أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2021

تنبيه النبيل إلى أن الترك دليل تأليف أبو عبد الرحمن محمد بن محمود مصطفى

تنبيه النبيل إلى أن الترك دليل

تأليف أبو عبد الرحمن محمد بن محمود مصطفى

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لعله من الواضح المتقرر لدى صدر هذه الأمة، قاعدة أن الترك دليل؛ لا سيما إذا كان الترك مقصوداً لذ اته؛ لأنه امتناعٌ وكفٌّ عن قصدٍ، لا مجرد الغفلة عن فعل الشيء، أو نسيانٌ له، ولا شك أن هذا الكف المقصود من جنس الفعل وله حكمه، وهو ما صحَّحه الأصوليون: أن الترك فعلٌ على الصحيح، لأن الكفَّ المقصود لا يتحقق إلا بعد وجود الداعي إلى فعله، ومن ثم تركه.

وعليه: فالسُّنة الفعلية، يدخلُ فيها الفعل والترك.

فإن كان الترك في أمور العادات؛ فإن الترك يدلُّ على الإباحة.

وإن كان الترك في أمور العبادات؛ فإن الترك يدلُّ على التحريم.

لأن الأصل في أمور العبادات التوقيف، وأنه لا يُعبد الله إلا بما شرع.

ويُعتبر دليل الترك من الأدلة الصحيحة المشهورة، التي يُستدلُّ بها على إبطال البدع والحوادث، والتي مُلخصها أنه: (إذا تَرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا، والمانع منها منتفيًا؛ فإن فعلها بدعة).

والسنة التركية: هي أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور. 

قال الشوكاني في إرشاد الفحول» (ص ٨٣) البحث العاشر: «تركه ﷺ للشيء، كفعله في التأسي به فيه». 

 وقال ابن السمعاني: «إذا ترك الرسول ﷺ شيئا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه لما قدم إليه الضب فأمسك عنه، وترك أكله، أنسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: "إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه"، وأذن لهم في أكله، وهكذا تركه لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة». 

 وقال ابن النجار في «مختصر التحرير» (٢/ ١٩٦): «وأما التأسي في الترك، فهو أن تترك ما تركه، لأجل أنه تركه».

 وقال ابن مفلح في «الأصول» (١٦ / ٣٣٥ - ٣٣٦): «والتأسي: أن تفعل مثل فعله على وجهه لأجل فعله، وكذلك الترك».

وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (٢٦/ ١٧٢): «الترك الراتب: سنة كما أن الفعل الراتب: سنة بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع… وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع. فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة: فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة».

وقد كانت هذه القاعدة مستقرة في أذهان سلف الأمة، من لدن الصحابة الكرام، ومروراً بالتابعين، وانتهاءاً بمتبع منهج السلف الصالح في عصرنا الحاضر.

ويُعرف ترك النبيِّ صلى الله عليه وسلم للفعل بأحد طريقين:

أحدهما: تصريح الصحابي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله: (صلى العيد بلا أذان ولا إقامة).

والثاني: عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله - صلى الله عليه وسلم - لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدَّث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمونين وهم يؤمَّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات.

أهمية هذا الكتاب:

أولاً: معرفة وجوب لزوم سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع.

ثانياً: بيان حدِّ البدعة، وأقسامها، والتحذير منها.

ثالثاً: معرفة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقسامها، من حيث الفعل والترك، وأن كلاهما مقصودٌ وسُنَّة.

رابعاً: بيان أن الإباحة أحد الأحكام التكليفية، وأنه لم يُخالف في ذلك إلا المعتزلة.

خامساً: بيان أن ترك النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفعل العبادة دليلٌ على أن فعلها بدعةٌ محدثة، وذكر الأدلة على ذلك، وردِّ بعض الشُّبه حولها.

وأنا أنقل هنا فصلين مُهمين من الكتاب:

فصلٌ: في إثبات هذه القاعدة وأدلتها.

الثاني: فصلٌ في ذكر النقول عن السلف في تقريرها.

الفصل الأول: فصلٌ في إثبات هذه القاعدة وأدلتها

اعلم أن أصل قاعدة «أن الترك دليل» أو «السنة التركية» دلت عليه أدلة  كثيرة من السنة الصحيحة على صاحبها أزكى الصلوات وأتم التسليمات، فمنها:

١ - قال أبو عبدالله البخاري في كتاب النكاح من «الجامع الصحيح» (باب الترغيب في النكاح) [٥٠٦٣] حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل، أنه سمع أنس بن مالك، رضي الله عنه، يقول: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر:  أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله، إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».  

فهذا الخبر يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء النفر أرادوا القيام بعبادة مشروعة أصلاً، ولكنهم ابتدعوا كيفية عزف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتفت إليها وتركها، على الرغم من أن الصيام والقيام مندوبان مستحبان، لكن لما كانت الكيفية والوسيلة، والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثة في هذه العبادات (متروكة) في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله لهذه العبادات، وغير واردة فيها، أنكر ذلك عليهم. ورد فعلهم لها.  

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» [٩ / ٧- ٨]: 

«المراد بالسنة: الطريق، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني.  

وقوله: «فليس منيه: إن كانت الرغبة بضرب من التأويل، يعذر صاحبه فيه، فمعنى «فليس مني، أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى «ليس مني» ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر«.  

ولقد فهم أهل العلم سلفا وخلفا من الحديث أنه من أكبر الأدلة على وجوب اتباع السنة ولزومها، فبوب عليه الإمام أبو حاتم ابن حبان في «التقاسيم والأنواع» كما في «الإحسان» [١٧٦/١] بقوله: باب الاعتصام بالسنة وما يتعلق بها نقلاً وأمراً وزجراً، وكذا فهم أبو الحسين البغوي، وبوب عليه في «شرح السنة» [٩٤]: الاعتصام بالسنة .  

ومن الأدلة أيضاً:  

٢ - ما أخرجه البخاري في «الجامع الصحيح باب: المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة» [٩٥٩]: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني عطاء، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة.  

[٩٦٠] وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، وعن جابر بن عداله قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.

فاعلم أنه قد درج عمل المسلمين في القرون الأولى إلى يومنا هذا على ترك العمل برفع الأذان والإقامة لصلاة العيدين، وهي سنة تركية، تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وجود المقتضي وانتفاء المانع.  

قال أبو عمر ابن عبدالبر في «التمهيد» [٢٤/ ٢٣٩]: «وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، ولا تنازع بين الفقهاء، أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل، إنما الأذان للمكتوبات».  

فلا يتصور أن يأتي رجل في هذه الأزمنة، ويرفع لصلاة العيد الأذان والإقامة، بزعم أنه لا دليل على ترك الأذان والإقامة، وأن مجرد ترك  رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده لهذه الشعيرة لا يعني أنها بدعة؟!!.  

 وقد أفادتني هذه النقول من الأخبار والإجماع الذي حكاه ابن عبدالبر: أن رفع الأذان والإقامة لصلاة العيدين بدعة ضلالة، لم يعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفها أهل السنة من القرون الأولى، فهي سنة تركية تدل على صحة ما أردنا إخبارك و إعلامك به: أن الترك دليل.  

لذا قال الإمام العيني كما في «إعلام أهل العصر» [ص ٩٥]:  

«إن الترك مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل دليل الكراهة» [ولا تعني الكراهة هنا ما تعارف عليه متأخروا الأصوليين، وإنما عني بها الأوائل التحريم، وجاء تورعهم عن إطلاقها إلا لما في الكتاب والسنة الصحيحة].

