أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

التعليق على رسالة زكاة الحُلي

التعليق على رسالة زكاة الحُلي

للشيخ الدكتور. سلمان بن نصر الداية

الأستاذ المساعد في الجامعة الإسلامية

بحث منشور -مجلة الحكمة، مانشستر -بريطانيا، 2006م

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة على المسلمين فريضةً عادلة، وطُهرةً للعباد من الذنوب، وتخليصاً للمال من الشوائب، ووقاية للنفوس من الشُّح، وقد اتفق العلماء على أنه لا زكاة في الماس، والدر، والياقوت، واللؤلؤ، والمرجان، والزبرجد، ونحو ذلك من الأحجار الكريمة إلا إذا اتخذت للتجارة ففيها زكاة التجارة. 

واختلفوا في زكاة الحُلي المباح على أربعة أقوال:

1-فذهب الحنفية ومن وافقهم، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد بوجوب تزكية حلي المرأة إذا بلغ النصاب؛ حتى لو أدى ذلك إلى تناقصه، واضطرت المرأة إلى بيع بعضه، واستدلوا ببعض الأحاديث المرفوعة والموقوفة على الصحابة، والتي اختلف المحدثون في تصحيحها وتضعيفها.

2-وذهب المالكية، والجمهور وهو أظهر قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد أنه لا زكاة في حلي المرأة مطلقاً؛ قالوا: لأنه لم يصح في وجوب زكاة الحلي شيء، واستدلوا بأثرٍ متكلم فيه عن جابر، قالوا: وقد ثبت عن عددٍ من الصحابة أنهم كانوا لا يُخرجون الزكاة عن الحلي، قالوا: ولأن الأصل في وجوب الزكاة أن تكون في الأموال النامية، والحلي لا يُقصد به النماء، ولأن الشارع أباحه لها إشباعاً لغريزة المرأة، ومساعدةً لإبقاء الرابطة الزوجية بينها وبين زوجها، بدفعها لزكاة الحُلي ستُسلب هذه الحُلي، وإبقاء الرابطة الزوجية مقصودة للشارع.

3-وذهب أنس بن مالك إلى أن زكاة إلي مرة واحدة في العمر، وعدَّ الشيخ مصطفى العدوي هذا الرأي شاذاً.

4-وذهب ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري إلى أن زكاة الحلي إعارته ولو مرة في العمر.

وذكر الشيخ سلمان في رسالته هذه ما يجوز تحليته بالذهب والفضة، وما يُمنع من ذلك عند أصحاب المذاهب المتبوعة، ورجَّح مذهب من قال بوجوب زكاة الحلي إذا بلغ نصاباً إلى الحول، وهو قول الشيخ مصطفى العدوي.

وخالفه الكثير من الفقهاء المعاصرين؛ كالشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان، والشيخ عبد العزيز الطريفي، والشيخ محمد حسن ولد الددو، وغيرهم. 

والذي يظهر والله أعلم: هو قول من ذهب إلى عدم وجوب إخراج زكاة الحلي؛ لكثرة عدد الصحابة الذين رُوي عنهم هذا المذهب، كما أن مذهب الجمهور ينقل عن الأصل (وهو عدم وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة) ومذهب الأحناف مُبقٍ على الأصل، والناقلُ مُقدَّمٌ على الموافق للأصل، والأمر واسعٌ، والاحتياط أولى.


وإليك تفصيل هذا الخلاف بين العلماء من المحدثين والفقهاء في حلي المرأة، من الذهب والفضة:

1- فذهب إلى وجوب الزكاة فيه: أبو حنيفة وأصحابه، وابن حزم،  وهو قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين: عطاء، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وميمون بن مهران، وطاوس، والزهري، وذلك إذا بلغ نصاباً، واستدلوا: 

أ- بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ امرأةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أتت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومعَها ابنةٌ لها، وفي يدِ ابنتِها مَسَكَتانِ غَلِيظَتانِ مِنْ ذَهَبٍ، فقال لها: (أتُعطين زكاةَ هذا؟) قالت: لا، قال: (أيُسرُّكِ أن يُسوِّرَكِ اللهُ بهما يومَ القيامةِ سِوارينِ من نارٍ؟) قال: فألْقتْهُما إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالت: هُما للهِ عزَّ وجلَّ ولِرسولِه. وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. 


وهذا الحديث تكلم الناس فيه؛ فقد جاء من طريق اثنين من الضُّعفاء، وهما ابن لهيعة والمثنى بن الصباح وهما ضعيفان؛ وتفرد به عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بهذا السياق كما ذكر ذلك البيهقيُّ في السُّنن. وأحاديث عمرو بن شعيب اختلف العلماء في قبولها، وأحسن ما قيل فيها: إنَّ ما رواه عن أبيه عن جده فهو ضعيف -كهذا الحديث- وما رواه عن غيرهما فمقبول. وقال الترمذيُّ: لا يصحُّ في هذا الباب شيء. ورواه النسائيُّ من طريق حُسين المُعلم، عن المعتمر بن سليمان، عن عمرو بن شعب مرسلاً، ورجَّح النسائيُّ إرسال حديث عمرو بن شعيب، وهو الصواب؛ فإنه لم يثبت مرفوعاً، وقال أبو عُبيد: حديث اليمانية لا نعلمه رُوي إلا من طريقٍ واحد مُتكلٍَّم فيه. 


ومن أهل العلم من حسَّن هذا الحديث، فقد سكت عنه أبو داود، وصحح ابن القطان إسناده إلى عمرو، وحسنه من المعاصرين: محمد الأمين الشنقطي في "أضواء البيان"، وابن الملقن في "البدر المنير"، وابن بار في "فتاويه"، وابن عثيمين في "فتاويه"، والألباني في "صحيح أبي داود".


ب- بما رواه ابن أبي شيبة، والنسائي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتته امرأتان في أيديهما أساورٌ من ذهبٍ؛ فقال: (أتُحبان أن يُسوركما الله بهما أسورةً من نار؟)، فقالا: لا، قال: فأدِّيا زكاتها.


وهذا الحديث يُشبه الذي قبله، ويُحتمل أن تكون في الحديث الذي قبله امرأتان، وليس امرأةً واحدة، وهو متجهٌ في النظر.


ج- وعن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: (أتعطيان زكاته؟) قالت: فقلنا: لا. قال: (أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ أديا زكاته) رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير.


وهذا الحديث تفرَّد به شهر بن حوشب وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق علي بن عاصم الواسطي وهو ضعيف، وضعفه ابن الجوزي في "التنقيح"، وضعفه ابن الملقن، والأرنؤوط. 

ومن أهل العلم من حسَّن إسناد أحمد؛ كالمنذري، والهيثمي، وصححه الألبانيّ لغيره، والرباعي في "فتح الغفار".


دـ- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا; أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: (إِذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ, فَلَيْسَ بِكَنْزٍ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

وتكلم العلماء في حديث أم سلمة؛ وقالوا: في إسناده انقطاع بين عطاء وأم سلمة؛ فإنه لم يسمع منها، كما أن في سنده عتّاب بن بشير، وثابت بن عجلان مُتكلَّمٌ فيهما.


ه- وروى الدارقطني والنسائي، عن ابن مسعود؛ قال:  أنَّ امرأةً أتتِ النبيَّ؛ فقالت إنَّ لي حُلِيًّا وإنَّ زوجي خفيفُ ذاتِ اليدِ وإنَّ لي بني أخٍ أفيُجْزِئُ عنِّي أن أجعلَ زكاةَ الحُلِيِّ فيهم؟ قال: (نعم).

وهذا الحديث مرسلٌ موقوفٌ على عبد الله، وضعفه ابن الجوزي، والشيخ شعيب الأرناؤوط.


و-وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات (خواتم) من ورق (فضة)، فقال لي: ما (هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله؟ فقال: (اتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: (هو حسبك من النار)، رواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي.

وضعف هذا الحديث بعض أهل العلم؛ فأعله الدارقطني هذا الحديث بمحمد بن عمرو بن عطاء؛ فقال: مجهول، وقال البيهقيُّ وغيره: بل هو معروف، وهذا الحديث ثابتٌ محتملٌ؛ لأن عائشة لم تُصرِّح بالنصاب، وقرائن العقل تُرشد إلى أن الذهب الذي كانت تلبسه عائشة، وأم سلمة، وفاطمة بنت قيس دون النصاب، ومعلومٌ أن النصاب ركن الزكاة.

وقد اعترض الجمهور على حديث عائشة؛ بأن الفتخات التي كانت تلبسها من ورق، وهي لم تبلغ النصاب، وكذلك ما في يد الجارية، ولذا فإن (النصاب) لم يتوفر حتى نوجب الزكاة فيه

وأُجيب: بأن هذا الاعتراض ضعيف، لأن النصاب لا يزيد وزنه بالجرام عن (85) غراماً، وقد جاء وصفهُنَّ في الحديث، بأنهما (مسكتان غليظتان)، وقد جاء في روايةٍ أخرى: (رأى في يديَّ سخاباً من وَرِق) أي ليس في يدٍ واحدة، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.

 وأجاب بعضهم: أن إيجاب الزكاة كان في وقتٍ كان فيه الذهب مُحرَّماً على النساء، ثُمَّ نُسخ بالجواز، أو أن المقصود بالحلي إعارته، كما نُقل عن ابن عمر الحسن البصري، وسعيد بن المسيب.


ﻗَﺎﻝَ اﻟْﺒَﻴْﻬَﻘِﻲُّ: وقد جاء في ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﻘاﺴﻢ ﻭَاﺑْﻦِ ﺃَﺑِﻲ ﻣُﻠَﻴْﻜَﺔَ ﻋَﻦْ ﻋَﺎﺋِﺸَﺔَ ﻓِﻲ ﺗَﺮْﻛِﻬَﺎ ﺇﺧْﺮَاﺝَ ﺯَﻛَﺎﺓِ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ، وثبت من ﻣﺪﻫﺒﻬﺎ ﻣِﻦْ ﺇﺧْﺮَاﺝِ ﺯَﻛَﺎﺓِ ﺃَﻣْﻮَاﻝِ اﻟْﻴَﺘَﺎﻣَﻰ، وهذا ﻳُﻮﻗِﻊُ ﺭِﻳﺒَﺔً ﻓِﻲ ﻫَﺬِﻩِ اﻟﺮِّﻭَاﻳَﺔِ اﻟْﻤَﺮْﻓُﻮﻋَﺔِ؛ ﻓَﻬِﻲَ (يعني عائشة) ﻻَ ﺗُﺨَﺎﻟِﻒُ اﻟﻨَّﺒِﻲَّ ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢَ ﻓِﻴﻤَﺎ ﺭَﻭَﺗْﻪُ ﻋﻨﻪ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻋَﻠِﻤَﺘْﻪُ ﻣَﻨْﺴُﻮﺧًﺎ.


قال الماوردي: ﻭَﺃَﻣَّﺎ اﻟْﺠَﻮَاﺏُ ﻋَﻦِ اﻷَْﺧْﺒَﺎﺭِ (على فرض صحتها) ﻓَﻤِﻦْ ﻭَﺟْﻬَﻴْﻦِ:

ﺃَﺣَﺪُﻫُﻤَﺎ: ﺃَﻧَّﻬَﺎ ﻣَﺤْﻤُﻮﻟَﺔٌ ﻋَﻠَﻰ ﻣُﺘَﻘَﺪِّﻡِ اﻷَْﻣْﺮِ، ﺣِﻴﻦَ ﻛَﺎﻥَ اﻟْﺤُﻠِﻲُّ ﻣَﺤْﻈُﻮﺭًا، ﻷَِﻥَّ اﻟﻨَّﺒِﻲَّ - ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ َ- ﺣَﻈَﺮَﻩُ ﻓِﻲ ﺃَﻭَّﻝِ اﻹِْﺳْﻼَﻡِ ﻓِﻲ ﺣَﺎﻝِ اﻟﺸِّﺪَّﺓِ ﻭَاﻟﻀِّﻴﻖِ، ﻭَﺃَﺑَﺎﺣَﻪُ ﻓِﻲ ﺣَﺎﻝِ اﻟﺴَّﻌَﺔِ ﻭَﺗَﻜَﺎﺛُﺮِ اﻟْﻔُﺘُﻮﺡِ؛ ﺃَﻻَ ﺗَﺮَﻯ ﺇِﻟَﻰ ﻣَﺎ ﺭَﻭَﺕْ ﺃَﺳْﻤَﺎءُ ﺑِﻨْﺖُ ﻳَﺰِﻳﺪَ ﺃَﻥَّ ﺭَﺳُﻮﻝَ اﻟﻠَّﻪِ - ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ -ﻗَﺎﻝَ: "ﺃَﻳُّﻤَﺎ اﻣْﺮَﺃَﺓٍ ﺗَﻘَﻠَّﺪَﺕْ ﻗِﻼَﺩَﺓً ﻣِﻦْ ﺫَﻫَﺐٍ ﻗُﻠِّﺪَﺕْ ﻓِﻲ ﻋُﻨُﻘِﻬَﺎ ﻣِﺜْﻠَﻪُ ﻣِﻦَ اﻟﻨَّﺎﺭِ".


