تنزيه السنة والقرآن
من أن يكونا من أصول الضلال والكفران
تأليف: أحمد بن حجر آل أبو طامي آل بن علي
قاضي المحكمة الشرعية بدولة قطر
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب هو ردٌّ على عبارة أحمد الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين عندما قال عبارته النكراء: "الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر" تعالى الله عما يقول علواً كبيراً.
وقد أتى الجواب على "الصاوي" في هذا الكتاب المبارك، شافياً لصدور المؤمنين، مشفوعاً بالأدلة النقلية والعقلية والنقول عن الأئمة المهتدين، فشفى أوام الظامئين، وأعرب عن جهل المُدعين، وحرقت صواعقه شبهات الجاهلين، وقد أبان مؤلفه القاضي نتائج وآثار قول الصاوي السيئة على هذه الأمة، وما حملتها عبارته من الطامات والبدع والمنكرات، وما هو لازمها من النفاق والكفر والطعن في الدين.
وقد صدر من (الصاوي) هذا القول الشنيع بناءً على العصبية المقيتة التي رسختها الأشعرية البغيضة، والتي يذكيها التصوُّف المحترق، وتتستر بثياب المذهبية البريئة، والتي لا ذنب لها سوى أصحابها المُحرفين، فاختاروا تأويل صفات الباري جل وعلا بغير مستندٍ ولا دليل، واستمدوا عقائدهم من مصادرها البعيدة، التي هي مبادئ المنطق وفلسفة اليونان.
وكان الصاوي، المنسوب إلى (صاء الحجر) في إقليم الغربية، بمصر: ينتحل المذهب المالكي، وكان أشعري المعتقد، ويتبع الطريقة الصوفية الخلوتية، وتوفي سنة (1241 ه/ 1825 م)؛ ولا عجب أن تظهر مثل هذه العبارات الشنيعة ممن لم يتربى في ربوع الكتاب والسنة الصحيحة، وإنما نشأ في أحضان البدع، وبين كتب المخرفين، مع ما يُكنُّه أرباب تلك الطرق من حقدٍ جائرٍ على الدعوة السلفية، وقد تشرب هذا الحقد الصوفي، والتعصُّب الأشعري؛ حتى كانت عبارته هي إحدى النماذج السيئة التي تصدرهها القبورية الوثنية إلى الناس.
ولهذا يتوجه لهؤلاء بسؤال جدير بالإجابة، ولتكن في أنفسهم؛ وهو: كيف يكون في عرف الصاوي وأتباعه: الأخذ بالبدع الضلالة نورٌ وشفاء! بينما الأخذ بظاهر القرآن كفر وزندقة!!.
وإذا كان الكتاب والسنة هما مصدر اهتداء البشرية، فيُقال لهذا الشيخ (وأتباعه) إذا كان ظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؛ فمن أين تأتي الهداية إذن، فمهما قال من جواب؛ فلا تفيده دعوى الاهتداء بهما.
ثم ماذا يقول الصاوي عندما يسمع قول أحد الغربيين مثل توماس كاريل في اعترافه بفضل القرآن، وثنائه عليه في قوله: "إن القرآن كتاب لا ريب فيه، وأن الإحساسات الصادقة الشريفة، والنيات الكريمة تظهر لي بفضل القرآن، الفضل الذي هو أول وآخر فضل وجد في كتاب نتجت عنه جميع الفضائل على اختلافها، بل هو الكتاب الذي يُقال عنه في الختام (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) لكثرة ما فيه من الفضائل المتعددة"، ثُمَّ يُقول ماذا يقول الشيخ الصاوي غفر الله له الذي يعدُّ نفسه من علماء المسلمين: "الأخذ بظاهر القرآن كفر"!!.
وقد قال الصاوي في شرح آية الاستثناء في "سورة الكهف": "لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر!! لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر".
إن لكلام الصاوي خطورته البالغة، ومفاسده الكثيرة، ولو تأمل أدنى نظرة لعلم فساد ما يقول، ولم يضع هذا القول السخيف في تفسير القرآن المجيد، ويكفيه أنه يحطُّ من قيمة أعظم كتاب أنزله الله على البشرية، ثُم هو يطعن في مُنزل الكتاب وهو رب الأرباب، ويطعن في الرسول المُبلغ عن ربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وطعنه في مُنزل الكتاب من جهة أن الله قال في كتابه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، فكيف يليق به أن يُنزل الكفر، والكفر أظلم الظلم، وأما طعنه في القرآن من حيث أنه كتابٌ ظاهره كفر وضلال وغواية كما يدَّعي، لا كتاب حقٍّ ورشدٍ وهداية، ولا كتاب شفاء ورحمة وأما طعنه في الرسول؛ فكأنه قال لم يصنع الرسول شيئاً وهو يدعي الرسالة، وإنما أتى كتاب وبأحاديث تزيد في ضلال الكافرين، وشرك المشركين، والحق أن يكون الرسول منبع النور والهداية للبشرية جمعاء، وأن الكتاب هو كتاب حقٍّ وصدقٍ وعدل، وأن ظاهره مُراد، وأن الله أحكم الحاكمين.
