القضاء والقدر
محمد متولي الشعراوي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذا الكتاب هو لمحة من ملامح الفكر الإنساني الناضج، الذي يتفاعل بحيوية مع النص القرآني؛ سبراً لمعانيه، واستخراجاً لكنوزه، وفتقاً لأصدافه، وتكمن أهمية الكتاب في بيان استجابة النصوص للعديد من القضايا الاجتماعية، والثقافية، والحياتية المُلحة والضرورية، شرط أن يتفاعل معها الإنسان بكينونته ووجوده ووجدانه، وهو ما ميّز الشيخ الشعراوي في طبيعة حديثه عنها، وتناوله لأبعادها.
ويتناول الكتاب أربعة مواضيع هامة، أولها في الاعتقاد، بحث فيه: عقيدة المسلمين في القضاء والقدر، وثانيها في السيرة النبوية: تعرّض فيه إلى معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي صاحبت مولده الشريف، وثالثها في علوم القرآن، تطرق فيه إلى إعجاز القرآن البياني والعلمي، والأخير في النظم الإسلامية: تطرق فيه إلى مكانة المرأة في الإسلام.
ويمكن إيجاز ما في هذه الفصول فيما يلي:
الأول: القضاء والقدر:
تطرق فيه الشيخ الشعراوي إلى مسألة الجبر والاختيار، وهل الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟ وبين أن في الإنسان أمور ليس له فيها اختيار، وفي المقابل هناك أمور هو فيها مختار، ذلك أن الإنسان يتميز بالفكر، الذي هو المقياس الذي يُرجح به بين البدائل، والتي صورتها الكلية أن يفعل أو يترك، مع تفاوت رتب الفعل والترك، فالإنسان مُخيّر في هذا النطاق.
وبيّن أنه لو لم يكن الإنسان مُخيراً؛ لاستوى في التكليف المجنون والمختل مع العاقل الرشيد، وما دام التكليف منصباً على العاقل؛ فهذا يجعله في منطقة الاختيار، وهي التمييز الذي يترتب عليه الثواب أو العقوبة.
ثم تكلم عن ضرورة ربط الإيمان بالقدر بقضيتين هامتين، تُفسران كثيراً من الأحداث والوقائع، وهما: الخلق، والعدل، ثم انتقل للكلام على قضية الهداية والإضلال، وعن الأسباب والنتائج، وبيّن أن علم الله تعالى لا يفرض على العبد شيئاً؛ فالعلم صفة انكشاف، تكشف الأشياء على ما هي عليه، لا صفة جبر تلجئ الإنسان إلى فعل شيءٍ مُعيّن، ثم ختم الموضوع بالحديث عن التوبة، والمغفرة، وعفو الله عن عباده.
الثاني: معجزات كونية صاحبت مولد الرسول صلى الله عليه وسلم:
تحدث فيه عن عظيم أخلاقه، بالإضافة إلى المعجزات التي صاحبت مولده الشريف، وما يتعلق ببعثته، ونزول الوحي، ومكانة الرسول عند الله تعالى، وكونه خاتم الأنبياء والرسل، وأن رسالته جاءت لينسجم الوجود مع منهج الله.
وبيّن أن منطق الوجود لا يُحيل شيئاً من تلك المعجزات الحسية، مثل: تشقق إيوان كسرى، وغيض بحيرة ساوة، وخمود نار فارس، بالإضافة إلى حادثة الفيل، والتي سجلها القرآن في سورة كاملة.
كما ردَّ على بعض المستشرقين الذين زعموا أن حجارة السجيل هي عبارة عن ميكروب أصاب جيش أبرهة، وفنّد هذا الزعم من خلال التفريق بين حجارة السجيل والميكروبات، وأجاب أيضاً عن دعوى بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى المعجزات الحسيّة لإثبات رسالته.
