تصنيف الناس بين الظن واليقين
تأليف الشيخ بكر أبو زيد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ يعيش المسلمون اليوم ظاهرة عجيبة، وفتنةً مُضلة، ولوثة أعجمية وافدة، تفتك بالأديان، وتفتُّ بالبنيان، وتنشر العداوات والأحقاد، وتصُدَّ الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهو ما نراه ونسمعه من غلاة التجريح الذين يغمسون ألسنتهم في ركام الأوهام والآثام ويلصقون التُّهم بالعلماء والدعاة، بناءً على شُبَهٍ واهية، وألفاظٍ محتملة، فيطمسون محاسن علماء أهل السُّنة ويطفئون مواهبهم وينشرون مثالبهم، ويستخفون بهم وبعلومهم، بقصد التشهير التنفير والصد عن سواء السبيل، ولا شك أن القائم بها، والداعي إليها (مفتون) و(منشق) عن جماعة المسلمين. قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (الأحزاب: 58).
وهذا بالطبع لا يشمل أهل الأهواء المغلظة، والبدع الكبرى - المكفرة -، ولا يشمل التحذير من صاحب الهوى أو البدعة، ولا المتظاهر بالبدعة المتسافه بها، الداعي إليها.
وربما أخرج بعضهم هذه الغيبة المُحرَّمة لعلماء أهل السنة في قالب الصلاح والديانة، غشاً وخداعاً، ولا يعلمون أنهم يُمارسون "وظيفةً إبليبسية" يعيبون من خلالها أهل الحق، ويطعنون بها عليهم، مع كونهم يُقاسمون في قذفهم أهل البَهّات، والغيبة والنميمة في الجريمة والإثم، كما أنهم يُقاسمون أعداء الدين في زرع بذور الحقد والكره والبغضاء بين شتات المسلمين.
وبهؤلاء (الغلاة) آل أمر الأمة، شيوخها وشبابها إلى أوزاع، وأشتات، وفرق، وأحزاب، وركض وراء السراب، وضياع في المنهج، والقدوة، وما نجا من غمرتها إلا من صحبه التوفيق، وعمر الإيمان قلبه.
ولعظم هذه الجناية على العلماء صار من المعقود في أصول الاعتقاد: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين - أهل الخير والأثر، أهل الفقه والنظر - لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ؛ فهو على غير السبيل).
ولذا قال الحافظ ابن عساكر - رحمه الله تعالى: "واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم...".
وهذه أحرف جريئة للشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله -في ورقات قليلة، تقرع جرس النذارة من هذه المكيدة، وهي (تصنيف الناس) اعتداءً وظلماً، و(تجريحهم) بغياً وعدواناً وظلماً وتحريشاً وإيذاءًا؛ فتكشف هذه الظاهرة بجلاء، وتواجه وجوه الذين يتعاملون معها بنصوص واضحة، وقوارع من نصوص الوحيين ظاهرة
وقد تطرق المؤلف في كتابه هذا إلى هذه الظاهرة، وبيّن واقعها، وطرقها، ودوافعها، وآثارها، وسبل علاجها، وكيفية القضاء عليها. مُبيناً طرق الخلاص من بناء الأحكام على الظنون والأوهام، وإعمال اليقين مكان الظن، والبينة محل الوسوسة، وإعمال مبدأ حسن النية لدلاً من سوء الظن.
ونكتفي هنا بنقل بعض المقتطفات من كتابه (تصنيف الناس بين الظن واليقين )، بحسب العناصر المحددة آنفاً:
أ- طرق تصنيف الناس عند غلاة الجرح والتعديل:
يُشير رحمه الله في هذه المجموعة التي سماها (القطيع):"إنك ترى الجراح القصّاب كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحا) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان!! وترى دأبه التربص والترصد: عين للترقب وأذن للتجسس، كل هذا للتحريش وإشعال نار الفتن بالصالحين وغيرهم".
وترى هذا "الرمز البغيض" مهموما بمحاصرة الدعاة بسلسلة طويل ذرعها، رديء متنها، تجر أثقالاً من الألقاب المنفرة والتهم الفاجرة، ليسلكهم في قطار أهل الأهواء، وضُلّال أهل القبلة، وجعلهم وقود بلبلة وحطب اضطراب!!