ويكون الصاوي بهذه العبارة "الشنيعة" فتح باباً للطاعنين والمشككين في الدين من علمانيين ومستشرقين، ومُلحدين، وربما يقولون: بم تفتخرون علينا، بكتابكم المنزل؛ فإن كتابكم بشهادة بعض علمائكم ظاهره كفرٌ!! ولا يغوص إلى الباطن إلا أفرادٌ قلائل، والمفروض أن يكون الكتاب السماوي، كتاب هداية وإرشاد لجميع الناس على مختلف أنواعهم وأجناسهم، لا أن يكون خاصاً بالبعض.
وقول الصاوي هذا ظاهر البطلان، لا تُقبل فيه حجةٌ، ولا تُقال فيه عثرة، وليس عليه شبهة الصواب؛ فضلاً عن أن يكون محتملاً له، وهو مُخالفٌ لإجماع الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا،
يقول الشيخ أحمد آل طامي: "وقد رأينا في هذه العصور من يتعصَّب لهذه المذاهب ولتلك الحواشي والمتون، حتى كأنها من الوحي المكنون -وذكر عبارة الصاوي -قال: ولم أسمع من أحدٍ استنكاراً ولا رداً على هذه المقالة التي طعن بها الدين في صميمه، والتي مؤداها الحطُّ من شأن القرآن وقيمته.
وقد يكون حصل استنكارٌ من بعض الفضلاء ،لكنه مجرد كلام لم يخرج إلى حيز النقد وإعلام الأنام، مع أن هذا الكتاب الذي فيه هذا القول متداولٌ عند أكثر العلماء والطلاب، وإن بعض العلماء ليرد وينتقد في بعض المسائل الفرعية التي هي أقل شأناً من هذا القول بكثير، وقد شاء الله أن يقع هذا الكتاب في أيدي بعض الفضلاء العُمانيين؛ فاستنكر هذا القول الخاطئ، وكتب سؤالاً مستنكراً ومستفهماً عن هذه المقالة التي هي في غاية الجهل ونهاية الضلالة، وكأنه يقول: كيف يصدر هذا القول من عالمٍ مُسلمٍ، وهل مرجع الناس في دينهم إلا إلى الكتاب والسنة.
فإذا كان الكتاب والسنة موصوفين بما وصفهما هذا الشيخ وإنهما بهذه المكانة؛ فكيف يعمل الناس؟ هل لهم مرجعٌ في شؤون دينهم ودنياهم غير هذين ؟… وكيف لا يستنكر هذا القول وقد أتى على الشرع من قواعده، وضرب الدين في صميمه، وحطَّ من شأن القرآن، وحكم بالزيغ على من أخذ بالدليل والبرهان، إذا خالف رأي فلان وفلان، ولا يشفع له إن كان له قصدٌ حسن؛ فإن الأحكام تجري على الظواهر والله يتولى السرائر.
وإذا كان الأخذ بظاهر القرآن والسنة كفراً كما زعم هذا الشيخ؛ فكيف اهتدى أصحاب الرسول والتابعين وتابعيهم من عصر الرسول إلى عصرنا هذا إلى أن تقوم الساعة ".
وبيَّن الشيخ آل طامي أولاً: نزول القرآن، والحكمة من نزوله، وتضمنه للمعجزات الحسية والمعنوية، وبطلان طريقة المؤولين من الأشاعرة والماتريدية، ثم قال: "وإذا كان هذا الكتاب قد أنزل لهداية البشرية ولإصلاحهم وإسعادهم، ولإخراجهم من الكفر والوثنية إلىنور الإسلام والإيمان، وطاعة الملك الديان؛ فكيف يكون ظاهره كفراً؟! وإذن فلماذا أرسل الله رسوله، وأنزل عليه هذا القرآن العظيم، وما الفائدة في إنزاله إذا كان ظاهره كفراً؟ بل يكون حينئذٍ زيادةٌ في كفر الكافرين، وشرك المشركين، وضلال الضالين.
إن هذا الكلام لا يتفوه به مسلمٌ عاقل، ولا يتجاسر أن ينطق به كافرٌ ومشرك، بل حتى كُبراء قريش كالوليد بن المغيرة وأبي جهل كانوا يعترفون ببلاغته وفصاحته، وأنه يأمر بمكارم الأخلاق، ويدعو إلى الخير؛ ولكن غلبت عليهم الشقوة، وتقليد الآباء والخضوع للعادات فكبروا وكذبوا؛ {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً}، وفي عصرنا هذا كثيرٌ من الغربين المنصفين الذين يعترفون أن القرآن كتاب هداية وأنه أحسن دستور للبشر".