وتعرّض لمعنى المعجزة في الاصطلاح، وشرحها شرحاً وافياً، وبين موقف المسلم منها، وذكر بعض المعجزات التي أكدت نبوته مثل: انشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وإشباع جيش أو عدد كبير من الناس بحفنات من الطعام، وغير ذلك، ثم فصّل الحديث عن الوحي وأنواعه وصوره.
الثالث: الإعجاز البياني والعلمي في القرآن:
وتطرق فيه إلى أن القرآن الكريم منهج ومعجزة في الوقت نفسه، كما أنه يُخاطب النفوس بما هو فيها، ويدلّها على ما يُصلح عيوبها، وذلك بأفانين التعبير، ومختلف الأساليب، مع تناول ذلك من زوايا كثيرة، ولقطات متنوعة.
وبيّن أن الإعجاز البياني قد تحدى به الله العرب وهم الفصحاء والبلغاء، أما غير العرب فيكون الإعجاز في حقهم إعجاز منهجي، ويندرج في ذلك الإعجاز العلمي، الذي تطرق إليه القرآن على وجه الإجمال، ليدلل على أن هذا الكلام هو كلام رب العالمين.
وقد استعرض الشيخ الشعراوي الإعجاز البياني في عدة قضايا قرآنية، تأخذ بالألباب، كما نوّه على ضرورة إخضاع الحقائق العلمية لمنهج القرآن لا العكس، وبين الفرق بين الحقائق العلمية وبين النظريات البحثية، وأوضح أن أي حقيقة علمية فإن القرآن يعضدها ولا يعارضها.
الرابع: مكانة المرأة في الإسلام:
وأجاب فيه الشعراوي عن دعوى انحياز الإسلام للرجل ضد المرأة، وأن الإسلام يُقيد من حرية المرأة في مجالات العلم والعمل والتطور، وناقش الأشياء التي أعطتها الحضارة الحديثة للمرأة، وما هو مفهوم التحرر التي تطالب به الجمعيات النسوية.
وتطرق إلى القضايا المشتركة التي تجمع الرجل والمرأة، والمهام المناطة بكل نوعٍ منهما، وأن المرأة لها الحرية في الاعتقاد، وأن هذا الاعتقاد يلزمها بالمنهج الذي تتبناه، وأنها محل اصطفاء لمهمات جليلة أخبر عنها القرآن الكريم، وأن ميدان المرأة في الحياة أكبر بكثير من ميدان الرجل؛ لتعلقها بأطول فترة في حياة الإنسان، وهي الطفولة، ثم عرض أخيراً لبعض النصائح الحياتية والاجتماعية للمرأة كزوجة و شريك للرجل في بيته.
فائدة ص 131
الترتيب في قوله: (إن السمع والبصر والفؤاد)، وقوله: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم) ٠وكل الآيات مرتبة هذا الترتيب. وعندما برز الكلام العلمي أو الحقائق العلمية، قال لنا علماء وظائف الأعضاء أن الإنسان أول ما يولد تكون أول حاسة من حواسه تؤدى مهمتها هي حاسة الأذن، ثم إن العين تؤدى مهمتها في ظرف عشرة أيام، فأنت إذا جئت الى الوليد المولود، ومددت أصبعك أمام عينيه فلا يرمش لأن عينيه لم تؤد مهمتها بعد، فلا يرى شيئا، ولكن إذا جئت وأطلقت صوتاً في أذنه فإنه يحدث عنده انفعال، يدل على أنه استقبل شيئا، إذا أذنه هي أول شيء يؤدى مهمته. فحينما يتحدث الحق عن السمع والبصر.. فيكون دل على أن السمع يؤدى مهمته أولاً، وبعد ذلك البصر يؤدى مهمته ثانياً، وبعد ذلك تتكون المعلومات القلبية والمعلومات العقلية بعد ذلك، بلا شذوذ في أي آية.
· فائدة ص 132
نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن هذا، خالف بين السمع والبصر، كيف هذا؟ وماذا قال؟ (وجعل لكم السمع والابصار).. فالسمع مفرد دائماً، والأبصار مجموعة مع أن المفروض في تصورنا البشرى وفهمنا أن يقول: السمع والبصر.. أو الأسماع والأبصار!