وبالجملة فهذا (القطيع) هم أسوأ "غزاة الأعراض بالأمراض والعض بالباطل في غوارب العباد، والتفكه بها، فهم مقرنون بأصفاد: الغل، والحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، والبهت، والإفك، والهمز، واللمز جميعها في نفاذ واحد. إنهم بحق (رمز الإرادة السيئة يرتعون بها بشهوة جامحة، نعوذ بالله من حالهم لا رعوا)".
ب- دفع هذه الأوهام والشكوك والتُّهم الكاذبة عن علماء أهل السنة:
يقول -رحمه الله: "وكم جرت هذه المكيدة من قارعة في الديار بتشويه وجه الحق، والوقوف في سبيله، وضرب للدعوة من حدثاء الأسنان في عظماء الرجال باحتقارهم وازدرائهم، والاستخفاف بهم وبعلومهم، وإطفاء مواهبهم، وإثارة الشحناء والبغضاء بينهم، ثم هضم لحقوق المسلمين في دينهم، وعرضهم، وتحجيم لانتشار الدعوة بينهم بل صناعة توابيت، تقبر فيها أنفاس الدعاة ونفائس دعوتهم...انظر كيف يتهافتون على إطفاء نورها فالله حسبهم".
ت- النتيجة الحتمية من هذا الجرح المقيت لعلماء أهل السنة:
يقول المؤلف -رحمه الله: "ويا لله كم صدت هذه الفتنة العمياء عن الوقوف في وجه المد الإلحادي، والمد الطرقي، والعبث الأخلاقي، وإعطاء الفرصة في استباحة أخلاقيات العباد، وتأجيج سبل الفساد والإفساد إلى آخر ما تجره هذه المكيدة المهينة من جنايات على الدين، وعلى علمائه، وعلى الأمة وعلى ولاة أمرها، وبالجملة فهي فتنة مضلة، والقائم بها (مفتون) و(منشق) عن جماعة المسلمين".
ج- من هم أصحاب هذه الفتنة العمياء:
يقول الشيخ بكر أبو زيد: "وفي عصرنا الحاضر يأخذ الدور في هذه الفتنة دورته في مسالخ من المنتسبين إلى السنة المتلفعين بمرط ينسبونه إلى السلفية - ظلما لها - فنصبوا أنفسهم لرمي الدعاة بألسنتهم الفاجرة المبنية على الحجج الواهية، واشتغلوا بضلالة التصنيف".
ح-مستند هذه الفتنة العمياء:
يقول الشيخ بكر: "وإنك لو سألت: (الجراح) عن مستنده، وبينته على هذا (التصنيف) الذي يصك به العباد… لوجدت نهاية ما لديه من بينات هي: وساوس غامضة، وانفعالات متوترة، وحسد قاطع. وتوظيف لسوء الظن، والظن أكذب الحديث. وبناء الزعم، وبئس مطية الرجل زعموا".
"ومن مستندات (المنشقين) الجراحين: تتبع العثرات، وتلمس الزلات، والهفوات؛ فيجرح بالخطأ، ويتبع العالم بالزلة، ولا يغفر له هفوة"
د-طرق غلاة الجرح والتعديل في تصنيف الناس:
يقول المؤلف رحمه الله: "ومن طرائقهم: ترتيب سوء الظن، وحمل التصرفات قولاً، وفعلاً على محامل السوء والشكوك… ومنه: التربص، والفرح العظيم بأنه وجد على فلان كذا، وعلى فلان كذا، ومتى صار من دين الله: فرح المسلم بمفارقة أخيه المسلم للآثام… ومن هذا العرض، يتبين لنا أن مقومات الطعن في العلماء غير مقبولة شرعاً، فهي مبنية على دعوى مجردة من الدليل، وإذا كانت كذلك بطل الادعاء".