وبيَّن الشيخ آل طامي أن الصاوي له أخطاءٌ كثيرة في حاشيته، منها:
1-أن ما قاله نصارى نجران من أن عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن، وذلك عند تفسيره الآية السابعة من سورة آل عمران، وهو قولٌ سخيفٌ ظاهر البطلان.
2-ومن أخطائه قوله في سورة فاطر في تفسير قوله تعالى (أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً) أنها نزلت في أبي جهل وغيره من مشركي مكة، وقيل: نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة، ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم قال: إن الوهابية نظائر الخوارج.
فإن قيل: إن الصاوي لم يقصد جميع القرآن، وإنما قصد بعض آيات الصفات التي ظاهرها كفر، قلنا: إن آيات الصفات الثابتة لله عز وجل لا توهم الكفر فضلاً عن الكفر نفسه؛ لأن إثبات ظواهرها ومعانيها لا يقتضي التكييف، وإنما لما مثَّل هؤلاء المُعطلة صفات الله في أذهانهم، نفوها، وعلى تقدير أن الصاوي كان يقصد هذا المعنى؛ كان عليه أن يُقيد قوله بآيات الصفات، لا أن يقول (ظاهر القرآن كفر)، ولا يُسلَّمُ له إن قيَّدها؛ فكيف وهو يُطلق عبارةً أشنع منها.
وهل يُعقل أن يُنزل الله الكفر والضلال أو يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما ظاهره التجسيم والتمثيل ولا يُردفه ببيانٍ يقطع عرق ذلك التوهُّم؟! ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وقد دخل في هذا الدين أيام الرسول: الذكي والبليد، والحضري والأعراب، وغيرهم، فهل فهم أحدٌ من أولئك من كتاب الله أو من كلام رسوله ما ظاهره الكفر؟!.
وهل هذا لائقٌ بمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلو فرضنا أن أحداً فهم ذلك، أما كان له أن يستفسر من الرسول أو من أصحابه عن ذلك؟.
ولا شك أن من يحترم عقله ودينه ونفسه لا يرضى بهذا القول، وقد مضى عصر الرسول وعصر الصحابة ولم تظهر بدعة التشبيه ولا بدعة التمثيل والقدر وتأويل الصفات وتعطيلها إلا في أواخر دولة بني أمية، وأوائل دولة بني العباس، عندما عربوا كتب اليونان والفرس والهند وأدخلوا علوم الفلسفة والمنطق على المسلمين.
ومثل الصاوي يقول السنوسي في شرحه على أم "البراهين": "التمسك بأصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة هو أصل الضلالة"؛ وهذا قدحٌ صريحٌ في نصوص الكتاب والسنة. ومثله أيضاً ما قاله الشيخ عليش المالكي في "فتواه": إن كثيراً من القرآن والأحاديث صريح الكفر".
وإذا كان الصاوي يقصد "آيات الصفات" فماذا يفعل بآيات الأحكام، فهل ظاهرها كفرٌ والعياذ بالله تعالى، ولا ندري إلى أيِّ شيء استند الشيخ إلى مقالته الخاطئة الضالة والمضلة ؟ وبأي منطق وبأي عقلٍ أو تفكير كتب ما كتب؟! فهل الضلال ظاهرٌ في آيات الصلاة، والزكاة والحج والصيام والإجارة والربا والرهن والنكاح والطلاق والعدة والمواريث والوصايا والقصاص والحدود والسرقة والقذف واللعان ؟!! إلى غير ذلك مما جاء في القرآن والسنة؛ فلا يُمكن أن يتفوه من يفهم ما يقول بهذه المقولة مهما كانت اعتباراته وخلفياته ومستنداته؛ لأنها غير مبررة بالإطلاق.
ثم ذكر الشيخ آل طامي بعض الآيات من الكتاب الحكيم، محتجاً بعموماته على من ينفي الأخذ بظاهر القرآن، ثم قال: "والله ما توصل الملحدون والكافرون والناقمون على دين الإسلام بالطعن في الدين وفي الرسول وفي كتاب الله بمثل هذا الطعن، وإنهم مع كفرهم وإلحادهم لأعقل من أن يقولوا مثل هذا القول السخيف الذي لا يدرى غباوة قائله، ولا ندري بماذا نًعلل كلام هذا الشيخ؛ وإنه لمثار العجب والحيرة والدهشة والاستغراب".