فهو قد رتبهم الترتيب الطبيعي ولكن لماذا قال ذلك مفرد، وذلك جمع، نقول والله أعلم: لأن استقبال الأذن للمسموع، لا خيار للإنسان في أن يمنع أذنه أن تسمع بشيء موجود فيها، أما العين، فلك خيار ألا ترى مناظر موجودة أمامك، لك أن تغمض عينيك فلا تراها لكن ليس عندك شيء في أذنك بحيث يسد أذنك، فلا تسمع، فاذا ما جاء صوت في مجموع لا يملك الناس أبدا إلا يسمعوه جميعاً. لكن مرئياً من المرائي، هذا يراه بفتح عينه، وذلك يغمض فلا يرى، اذا فما دام الأمر، أمر سمع ومسموع، فلا خيار للإنسان إلا أن يكون المسموع في الجماعة واحدا، إذاً فالسمع واحد لكن الأبصار قد تتعدد في مرائيها، هذا يبصر ذلك، وذلك لا يبصر، الآن هناك تحكماً في العضو نفسه، بحيث يرى أو.. لا يرى، أما الأذن، فلا بد أن تأتي بشيء آخر غير الأذن، فأما أن تضع أصابعك 6 في أذنيك، أو أن تحضر قطعة من القطن وتضعها فيها أو ما الى ذلك. لكن إذا جاء إنسان وصرخ، فيكون سمعنا واحدا بالنسبة للمسموع، ولكن مرائيا متعددة بالنسبة للمرائي، فذلك يرى هذا وهذا يرى ذلك، أما السمع فلا خيار الأحد فيه.لذلك جاء السمع مفردا دائماً.
فائدة ص 132
وشيء آخر، لم نجد الأبصار مفرده إلا في آية واحدة.. (إن السمع والبصر) ولم يقل.. والأبصار).. (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) هذه هي الآية الوحيدة التي أفرد البصر فيها، لماذا؟ نقول والله أعلم: لأن الكلام هنا عن المسئولية الذاتية.. والمسئولية الذاتية مسئولية فردية، فيكون سمعي وبصرى وحده، فأنا لست مسئولا عن أبصار غيرى، إنما مسئول عن بصرى وحده، اذا فلابد أن يفرد البصر هنا، اذا فما دام الأمر كذلك، والحقائق العلمية أثبتت لك هذا، فيكون الاسلوب الادائي للقرآن مواكبا للحقائق العلمية، وعلى مقتضاها.
فائدة ص 135
وأخرى تستحق أن نتوقف عندها وقفة متأملة، هي أن الحق سبحانه وتعالى لم يقدم البصر على السمع إلا في آية واحدة وهي.. «ربنا أبصرنا وسمعنا» يوم القيامة «.. أبصرنا وسمعنا) لماذا تغير هذا النظام؟ فالنظام كان السمع دائما أولا يليه البصر؟ الآن أول ما يفاجأ من مشاهد القيامة هو مرئى لا مسموع عندما تقوم القيامة، فما الذي يفاجئنا؟ نرى أولا، ثم نسمع ثانيا، فيكون منطقيا مع وقته ومع واقعه.
وبعد ذلك نجد هنا عجيبة من العجب، أن السمع هذا هو الحاسة الوحيدة التي تؤدي مهمتها عند النوم، العين تغمض ولكن الأذن مستقبلة دائما لماذا؟ لان بها الاستدعاء..
فائدة ص 136
نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن ظاهرة الليل والنهار، ويقول أن هذه نعمة من النعم، أنه جعل الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من الفضل وتكدحوا فيه، يقول (قل أرأيتم أن جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء).. ثم في آخر الآية يقول (أفلا تسمعون) هذه واحدة، وبعد ذلك يقول قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار - المقابل -سرمدا الى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) وفى آخر الآية يقول.. (أفلا تبصرون) لماذا في الآية الأولى قال (أفلا تسمعون) وفى الآية الثانية. قال (أفلا تبصرون) والمقام.. مقام امتنان واحد، قالوا.. لأنه قال في الآية الأولى.. أنا سأجعل الليل سرمدا.. ومادام الليل سرمدا فتكون وسيلة الادراك هي الأذن.. أفلا تسمعون).. وليست العين، لكن في النهار وسيلة الإدراك الأولى تكون العين، فمع النهار يقول (أفلا تبصرون ) ومع الليل يقول (أفلا تسمعون ( اذا فهذا إعجاز بیانی عال متمش مع الحقائق العلمية التي جدت. وما دامت الأذن تؤدى مهمتها دائما حتى مع الإنسان النائم.
فائدة ص 137
ومما سبق ندرك لماذا حينما عرض الحق سبحانه وتعالى قصة أهل الكهف نجد أنه في هذه القصة يريد الله أن ينيمهم مدة طويلة، وهذا النوم لمدة طويلة يأتي على غير مألوف في قانون البشر، فالذي نام قسطاً وافياً، توقظه أي حركة، وهم قوم في كهف، والكهف في جبل، والجبل في صحراء، وهناك برق وهناك رعد وهناك أصوات حيوانات، فنجد الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمنع عنهم المنبهات التي تخرجهم عن النوم، فماذا قال (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ۰۰ ضربنا على آذانهم، لو لم يقل الحق: (ضربنا على آذانهم) لبقيت الآذان تؤدى مهمتها فأي صوت خارجي يوقظهم، فلا ينامون وهو يريدهم نائمين، فلابد أن يقطع علاقتهم مع الكون، وعلاقتهم مع الكون ـ وهـــم نائمون - ليست إلا بالأذن، فيضرب على الأذن..(فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عدداً).
فائدة ص 140
نجد سيدنا إبراهيم حين حطم الأصنام، ماذا قال؟ (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فانهم عدو لي ـ وهي الأصنام التي حطمها - إلا رب العالمين.. الذي خلقني فهو يهدين والذى هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين) لماذا قال الذي خلقني فهو يهدين ولم يقل الذي خلقني يهديني بحذف الضمير؟ فالأسلوب البياني هنا.. الذي خلقني يهديني فقالوا لا.. لان هذه الهداية يمكن أن تدعى من البشر للبشر، لكن الخلق لا يدعى.. فلما قال : الذي خلقني) هذه لم توجب التأكيد، لان هذا موضوع لا يجادل فيه أحد، لكن الهداية والمنهج من الممكن أن يدعيها بعض الناس فنجد سيدنا ابراهيم يؤكده (الذي خلقني فهو يهدين).. هو الذي یهدینی فقط، ضمير فعل.. (الذي خلقني فهو يهدين، والذى هو يطعمني) لأن الطعام قد يدعي أن فلانا يؤكل فلانا، وفلانا يعول فلانا، فيؤكدها ويقول: تنبهوا إلى أن هذه أسباب مناولة فقط.. وأما الذي أطعم فهو الله. ولذلك لم يقل الذي يطعمني كما قال الذي خلقني ولكن قال: (الذي هو يطعمني).. هو. أى لاغيره يطعمني ويسقيني، وبعد ذلك قال.. واذا مرضت فهو يشفيني) لم يقل فيشفيني.. لأن هناك أسبابا من الطب ومن العلاج، يمكن أن تدعى أنك أنت الشافي، (والذي يميتني ثم يحييني).. لم يقل.. هو يميتنى، إذن الاداء البياني سائر بنظام، بحيث أنك إذا أخذت لفظا ونقلته فسيختل المعنى.
فائدة ص 141
قول الله تعالى (ما جاءنا من بشير ولا نذير) ۰۰، نجد أن بعض العلماء عندما يفسرون هذه الآية، يقولون (من) حرف جر زائد.. بمعنى أن أصلها، ما جاءني بشير ولا نذير. وحينما يشرعون في اعرابها يقول هذا البعض : من.. حرف جر زائد ها وبشير، فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. ونسأل :لماذا (من) حرف جر زائد؟ ولماذا يضيف الله هذا الحرف الزائد؟ إننا اذا تأملنا قليلا في الآية نجد أن الزيادة) المقول بها في حرف ( من ) هي في تصور البعض، ولابد فى رأينا وفهمنا أن يكون لها معنى.