وقد أعلمناك بوجوب اتباع السنة، وفعل صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم -كما في حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه، ودونك فهما لصحابة النبي رضوان الله عليهم عن قاعدة الترك دليل :  

٣ - قال أبو عبدالله البخاري في كتاب: «الاعتصام بالسنة» من الجامع الصحيح» باب الاقتداء بسنن رسول الله [٧٢٧٥]: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبدالرحمن، حدثنا سفيان، عن واصل، عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في المسجد، قال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يقتدى بهما.  

شيية: هو شيية بن عثمان بن طلحة العبدري حاجب الكعبة.  

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» [٢٦٦/١٣]: «قال ابن بطال: أراد عمر قسمة المال الذي في الكعبة في مصالح المسلمين، فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، قلت: وتمامه، أن تقرير النبي متزل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى: {واتبعوه}، وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته، فيكون عمر مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض».  

فهم شيبة العبدري، وأمير المؤمنين عمر أن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، وتابعه على ذلك الخليفة الصديق هو سنة تركية، يجب أن يتركه من بعدهم.  

ولقد فهمت من هذا الخبر، وهذا الإيضاح من الحافظ ما يؤيد القاعدة الثابتة أن الترك دليل، وإثبات ما يسمى بالسنة التركية.  

قال ابن بطال كما في «فتح الباري» [٢٥٩/١٣- ٤٦٠]: «لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو في إجماع العلماء على معنى في  أحدهما». وهو جيد قوي.  

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كما في «مجموع الفتاوى» [٢٦/ ١٧٢]: «فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده، والصحابة، فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله»

ونستطيع القول هنا بأنه: إذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائما ثابتا، والمانع منها منتفيا، فإن فعلها بدعة.  

وعليه: فإن كل عبادة من العبادات ترك فعلها السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أو نقلها أو تدوينها في كتبهم أو التعرض لها في مجالسهم، فإنها تكون بدعة بشرط أن يكون المقتضى لفعلها قائماً، والمانع منه منتفيا.  

وقد اعتمد سلطان العلماء شيخ المسلمين العز بن عبدالسلام على هذه القاعدة في إبطال صلاة الرغائب المبتدعة، فقال في الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة» [٩]: «ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ممن دون الكتب في الشريعة ما ذكرها، ولا تعرض لها في مجالسه، والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة، وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام».  

وقل مثل ما قال سلطان العلماء في إحياء ليلة النصف من شعبان، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ويوم الهجرة، ومولد سيد الخلق وغيرها من البدع المحدثة.  

وقال الطرطوشي في «الحوادث والبدع» [٧٤] في معرض إبطاله لبعض البدع: «ولو كان هذا لشاع وانتشر، وكان يضبطه طلبة العلم والخلف عن السلف، فيصل ذلك إلى عصرنا، فلما لم ينقل هذا عن أحد ممن يعتقد علمه، ولا ممن هو في عداد العلماء، علم أن هذه حكاية العوام والغوغاء» . 

وقال الألباني، رحمه الله، في «حجة النبي» [١٠٠  -١٠١]: «ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله بقوله، ولم يتقرب هو بها لله بفعله فهي مخالفة لسنته؛ لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية، فما تركه من تلك العبادات فمن السنة تركها، ألا ترى مثلا أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكرا وتعظيما لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم».

ولعل من أقوى الأدلة على اعتماد قاعدة أن الترك دليل حديث ابن عمرو، وإن كان يدل عليها على سبيل الفحوى والإشارة.  

٤ - قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في «الجامع الصحيح» [٤٦ -  ١٨٤٤]: حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم (قال إسحاق: أخبرنا، وقال زهير: حدثنا جرير) عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبدا لرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» ثم ذكر الحديث  

 ووجه الدلالة في الخبر: ما استقر في قلوب المؤمنين وأذهان الموحدين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فقد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه لأمته، ولم يترك شيئاً يباعد الأمة عن الله جل جلاله إلا حذرهم منه، ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه.  

فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم، قد بين كل الدين، إما بقوله وإما بفعله وإما بإقراره وإما بتركه، وإما ابتداء من عنده، أو جوابا على سؤال عرض عليه، وهذا يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلا بينه لهم، ويدلك على هذا المعنى قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً} (المائدة: ٢٣)  لا شك أن الأشياء التي تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فلم يفعلها مع قيام المقتضى وانتفاء المانع لا تخلو من حالين :  

الأول: أن يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف أنها تقرب من الله عز وجل وإلى مرضاته والجنة، فكتمها عن الأمة، فالقائل بهذا إن لم يكن جاهلاً، فهو مرتدٌ عن الدين بهذه المقولة حيث يقول الله عز وجل : {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: ٦٧).  

الثاني: أن يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف أنها لا تقرب إلى الله عز وجل، وأنها لا تنفع العباد عند الرب جل جلاله، وبالتالي ترك فعلها، ولم يسنها للأمة بعده، لعلمه أنهم سيقتدون به في فعله وتركه، كما سبق بيانه.  

ويلزم على هذا القول: القول ببدعية هذه الأفعال وعدم مشروعيتها ووصف من سنها بالمبتدع.  

وهنا خيار ثالث لا يتصور، ألا وهو: عدم معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم بهذه العبادات، وهذا قادح لا في النبي بل في الرب عز وجل. لذا فلا يتصور أن يقول هذا عاقل فضلاً عن مسلم. 

فقد أعلمني هذا الخبر وهذا البيان والإيضاح أن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم -لفعل أو لعبادة هو دليل على عدم سنة هذا الفعل وعدم جواز التعبد به، وهو يؤيد ما أردت تقريره أن الترك دليل .  

ومن ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في كتاب «الدعوات» باب: إذا بات طاهرا [٦٣١١]، قال البخاري : حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، قال: سمعت منصورا، عن سعد بن عبيدة، قال: حدثني البراء بن عازب، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، فاجعلها آخر ما تقول» فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت، قال «لا، وبنبيك الذي أرسلت».  

وهذا الدليل من أصرح الأدلة على وجوب الاقتصار على الألفاظ الواردة في الأذكار التعبدية، حيث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ترك ألفاظا، ونطق بأخرى، فلا يجوز العدول عن المنطوق إلى المتروك.  

قال الإمام النووي في «شرح مسلم» [٤٣/٩]: «واختار المازري وغيره أن سبب الإنكار أن هذا ذكر ودعاء، فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه ي، فيتعين أداؤها بحروفها. وهذا القول حسن».  

وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» [١١٦/١١]: «وأولى ما قيل في الحكمة في رده على من قال الرسول بدل النبي. إن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به». وهو جيد نافع .  

ومن ذلك أيضاً:  

ما أخرجه عبدالرزاق في مصنفه [٢٠٧٦٣] قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الديلمي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قِبَلَ حُنين فمررنا بسدرة، فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي : «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}، إنكم تركبون سنن الذين من قبل قبلكم» [صحيح أخرجه الحميدي [٨٤٨]، والإمام أحمد [٢١٨/٥] من طريق عبد الرزاق، والترمذي [٢١٨]، والطبراني في «الكبير» [٣٢٩٠] بهذا الإسناد، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال].  

ووجه الدلالة فيه: 

أنه على الرغم من حداثة إسلام هؤلاء الصحابة إلا أنهم أدركوا أنه لا يحل لهم عمل أي عمل أو إحداثه، حتى يرجعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكونه ترك أمامهم إقامة ذات أنواط، دل عندهم على أنه لا يحل لهم فعلها حتى يراجعوا المشرع، حيث فهموا أن ما تركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لا يفعلوه إلا بعد أن يأذن لهم -صلى الله عليه وسلم.  