ثم ذكر بعد ذلك طائفة من الأحاديث النبوية الصحيحة، مُحتجاً بعموماتها الظاهرة على من ينفي الأخذ بظاهر الحديث، وبيَّن أن عمومات الكتاب والسُّنة تُخصصها أدلة منها، ثم ذكر تفرق الأمة، وبعض فرقها: كالجبرية، والمعتزلة، والجهمية، والروافض، وغلاة الخوارج، وأوضح مبدأ هذا التفرق من سوء الفهم، وبيَّن طريقة الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات عن الباري سبحانه، وردَّ شُبه الجبرية، ورد على الشيعة القائلين بوصاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه، وعلى الخوارج الذين يُكفرون بالذنب.
ثم قال: "والخلاصة أن كثيراً من القرآن تفسره الآيات الأخرى كما تُفسره السنة الواردة من الرسول من أقواله وأفعاله وسيرته، وسيرة أصحابه، وقد كتب بعض العلماء تفسير القرآن بالأحاديث والآثار؛ كابن جرير، وابن كثير، والسيوطي، وقُصارى القول: أن ليس في القرآن ما قاله الشيخ الصاوي ومن على شاكلته، وليس لأولئك الفرق أدنى تمسُّكٍ من القرآن والسنة الصحيحة، كما سبق بيانه، ويزيدك إيضاحاً أن كثيراً من آراء تلك الفرق دخيلةٌ على الإسلام؛ فالترفض بذرةٌ يهودية ومجوسيَّةٌ فارسية".
وذكر الشيخ آل طامي الآثار السيئة التي ترتبت على قول الصاوي من "غلق باب الاجتهاد"، من حرمة الأخذ من الكتاب والسنة بعد القرن الرابع، والجمود على كتب المذاهب الفقهية، والتي تجردت كتب متأخريهم من الدليل، مقتصرين فيها على كلام الماتن، وجعل الكتاب والسنة يُتليان للتبرك والتعبد لا للاستنباط والتدبر وتفهُّم الأدلة، واستنباط الأحكام في الحوادث النازلة، بل جعلوا قراءته على الأموات عند القبور، وفي بيوت العزاء، وضاع حظُّ كثيرٍ من المسلمين بسبب هذه الدعوات المغرضة والآثمة، وكانت نتيجة هذا التعطيل الكلي للكتاب والسنة أن استورد حكام المسلمين قوانين الكفر من الشرق والغرب.
ثم شرع في بيان أقسام اللفظ عند الأصوليين من حيث وضوح الدلالة وخفائها، وأن واضح الدلالة أربعة أقسام، وهي (الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم)، والمحكم هو الذي لا يحتمل النسخ ولا التأويل، والمُفسر هو ما تكون دلالته قطعية، والنص ما لا يحتمل إلا معنىً واحد، والظاهر هو ما دل على المعنى دلالة ظنية راجحة، كالأسد راجح في الحيوانات المفترسة مرجوحٌ في الرجل الشجاع، والغائط راجحٌ في الخارج المستقذر للعرف، مرجوحٌ في المكان المطمئن الموضوع له لغةً. وذكر بعد ذلك حكم العمل بكل واحدٍ من هذه الأقسام، وأن حكم الظاهر هو وجوب العمل بما تبادر منه، سواءً كان اللفظ عاماً أو خاصاً، حتى تقوم قرينةٌ شرعية تصرفه عن هذا الظاهر، أو يأتي دليل ينسخه، وقد ذكر بعض الآيات والأحاديث التي فيها تأويل قريب أخذ به الفقهاء، وأخرى فيها تأويل بعيد لم يأخذ الفقهاء به، وإنما أخذوا بالظاهر.
ثم قال القاضي آل طامي: "وازن أيها القارئ بين كلام علماء الأصول وغيرهم، وبين كلام الصاوي؛ لتجد الفرق الشاسع بين كلامهم وكلامه، فهم يُصرحون بالأخذ بظواهر الكتاب والسنة، وعليه العمل منذ عصر الرسالة إلى يومنا، والشيخ الصاوي يقول: الأخذ بظواهر القرآن والسنة من أصول الكفر… فكأن الشيخ يقول: ينبغي أن نأخذ بالباطن، وإذاً تكون دعوى لمذهب الباطنية التي أجمعت المذاهب من السنة والشيعة والإباضية على كفرهم، وهو مذهبٌ يؤسس على إبطال الشريعة الغراء… وقد انخدع بهم كثيرٌ من المتصوفة الجاهلة بحقيقة الدين الإسلامي؛ فمزجوا التصوف بآراء الباطنية، وآراء الاتحادية، ولهذا ضلَّ كثيرٌ من الصوفية عن الشريعة الإسلامية، بمعتقدات فاسدة وكفرية، وأعمال منافية للشرع الإسلامي؛ فالشيخ الصاوي لا محيص له من أمرين:
إما أن يقول: الأخذ بظواهر القرآن والسنة من أصول الإسلام، ومما اجتمعت عليه مذاهب العلماء الأعلام، وجرى عليه العمل لكونه حجةً من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل عصر إلى عصرنا.
وإما أن يقول: لا بُد أن نترك الظاهر، ونؤوله بتفسيرٍ باطنيٍّ؛ فذاك عين الكفر والضلال، ونُجلُّ الشيخ عن هذا القصد والمقال -ثم قال: فتنبه وكُن حذراً من الدسائس الشياطنية، والمقالات الكفرية، ولا يغرك علم قائله ولا جلالته؛ فالحقُّ أحق أن يُتبع".
ولا فرق بين الفروع العملية، وبين الأصول الاعتقادية في وجوب العلم والعمل بهما، والأصل عدم المجاز، وعدم القرينة، وذكر القاضي آل أبو طامي أمثلة كثيرة على الأخذ بظاهر القرآن والحديث، ثم قال بعدها: "إن إطلاق الشيخ الصاوي أن الأخذ بظاهر القرآن والحديث كفرٌ خطأٌ كبير، وتعبيرٌ قبيح، وما أدري ما يقول هذا الشيخ وأمثاله في مذهب الظاهرية، ذلك المذهب الجليل المعتبر، والذي أخذ بظاهر الكتاب والسنة، وإن كان لا يخلو هذا المذهب من ضعفٍ في بعض أقواله وآرائه شأنه شأن كل مذهبٍ من المذاهب المتبعة؛ لأن العصمة لا تكون إلا للرسل".
وذكر بعدها جملة من مسائل الظاهرية، بيَّن فيها مخالفتهم لمذهب الجمهور؛ ثم قال: "فمن لي يسأل الشيخ وأمثاله هل كفرت الظاهرية، وهل زاغت لما أخذت بظاهر القرآن والسنة في مئات المسائل وخالفت المذاهب، فإ قال: كفرت فقد بان زيغه وجهله، وإن قال: لم تكفر فق نقض قوله وأبطل مذهبه، وإن قال: ابتدعت؛ قلنا لا يُفيدك شيئاً لأنك حكمت بالكفر على من أخذ بظاهر القرآن والحديث".
وذكر بعدها التقليد والاجتهاد، ومشروعية كل منهما، وتقليد المذاهب الأربعة، وردَّ على شبهة من قال لا يؤخذ بظاهر الآية والحديث، وعلى من ردَّ قول الصحابي، وردَّ من أغلق باب الاجتهاد، وبيَّن أن التقليد مع بيان الدليل جائزٌ، وأن الاتباع إنما هو للدليل.
وأجاب عمن قال: إن الاجتهاد إنما مُنع للمصلحة، وبيَّن أن المصلحة في فتحه أمام أهله لا وصده أمام الناس جميعاً !! وذكر فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية حول حكم التقليد إذا تبيَّن للطالب حديثٌ صحيحٌ أو حسنٌ، ولا مُعارض له، ثم قال: "أما جواب قوله -يعني الصاوي -أن الخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌ مُضل؛ فقد سبق جوابنا في أول المقدمة، وهو أن كل قول أو مذهب يؤيده الكتاب والسنة الصحيحة أو الحسنة؛ فهو الصواب سواءٌ كان من المذاهب الأربعة أو غيرهم".
ثم ذكر تتمة؛ قال: "الأولى: في نقل كلام العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، نزيل المدينة المنورة، والمدرس بالجامعة الإسلامية، وهو من كبار علماء المالكية من نور الله بصيرته، ورزقه علماً واسعاً، وهو أشهر من أن يُذكر؛ كتأييد لنقدي كلام الصاوي، وتأكيد جوابي للسائل، وإن كل من نور الله بصيرته يعرف بطلان كلام الصاوي وخطأه الفادح؛ فإليك الآن كلام الشيخ الشنقيطي في بيان تفسير الاجتهاد وخطأ المانعين، وأنه في هذا الزمان أيسر من قبل، وبين خطأ الصاوي وضلاله في قوله أن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر إلى آخر ما هذى به، وهذا نصُّ كلامه كما أرسله إليَّ…".
وذكر الشيخ آل طامي كلاماً طويلاً للشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن تفسيره "أضواء البيان" (7/ 264 265) وقد ذكر عبارة الصاوري في تفسيره لسورة محمد، عند قوله (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها)؛ وقال فيه: "وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُنْصِفُ، أَنَّ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَعَلَى النَّبِيِّ وَسُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَآلِ عِمْرَانَ وَاغْتَرَّ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ؛ لِكَوْنِهِمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
فَقَدْ قَالَ الصَّاوِيُّ أَحْمَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدً} بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ فِي انْفِصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِزَمَانٍ -مَا نَصُّهُ: (وَعَامَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّ شَرْطَ حَلِّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ أَنْ تَتَّصِلَ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِهَا حَلُّ الْيَمِينِ، وَلَا يَضُرَّ الْفَصْلُ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَا عَدَا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَوْ وَافَقَ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ). انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ مُخَالِفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا سَنَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالَّذِي يَنْصُرُهُ هُوَ الضَّالُّ الْمُضِلِّ.