ه-الدوافع الحقيقية للجرح والتعديل في هذا العصر:
يقول المؤلف رحمه الله: "إما أن يكون الدافع لهذا الجرح (عداوة عقدية في حسبانه)... أو يكون الدافع: (داء الحسد والبغي والغيرة) وهي أشد ما تكون بين المنتسبين إلى الخير والعلم… أو يكون الدافع: (عداوة دنيوية)؛ فكم أثارت من تباغض وشحناء، ونكد، ومكابدة، فهؤلاء دائما في غصة من حياتهم، وتحرق على حظوظهم، ولا ينالون شيئاً".
ه-كيفية الخلاص من هذه الظاهرة الخطيرة:
يقول المؤلف رحمه الله: "وللخلاص من هذه الفتنة، لا بُد من العمل في أصول ثلاث:
1-(الجراح =محترف التصنيف) المتلبس به، الداعي إليه=
أن يعلم هذا المجرح يظلم غيره، وهذا الظلم عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، وأن مصير هذا الغلو في الجرح هو الخروج على الولاة، كما قيل (الحركة ولود، والسكون عاقر)، فوصيتنا لهذا المنشق أن يتقي الله في نفسه وأمته والعلماء، ويذكرهم بإنصافٍ وتحرٍّ للدين، وأن يحذر صنعة المفاليس ، فإن لم يرعوي كان واجباً حجر لسانه، وتأديبه بالسجن.
2- (المجروح ظلماً) الذي وجه إليه التصنيف=
بأن تعلم أنك منصور غالب، وأن ظالمك مقهور مدحور، فلا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن بما يفعلون، ولا يثنيك هذا "الإرجاف" عن موقفك الحق، واعلم أن العاقبة للمتقين، وأن التشنيع والتقبيح راجعٌ إلى قائله، ولا بُدَّ للمظلوم مع ذلك أن يستمسك بالسُّنة وأهلها، ويذر البدع وأهلها، مهما غارات الجروح وكانت عميقة، ولا يحركك تهيج المرجفين، وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضلَّ.
3-إلى كل مسلم يريد الله والدار الآخرة=
عدة قواعد، وهي:
(أ)- الأصل الشرعي: تحريم النيل من عرض المسلم، ومن باب أولى دينه إلا ببينة يقينية.
(ب)- والأصل بناء حال المسلم على السلامة، والستر، لأن اليقين لا يزيله الشك، وإنما يُزالُ بيقين مثله.
(ج) الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته، فلا بُدَّ من تبيُّن الخبر، والتثبت منه.
(د) من تجاوز الأصول والقواعد السابقة بغير وجه حق مُتيقن؛ فهو خارقٌ حُرمة الشرع بالنيل ظلماً من عرض أخيه المسلم.
(ه) الأصل ترفُّع المسلم عن الخوض في هذه الحيثيات إلا حال الضرورة والتعليم وتوجيه الناس وإرشادهم، والضرورة تُقدر بقدرها.
(و) والأصل أن لا يكون المسلم مطيَّة لنشر الأخبار الملفقة والكاذبة، لا سيما كلام أهل الأهواء والبدع في أهل السنة.
(ز) التزام "الإنصاف الأدبي" بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ خطأه رصيداً في الثلب والانتقاص.
(ح) احذر من دعاة الفتنة الذين يتصيدون العثرات، ويفرحون بالأخطاء.
(ط) اعلم أن "تصنيف العالم الداعية" - وهو من أهل السنة - ورميهُ بالنقائص: ناقض من نواقض الدعوة وإسهام في تقويض الدعوة، ونكث الثقة، وصرف الناس عن الخير، وبقدر هذا الصد، ينفتح السبيل للزائغين.
(ي) الحذر من دفن الحسنات في جنب بعض زلاته، بل تُغمر الزلات في بحر الحسنات، فقلَّ إمامٌ إلا وله زلَّة، ولو تركنا العالم لزلته، لذهب كثيرٌ من العلم.
(ك) ليس كل عالم ولا داعية يؤخذ بهفوته، ولا يُتبع بزلته، فلو عُمل ذلك لما بقي معنا داعية قط، وكُلٌ رادٌ ومردُودٌ عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله. نعم: يُنبه على خطئه، ولا يُجرم به، فيُحرمُ الناسُ من علمه ودعوته، وما يحصل على يديه من الخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق