معاني الصفات.

ومن القواعد المُهمة التي يمكن استنباطها من كلام الإمام الذهبي -رحمه الله:

١ـ عدم رمي المسلم بالكفر بغير برهان قطعي صريح.  

٢ـ عدم ادعاء الولاية لمن تأكد ضلاله وتبرهنت زندقته وانحرافه عن الشريعة ونصوصها البينة.  

٣ـ أن من عرف عند بجماهير الأمة بالخير والصلاح والاستقامة فهو صالح خير مستقيم إن شاء الله، لأن الأمة شهداء الله في أرضه.  

٤ـ أن من عرف بفجوره واشتهر بانحرافه، فهو كذلك بحسب الظاهر، وإن كنا لا نقطع له في باطن الأمر، كا قال الإمام أبو جعفر الطحاوي ( ت: ٣٢١ه): ((نرجوا للمحسن ونخاف على المسيء)).  

٥. أن من اختلف فيه علاء الأمة ما بين مادح وقادح، ومعدل ومجرح، فهذا من ينبغي الحذر في الحكم عليه. والأسلم تفويض أمره إلى الله، والاستغفار له في الجملة، لأن إسلامه ثابت بيقين، وكفره مشكوك فيه، وبهذا كما يقول الذهبي: يصفوا قلب المسلم من الغل للمسلمين.

فصول الكتاب:

الفصل الأول: إنصاف الذهبي في تراجمه (الغزالي -ابن حزم -.عياض).

الفصل الثاني: تحذيره من سفك الدماء.

الفصل الثالث: ذمه للخوارج وإنصافه في الحكم عليهم.

الفصل الرابع: تحذيره من المسارعة إلى التكفير بغير برهان قطعي.

الفصل الخامس: تحذيره من التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.

الفصل السادس: تحذيره من التبديع لأجل زلة أو هفوة.

الفصل السابع: دفاعه عن الأئمة والتماسه الأعذار لهم.

الفصل الثامن: دعوته إلى وجوب المحافظة على الأخوة برغم الخلاف.

الفصل التاسع: تقريره بأن كلام الأقران يُطوى ولا يُروى.

الفصل العاشر: دعوته إلى ترك الإغراق في صراعات التاريخ.

الفصل الحادي عشر: تمييزه بين مستويات البدعة.

الفصل الثاني عشر: تقريره بأن العبرة في الرواة الصدق والإتقان وإن تلبسوا ببدعة.

الفصل الثالث عشر: نقده كثرة الخوض في مضائق العقائد ومعضلاتها.

الفصل الرابع عشر: نهيه عن القول بالمسائل الشاذة.

الفصل الخامس عشر: توسطه في مسألة الاجتهاد والتقليد.

الفصل السادس عشر: نقده لعلل وأدواء طلبة العلم.

الفصل السابع عشر: دعوته إلى ترك التحدث بمسائل العلم التي تضر العامة.

الفصل الثامن عشر: تحذيره من الغلو في العبادات.

الفصل التاسع عشر: توقيره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفا.

الفصل العشرون: توسطه في مسألة الأسماء والصفات.






الأحد، 8 مايو 2022

زغل العلم للإمام أبي عبد الله محمد بن قايماز الذهبي (673 -748 هـ)

زغل العلم

للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي

(673 -748 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا يماري أحدٌ في فضيلة العلم وشرفه، ومكانة أهله، فذلك معلومٌ ظاهرٌ، فقد رفع الله تعالى من شأن العلم، وحثَّ على الازدياد منه، وأمر بالتزود منه؛ فقال تعالى: {وقل رب زدني علماً} (طه: 114)، وقال سبحانه: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11).

واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجلِّ مشهودٍ به، وهو توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، وهذه تزكيةٌ لهم وتعديل وتوثيق، لأن الله تعالى لا يستشهد بمجروحٍ، فقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18)، ورويت في هذا الباب عشرات الأحاديث والآثار في فضل العلم ومكانته، وفضل مدارسته وغير ذلك.

وأمام هذه الفضائل المتنوعة والكثيرة للعلم وأهله، نجد أن بعض من سلك سبيل التعليم انحرف عن غاياته النبيلة من عمارة الكون وإثارة التفكير البنّاء، وإصلاح دنيا الناس وأديانهم إلى متاهات العصبية العمياء، والتفتيش عن الحيل، والاشتغال بالمعارك الكلامية، والفتاوى الجدلية، والزغل الذي هو الغش والخديعة، فحطَّ بعضهم على بعض، وافترى بعضهم على بعض، وولج كثيرٌ منهم في الشُّبهات، كُلُّ ذلك تحصيلاً لملاذ الدنيا وحطامها الفاني، وابتغاء الرفعة والرياسة والجاه عند الساسة والأغنياء، فظهر ما يُسمى بعلماء السوء الذين قصدوا من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها.

وهذا الكتاب هو تحفةٌ أثرية رائعة، لواحدٍ من العلماء الأفذاذ وهو الإمام الحافظ الذهبي، الذي تناول فيه أصناف العلوم المنتشرة في عصره، وبيّن رأيه فيها، وحال المشتغلين بها، كعلم القراءات والتجويد وعلوم الحديث، وتكلم عن فقهاء المذاهب في عصره، وعن النحو واللغة وغيرها، مُبيناً مخالفة أهل عصره لسلوك الرعيل الأول من الصحابة والتابعين والأئمة الأوائل رحمهم الله تعالى. ومُشدداً النكير على المُقلّدة والجهلة الجامدين على التقليد الأعمى بلا برهان ولا دليل.

وأوضح المصنف -رحمه الله -أن العلم إذا لم يكن داعياً إلى العمل فلا فائدة منه، بل هو وبالٌ على صاحبه، وخزيٌ وندامة، وقد ذم سبحانه من آتاه علماً فلم يهتدِ به، ولم ينتفع به يوم القيامة، فقال: {ويوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ* فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ* فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} (القصص: 65 - 67).. قد جاءت النصوص في هذا الباب شاهدةً بأن شرَّ الناس منزلةً عند الله تعالى يوم القيامة من كان لا يعمل بعلمه. وعلى رأس هؤلاء العلماء الفجرة الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، نسأل الله العفو والعافية.

وبيَّن المصنف طريقة السلف في طلبهم للعلم وتحصيله وأنهم شدوا الرحال في سبيل ذلك. وإذا كان الإمام الذهبيُّ يشكو من علماء عصره ويتأوَّه من حالهم، فما نقول نحن عن علماء زماننا؟ لا سيما الذين يتبجحون بالألقاب التي أصبحت ديدن كثيرٍ منهم.

وافتتح الحافظ الذهبي كتابه هذا، بقوله: "اعلم أن في كل طائفةٍ من علماء هذه الأمة ما يُذمُّ ويُعاب، فتجنبه…"، وذكر في القراء من يغالي في إقامة الحروف مع غفلته عن معاني الآيات، ومنهم من يعاني التنغيم والتمطيط، ومنهم من يبالغ في إحضار غرائب الوجوه والسكت… وذكر من أهل الحديث من همته جمع الحديث دون فقه ما فيه، ومن يروي عن كل من هبَّ ودب… ثم نعى على قضاة المالكية تسرعهم في الإفتاء بالتكفير  والقتل … ونعى على الحنفية تحايلهم على الربا وإبطال الزكاة … ودعا الفقهاء الشافعية إلى التواضع وترك المراء في البحث والمناظرة… وبرَّأ الحنابلة من تهمة التجسيم … وحذر النحويين من ترك علوم الكتاب والسنة … وأنه ينبغي الاعتناء بعلم اللغة وتفسير السلف … وأن من يدرس أصول الفقه عليه أن يجتهد فيه … وأنه في أصول الدين ينبغي ترك المسائل التي ترك السلف البحث فيها … وأنه لا يُعتنى من علم المنطق إلا بما يُفيد … ويجب ترك علوم الفلسفة بالكلية … وأن من يشتغل بعلم الفرائض لا ينبغي أن يستغرق منه كل وقته، بل يتوسط في تعلمه … وأن لا يشتغل بعلم البلاغة والإنشاء إلا من يتقي الله فيما ينشئه … ولا يشتغل بالشعر من رقَّ دينه … ومن باشر علم الحساب ينبغي له أن يتق الله لئلا يسرق … وكذلك علم الشروط "القضاء" … وكذلك الوعظ ينبغي على صاحبه أن يوسع ثقافته وأن يكون من الأتقياء الزُّهاد.

وختاماً، نقول: 

إن تصحيح النية والصدق والإخلاص لله تعالى شرطٌ أساسيٌّ في طلب العلم.

وقد بين الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 152 -153) أثر صلاح النية وفسادها على طلاب العلم، فقال ما مُلخصه: 

((كان السلف يطلبون العلم لله، فنبلو، وصاروا أئمةً يُقتدى بهم … وقومٌ طلبوه بنيَّةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نووا … وترى هذا الضرب لم يستضيؤوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله -تعالى-.

وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتبا لهم، فما هؤلاء بعلماء! وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار. وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار)).