فَانْظُرْ يَا أَخِي - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَعَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَصْدُرُ الْبَتَّةَ عَنْ عَالِمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لِجَهْلِهِ بِهِمَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُمَا كُفْرًا، وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْدِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ: أَنَّ آيَةَ الْكَهْفِ هَذِهِ الَّتِي ظَنَّ الصَّاوِيُّ أَنَّ ظَاهِرَهَا حَلَّ الْأَيْمَانِ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَسَاسَ لَهُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّ، بَلِ الظَّنُّ الَّذِي ظَنَّهُ وَالزَّعْمُ الَّذِي زَعَمَهُ لَا تُشِيرُ الْآيَةُ إِلَيْهِ أَصْلًا، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا التَّضَمُّنِ وَلَا الِالْتِزَامِ، فَضْلًا عَلَى أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ".
وبعد أن بيَّن سبب نزول آية الاستثناء في سورة الكهف في هذا الموضع من سورة "محمد" (7/ 256 -270)؛ قال: "وَالتَّعْلِيقُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الصَّحِيحُ لَا يُخَالِفُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي مُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا أَوْضَحَهُ كَبِيرُ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ.
فَيَا أَتْبَاعَ الصَّاوِيِّ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى عَلَى جَهَالَةٍ عَمْيَاءَ، أَيْنَ دَلَّ ظَاهِرُ آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْعِتْقِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَيْمَانِ؟ هَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ لَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا؟ وَهَلْ قَالَ اللَّهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي حَالِفٌ سَأَفْعَلُ ذَلِكَ غَدًا؟
وَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ بِالْيَمِينِ، حَتَّى قُلْتُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا، وَبَنَيْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟
وَمِمَّا يَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا قَالَهُ الصَّاوِيُّ أَيْضًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}، فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: زَيْغٌ أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، قَوْلُهُ: بِوُقُوعِهِمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسِ، أَيْ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
فَانْظُرْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ، وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ وَسُنَّتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَدَلَّهُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَدْرِي مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا قَالَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ هُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِذَا جَعَلَ مِثْلَهُمْ مَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَجْهَ ادِّعَاءِ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَرَ، مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَّرَهُمْ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمُ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالُوا: حَسْبُنَا، أَيْ كَفَانَا ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
فَاتَّضَحَ أَنَّ الصَّاوِيَّ يَعْتَقِدُ أَنَّ ادِّعَاءَ نَصَارَى نَجْرَانَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، هُوَ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، فَالْآيَةٌ لَا يُفْهَمُ مَنْ ظَاهِرِهَا الْبَتَّةَ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا بِدَلَالَةٍ مِنَ الدَّلَالَاتِ، أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَادِّعَاءُ نَصَارَى نَجْرَانَ ذَلِكَ كَذِبٌ بَحْتٌ.
فَقَوْلُ الصَّاوِيِّ (كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْ كَوْنِ عِيسَى ابْنَ اللَّهِ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، حَاشَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكُفْرُ الْبَوَاحُ ظَاهِرَهُ، بَلْ هُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، أَيْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِيسَى وَمِنْ تَسْخِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَبْدَؤُهُ وَمَنْشَؤُهُ - جَلَّ وَعَلَا.
فَلَفْظَةُ «مِنْ» فِي الْآيَتَيْنِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الصَّاوِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ نَصَارَى نَجْرَانَ.
وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَعْلَمُونَ مَا هِيَ الظَّوَاهِرُ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ النَّصَّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ؛ فَبَنَوْا بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ إِلَّا الْبَاطِلُ.
وَلَوْ تَصَوَّرُوا مَعَانِيَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا؛ فَتَصَوُّرُ الصَّاوِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ الْكَهْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ، بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَبِنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تُشِيرُ أَصْلًا إِلَى مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ ظَاهِرُهَا.
وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا زَعَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ، مِنْ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا زَعَمَ - ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ.
وَقَوْلُ الصَّاوِيِّ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ.
وَمَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟
سَمُّوهُمْ لَنَا، وَبَيِّنُوا لَنَا مَنْ هُمْ؟
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ، وَلَا مُتَعَلِّمٌ؛ لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ بِهِ حُدُودُهُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَوَامِرُهُ، وَيُنْصَفَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ.
وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنْهَا إِلَّا أَمْثِلَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، وَالْغَالِبُ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ كَوْنُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَوَاهِرُ.
وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنْهُ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ؛ فَتَنْفِيرُ النَّاسِ وَإِبْعَادُهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِهِمَا مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ هُوَ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ كَمَا تَرَى.