وإيضاح ذلك نقول : أنت اذا قلت : ما عندي مال، فمن الجائز أن لا يكون عندك مال له قيمة، انما اذا قلت معى خمسة وعشرون قرشا أو خمسون قرشا أو جنيه، فهنا هذا لا يعتبر مالا ذا قيمة، لكن حين أقول.. (ما عندي من مال. أي" من بداية ما يقال له مال ولو مليم، فكأن الله حين يقول.. (ما جاءنا من بشير).. أي لم يأت لنا أحد من بداية ما يقال له بشير، لم يوجد أحد قال لنا كلمة يا ربي، لم يهدنا أحد ولو بكلمة، إذا..(من).. هنا لا تكون زائدة، فهي قد جاءت لتؤدي معنى.
فائدة ص 143.
في وصية لقمان مثلا نجده يقول له.. (واصبر على ما أصابك، أن ذلك من عزم الأمور).. فقط لا غير، إنما في آية أخرى في الصبر أيضا يقول: (ولمن صبر وغفر، إن ذلك لمن عزم الأمور). حرف لام، نجد أن اللام هنا وضعها مع (من) فإذا تساءلنا عن السر في هذا ومعناه التمسناه في أن المعنى مختلف، نعم صحيح أنه كلام في الصبر، لكن المصبور عليه هذا، أمره يختلف، فهناك مصيبة تصيب الانسان وله فيها غريم، ومصيبة تصيب الإنسان ولا غريم له، المرض الذي يصيبني، من غريمي في المرض الذي أصابني؟ لا أحد، إذن على من أصبر هناك؟ فالمسألة طبيعية، ولكن إذا لطمني انسان أو ضربني أو آذاني، فتكون مصيبة قد آذتنى ولى فيها غريم أمامى، فما دام الغريم أمامي فهذا يهيج خواطري فى أن أغضب وأن أرد، لكن المرض الذي أصابني ليس لي فيه غريم، فمع من سأعمل معركة؟ ولذلك - ونعود للآية.. (واصبر على ما أصابك) يكفى جدا (ان ذلك من عزم الأمور؛ لأنه لا يوجد غريم يحركني على أن أنتقم منه، لكن الآية الثانية تقول (ولمن صبر وغفر) كان لي غريم، فأحب أن يؤكدها، فقال (إن ذلك لمن عزم الأمور).
فائدة ص 144
نجد عرض القرآن أيضًا عندما يصوّر لنا هول يوم القيامة، فيقول: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) مع أن البعض يقول إن كلمة "مرضع" لا تأتي بالتاء لأن "مرضع" بطبيعتها تخص المرأة فقط، فلا تُستخدم للرجل. ولذلك يقولون إن الأمور الخاصة بالمرأة لا تأتي فيها بالتاء، فلا نقول: "رجل حامل" و"امرأة حاملة"، وإنما نقول: "امرأة حامل". لماذا؟ لأن هذا الوصف خاص بالمرأة، فلا حاجة للتاء فيه. وبما أن كلمة "مرضع" لا تُستخدم للرجل، فلماذا أُضيفت التاء هنا في قوله تعالى: "تذهل كل مرضعة"؟
الإجابة: يريد الله أن يصوّر لنا هول القيامة، وأن ذلك الهول يشغل الإنسان عن أعزّ ما يحب. "مرضع" هي المرأة التي من شأنها أن تُرضع، وإن لم تكن في ذلك الوقت ترضع طفلًا. أما "مرضعة" فهي المرأة التي تُلقم الثدي لفم الطفل في حالة الإرضاع الفعلية. وبالتالي، فإن ذهول المرأة يوم القيامة لا يكون عن رضيع من شأنه أن يرضع منها فقط، وإن كان قد شبع من الرضاعة ونام، بل هو ذهول عن الرضيع الذي يرضع منها بالفعل، أي أن الثدي في فمه وقتها. إذًا، كلمة "مرضعة" لا تكون إلا لحالة الإرضاع الفعلية، أما "مرضع" فتُقال للمرأة التي من شأنها أن تُرضع، وإن لم تكن في حالة الإرضاع في ذلك الوقت.
فالتعبير القرآني هنا جاء بـ"مرضعة" بدلًا من "مرضع" ليصوّر لنا هول الموقف بدقة، حيث يكون الذهول أبلغ وأشدّ عندما تكون الأم منشغلة عن طفلها أثناء الرضاعة. هذا أداء إيقاعي يعبّر عن المعنى الدقيق والسليم المطلوب.
الآية الكريمة التي تتحدث عن عذاب الكفار في الآخرة، فيقول الله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب). كنا نقرأها دون أن نعرف أين تقع منطقة الإحساس في الجسم. هل الإحساس في المخ أم في النخاع الشوكي؟ ثبت حديثًا أن الجلد هو الحاسة المهمة في الإنسان. فمثلًا، الأذن تستقبل 18 مؤثرًا فقط، وإذا زادت المؤثرات تختلط الأصوات ولا يمكن تمييزها، والعين لا تميز أكثر من 18 مرئيًا، وإذا زادت تختلط الصور. أما الجلد، فإن السنتيمتر الواحد منه يستقبل 800 مؤثر مختلف ويشعر بها.
إذًا، الجلد هو المركز الأساسي للإحساس في جسم الإنسان. والدليل أنه إذا أُحرق الجلد، يتوقف الإحساس بالألم. وهنا نجد روعة الأداء القرآني، حيث قال الله تعالى: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب"، ليبين لنا أن تبديل الجلد يهدف إلى استمرار الإحساس بالعذاب، لأن الإحساس متعلّق بالجلد. وهكذا، يتوافق النص القرآني مع الحقائق العلمية التي أثبتها العلم الحديث، مما يُظهر الإعجاز البياني والعلمي في القرآن الكريم.
فائدة ص 151
قال: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان)، وهذا هو سلطان العلم. فأقول له: ما دخل طلوع القمر هذا بالسماء؟ إن القمر ليس إلا ضاحية من ضواحي الأرض، فما القمر بالنسبة للسماء؟ أين بعد الشمس؟ إن القمر لا يبعد ثانيتين ضوئيتين، أما الشمس فتُماني دقائق ضوئية، وهناك كواكب أخرى بينها. وبيْنها ألف سنة ضوئية، وأخرى بيْنها وبيْنها مليون سنة ضوئية، فأين السماء؟ وأقطار السماء؟ من أين جاءت؟ فأنت في ضاحية الأرض في القمر، ثم إذا كان سلطان العلم كما يقال، فكيف يقول الله بعدها: (يُرسَلُ عليكما شُواظٌ من نارٍ ونُحاسٌ فلا تنتصران)؟
فما دام السلطان الذي جاء هو العلم، وسننْفُذ، فلماذا يقول: (يُرسَل عليكما شواظٌ من نارٍ ونُحاسٌ فلا تنتصران)؟ وهل أنا أتحدى فقط أم الجن أيضًا داخل في التحدي؟ لأنه يقول: (يا معشر الجن والإنس)، يُخاطب الاثنين. والجن بحسب القرآن، كانوا يقعدون من السماء مقاعد للسمع، فهم واصلون إلى مدى بعيد، ومع ذلك متحدين، إذا لا يصح أن نقول إن القرآن أشار إلى ذلك إذن فما معنى: (لا تنفُذون إلا بسلطان)؟
فنقول: (لا بسلطان) هذه آية لغرْض واحد - وهذا أيضًا أداء بياني - حتى لا يعمل مغزى في أي قضية من قضايا الدين، وحتى لا تتعارض قضايا الدين، القصد أسرى الله يعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعُرِج به إلى السماء، فلو أن (لا بسلطان) هذه لم تأتِ هنا لقال قائل: لا... محمد لم يُعرَج به إلى السماء.
لماذا؟ لأن الله يقول: (يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان)، وقد تحدى، لكن قول الله: (لا بسلطان)... أي بسلطان منه، فهو الذي يُخضِع القوانين، وهو الذي يُخرج محمد من هذا النطاق إلى السماء.
فإذاً (لا بسلطان) هذه آية حتى لا يُكذَّب محمد في أنه صعد إلى السماء. إن لم تكن هذه الآية، فقد كان من الممكن أن يقول إنسان: لا، إن القرآن يمنعه.
فائدة 159
أولا كلمة امرأة تعنى أن لها مقابلا وهو الرجل، امرأة تعنى ( أنثى ) ورجل يعنى (ذكر) لــــــــو نظرنا إليهما.. وجدنا أن هناك جنسا يجمعهما وهو انسان.. وحين أقول جنسا يجمعهما.. وهو انسان أقصد أن الجنس هو ما يمكن أن ينشأ منه نوعان، والنوع ينشأ منه أفراد متساوون، فأنــــا أقول انسان جنس لانه ينشأ منه نوعان وهما الذكر والأنثى، وبعد ذلك نجد أن الذكر يأتي منه زيد وعمر وعبيد، ولا اختلاف في تكوينهم الحقيقي.
واذا نظرنا الى جنس انقسم الى نوعين، فيجب أن نقول.. انه لم ينقسم إلى نوعين الا لأداء مهمتين، وإلا لو كانت المهمة واحدة، لظل الجنس واحدا، ولم ينقسم إلى نوعين، وانقسامه إلى نوعين دل على أن كل نوع له خصوصية في ذاته والجنس يجمعهما، ولهما معه خصوصية في ذاته. مثلا الزمن جنس.. يشمل الليل والنهار.. الليل والنهار كظاهرتين - وقد يظن البعض أنهما متعارضتان أو متناقضتان، لان هذا نور، وذلك ظلام، نقول، لا.. النور لم يأت ليعارض الظلام، والظلام لم يأت ليعارض النور، ولذلك لا يصح أن نقارن بين نور وبين ظلام، لأن لكل واحد منهما مهمة يؤديها لا يستطيع الآخر أن يؤديها، فما دام الزمن قد انقسم الى ليل ونهار، فنقول.. أن الزمن بجنسيته له معنى، وهو أنه ظرف لحدوث الأشياء فيه، هذا هو المعنى المشترك، وبعد ذلك انقسم الى نوعين وهذان النوعان، نهار وليل، فلابد أن يكون للنهار مهمة وأن تكون لليل مهمة أخرى. وحين يعرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية يعرضها عرضا واضحا معللا فيقول ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.. والنهار مبصرا). اذا فقد جاء بعلة وجود الليل، وهو السكن والهدوء والراحة إذا والاستقرار، والنهار للكدح والعمل.. فلا نستطيع أن نقول أن الدنيا كنهار دائم.. أو الزمن كنهار دائم ينفع، ولا الزمن كليل دائم ينفع يعرضها القرآن أيضا، فيقول.. (قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون، قل أرأيتم أن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة، من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون)، اذا فالحق من رحمته أنه جعل الزمن، الذى هو كجنس.. ظروفا لحدوث الأشياء فيه ينقسم الى نوعين، كل نوع يؤدى مهمة، فلو أردنا أن نشبه الليل بالنهار أو النهار بالليل، فنكون قد خرجنا بالنوعين عن المهمة الاصيلة لهما.