ﻭَاﻟﺜَّﺎﻧِﻲ: ﺃَﻥَّ ﺯَﻛَﺎﺗَﻪُ ﻣَﺤْﻤُﻮﻟَﺔٌ ﻋَﻠَﻰ ﺇِﻋَﺎﺭَﺗِﻪِ؛ ﻟِﻤَﺎ ﺭُﻭِﻱَ ﻋَﻦِ اﻟﻨَّﺒِﻲِّ ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ، ﺃَﻧَّﻪُ ﻗَﺎﻝَ: "ﺯَﻛَﺎﺓُ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ ﺇﻋﺎﺭﺗﻪ"؛ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﺎ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻓﻲ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﻳُﺴْﺘَﺪَﻝُّ ﺑِﻬَﺎ ﻋَﻠَﻰ اﻹِْﻃْﻼَﻕِ ﻣَﻊَ ﺇِﻣْﻜَﺎﻥِ ﺣَﻤْﻠِﻬَﺎ ﻋَﻠَﻰ ﺣُﻠِﻲٍّ ﻣَﺤْﻈُﻮﺭٍ ﺃَﻭْ ﻟِﻠﺘِّﺠَﺎﺭَﺓِ.


و-أما الآثار الصحيحة؛ فما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يأمر نساءه أن يُزكين حليهن. وروى عبد الرزاق أنه (يعني عبد الله بن عمرو): كان يُحليهن بالذهب؛ فذكر أنه بلغ مائتي درهمٍ أو ذكر الألف أ أكثر فكان يُزكيه.

-وروى البيهقي في السنن: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يُخرج زكاة حُلي بناته كل سنة.

-وروى عبد الرزاق  عن سعيد بن المسيب، قال: في حُلي الذهب والفضة الزكاة.

-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن إبراهيم النخعي: في الحلي الزكاة.

-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن مجاهد بن زيد، قال: في الحلي الزكاة كل سنة إذا بلغ عشرين مثقالاً أو مائتي درهم.

-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن مجاهد وعطاء في زكاة الحلي: إذا بلغ مائتي درهم أو عشرين مثقالاً ففيه الزكاة.

-وروى أبو عُبيد في الأموال،  عن ميمون بن مهران: إن لنا طوقاً لقد زكيته حتى أتى على نحو ثمنه.


2- وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه لا زكاة في حلي المرأة، بالغاً ما بلغ، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة، وأتباعهم، فمن الصحابة: ابن عمر، وأنس، وجابر، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وبقية الصحابة لم يرد عنهم فيه شيء؛ ومنهم الخلفاء الراشدين الذين تولوا جباية الزكاة، ومن التابعين: وقتادة، ومحمد بن سيرين، محمد بن علي، والشعبي، وسفيان، ومن العلماء: أبي عُبيد، وابن جرير، وابن المنذر.

واستدلوا لذلك:

أ- بما رواه البخاريُّ ومسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

قال النوويُّ: هذا الحديث يدلُّ على أن أموال القُنية لا زكاة فيها، وهو قول عامة السلف والخلف.

الشاهد: قياس الحلي المُعد للاستعمال بالعبد والفرس في سقوط الزكاة، واعتُرض عليه بأنه قياسٌ مع الفارق؛ لأن الأصل في الذهب والفضة وجوب الزكاة؛ بخلاف العبد والفرس.


ب- وقالوا: إن كتب النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي استقصى فيها أحكام الزكاة في الماشية والنقدين، وبعث بها عماله؛ ليس فيها زكاة الحلي، وإنما هما زكاة النقدين المضروبين، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.


ج-وروى البيهقي عن جابر أنه سئل عن الحلي: أفيه زكاة؟ قال جابر: لا. فقيل: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: أكثر.

قال الحنفية ومن وافقهم: حديث جابرٍ مرفوعاً ضعيف، فيه عافية بن أيوب وهو مُتكلَّمٌ فيه، وهذا التضعيف فيه نقاش. ولكن صحَّح إسناده إلى جابرٍ كثيرٌ من المحدثين والمحققين، كأبي زُرعة، وبن الجوزي، والمنذر، والنووي في "المجموع"، وابن الملقن في "البدر المنير"، وابن حجر العسقلاني، وابن دقيق العيد، والألباني في "إرواء الغليل". 


-وروى البيهقي: أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحلي بناتها بالذهب، ولا تزكيه، نحوا من خمسين ألفاً.

-وفي الموطأ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة كانت تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة.

واعتُرض عليه؛ بأنه حديثٌ ضعيف؛ لضعف إبراهيم بن أيوب، فلا ينهض للاحتجاج، وصححه النوويُّ، وابن الملقن، والألباني.


-وفيه (يعني الموطأ): أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.

وهذا صريحٌ جداً؛ واعتُرض عليه بأن الحلي لم تبلغ النصاب؛ حتى يُزكيه.


ج-واستدلوا من النظر: بأنَّ الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية، وأما أموال أموال القُنية لفلا زكاة فيها، وهذا أصلٌ من الأصول المعتمدة في الشرع.


3-وذهب أنس بن مالك إلى أنَّ زكاة الحُليّ مرَّة واحدة في العمر، فقد وروى البيهقي في السنن: عن قتادة، قال: سألتُ أنس بن مالك عن الحُلي؛ فقال: ليس فيه زكاة، وفي رواية: إذا كان يعار ويلبس فإنه يزكى مرة واحدة، ونسب ابن قُدامة في "المُغني" ذلك روايةً عن مالك.


4-وذهب الحسن البصري، إلى أنَّ زكاة الحُليّ إعارته، ولو مرَّةً في العُمر.


ويُلخص لنا الإمام الخطابيُّ هذه المسألة؛ فيقول: الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها، والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب الى النظر، ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها.


هذا الخلاف بالنسبة للحلي المباح، فإذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه - كما إذا اتخذت حلية الرجل، كحلية السيف - فهو محرم، وعليها الزكاة، وكذا الحكم في اتخاذ أواني الذهب والفضة.


قلتُ (محمد): وبما أني شافعيُّ المذهب: أقول أما زكاة الحلي عند الشافعية

ينقل الشافعية عن الإمام الشافعي رحمه الله قولان في إيجابه الزكاة في الحلي في "الجديد" من مذهبه، وأما "القديم" فقال: لا تجب، ورجح بعضهم إيجابه له، وهو ما نقله النووي في المجموع (٦/ ٣٢)؛ فقال: "والقول (اﻟﺜﺎﻧﻲ) ﺗﺠﺐ ﻓﻴﻪ اﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭاﺳﺘﺨﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻭاﺧﺘﺎﺭﻩ..".

بينما نجد أن الربيع صاحب الإمام يرجح عدم إيجابه للزكاة في "الأم"، فقال "ﻗَﺪْ اﺳْﺘَﺨَﺎﺭَ اﻟﻠَّﻪَ ﻋَﺰَّ ﻭَﺟَﻞَّ ﻓِﻴﻪِ، وﺃَﺧْﺒَﺮَﻧَﺎ اﻟﺸَّﺎﻓِﻌِﻲُّ: ﻟَﻴْﺲَ ﻓِﻲ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ ﺯَﻛَﺎﺓٌ"، وهو قول أكثر الأصحاب عنه، والمشهور من مذهبه، وهو نصه في البويطي كما نقله النووي في "المجموع"، وصححه. 

ومعلومٌ أن إيجاب الزكاة هو من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ ويقول الإمام البيهقيّ: وكان اﻟﺸَّﺎﻓِﻌِﻲَّ ﻛَﺎﻟْﻤُﺘَﻮَﻗِّﻒِ ﻓِﻲ ﺭِﻭَاﻳَﺎﺕِ ﻋَﻤْﺮِﻭ ﺑْﻦِ ﺷُﻌَﻴْﺐٍ ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻋَﻦْ ﺟَﺪِّﻩِ ﺇﺫَا ﻟَﻢْ ﻳَﻨْﻀَﻢَّ ﺇﻟَﻴْﻬَﺎ ﻣَﺎ ﻳُﺆَﻛِّﺪُﻫَﺎ؛ ﻷَِﻧَّﻪُ ﻗِﻴﻞَ ﺇﻥَّ ﺭِﻭَاﻳَﺎﺗِﻪِ ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻋَﻦْ ﺟَﺪِّﻩِ ﺃَﻧَّﻬَﺎ ﺻَﺤِﻴﻔَﺔٌ ﻛَﺘَﺒَﻬَﺎ ﻋَﺒْﺪُ اﻟﻠَّﻪِ ﺑْﻦُ ﻋَﻤْﺮٍﻭ.

ثم ﻗَﺎﻝَ اﻟْﺒَﻴْﻬَﻘِﻲُّ: ﻭَﻗَﺪْ ﺫَﻛَﺮْﻧَﺎ ﻓِﻲ ﻛِﺘَﺎﺏِ اﻟْﺤَﺞِّ ﻭَﻏَﻴْﺮِﻩِ ﻣَﺎ ﻳَﺪُﻝُّ ﻋَﻠَﻰ ﺻِﺤَّﺔِ ﺳَﻤَﺎﻉِ ﻋَﻤْﺮِﻭ ﻣِﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻭﺳﻤﺎﻉ ﺃﺑﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﺪﻩ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﺑﻦ ﻋَﻤْﺮٍﻭ ﻗَﺎﻝَ ﻭَﻗَﺪْ اﻧْﻀَﻢَّ ﺇﻟَﻰ ﺣَﺪِﻳﺜِﻪِ ﻫَﺬَا ﺣَﺪِﻳﺚُ ﺃُﻡِّ ﺳَﻠَﻤَﺔَ ﻭَﺣَﺪِﻳﺚُ ﻋَﺎﺋِﺸَﺔَ ﻓِﻲ اﻟْﻔَﺘَﺨَﺎﺕِ. ذكره النووي في "المجموع".



*مصادر أخرى: فقه السنة، سيد سابق (1/ 342 -343).


السبت، 1 أغسطس 2020

ما هي الصلاةُ الوسطى عند السَّادة الشَّافعيَّة رحمهم الله تعالى ؟



ما هي الصلاةُ الوسطى عند السَّادة الشَّافعيَّة رحمهم الله تعالى ؟

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

تمهيد/ اختلف العلماء في تعيين الصلاة الوًسطى في قوله سبحانه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوُسطى وقوموا لله قانتين} (البقرة: 238)، وقد طلب الناس تعيينها لامتثال أمر الله عز وجل في المحافظة عليها، لا سيما وأنه خصَّها الله عز وجل في الأمر بالمحافظة عليها، فذكر الإمام النوويُّ في "شرح مسلم" أن العلماء اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وأوصل الحافظ الدمياطي الشافعي الخلاف في هذه المسألة إلى سبعة عشر قولاً، وبلَّغها الإمام ابن حجر العسقلاني في "الفتح" إلى عشرين قولاً، ولكن أكثر هذه الأقوال ضعيفة، والخلاف بين الأئمة المتبوعين ينحصر في قولين: القول الأول صلاة الصُّبح، والقول الثاني: العصر.

1- قال ابن عبد البر في "الاستذكار " (2/ 196): "والاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين -يعني الصُّبح والعصر، وما روي في الصلاة الوسطى في غير الصبح والعصر ضعيف لا تقوم به حجة".
2- وقال الإمام النووي ــ رحمه الله تعالى في "المنهاج" (5/ 126): "والصحيح من هذه الأقوال قولان: العصر، والصبح، وأصحهما العصر". 

* حكاية الأقوال في المذهب:

أولاً: مذهب من قال إن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر:
فذهب الإمام الشَّافعيُّ (ت 204 هـ) كما نصَّ عليه في "الأمِّ"، إلى أنها صلاةُ الفجر، وتبع الإمام في ذلك: القاضي العمراني (ت 558 هـ) كما في "البيان في مذهب الإمام" (2/ 45)، والإمام الإسنوي (ت 772 هـ) كما في "الهداية" (20/ 142)، وأبو البقاء الشافعي (ت 808 هـ) كما في "النجم الوهاج" (2/ 16  -18).
قال المُهلَّبُ: "ويدل على أنها -يعني صلاة الفجر -هي المأمور بالمحافظة عليها أنه صلى الله عليه وسلم لم تفته صلاة غيرها لغير عذر شغله عنها".
وردَّ عليه الإمام ابن حجر في الفتح (2/ 68) بقوله: "وفيما قاله نظر لا يخفى... وهو كلام متدافع فأي عذر أبين من النوم".

وقال الإمام أبو يحيى العمراني (ت 558 هـ) في "البيان في مذهب الإمام" (2/ 45): "واختلف العلماء في الصلاة الوسطى التي خصها الله تعالى بالذكر:
فذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ -إلى: أنها الصبح. وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ورواه مالك، عن علي كرم الله وجهه. وقالت عائشة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد. وعبد الله بن شداد: (هي صلاة الظهر)، وحكي ذلك عن أبي حنيفة. وقال أبو هريرة، وأبو أيوب، وأبو سعيد الخدري: (إنها العصر)، وهي الرواية الثانية عن علي، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة. وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب…. ولأن صلاة الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم، فخصت بالذكر، حتى لا يتغافل عنها".
فذكر الأقوال، واختار مذهب الإمام رحمه الله.

وينقل الإمام ابن الرفعة (ت 710 هـ) عن بعض من انتصر لقول الإمام في كتابه "كفاية النبيه" (2/ 355): "ومن انتصر للأول قال: العصر في كلام العرب يطلق على الصبح- أيضاً- فيحمل عليه، قال ابن قتيبة: يقال لصلاتي الفجر والعصر: العصران والبردان. ويدل عليه ما روى عبد الله بن فضالة الليثي، عن أبيه أنه قال: كان فيما علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "حافظ على العصرين"، فقلت: وما العصران؟ قال: "صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها"، ثم على تقدير: أن يدل ما ذكرناه من الخبر على أنها العصر، فقد ورد ما يدل على أنها غيره…"، ولكن الإمام ابن الرفعة رجَّح أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

ثانياً: مذهب من قال إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر:
وهو مذهب الجمهور، وإليه ذهب أكثر الشافعية كالإمام الماوردي (ت 450 هـ) في "الحاوي"، و"بحر المذهب" (1/ 443 -444)؛ لصحة الحديث والأثر به، وهو ما رجحه: الإمام ابن الرفعة (ت 710 هـ) في "كفاية النبيه" (2/ 356)، والشيخ زكريا الأنصاري (ت 926 هـ) في "الغرر البهيَّة" (1/ 244)، وابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) في "المنهاج القويم" (ص 145)، وقليوبي وعميرة في "حاشيتهما" (1/ 128)، والنووي في "روضة الطالبين" (1/ 182)، والخطيب الشربيني (977هـ) في "مغني المحتاج" (1/ 303)، والمليباري الهندي (ت 987هـ) في "فتح المعين" (ص 88)، والبجيرمي (ت 1221 هـ) في "حاشيته" (1/ 389)، وقد نقل كلام النووي (ت 676 هـ) في "المجموع" والماوردي في "الحاوي"، ونقله عن ابن المنذر الدمياطي في كتابه "كشف المُغطى" (ص 118/ ح 149)، ومن العجيب أن ابن عبد البر رحمه الله: نسب هذا القول للشافعيِّ في "الاستذكار"، ونسبه القاضي عياض إلى الشافعي في "الإكماال" ؟!.

ثالثاً: مذهب من قال الصلاة الوسطى غير متعينة:
وذهب القاضي حُسين، والإمام أبو المعالي الجويني (ت  478 هـ) في "نهاية المطلب" (2/ 6) أنها غير متعينة؛ فقال: "ثم الذي ذَكَره الشافعي وإِن كان ظَاهراً، فهو مظنون، والذي يليق، بمحاسن الشريعة، ألا تتبين على يقين؛ حتى يحرص الناسُ على جميع الصّلوات، حتى توافقَ الصّلاة الوسطى، كدأب الشريعة في ليلة القدر".
قال ابن الرفعة (ت 710 هـ) في "كفاية النبيه" (2/ 358) في ذكر من وافق الجويني: "وهذا الاحتمال قد قاله القاضي الحسين في أول باب صلاة الخوف، وقال: إنه الصحيح، واستشهد له بليلة القدر وساعة يوم الجمعة".

ويُلخص لنا الإمام النوويُّ هذا الخلاف في "المجموع" (3/ 60 -61)؛ فيقول:"اتفق العلماء على أن الصلاة الوسطى آكد الصلوات الخمس، واختلفوا فيها؛ فقال الشافعي: هي الصبح نص عليه في الأم وغيره، وهو مذهب مالك، ونقله الواحدي: عن عمر، ومعاذ ابن جبل، وابن عباس وابن عمر، وجابر رضي الله عنهم، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، والربيع بن أنس، رحمهم الله وقال طائفة: هي العصر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وداود، وابن المنذر، ونقله الواحدي: عن علي، وابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم، والنخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، ونقله ابن المنذر: عن أبي أيوب الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وعبيدة السلماني رحمه الله، ونقله الترمذي: عن أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم. وقالت طائفة هي الظهر: وهو رواية عن أبي حنيفة، ونقله الواحدي: عن زيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأسامة ابن زيد، وعائشة، ونقله ابن المنذر عن عبد الله بن شداد.  وقال قبيصة بن ذؤيب هي المغرب، قاله الواحدي. وقال بعضهم هي العشاء الآخرة وبعضهم إنها إحدى الصلوات الخمس مبهمة، ونقل القاضي عياض عن بعضهم أنها الجملة، وعن بعضهم أن الوسطى جميع الصلوات الخمس؛ فهذه مذاهب العلماء فيها، والصحيح منها مذهبان العصر والصبح، والذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر، وهو المختار؛ قال صاحب الحاوي: نص الشافعي رحمه الله أنها الصبح وصحت الأحاديث أنها العصر".

ويؤكد ذلك الإمام الدمياطيّ الشافعي في "كشف المغطى" (ص 118): "وهذا بابٌ واسعٌ، لو تتبعناه لطال الكلام فيه، ولنذكر ما حكاه القاضي أبو الحسين الماوردي في كتابه (الحاوي)، وقد ذكر مذاهب الناس في الصلاة الوسطى (2/ 7 - 8)؛ فقال: صحت الأحاديث أنها العصر لخبر شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ومذهب الشافعي اتباع الحديث فصار هذا مذهبه، ولا يقال فيه قولان كما وهم فيه بعض أصحابنا".


ويُلخص لنا الإمام ابن حجر في الفتح روايات "الصلاة الوسطى" (8/ 195 - 198)؛ فيقول: 
"(حبسونا) أي منعونا (عن الصلاة الوسطى) أي عن إيقاعها: زاد مسلم: من طريق شُتير بن شكل، عن عليّ: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)، وزاد في آخره: (ثم صلاها بين المغرب والعشاء). 
ولمسلم: عن ابن مسعود: نحو حديث علي. 
وللترمذي والنسائي: من طريق زر بن حبيش، عن علي مثله.
ولمسلم: أيضاً من طريق أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، عن علي فذكر الحديث بلفظ: (كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس يعني العصر). 
وروى أحمد والترمذي: من حديث سمرة رفعه؛ قال: (صلاة الوسطى صلاة العصر). 
وروى ابن جرير: من حديث أبي هريرة رفعه: (الصلاة الوسطى صلاة العصر)، ومن طريق كهيل بن حرملة: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى؟ فقال: اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا أبو هاشم بن عتبة؛ فقال: أنا أعلم لكم؛ فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلينا؛ فقال: (أخبرنا أنها صلاة العصر). ومن طريق عبد العزيز بن مروان: أنه أرسل إلى رجل؛ فقال أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال: (أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلام صغير؛ فقال: هي العصر). 
ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: (الصلاة الوسطى صلاة العصر). 
وروى الترمذي وابن حبان: من حديث ابن مسعود مثله. 
وروى بن جرير: من طريق هشام بن عروة عن أبيه؛ قال: (كان في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وهي صلاة العصر. 
وروى بن المنذر: من طريق مقسم، عن ابن عباس، قال: (شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فقال شغلونا عن الصلاة الوسطى). 
وأخرج أحمد: من حديث أم سلمة، وأبي أيوب، وأبي سعيد، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وابن عباس من قولهم: إنها صلاة العصر.
قال ابن حجر: وقد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى.
وجمع الدمياطي في ذلك جزءاً مشهورا سماه (كشف الغطا عن الصلاة الوسطى)؛ فبلغ تسعة عشر قولاً: 
أحدها: الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو جميع الصلوات:
فالأول: قول أبي أمامة، وأنس، وجابر، وأبي العالية، وعبيد بن عمير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم
وهو أحد قولي ابن عمر، وابن عباس، ونقله مالك والترمذي عنهما.
ونقله مالك بلاغاً عن علي والمعروف عنه خلافه.
وروى ابن جرير من طريق: عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي؛ قال: (صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه؛ ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين).
وأخرجه أيضاً: من وجه آخر عنه، وعن ابن عمرو: من طريق أبي العالية: (صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة؛ فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه الصلاة) وهو قول مالك والشافعي فيما نص عليه في "الأم".
واحتجوا له: بأن فيها القنوت؛ وقد قال الله تعالى {وقوموا لله قانتين}، وبأنها لاتقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر. 

والثاني -أي الصلاة الوسطى: هي صلاة الظهر- قول زيد بن ثابت.
أخرجه أبو داود: من حديثه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها؛ فنزلت: {حافظوا على الصلوات} الآية. 
وجاء عن أبي سعيد، وعائشة القول بأنها الظهر؛ أخرجه بن المنذر وغيره.
 وروى مالك في الموطأ: عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر، وبه قال أبو حنيفة في رواية. 
وروى الطيالسي: من طريق زهرة بن معبد، قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال هي الظهر ورواه أحمد من وجه آخر، وزاد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم؛ فنزلت).

والثالث -أنها صلاة العصر -قول علي بن أبي طالب؛ فقد روى الترمذي، والنسائي من طريق: زر بن حبيش؛ قال: قلنا لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى؟ فسأله؛ فقال: "كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) انتهى.
وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد، وبه قال بن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه. 
قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة، وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين، وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية: ابن حبيب وابن العربي وابن عطية. 
ويؤيده أيضاً ما روى مسلم: عن البراء بن عازب: "نزل {حافظوا على الصلوات وصلاة العصر}؛ فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت، فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}؛ فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر؛ فقال: أخبرتك كيف نزلت". 

والرابع -أنها صلاة المغرب- نقله بن أبي حاتم -بإسناد حسن -عن ابن عباس: "قال صلاة الوسطى هي المغرب"، وبه قال قبيصة بن ذؤيب، أخرجه بن جرير. 
وحجتهم: أنها معتدلة في عدد الركعات، وأنها لاتقصر في الأسفار، وأن العمل مضى على المبادرة إليها، والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس، وأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر.

والخامس -أنها صلاة العشاء -وهو آخر ما صححه ابن أبي حاتم. أخرجه أيضاً: بإسناد حسن -عن نافع، قال: سئل بن عمر؟ فقال: "هي كلهن فحافظوا عليهن"، وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله: {حافظوا على الصلوات}، يتناول الفرائض والنوافل فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائض تأكيدا لها واختار هذا القول ابن عبد البر.

وأما بقية الأقوال: 
فالسادس: أنها الجمعة ذكره ابن حبيب من المالكية واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه ورجحه أبو شامة. 
السابع: الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة.
الثامن: العشاء، نقله: بن التين والقرطبي، واحتج له: بأنها بين صلاتين لا تقصران، ولأنها تقع عند النوم؛ فلذلك أمر بالمحافظة عليها، واختاره الواحدي.
التاسع: الصبح والعشاء؛ للحديث الصحيح في: (أنهما أثقل الصلاة على المنافقين)، وبه قال الأبهري من المالكية.
العاشر: الصبح والعصر لقوة الأدلة في أن كلا منهما يقال إنه الوسطى؛ فظاهر القرآن الصبح ونص السنة العصر. 
الحادي عشر: صلاة الجماعة. 
الثاني عشر: الوتر وصنف فيه علم الدين السخاوي جزءاً ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي، واحتج له في جزء رأيته بخطه. 
الثالث عشر: صلاة الخوف. 
الرابع عشر: صلاة عيد الأضحى. 
الخامس عشر: صلاة عيد الفطر. 
السادس عشر: صلاة الضحى. 
السابع عشر: واحدة من الخمس غير معينة، قاله: الربيع بن خثيم، وسعيد بن جبير وشريح القاضي وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية ذكره في النهاية قال كما أخفيت ليلة القدر. 
الثامن عشر: أنها الصبح أو العصر على الترديد، وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال له الصلاة الوسطى.
التاسع عشر: التوقف؛ فقد روى بن جرير بإسناد صحيح: عن سعيد بن المسيب، قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه". 
العشرون: صلاة الليل، وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله. 

ثم شرع الحافظ ابن حجر في بيان أدلة أصحاب الأقوال والجواب عليها؛ فيقول:
وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث: (حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم)؛ فإنه يشعر بأنها أبهمت بعد ما عُيِّنَت، كذا قاله القرطبي. 
قال (يعني القرطبيُّ): وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين.
قال: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح!.
وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر؛ بل فيه أنها عينت ثم وصفت؛ ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء. 
نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي. 
ومن حجتهم أيضاً، ما روى مسلم وأحمد: من طريق أبي يونس عن عائشة: أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا فلما بلغت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، قال: فأملت علي وصلاة العصر قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
وروى مالك: عن عمرو بن رافع، قال: "كنت أكتب مصحفاً لحفصة؛ فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني؛ فأملت عليَّ: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر}. 
وأخرجه بن جرير: من وجه آخر حسن -عن عمرو بن رافع. 
وروى ابن المنذر: من طريق عبيد الله بن رافع: "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفاً؛ فذكر مثل حديث عمرو بن رافعٍ سواءٌ .
ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر: "أن حفصة أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفاً" نحوه. 
ومن طريق نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفاً؛ فذكر مثله، وزاد: "كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها"، قال نافع: "فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو"؛ فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى

وأجيب: بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسناداً وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها وهي العصر فيحتمل أن تكون الواو زائدة. 
ويؤيده ما رواه أبو عبيد: بإسناد صحيح، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر} بغير واو، أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات. 
وبأن قوله: {والصلاة الوسطى والعصر} لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء: "أنها نزلت أولاً: {والعصر}، ثم نزلت ثانياً بدلها: {والصلاة الوسطى}؛ فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال؛ فكيف يكون مقدماً على النص الصريح بأنها صلاة العصر. 

ثم ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ العلائي الذي رام من خلاله إبطال قول من قال: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ فقال:
قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: 
أحدها: تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها: معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء وقد تقدم في كتاب الصلاة وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر وقد تقدم أيضاً.
ثالثها: ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر؛ فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع.
وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه سلمنا، لكن لا يصلح معارضاً للمنصوص صريحاً، وأيضاً فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى الأول والآخر والظاهر والباطن. انتهى ملخصاً.

واختم هذا البحث بما قاله الإمام أبو بكر الدمياطي (ت 1310 هـ) في "إعانة الطالبين" (1/ 139): "والعصر هي الصلاة الوسطى، لصحة الحديث به؛ فهي أفضل الصلوات، ويليها الصبح، ثم العشاء، ثم الظهر، ثم المغرب… ومذهب الشافعي اتباع الحديث فصار مذهبا له، ولا يقال في المسألة قولان، ويدل له أيضا قراءة عائشة رضي الله عنها - وإن كانت شاذة -: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر".
وقال في موضعٍ آخر (2/ 6): "وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى عند الجمهور".

وقد نظم الإمام عبد الواحد الونشريسي عشرين قولاً في الصلاة الوسطى؛ فقال:
كلٌ من الخمس؛ فهي؛ فالجمعة … فالوتر؛ فالظهر وجمعة معه
فالخوف؛ فالعيدان؛ فهي مبهمة … في الخمس؛ فالصبح ومعها العتمة
فصبح أو عصر على التردد… ثم صلاتنا على محمد
فالصبح مع عصر؛ فوقف؛ فالضحى…ثم الجماعة، بها الوسطى اشرحا

وذيلها الشيخ محمد التُّهامي كنون؛ بقولين، نظمهما بقوله:
وقيل هي الصُّبحُ والظُّهرُ معاً … وقيل: العصرُ والعشا مُجتمعا
فهذه عشرون مع ثنتين … من الأقوال فخذها دون مينِ

وذيل الشيخ محمد التُّهامي كنون، ببيتٍ نظمه وبيَّن فيه الراجح من الأقوال:
وأشهر الأقوال صُبحٌ ثُم زيد … عصرٌ، والباقي ضعيفٌ يا مُريد

ونظم هذه الأقوال بعض الشَّافعيَّة سبعة عشر قولاً؛ فقال:
وللناس في الوسطى خلافٌ، وحصرُه… بسبعة أقوالٍ يضاف لها عشر
فخذ خمسة منها لإفراد عشرها … وسادس: كل الخمس قولٌ له ذكر
وبالجمعة الغراء سبعٌ، وثامن:… .صلاة جماعاتٍ، وتاسعها: الوتر
وعاشرها: مكتوبة لا بعينها…. وقيل: هي الصبحُ السنية والعصر
وقيل: هي الصبح السنية والعشا…. وقيل: هي الأضحى، وقيل: هي الفطر
وخامس عشر: جمعة في محلها….وفي سائر الأيام أيضاً هي الظهر
وعدت صلاة الخوف سادس عشرها….وإن صح منقول الضحى ثبت الحصر
وجمهور أهل العلم نقل محقق….على العصر قولٌ عنده يجب القصر
وأما الإمام ّ الشافعي إمامنا…. فنصَّ على ُ صبحٍ وإيصاؤه العصر
كذا هو في شرح المهذبِ  وارٌد….  وناهيك عن نقل أتانا به حرُّ 

حقوق النَّشر محفوظة


اليدُ البُسطى في تعيين الصلاة الوسطى


اليدُ البُسطى في تعيين الصلاة الوسطى
للإمام جلال الدين السيوطي
(849 -911 هـ)
تحقيق ودراسة
د. عبد الحكيم الأنيس
شبكة الألوكة، نشر: 2016م

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلم حنُّونة

تمهيد/ موضوع هذه الرسالة ذكر الخلاف في المقصود من الصلاة الوسطى في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ (البقرة: 238)، وقد نصر الإمام السيوطي في رسالته هذه الرأي الذاهب إلى أنها صلاة الظهر، وذكر هذا الرأي في "اختياراته الفقهية"، وكرر ذلك في رسالته "نواهد الأبكار"، وغيرها.

وحجة من ذهب إلى هذا القول: ما رُوي عن عاشة وحفصة -رضي الله عنهما -أنهما أمرتا أن يُزاد في مصحفهما بعد قوله ﴿والصلاة الوُسطى﴾ وصلاة العصر: بالواو، وذلك يدلُّ على أنها غير صلاة العصر!.
وهذا الإيراد يُمكن أن يُجاب عليه: بأن العطف هنا لا يقتضي المُغايرة؛ بدليل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن: 68)، والنخل والرمان من جنس الفاكهة، فالعطف لا يقتضي المُغايرة.
كذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 98)، وجبيل وميكال من جملة الملائكة، فالعطف هنا يقتضي التخصيص ومزيد الاهتمام وليس المغايرة.

قالوا: بالإضافة إلى أن صلاة الظهر هي التي تليها صلاة العصر؛ فتعين أن تكون الوسطى هي الظُّهر؛ لاقترانهما بالعطف.
والجواب: أن هذا دليلٌ نظريٌّ، يستمدُّ دلالته من المعنى، ولا يصمد أمام النُّصوص المُصرحة بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

واستدلوا من النظر -أيضاً: بأن صلاة الظُّهر هي أول صلاةٍ فُرضت في الإسلام؛ ولهذا سُميت الأولى، وهي أول صلاةٍ توجَّه فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة على الصحيح؛ ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الظُّهر بالهاجرة، ولم يكن على الصحابة صلاةٌ أشدُّ منها، فنزلت الآية: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾.

قالوا: ولأن صلاة الظُّهر وُسطى الصلوات النهارية؛ لأنها تقع بين الصُّبح والعصر.
ولأنها تقع في وسط النهار، ولأن الجماعات ترتفع (تزيد) لأجلها يوم الجمعة.
ولأن الجُمعة فُضلت لأجلها، ولأنها في الساعة التي تُفتح فيها أبواب السَّماء؛ فلا تُغلق حتَّى تُصلى الظُّهر، ويُستجاب فيها الدُّعاء.

وممن ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي "صلاة الظُّهر" من المتقدمين: من الصحابة: زيد بن ثابت، وأبي سعيد، وعائشة على اختلافٍ عنهم، وهو قول عبد الله بن شداد، وعروة بن الزبير، ويُروى ذلك عن أبي حنيفة.

وقد أشار السَّيوطيُّ في كتابه "التحدُّث بنعمة الله"(ص 164) إلى هذا المؤلَّف، وأنه مما أُنكر عليه قوله؛ فقال: "ومما وقع منه (وذكر شخصاً) أني قررتُ في الدرس أقوال الناس في الصلاة الوسطى، ووصلتها إلى عشرين قولاً (وقد سبقه إليها الإمام ابن حجر في "الفتح")، ثم ُ أخذت أرجح القول بأنها الظهر، وأقيم عليه الأدلة الساطعة. فدار على النّاس وشُنِّعَ عليَّ بكوني رجحت أنها الظهر وإنما هي العصر. فانظروا بالله يا أولي الألباب، من وصل في قلة العقل إلى هذا الحد"..

ولا شكَّ أن في كلام السُّيوطي رحمه الله تحاملٌ على من أنكر عليه، وأن قوله هذا شاذٌّ غير مقبول، والذي ذهب إليه أصحاب الأئمة المتبوعين هما قولان: الفجر والعصر، لذا فالإنكار عليه في محله.

وزعم السُّيوطي أنَّه أول من قال بهذا من الشَّافعيَّة؛ فقال (ص 37): "وأقول- وهو مما لم أسبق إليه- : إن كان لابد من الخروج عن نص الإمام رضي الله عنه إلى الدليل ، فالذي يقتضيه الدليل ترجيح أنها الظهر!" ومعلومٌ أن هذا القول قد قاله به ناسٌ من الصحابة والتابعين.

وأبطل السيوطيُّ الأقوال الأخرى إجمالاً بثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الآثار الموقوفة على الصحابة متعارضة، فلا يُحتجُّ بشيء منها.
الوجه الثاني: أن الآثار المرفوعة الصحيحة: فيها احتمال إقحام لفظة "والعصر" من بعض الرواة، بدليل عدم وجودها في بعض الروايات، وعلى احتمال وجودها مع العاطف فلا إشكال، أما الراوايات التي جاءت بحذف العاطف احتمل إضمار العاطف فيها.
ولكن يُعترض على هذا الوجه الذي ذكره السُّيوطي، بأن زيادة الثقة مقبولة، وقد ثبتت في الروايات الأخر، ومن حفظ حُجَّةٌ على من لم يحفظ.
الوجه الثالث: قال السَّيوطيُّ: "إنه ورد في حديثٍ مرفوع أنها الظهر، وفيه بيان سبب نزول الآية، وهذا أقوى ما اعتمدت عليه في ذلك".
والصَّحيح أن المرويَّ عن أسامة بن زيد موقوفٌ عليه، وليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيفٌ لا يثبت؛ فبطل قول السَّيوطيّ رحمه الله.
وختاماً: نقول: القول بأن الصلاة الوسطى هي "الظُّهر" قولٌ ضعيف، وأدلته غير محتملة، بينما أدلة القائلين بأن الوسطى هي صلاةُ العصر أقوى وأكثر وأصرح، والله أعلم.