وَأُصُولُ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ مِنْهَا كُلَّ الْحَذَرِ، وَيَتَبَاعَدَ مِنْهَا كُلَّ التَّبَاعُدِ وَيَتَجَنَّبَ أَسْبَابَهَا كُلَّ الِاجْتِنَابِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وُجُوبُ التَّبَاعُدِ مِنَ الْأَخْذِ بِظَوَاهِرَ الْوَحْيِ.
وَهَذَا كَمَا تَرَى، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الضَّلَالِ ادِّعَاءَ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ قَبِيحَةٍ، لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ.
وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُعْدُهَا وَبَرَاءَتُهَا مِنْ ذَلِكَ.
وَسَبَبُ تِلْكَ الدَّعْوَى الشَّنِيعَةِ عَلَى ظَوَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ مُدَّعِيهَا.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ فَهْمٌ، أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا غَيْرُ لَائِقَةٍ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا الْمُتَبَادِرَةَ مِنْهَا هُوَ تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ.
وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ مَنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، لِكُلِّ مُسْلِمٍ رَاجِعَ عَقْلَهُ، هِيَ مُخَالَفَةُ صِفَاتِ اللَّهِ لِصِفَاتِ خَلْقِهِ".
وقال القاضي أحمد آل طامي: "والتتمة الثانية: كلام الصاوي في الخوارج ونقده: حيث قال في تفسير سورة فاطر عند قوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} (أنها نزلت في أبي جهل وغيره من مشركي مكة، وقيل نزلت في الخوارج الذين يُحرفون تأويل الكتاب والسنة، ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مُشاهدٌ الآن من نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يُقال لهم الوهابية …)
وفي هذا الكلام من الخطأ والخبط والجهل والضلال ما يمجُّه الطبع السليم، وينزه عنه عقلاء العوام، فضلاً عمن ينتسب إلى الإعلام، وعليه من المآخذ ما يأتي:
1-الآية السابقة سياقها صريح وواضح أنها في الكفرة أمثال أبي جهل، والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، فما الذي نزلها على الخوارج؟
2-أن احتجاج الشيخ بقوله تعالى {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) أن الخوارج زين لهم سوء عملهم؛ فيرد عليه أنه قد قرر الشيخ أنه لا يؤخذ بظاهر القرآن والسنة بل بالتقليد؛ فكيف منع الأخذ بالكتاب لغيره وأجازه لنفسه ؟
3-لو وافقنا الشيخ بالأخذ بالآية وغضينا النظر عن خطئه وتناقضه فإن كثيراً من أهل البدع والضلال كالجهمية والمعتزلة والرافضة تشملهم الآية؛ فما الذي خصص الخوارج دون أولئك الفرق والملل؛ فإن قيل: تشبيههم بالخوارج في استحلال دماء المسلمين وأموالهم، لأن هذين الأمرين مما انفردت به الخوارج. قيل: هذا خطأ، وجهل بمعتقدات الفرق فغلاة بعض فرق الرافضة تستحلُّ ذينك الأمرين، وليس كل الخوارج تستحلُّ ما ذكر.
4-إذا قيل: إن الشيخ ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً؛ وذلك بجعله ظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر، وذلك لم يقله مُسلمٌ قط، لا سنيٌّ ولا شيعي، ولا قدري ولا إباضي، ولا زيدي، فماذا يكون جوابه تجاه هذا السؤال المحرج حقيقةً ؟
5- لو قالت له الخوارج نحن نرى أننا على الحق، ولدينا من الأدلة العقلية والنقلية ما يؤيدنا، ونرى أن مخالفنا ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً؛ فماذا سيكون موقف الشيخ هنا؟ فإن قال لهم: نحن أسعد بالحق لاتباعنا الكتاب والسنة، فسيقولون: بل نحن أسعد الناس باتباعنا للقرآن، وعلى فرض أننا ارتكبنا البدع فلماذا تخصنا دون سائر الفرق بالخروج عن ملة الإسلام.
6- إن الخوارج لم يستحلوا كلهم دماء المسلمين وأموالهم، بل تفرقوا فرقاً عديدة، منهم من غلا واستحل دماء المخالفين لهم وأموالهم، ومنهم من لم يستحل دم غيره ولا ماله، ولم يُخرجه عن حظيرة الإسلام؛ فدعواه خطأٌ محض.
أما قوله عن الوهابية أنهم من الخوارج؛ فالرد عليه من وجوه:
أولاً: أنه لم يصح قوله في الخوارج عموماً، ولم يسغ له أن يخصهم دون غيرهم، فعليه لا يصحُّ قوله في الوهابية.
ثانياً: الوهابية كما سماهم هم في الحقيقة سلفيون في المعتقد وحنابلة في الفروع، ولم يكفروا المسلمين ولم يستحلوا دماءهم بل لا يكفرو مرتكب الكبيرة فضلاً عن غيرهم.