وترتيباً على ما سبق وقد أبنته، نستطيع القول بأن :  

الستة التركية، أو المسكوت عنه، وهو أن يترك الشارع الفعل مع وجود مقتضاه، وعدم المانع منه، وهو الذي له تعلق بالبدعة وأحوالها، أي: أن يترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفعل غير الجبلي مع قيام المقتضى وعدم المانع [«مجموع الفتاوى» [١٧٢/٢]، والسكوت ودلالته على الأحكام» [٢٩٠]  

وفيه مسائل:  

١ - نسبة الترك أو السكوت إليه صلى الله عليه وسلم، قيد يخرج به سكوت وترك غيره، فإنه لا يعد سنة تركيه [وقد يدخل سكوت غيره، كسكوت الصحابة، رضي الله عنهم، على تفصيل سبق].

٢ - وصف الفعل بغير الجبلي، قيد يخرج به الفعل الجبلي، فإن ما فعله رسول الله أو تركه مما يظهر فيه أنه جرى على الجبلة كالأكل والشرب، والقيام والقعود، والنوم وقضاء الحاجة، فهو على الإباحة له ولأمته [«الإبداع في مضار الابتداع» (٣٣)، وانظر «مجموع الفتاوى» ٣٢١/٢]

ولا يدخل في هذا المعنى ما شرعه من أقوال وهيئات تكون مع هذه الأفعال الجبلية، بل قد تكون واجبة كالأكل باليمين، أو مندوبة كالنوم على الطهارة.  

٣ - خرج بقيام المقتضى: ترك -صلى الله عليه وسلم -العمل مع عدم قيام المقتضى إليه، فهذا لا يكون سنة تركية، بل يجوز أن يفعل بدليل آخر كالقياس والمصلحة المرسلة وللمزيد من الإيضاح أقوال:  

جمع الصحابة، رضي الله عنهم، للقرآن في مصحف واحد، كان بالمصلحة المرسلة، ولم يكن هناك في عهده مقتضى لذلك، حيث وجوده -صلى الله عليه وسلم -وتتزل الوحي عليه من قبل الله عز وجل طمأن قلوب المسلمين على القرآن حيث لن يضيع منه شيء إلا بوحي كالنسخ. فلم يكن ثمت دافع لجمع القرآن، مع وجود كذلك المانع وقيامه، ألا وهو استمرار نزول القرآن وتنزله على النبي ونسخ الله عز وجل ما شاء منه، وهو مانع من الجمع لاحتمال تغير المكتوب.  

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقام المقتضى، وهو استشراء القتل في القراء من أهل اليمامة، وبداية الاختلاف في القرآن مع دخول الناس من العجم والعرب في الإسلام، وانتفاء المانع ألا وهو نزول شيء جديد من القرآن حيث توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فكان جمعه من المصالح التي رآها أبو بكر، رضي الله عنه، وأقره عليها الصحابة فصار إجماعاً منهم، لا تحل مخالفته. 

[وهو قيد مهم ينبغي التفطن له، وهو إجماع الصحابة، لا يستدل جاهل بقتال المرتدين أو مانعي الزكاة أو جمع القرآن أو إقامة الدواوين أو غير هذا على بدعته، فاعلم أن إجماع الصحابة حجة لا تحل مخالفته].

فإذا ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فعلاً، مقتضاه قائم كزيادة التقرب إلى الله بعمل ما، فهذا الترك لهذا الفعل مع وجود مقتضاه يدل على أن المشروع هو الترك.  

ومن مقتضيات رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيانه، أن يبلغ أمته طرق القربات، ومحال العبادات، وأصناف الطاعات، وأن يشرع لهم الواجبات والمندوبات، أن لا يكتم من ذلك أي شيء، وقد فعل، بأبي هو وأمي، فلم يكتم شيثاً ولم يترك خيرا يقر العباد إلى الله سبحانه وتعالى وهو معصوم من الكتمان وقت الحاجة، لذا قالوا: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مع حرصه على خير أمته في العاجل والآجل.  

فإذا علم هذا واستقر في قلوبكم تبين أن كل أمر تعبدي يراد به القربة إلى الله، وهذا مقتضى عام موجود في عهده صلى الله عليه وسلم، وليس هناك مانع من عمل هذا الأمر التعبدي، ومع ذلك لم يعمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يشرعه، فإن ذلك دليل على أن تركه هو المطلوب وهو السنة، وأن مثله هو المنهي عنه، وهو الابتداع. [«الاعتصام» ٣٦١/١، و«السكوت ودلالته على الأحكام (٢٩٠)].

قال الشاطبي في «الموافقات» [٤١٠/٢]: «أن يسكت عنه، أي: الشارع وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة، زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب، السكوت فيه كالنص، على أن قصد الشارع ألا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع، إذ فهم من قصده: الوقوف على ما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه»  

لذا قال الحافظ ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (٤١٠/٤) : «وباب القربات يقتصر على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء»  

وقال ابن تيمية في «القواعد النورانية الفقهية» (ص ١١٢): «فباستقراء الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله وأحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع».

وقال تلميذه ابن القيم في «أعلام الموقعين» (٣٤٤/١): «ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثّم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على الأمر، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه الله على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على  عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه»  

الفصل الثاني: ذكر النقول عن السلف وفحول الأمة في تقرير قاعدة أن الترك دليل، وبه يعلم بطلان الإجماع الذي حكاه بعض الجهلاء ممن لا يحسنون صناعة العلم  

قال سعيد بن جبير، رحمه الله: "ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين".

انظر «الجامع مع بيان العلم» لابن عبدالبر (١/ ٧٧١/ ٤٢٥).    

قال الشافعي، رحمه الله تعالى: "كل من تكلم بكلام في الدين، أو في شيء من هذه الأهواء ليس فيه إمام متقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثاً!؟ " «صون المنطق والكلام» (١٥٠).

وقال بعضهم: "ما تكلم فيه السلف السكوت عنه جفاء، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه بدعة".  «صون المنطق والكلام» (١٣١).

وقال الإمام الشافعي، رحمه الله، لبشر المريسي، لعنه الله: أخبرني عما تدعو إليه؟ أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ فقال بشر: لا، إلا أنه يسعنا خلافه. فقال أبو عبدالله: أقررت بنفسك على الخطأ " «صون المنطق والكلام» (٣٠). 

وقال الإمام أحمد، رحمه الله، لابن أبي دؤاد، قبحه الله: خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه: أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا.. قال: ليس يخلو أن تقول: علموه أو جهلوه، فإن قلت: علموه وسكتوا عنه، وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع بن لكع يجهل النبي، والخلفاء الراشدون شيئاً وتعلمه أنت وأصحابك". «الشريعة للآجري» (٦٣٦). 

وقال مالك، رحمه الله: "لو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل" «صون المنطق والكلام والأمر بالاتباع» (٧٠)، «قواعد معرفة البدع (ص ١٣١).  

وقال الحسن البصري: "إنهم (أي: الصحابة) كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوماً اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم"  جامع بيان العلم» (١٨٠٧/٩٤٦/٢).

وسئل سفيان عن رجل يكثر قراءة {قل هو الله أحد} لا يقرأ غيرها كما يقرؤها، فكرهه، وقال: إنما أنتم متبعون، فاتبعوا الأولين، ولم عنهم نحو هذا، وإنما أنزل القرآن ليقرأ، ولا يخص شيء دون شيء". أخرجه ابن وضاح كما في «الاعتصام» (١١٠/٢).

 وقال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم" صحيح أخرجه اللالكائي في «مختصر اعتقاد أهل السنة» (١٥٤/١) والبيهقي في «المدخل» [٢٣٣].

وقال الشاطبي في «الموافقات» (٧١٣): "الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلو كان ثم فضل ما كان الأولون أحق به، والله المستعان".  

وقال ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (٤/ ٦١٩): "من لم تسعه طريقة الرسول وطريقة المؤمنين السابقين، فلا وسع الله عليه"  

وقال إبراهيم النخعي: "لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -مسحوا على ظفر، لما غسلته، التماس الفضل في اتباعهم" صحيح عنه ابن بطة في «الإبانة» (٢٥٤)، والدارمي في «السنة» (٧٢/١).  

وقال سلام أبو الأحوص يخاطب نفسه: "يا سلام، نم على سنة، خير من أن تقوم على بدعة" «الإبانة» (٢٥١).

وقال عمر بن عبدالعزيز: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده، فيما جرت به سنته، وكفوا مؤونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة لا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها؛ فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والتعمق والحمق، فإن السابقين عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا" «الإبانة» ٢١٦٣، و «شرح أصول السنة» للالكائي (١٦).

وقال الحسن البصري: "سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينهما بين الغالي والجافي فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم، حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" أخرجه الدارمي (٢٢١). 

خاتمة حسنة، نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحُسنى

قال ابن قيم الجوزية في إثبات أن "الترك دليل" في كتابه  «إعلام الموقعين»، (٢/ ٢٨١- ٢٨٢): وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان، وكلاهما سنة؛

 أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: «ولم يغسلهم ولم يصل عليهم»، وقوله في صلاة العيد «لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء»، وقوله في جمعه بين الصلاتين «ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما» ونظائره.

والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله؛  فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمع أبدا، علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية- وذكر أمثلة.

ثم قال: ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق.

فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ 

فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته، وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقبل؛ لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب... إلى أن قال: وبذلك يحتج كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟

وتنقسم أفعاله -صلى الله عليه وسلم -إلى عدة أقسام:  

أولاً: ما كان يفعله بمقتضى الجبلة، وهو متطلبات الحياة من أكل وشرب ونوم، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة، وكان يفعله قبل البعثة، ويفعله كل إنسان، فهو على الإباحة الأصلية، وليس فيه تشريع جديد، ولكن صورة الفعل وكيفيته ككون الأكل والشرب باليمين... إلخ، وكونه من أمام الآكل، فهذا هو موضع التأسي به، وكذلك نوع المأكول أو تركه، ما لم يكن تركه لمانع، كعدم أكله للضب والبقول المطبوخة، وقد بين السبب في ذلك.

فالأول: لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه.

والثاني: أنه يناجي من لا نناجي.

وقد قال صاحب «المراقي»:  

وفعله المركوز في الجبلة ... كالأكل والشرب فليس ملَّه  

من غـير لمح الوصف...  

ثانياً: ما كان متردداً بين الجبلة والتشريع، كوقوفه بعرفة راكباً على ناقته، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى، فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالوجود في الموقف بعرفة على أية حال، فهل كان وقوفه راكباً من تمام نسكه؟ أم أنه فعله دون قصد إلى النسك؟ خلاف بين الأصوليون.  

ولا يبعد من القول: قد يكون فعله هذا ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الحج، تسهيلاً على من أراد السؤال، أو رؤية أو حاجة، فيكون تشريعاً لمن يكون في منزلته في المسؤولية.  

ثالثاً: ما ثبتت خصوصيته به، مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى: {يا أيها النبيُّ إنا أحللنا لك أزواجك} (الأحزاب: ٥٠)، وكن أكثر من أربع، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى: {خالصةً لك من دون المؤمنين} (الأحزاب: ٥٠). فهذا لا شركة لأحد معه فيه.  

رابعاً: ما كان بياناً لنص قرآني، كقطعه يد السارق من الكوع بياناً؛ لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة: ٣٨)، وكأعمال الحج والصلاة، فهذا بيان لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة: ٤٣)، وقوله: {ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً} (أل عمران: ٩) ولذا قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقال: "خذوا عني مناسككم"؛ فهذا القسم حكمه للأمة، حكمه المبين (بالفتح) ففي الوجوب واجب، وفي غيره بحسبه.

خامساً: ما فعله لا لجبلة ولا لبيان، ولم تثبت خصوصيته له، فهذا على قسمين:  

أحدهما: أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب أو إباحة فيكون حكمه للأمة كذلك، كصلاته في الكعبة، وقد علمنا أنها في حقه صلى الله عليه وسلم جائزة، فهي للأمة على الجواز.  

ثانيهما: ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا القسم أربعة أحوال:  

أولها: الوجوب عملا بالأحوط، وهو قول أبي حنيفة، وبعض الشافعية، ورواية عن أحمد.  

ثانيها: الندب، لرجحان الفعل على الترك، وهو قول بعض الشافعية، ورواية عن أحمد أيضاً.  

ثالثها: الإباحة، لأنها المتيقن، ولكن هذا فيما لا قربة فيه، إذ القرب لا توصف بالإباحة.  

رابعها: التوقف، لعدم معرفة المراد، وهو قول المعتزلة، وهذا أضعف الأقوال؛ لأن التوقف ليس فيه تأسٍ.

فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح: الفعل تأسياً برسول الله وجوبا أو ندبا، ومثلوا لهذا الفعل: بخلعه ي نعله في الصلاة، فخلع الصحابة كلهم نعالهم، فلما انتهى سألهم عن خلعهم نعالهم، قالوا: رأيناك فعلت ففعلنا، فقال لهم: "أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها". 

فإنه أقرهم على خلعهم تأسيا به، ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم، وقد جاء هنا {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: ٧) بصيغة العموم. انتهى كلامه.  

وقال شمس الدين محمد بن مفلح في «أصول الفقه»(٣٢٨/١ - ٣٣٣): 

"ما كان من أفعاله عليه السلام من مقتضى طبع الإنسان وجبلته، كقيام وقعود، فمباح له ولنا اتفاقاً.  

وما اختص به كتخييره نساءه بينه وبين الدنيا، وزيادته منهن على أربع، ووصاله الصوم، فمختص به اتفاقاً.  

وما كان بياناً بقولٍ، نحو: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أو بفعل عند الحاجة، كالقطع من الكوع، وغسل اليد مع المرفق، فإنه بيان لآيتي القطع والوضوء اتفاقاً.  

وما لم يكن كذلك، فما علمت صفته، من وجوب أو ندب أو إباحة فالأشهر عندنا الاقتداء به فيه على تلك الصفة، وقاله عامة الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية».

 



الاثنين، 11 أكتوبر 2021

رسالة في فضائل الخلفاء الراشدين لشيخ الإسلام ابن تيمية

رسالة في فضائل الخلفاء الراشدين
لشيخ الإسلام ابن تيمية

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ إليك أخي القارئ صفحات مضيئة من تراثنا النفيس، ما زال يسطع ضوؤها؛ لينير درب السالكين إلى وادي المعرفة واليقين، ورغم زلازل الأزمان، وأعاصير الأحداث، فإنه لم يَخْبُ نورها، ولم تخمد جذوتها، بل ظلت طوال السنين مشرقةً، مُتَّقِدة، تُعطي من فيضها الصافي الرقراق كنوز المعرفة، تلك هي مؤلفات شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني الدمشقيّ رحمه الله تعالى.

وقد تناول شيخ الإسلام في رسالته هذه موضوعاً من أهم الموضوعات التي تلبَّس بها كثيرٌ من الجُهَّال، من أصحاب الأقلام المسمومة، وهي قضية التفضيل بين الصحابة، وبالأحرى بين الخلفاء الراشدين!.

ومع أن القضية ليست من الأصول التي يُضلَّلُ بها المُخالف، ولكنَّ الروافض والنواصب وغيرهم من أصحاب الأغراض، قد خاضوا فيها على غير هُدى من الله، فمنهم من أراد أن يصل بتفضيل عليّ بن أبي طالب على أبي بكر وعمر إلى إبطال خلافة أبي بكر وعمر رضوان الله عليهم.

ومنهم من ناصب الإمام عليَّاً العداء والكُره، وأرادوا الحطَّ من شأنه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً..  فردَّ الإمامُ ابن تيمية في هذه الرسالة عليهم، سواءً كانوا مُغالين في حُبِّ عليّ، أو مُغالين في كراهيتهم له.

● أهمية هذه الرسالة:

١) أنها أسست لقاعدة منطقية ومهمة في قضية التفضيل، وهي: "أن الفاضل هو من له خصائص لا توجد في المفضول، فإذا استوى اثنان أو أكثر في الفضل، وكان لأحدهما خصائص تزيد على الآخر، كان هو الأفضل منهما".  و"أن الخصائص العامة المشتركة، لا توجب تفضيل إنسان على غيره"، ولا تعد من خصائصه، بل هي (مناقب، وفضائل، ومآثر) له، ولكن لا توجب تفضيله.

٢) أنها استندت إلى ما صحَّ من مناقب الخلفاء رضوان الله عليهم، دون الضعيف والموضوع، ووضعت قاعدة حديثية ثابتة في ذلك، وهي أنَّ "الصحيح الثابت لا يُعارض بالضعيف الموضوع".

٣) الرد على فرق النواصب الذين ناصبوا علياً العداء ورموه بالكفر، والروافض الذين غالوا فيه حتى ألهوه، ومع ذلك خذلوه.

 ● ومن الأمثلة على فضائل أبي بكر التي لم يُشركه فيها أحد:

- قوله ﷺ: "لو كُنتُ متخذاً من أهل الأرضِ خليلاً؛ لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً".
- و"لا تبقينَّ في المسجد خوخةٌ إلا خوخة أبي بكر".
- و "إن أمنَّ الناس عليَّ في صُحبته وذاتِ يده أبو بكر" (رواه البخاري ومسلم).

الشاهد/ في هذا الحديث ثلاث خصائص لأبي بكر، لم يُشركه فيها أحد، وهي:

(الأولى): أنه نصَّ على أنه لا أحدٌ من البشر يستحقُّ الخلة لو كانت ممكنة، إلا أبا بكر، ولو كان غيره أفضل منه، لكان أحق بالخلة، لو كانت واقعة.

(الثانية): تخصيصه لأبي بكر ببقاء الخوخة (فتحة تطل على المسجد)، دون سائر الصحابة، وقد حاول بعض الكذابين أن يروي لعلي رضي الله عنه مثل ذلك، لكن الصحيح الثابت لا يُعارض بالضعيف الموضوع.

(الثالثة): أنَّه بيَّن أنه ليس لأحدٍ من الصحابة حقٌّ في صحبته وماله مثلما لأبي بكر رضي الله عنه.

 ● أمثلة أخرى/ على فضائل أبي بكر التي لم يُشركه فيها أحد:
أ‌- أنه ﷺ لم يأمر أمته أن تُصلي خلف أحد في حياته وبحضرته، إلا خلف أبي بكر.
ب‌- أنه ﷺ أمَّر أبا بكر على الحج من المدينة؛ ليُقيم السُّنَّة، ويمحو أثر الجاهلية.

ت‌- أنه ﷺ أمر عائشة، فقال: "ادعي لي أباكِ وأخاكِ؛ حتَّى أكتبَ لأبي بكر كتاباً لا يختلفُ عليه الناسُ من بعدي"، ثُمَّ قال ﷺ: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" (رواه مسلم).
ث‌- ولما جاءت امرأةٌ إلى النبيِّ ﷺ، وقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إن جئتُكَ فلم أجدك؟ –كأنها تعني الموت-قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر" (رواه البخاري ومسلم).
ج‌- وفي الصحيح أن عمرو بن العاص، سأل النَّبيَّ ، عن أحبِّ الناس إليه؟ فقال: "عائشة"، قال: فمن الرجال: قال: "أبوها" (متفق عليه).

● سبب تأليف هذه الرسالة:
أن الإمام تقي الدين ابن تيمية رُفعت إليه مسألةٌ عن رجل سني شريف يرى تفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، فأجاب عليه رحمه الله تعالى، وهي موجودة في ثنايا فتاوي الإمام الكبرى في الجزء الرابع منها (٤/ ٤١٤- ٤١٩)، مع بعض الزيادات والفوائد في هذه الرسالة التي خُصِّصت لذلك.

● الأحاديث التي يستند إليها السائل في تفضيله لعليٍّ على أبي بكر وعُمر:
ويستدل هذا السائل بأحاديث منها:
-  قوله ﷺ لعلي «أنت مني وأنا منك» (رواه البخاري).
-  وقوله ﷺ له لما استخلفه على المدينة في غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (رواه مسلم).
- وقوله ﷺ يوم خيبر: «لأعطينَّ الرابة غداً رجلاً، يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله، يفتح الله على يده»، فأعطاها لعلي (رواه البخاري ومسلم).
- وقوله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه » (صحيح، رواه الترمذي).
- وبقوله ﷺ يوم غَدِير خُم: «أذكركم الله في أهل بيتي» (رواه مسلم، وغدير خُم: وادي بين مكة والمدينة، وهو غدير يصبُّ في البحر، ولا يُفارقه ماء المطر) .

• الآيات التي استدلَّ بها السائل على تفضيل علي بن أبي طالب:
- قوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} الآية /آل عمران: 61/.
- وبقوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}/الحج: 19
- ويزعم أن {هَلْ أَتى على الإنسان}/الإنسان: 1/ نزلت في علي - رضي الله عنه -؟!.

•  منهج ابن تيمية في رسالته في الجواب على شبهات السائل:

قرر ابن تيمية رحمه الله الجواب عما سبق ذكره من أربعة وجوه، نذكرها مع التمثيل ما أمكن:
١) الأول: أن فضائل علي -المذكورة آنفاً- بالنسبة لفضائل أبي بكر وعمر وعثمان هي فضائل مشتركة معهم، أو مع غيرهم من الصحابة، ولا توجب تفضيله عليهم من ذلك الوجه.
٢) الثاني: أن أبا بكر وعمر وعثمان قد تفردوا بخصائص ومناقب تزيد على خصائص علي بن أبي طالب كماً ونوعاً، وهذا يؤيد مقولة: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
٣) الثالث: بيان كذب الروايات التي تجعل لعلي من المناقب ما للثلاثة الخلفاء قبله مما تفردوا به، أو ما تجعله فوقهم.

مثال ذلك// 

قال ابن تيمية في قوله: «لا تبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»، "وهذا تخصيص له دون سائر الصحابة، وقد أراد بعض الكذابين أن يروي لعلي - رضي الله عنه - مثل ذلك، لكن الصحيح والثابت لا يعارض بالضعيف الموضوع".

مثال آخر// 

في قوله -صلى الله عليه وسلم -يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» فأعطاها لعلي. قال ابن تيمية: وقد زاد فيه بعض الكذابين أن الراية أخذها أبو بكر وعمر فهربا !!. 

مثال ثالث// 

قال ابن تيمية: وحديثُ التصدُّقِ بالخاتم في الصلاة، (وفيه أنَّ عليَّاً تصدَّق على السائل حال ركوعه، فقال النبيُّ: عليٌّ وليكم بعدي) كذبٌ موضوعٌ باتفاق أهل المعرفة، وذلك مُبيَّنٌ من وجوهٍ كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع.

٤) الرابع: بيان خطأ الاستدلال في بعض الألفاظ المحتملة التي لا دلالة فيها على أنه -رضي الله عنه- أفضل من الثلاثة الذين قبله، مع بيان الوجه الصحيح لتلك الأدلة في مواطنها، وذلك من خلال:

أ‌- بيان وجه الاشتراك في فضيلة ما ذكرت لعلي، وقد ثبتت لغيره من الصحابة.

مثال ذلك// 

قوله لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، هو بمنزلة تشبيه النبي ﷺ: أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه عمر بنوح وموسى، وذلك في قصة أسرى بدر (رواه أحمد وغيره، وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود).

قال ابن تيمية: وهذا أعظم من تشبيه عليٍّ بهارون، ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل مطلقاً، ولكن تشابها بالرسل هذا في شدته في الله، وهذا في لينه في الله، وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته به من بعض الوجوه كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب.

ب‌- الرد على بعض الشبه التي قد تثار حول بعض النصوص التي ظاهرها التفرد بخصيصة معينة، والحق أنها من العام المشترك.

مثال ذلك// 

جاء في الأثر: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، وهو قول مخالف لأصول الإسلام؛ فإن القرآن قد بيّن أن المؤمنين إخوة حتى لو اقتتلوا وبغي بعضهم على بعض، فهم إخوة مؤمنون.

ج- بيان غلط بعض الفرق؛ كالرافضة والنواصب في مسائل الموالاة والمعاداة لأهل البيت، مع بيان مذهب أهل السنة في ذلك.

مثال // 

في قوله: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"  تبين بهذا أن عليا - رضي الله عنه - من المؤمنين المتقين الذين يجب موالاتهم، ليس كما تقول النواصب أنه لا يستحق الموالاة.".

د- بيان العموم اللفظي في تلك الفضيلة ومقارنتها بأدلة أخرى تحمل نفس الدلالة، ما يجعلها فضيلة يشترك فيها جميع المؤمنين.

مثال ذلك// 

أن قوله ﷺ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»، لا يعني أن حب الله ورسوله من خصائص عليٍّ وحده، بل كل مؤمن كامل الإيمان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وقد جاء ذلك في آياتٍ كثيرة، 

منها قوله سبحانه: {فسوفَ يأتِي اللهُ بقومٍ يُحبُّهم ويُحبُّونه}/المائدة: 54/، وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة وإمامهم أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك فإن هذا الوصف ثابتٌ لخلائق كثيرين؛ كأسامة بن زيد (حِبُّ رسول الله ﷺ)، وأبو بكر (أحبُّ الرجال إلى رسول الله ﷺ)، والأنصار الذين قال لهم رسول الله ﷺ: "والله إنِّي لأحبكم"(رواه البخاري ومسلم).

 ● الجواب على الشبهات السابقة:

أولاً: الجواب على حديث: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، (يفتح الله على يديه)»، قال عمر: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"(رواه مسلم)". واستشرف لها عمر وغيره.

أ‌- نفهم من هذا أن استشراف عمر للإمارة؛ كان من أجل الوعد الصادق من النبي ﷺ بالفتح، على يد حامل تلك الراية، ولو كان فيها احتمال الهزيمة لما استشرف لها عمر.

ب‌- وليس في الحديث ما يدل على تفضيل عليٍّ على عمر؛ لأن الله أعز الإسلام بعمر، وقد فتح الله على يديه بلاداً كثيرة.

ثانياً: الجواب على حديث "أنتَ منِّي وأنا منك"، من وجهين:

أ‌- الوجه لأول: أنَّ هذه الفضيلة ليست خاصَّة بعليٍّ وحده، بل هي عامَّةٌ يشتركُ فيها جميع المؤمنين كاملي الإيمان. 

قال ابن تيمية (ص ٣٦): "وهذه العبارة تستعمل في النوع الواحد؛ فيقال: "هذا من هذا"، إذا كان من نوعه، فكل من كان من المؤمنين الكاملين الإيمان فهو من النبي ﷺ، والنبي ﷺ منه".

ومثل ذلك قوله سبحانه: {والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}/الأنفال: 75/، فكل من حقَّق هذه الصفات من الإيمان والهجرة والجهاد، فهو من النَّبيِّ ﷺ، والنبيُّ منه.

وفي المقابل كل من لم يُحقِّق كمال الإيمان، فلا يستحقُّ هذه الفضيلة، وذلك كما في قوله ﷺ: «من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا» (رواه مسلم)، ونحو ذلك.

ب‌-  الوجه الثاني: وأن هذه العبارة قالها النبيُّ  لغيره من المؤمنين.
- فقد قالها لجُلَبيب الذي قتل عدة من الكفار: «هذا مني وأنا منه» (رواه مسلم).
- وقالها في الأشعريين الذين جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد، ثم قسموه بينهم بالسوية، «هم مني وأنا منهم» (متفق عليه).
وقالها ﷺ في قصة بنت حمزة: «أنتِ مني وأنا منك» .

ثالثاً: الجواب على حديث: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» من وجوه:

أ‌- أن هذا الحديث معناه أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ فتخلفني في أهلي كما خلف هارون أخاه موسى؟، ومعلوم أنه استخلف غيره قبله، وكان أولئك منه بهذه المنزلة، فلم يكن هذا من خصائصه. 

ب‌- ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخفَ ذلك على علي - رضي الله عنه !، ولم يخرج إليه وهو يبكي ويقول: "أتخلفني في النساء والصبيان؟ ".

ت‌-  وأن هذا الحديث لا حجة فيه على ضرورة استخلافه من بعده، ويؤيد هذا أن هارون المُشبَّه به لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى، وقبل وفاة موسى بأربعين سنة على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصاص، وإنما استخلفه على قومه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة.

ث‌-  وأن هذا الاستخلاف منه ﷺ لعليٍّ ليس على إطلاقه، لأنه بعد هذا الاستخلاف أمّر عليه أبا بكر عام تسع، عند قفوله من تبوك على الحج، فكان مؤتمراً بأمر أبي بكر، يُصلي وراءه، ويصدر عن أمره.

ج‌- أن هذا الاستخلاف كان ضعيفاً، لأنه ﷺ لم يأذن لأحدٍ من المؤمنين القادرين في البقاء كي يستخلفه عليهم، فقد خرج جميع القادرين من المؤمنين مع رسول الله ﷺ، وبقي في المدينة الصبيان والنساء والشيوخ العاجزين، والمنافقون عدا الثلاثة الذين خُلِّفوا.

ح‌- وأنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه، إذ لو كان كذلك لم يقدم عليه أبو بكر -لا في الحج ولا في الصلاة- كما أن موسى عليه السلام لم يكن يقدم على هارون أحداً غيره.

والمقصود: أنه ﷺ إنما شبهه به في هذا الاستخلاف خاصة، وهذا أمر مشترك بينه وبين غيره.

رابعاً: الجواب على حديث: "لا يُبلِّغ عنِّي العهدَ إلا رجلٌ من أهل بيتي"، من وجهين:

أ‌- كانت عادة العرب (والمسلمين على عهد رسول الله ﷺ) جارية على أنه لا يعقد العقود ولا يحلها إلا رجل من أهل بيته، وليس في هذا الحديث ما يدلُّ على تخصيص عليٍّ بهذا الأمر، بل  أيُّ رجٍ من عترته (وقرابته) يحصل به المقصود، ولا شكَّ أنَّ علياً أفضلُ بني هاشمٍ بعد رسول الله ﷺ؛ فكان أحقَّ بالتقدم من سائر الأقارب.

ب‌- وجاء في أنيس الساري (١٧٢٧): هذا الحديث أخرجه الجورقاني، وقال: هذه الرواية مضطربة، مختلفة، منكرة.

خامساً: الجواب على حديث «وأدرِ الحقَّ معه حيث دار» من وجهين:

أ‌- أن الشطر الأول من الحديث صحيح، وهي (من كنت مولاه فعلي مولاه)، وأما الزيادة على ذلك فليست من الحديث، وقد سُئل عنها الإمام أحمد، فقال: الزيادة كوفية، ولا ريب أنها كذبٌ لوجوه:

-  أن الحق لا يدور مع شخصٍ مُعيَّن بعد النبيِّ ﷺ، ولو كان كذلك، ولجبت له العصمة، ووجب اتباع قوله، ويحرم على المسلمين مُخالفته، ومعلومٌ أنَّ علياً لم يكن كذلك، فقد نازع أصحاب النبيِّ ﷺ في مسائلً والحقُّ معهم، كما نازعه أصحابه وأتباعه في مسائل كثيرة، وكان الصواب معهم.

ومثال ذلك// 

ما جاء عن عُمر، وابنه، وابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم بأن الحامل تعتدُّ بوضع الحمل، وبهذا جاءت سُنَّةُ النَّبيِّ ، وكان عليٌّ رضي الله عنه، يُفتي بأنها تعتدُّ بأبعد الأجلين (من وضع الحمل، أو أربعة أشهرٍ وعشرا)، وفي الحديث أنه  قال لسبيعة الأسلمية: " قد حللتِ فانكحي"(رواه البخاري ومسلم).

- أن الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 271): من طريق عمرو ذي مُرّ، عن عليٍّ مرفوعاً، وأعلَّه بعمروٍ الكوفي هذا، قال البُخاريّ: "لا يُعرف".

سادساً: الجواب على حديث: "اللهم انصر من نصره، واخذل من خذله".

أ‌- هذه الزيادة لم تثبت عن النَّبيِّ ﷺ، كما أشرنا إليه في (الجواب الخامس).

ب‌- أن هذه العبارة خلاف الواقع، فإن الواقع ليس كذلك، بل قاتل معه أقوام يوم صفين، فما انتصروا، وأقوام لم يُقاتلوا معه فما خُذلوا؛ كسعد بن أبي وقاص الذي فتح العراق، لم يُقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية، وبني أُميَّة الذين قاتلوه، وفتحوا كثيراً من بلاد الكُفّار، ونصرهم الله تعالى.

سابعاً: الجواب على قوله: "اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه".

أ‌- أن المراد بالولاية هنا ليست الولاية الخاصة، وإنما هي الولاية العامة المشتركة، وهي ولاية الإيمان التي جعلها الله بين المؤمنين، وعليٌّ واحدٌ من المؤمنين الذين تجب موالاتهم، وقد قال تعالى: {إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا..}/المائدة: 55/ وهي موجبةٌ لموالاة جميع المؤمنين.

ب‌- أما جعل هذه الولاية خاصَّةً به دون غيره، فمخالفٌ لأصول الإسلام وقواعده، فإن القرآن بيَّن أن المؤمنين مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض هم إخوة مؤمنون.

ثامناً: حديث غدير خُم ليس من الخصائص:

وقوله ﷺ يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي» وهذا حديث رواه مسلم، وليس هذا من خصائص علي، بل يتساوى فيه جميع أهل البيت عليهم السلام، آل علي وجعفر وعقيل وآل العباس.  

قال ابن تيمية: "وأبعد الناس عن هذه الوصية الرافضة، فإنهم من شؤمهم يعادون العباس وذريته، بل يعادون جمهور أهل بيت النبي ﷺ ويعينون الكفار عليهم، كما أعانوا التتار على الخلفاء من بني العباس، فهم يعاونون الكفار ويعادون أهل البيت، وأما أهل السنة فيعرفون حقوق أهل البيت ويحبونهم ويوالونهم ويلعنون من ينصب لهم العداوة".

تاسعاً: بيان أن آية المباهلة ليست من خصائص عليّ:

وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عائشة أن النَّبيَّ ﷺ أدى زكاة عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "اللهم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً، فدعا لهم دعوةً خصَّصهم بها. والجواب على ذلك من وجهين:

أ‌- أنه لما كانت المباهلة بالنساء والأبناء والأنفس دعا هؤلاء، ولولا ذلك ما دعاهم.

ب‌- وأن هذا لا يمنع أن يكون في غير الأقارب من هو أفضل منه؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، لأن المباهلة وقعت بالأقارب، فلهذا لم يُباهل بأبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم ونحوهم.

عاشراً: آية المخاصمة ليست من الخصائص:

وهي قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}//، والجواب من وجهين:

أ‌- في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه، أنها نزلت في المختصمين يوم بدر، وأول من برز من المؤمنين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، برزوا لعتبة وشيبة، والوليد بن عتبة (رواه البخاري ومسلم)، وهذه فضيلة مشتركة بين عليٍّ ومن معه (حمزة وعُبيدة)، بل سائر البدريين يشاركونهم في هذه الخصومة.

ب‌-  وعلى تقدير أنها نزلت في الستة المبارزين، فلا يدل ذلك على أنهم أفضل من غيرهم، بدليل أن النبيَّ  وأبو بكر وعمر والحسن والحسين أفضل من عُبيدة بن الحارث وحمزة باتفاق، فإذا وقع ذلك لواحدٍ منهم، انطبق الأمر على الباقين.

حادي عشر: بيان أن سورة الإنسان ليست خاصَّةً بأهل بيت عليّ:
والجواب على ذلك من وجوه:

أ‌- أن من نقل ذلك ذكر أنه لما تصدقت فاطمة (أو علي) بقوت الحسن والحسين، وتركتهم جوعى ثلاث ليالٍ، نزلت الآية، وهذا كذب! لأن سورة (هل أتى) مكيَّة بالإجماع، والحسنين ولدا بالمدينة، بعد غزوة بدر باتفاق أهل العلم.

ب‌- وعلى تقدير صحتها ،فليس فيها ما يدلُّ على أن عليَّاً هو أفضل الصحابة، بل الآية عامة مشتركة، في كل من فعل هذا الفعل، وهي تدل على استحقاقه لثواب الله تعالى على هذا العمل، وعلى كل عملٍ يُقصد به وجه الله، بل إن الإيمان بالله، والصلوات على مواقيتها، والجهاد في سبيل الله أفضل من هذا العمل بالإجماع.

● خلاصة الرسالة:
1) لا بُدَّ قبل البحث في مسألة التفضيل من العلم بأصول وقواعد التفضيل في هذا الشأن.
2) وأن للخلفاء الأربعة فضائل مختصَّة لكل واحدٍ منهم لا يُشاركهم فيها أحد، وفضائل عامة يشتركون فيها مع غيرهم.
3) أن عليَّاً رضي الله عنه ليس أفضل الصحابة، بل هو من أفضلهم وخيارهم، وليست له خصِّيصة تُميِّزُه عن الخلفاء الثلاثة قبله، ولا هو في مرتبةٍ فوقهم، بل ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
4) الحق لا يدور مع واحدٍ بعينه من أفراد الصحابة على جلالته، لأنه ليس معصوماً، ولعليّ بن أبي طالب فتاوى يخالف فيها الصحابة، بل ويخالف فيها السُنَّة النبويَّة الشريفة.
--------------------------------------
اختصره، وهذبه، ا. محمد حنونة.
دار الصحابة للتراث بطنطا. التحقيق والتعليق بقسم التحقيق بالدار. الطبعة الأولى، 1992م.




التصوف من إشكالية الفهم إلى تيه الممارسة الأستاذ: عيد علاوي

 التصوف من إشكالية الفهم إلى تيه الممارسة

الأستاذ: عيد علاوي 

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ إن الناظر في الكتب التي تبحث في التصوف ومسائله يجدها عبارة عن نظريات انتقائية محررة، ومواضيع مكررة بطريقة غزلية، لا تمت إلى الواقع بصلة، سيما تلك التي يصدرها أصحاب الفلسفة الأفلاطونية المعاصرة..

مع العلم أن التصوف في مسيرته التاريخية ملوث جدا، ما جعله أحيانا شيئا آخر غير الإسلام الذي جاء به رسول الله ﷺ..

وكل هذا غريب وعجيب في مذهب يدعي أصحابه أنهم أتباع الإسلام وحملة رايته.. وقد رأينا الكثيرين من أهل الطرق مغيبين عن بديهيات في الإسلام، لا ينبغي أن تغيب عن أصغر مسلم معاصر..!

وقد أحيطت كتب المتقدمين منهم بهالة غريبة من القداسة، جعلت من نقدها وتحقيق مسائلها أمرا في غاية الصعوبة، سيما وأن الأمر مشوب بشيء  من التهويل والفزعة الدينية !. 

ولعل أول ما يجب على الباحثين والدارسين لحقيقة هذا المذهب معرفة تاريخه الغامض الذي هو جزء أساسي من دراسة التصوف !..

وما انتقده بالفعل هو التطبيق الخاطئ لمادية الغرب وجحوده على سماحة الشرق الدينية، فإذا كانت حضارة أولئك مادية بحتة، فلا ذنب للشرق أن يكون راعيا للتصوف وخرافاته، خاصة وأن الإسلام قد أعاد للعقل والروح والقلب الحياة الحقيقية، حتى لا تكاد تجد فيه معنى واحد للتعلق بالمادة كما يزعمون..

لم يات هذا المؤلف بجديد يذكر، سوى أنه لفق التصوف بالشريعة، وأغفل تاريخ هذا المذهب الحافل بالكوارث العقدية والسلوكية، ثم أنهى ذلك بثمرات وفوائد تحتاج إلى مزيد من التنقيح والتحقيق.

وأرى أننا نفتقر إلى دراسات أكثر صدقا وواقعية تجلي معنى التصوف بصورته الحقيقية، كمذهب وطائفة نشأت في زمن، وظروف ومكان محدد.

وفي هذا الكتاب لم يقطع الكاتب بنسبة هذا المذهب إلى الكوفة أو البصرة، شأنه شأن الكتاب المحدثين، فأغفلها، مع أنها من الأهمية بمكان، ما يمكننا من معرفة طبيعة البيئة والظروف والأسباب التي أدت إلى نشأ مذهب التصوف فيها..

ومن الجدير بالذكر أن الكاتب أقر بإجماع العلماء على أن كلمة "تصوف" مستحدثة، وذكروا أنها أول ما أطلقت بالإفراد على ثلاثة من الزهاد الكوفيين؛ هم أبو موسى جابر بن حيان (٢٨٠هـ)، وأبو هاشم الكوفي، وعبدك الصوفي. 

● تاريخ التصوف باختصار:
١) لم يعرف علم التصوف في العهد النبوي، ولا في العهد الراشدي، ولا في العصر الأموي، ولا في مطلع الخلافة العباسية.
٢) بدأت معالمه في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واول من سمي بالصوفي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150 هـ.
٣) وباسم الزهد انتشر التصوف في مطلع القرن الثالث، وصنف في هذه الفترة الكتب التي تتحدث عنه، وأخذوا يضعون القواعد والأسس والمنطلقات.
٤) وفي منتصف القرن الثالث تسربت الكثير من الفلسفات والأفكار الدينية الأخرى إلى التصوف، وامتزجت به، وأصبح الطابع العام الذي يميز التصوف بصبغته الإشراقية.
٥) وفي العهود الأخيرة نشأت ناشئة من الصوفيين الذين يرفضون أية محولات لإخراج التصوف عن الكتاب والسنة.

● أهداف الدراسة:
١) اماطة اللثام عن نشأة التصوف، والكشف عن أهم أعلامه.
٢) تحقيق القول في مفهوم التصوف وأنواعه، وما يقبل منه وما يرفض.
٣) إبراز دور التصوف التربوي المحرر على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة في نهوض الواقع، ومدى إسهامه في تهذيب السلوك الإنساني.
٤) الإشارة إلى أن التصوف أصابته بعض الانحرافات السلوكية قديما وحديثا، فصار التصوف الحق شيء، والواقع والممارسة شيء آخر.

وقد خلص الكاتب إلى أن:

١) التصوف مأخوذ من لبسة الصوف- التي هي رمز الرهبنة.

٢) وأن التصوف خلق، وقوامه: (علم+ جود + صبر= تصوف)!..

٣) وأن التصوف نوعان:
أ- تصوف فلسفي مرفوض.
ب- تصوف تربوي أخلاقي.

● أفكار وممارسات صوفية منحرفة:

١) فكرة الفناء:
وفكرة الفناء تتنافى مع أخلاق الحياة التي قررها القرآن، وبينها النبي بسلوكه وحديثه، والصحابة بممارساتهم الدينية والدنيوية، بالإضافة إلى أنها لا تستقيم مع عقيدة التوحيد.

٢) السلوكيات الشركية المنافية للإسلام:
ولا تزال طوائف الصوفية تمارس الشرك بأنواعه الجلي منه والخفي، من الطواف حول الأضرحة، وتداول الشطحات الكفرية، وتعليق التمائم والحجب، واعتقاد نفع الشيخ وتأثيره، وبركته، وجاهه عند الله وغير ذلك.

-------------------------------------------
الاستاذ عيد علاوي، قسم اللغة العربية وآدابها، معهد اللغات والآداب، المركز الجامعي- الطارف.
مجلة المخبر، العدد الثامن، 2012م، أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، جامعة محمد خيضر، بسكرة- الجزائر (ص ١٢٧- ١٤٢).



صُوى وكُوى الشيخ الأديب محمد بن سليمان المهنا

صُوى وكُوى

الشيخ الأديب محمد بن سليمان المهنا

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ فكرة هذا الكتاب هو جمعُ ما رقَّ وطاب من الخواطر والأخبار والفوائد، واستعذاب ما حَسُن من المُلح والفوائد واللطائف، من أكثر من مائة مرجعٍ من كتب التراث والأدب والحكمة، وفائدته هو تقريب العلم وتسهليه وتيسيره، وربط الخلف بآثار السلف، وأن يتعرف القارئ إلى مواضيع متنوعة، ونوافذ جديدة من المعارف والمعلومات التي تفتق ذهنه، وتنمي ملكة التفكير لديه، وتوسع دائرة اهتمامه.

ولم يخل الكتاب من فتاوى ابن عثيمين، وابن باز، والألباني، وآراء جماعة كبيرة من العلماء -رحمهم الله تعالى.

وأما عنوان الكتاب؛ فهو "صُوى" جمع صُوَّة، وهي: الحجارة المجموعة كالعلامة والمنارة،، كانت العرب تضعها في الصحراء للدلالة على الطريق، و"كُوى" جمع كُوَّة، وهي: النافذة الصغيرة، التي تُفتح في الجدار لأجل الإضاءة.

وقد جمعتُ بعض هذه الفوائد على قناتي في التيليجرام، ولعلي أضع بعضها في منشور مستقل.

انظرها هنا على القناة:

https://t.me/joinchat/UkY_ew4EoiEN9fsQ