نعم يكفرون من يشرك بالله غيره؛ كأن يستغاث بالأنبياء والصالحين، أو ينذر لهم أو يطوف بقبورهم، أو يسألهم شفاء مرض أو دفع كارثةٍ، ونحو هذه الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين.
ومع ذلك لا يُبادرون أحداً بالتكفير قبل أن يُقيموا له الأدلة على أن ذلك الأمر الذي فُعل شركٌ برب العالمين، ثم يرفض بعد إقامة الحجة والدليل.
فلا أدري على أي شيءٍ استند الشيخ في قوله أن الوهابية تُكفر المسلمين، وهنا لا محيص له من أحد أمرين:
1-إن كان استناده من كتبهم فلماذا لم ينقل النصوص ويُشير إليها بالصفحات والأرقام؛ حتى يتأيد قوله وتقوي صحته ويعلم القراء أن الوهابية على ضلال وزيغ.
2-وإن كان اعتمد على دعاية الأتراك والأشراف في ذلك العصر، وعملائهم من الدجاجلة الذين تزيوا بزي العلماء وتظاهروا بمظاهر الصلحاء، وزعموا أنهم من الغيورين على الدين؛ فقد خانه التوفيق ولم يُحالفه الصواب، بل وقع في هوة الخطأ والزلل، وقال ما لم يعلم، وجانب قول الله العظيم: ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تُصيبوا قوماً بجهالة فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين}؛ لأن أولئك الذين نسبوا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه -تلك المفتريات من كونهم لا يُحبون الرسول، ولا يُصلون عليه، ويحرمون زيارته، وزيارة سائر القبور، ويكفرون الناس عموماً إلا من كان على منهجهم، كانوا أصنافاً:
أ- صنفٌ كان مأجوراً للأتراك، ومنهم من كان مأجوراً للأشراف أن يُذيع في الناس هذه الأقوال أو يؤلف المؤلفات ينشرها بين الأنام؛ ليُبغض الناس في الشيخ وأتباعه ويعتقدون ضلالهم لتتم للدولة مقاصدها.
ب-وصنفٌ رأى الدولة التركية وحكومة الأشراف في مكة بضدهم؛ فأخذ يتقرب إليهم بهذه الأكاذيب.
ج- وصنفٌ كان جاهلاً بحقيقة دعوة الشيخ، وسمع من بعض من سموه عالماً ومن بعض العوام تلك الأباطيل؛ فأخذه معتقداً صحتها مُسلماً بها.
د-وصنفٌ أحب الرئاسة والسيادة على العوام، فكتب من الإفك الصريح، وأباح الشرك القبيح، تحت ستار حب الأنبياء والصالحين والذب عنهم.
والشيخ الصاوي لا يسعه الخروج من صنفٍ من تلك الأصناف، وأخفُّ صنفٍ في حقه إذا أردنا أن نعتذر عنه أن نقول: إنه كان جاهلاً بحقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولم يعرف هدف الأتراك ومحمد علي باشا وأشراف مكة آنذاك في حربهم للدولة السعودية بما سمعه من بعض المعممين ومن أكثر العوام، واعتقد أن الدولة العلية كما يقولون ما حاربت هؤلاء إلا لأنهم خارجون عن حظيرة السنة، عفواً بل عن المذاهب الأربعة؛ لأن الصاوي لا يعرف إلا التقليد.
فإذا كان جاهلا ًبحقيقة دعوة الشيخ، وبأهداف الأتراك السياسية؛ فإن الواجب يحتم على من يريد الكلام على فرقة أو مذهب أن يقف على كتبها المعتمدة، ويعرف معتقدها ومذهبها؛ فعندئذٍ يشرح آراءها الصائبة والخاطئة، وينتقد ما يراه مجانباً للصواب، ويؤيد قوله بالدليل والبرهان، حتى يُقبل منه ما يقوله عن تلك الفرقة وذلك المذهب.
وأما أن يسمع من زيدٍ وعمروٍ، أو يقف على كتابٍ فيه أن الفرقة المُسماة بكذا تعتقد عقائد مخالفة للشريعة الغراء؛ فيأخذ ذلك الكلام مُسلماً، ثُم يشرع في الكلام، وفي الكتابة، وينسب لها العقائد الضالة؛ فليس هذا شأن المحققين، ولا ينبغي أن يصدر عن مسلمٍ حريص على دينه، يعلم أن الله عليمٌ به، سائله عن كل ما قاله أو عمله".
ثم عقد الشيخ أحمد آل طامي فصلاً في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها هي عقيدة السلف الصالح، وموافقته لأئمة المذاهب الفقهية فيها، وبيان عقيدته في التوحيد، وموقفه من العبادة، واعتقاده بشفاعة الرسول، ثم ختم الكتاب، والحمد لله رب العالمين.