الرجل والمرأة بهذا الشكل، الرجل والمرأة نوعان لجنس هو الأنسان، فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل، ومن المرأة كامرأة، بحيث نستطيع أن نقول انهما كنوعين من الجنس، لهما مهمات مشتركة كجنس ومهمات مختلفة كنوعين، الحق سبحانه وتعالى. حينما عرض قضية الليل وقضية النهار - وهذه قضية كونية لا يختلف فيها أحد ولا يمكن لأحد أن يعارض فيها، الإ أننا جميعا نجعل الليل للسكن والراحة، والنهار للكدح - عرضها سبحانه وتعالى ليقدمها إيناساً للقضية التى يمكن أن يختلف فيها، وهي قضية الرجل والمرأة، فقال (والليل اذا يغشى والنهار إذا تجلى) هذان نوعان من الزمن. ثم أتى بالنوعين الآخرين اللذين يمكن أن يختلف فيهما فقال.. ( وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى) .. فكأن لليل مهمة والنهار مهمة، وكأنه تبعا لذلك - للرجل مهمة والمرأة لها مهمة، أى للذكر مهمة وللأنثى مهمة (إن سعيكم لشتى) ثم يأتى بعد ذلك، فى هذه القضية العامة فيقول : (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن ) .. لا يتمنى الرجل أن يكون امرأة ولا المرأة أن تكون رجلا، ولذلك فان الحديث يأتي صراحة فيقول (.. لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال) لماذا؟ لأنها خرجت عن النوعية المقصودة، كذلك كل أزواج الحياة. ومن هنا فالحق سبحانه وتعالى يقول ( ومن كل شيء خلقنا زوجين) .. ويقول سبحان الذي خلق الأزواج كلها) ..
ويقول: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) أي خلق من جنسها زوجها، (وبث منهما رجالا كثيراً ونساء)؛ إذن فعلة وجود الزوجية فى الإنسان، وفى النبات، وفى الحيوان، وفيما عرفنا من بعض الجمادات التكاثر.. التكاثر في هذه الأشياء، الأجل أن يحفظ النوع بكثرة أي بازدياد، إلا أننا نلاحظ أن التكاثر جاء في الأجناس وهى فى الأنسان والنبات والحيوان، كيما يكثر الكمية، لكن فى الجماد ظلت الكمية كما هي، قالوا.. لأن تكثير الإنسان وتكثير الحيوان وتكثير النبات، سيؤول في نهاية الأمر بعد مفارقة الحياة لهذه الأجناس، الى جمادية فى العناصر، فتكون كل هذه الزيادات الموجودة سترتد الى جماديات، فالإنسان بعد أن يموت، نجد أن الماء يذهب الى الماء، والعناصر المكونة للجسم وعددها ستة عشر سيذهب كل إلى عنصره، فيكون هذا زيادة في نفس الجماد، وحينما تناول الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، بين لنا.. أننا يجب أن نفهم أن لكل نوع من الجنس مهمة يؤديها، هذه المهمة التي يؤديها يجب أن يقف عندها، فإذا ما وقف عندها، أمكن لكل نوع أن يؤدي مهمته بدون تعارض، بل يتساند ويتعاون، والذي يفسد الأمر.. أن نوعا يريد أن يغير على حقوق نوع آخر، أو على واجبات نوع آخر، ومن هنا يحدث الفساد في نظام الكون.
فائدة ص 167
الأشياء. مثلا نجد أن القرآن يعرض لنا مثلا، وهذه المثل منها أنه يأتى لبلقيس - مع أن الأسلام لا يرى أن المرأة تملك ويعرض لنا قصتها ليعطينا أن المرأة لها أن تعقل، ولها أن تشير وتستشير، ويعطينا صورة من عقلها ورجحانها، ففي قصة سيدنا سليمان نجد أن سيدنا سليمان أرسل لبلقيس الكتاب، بعد أن جاء له الهدهد، فاستقبلته، ماذا كان موقفها قالت ) انه من سليمان، وانه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا على وأتوني مسلمين) .. وبعد ذلك قالت لهم (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون.. قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين) ۰۰۰ هذه مسالة سياسية وليست مسألة قوة فنحن جيش وقوى، وحينما تأمريننا بالحرب، نحارب، إنما أنت التي تقدرين ماذا نفعل؟ فهذا رأى سياسي، فماذا صنعت؟ قالت اننى سأرسل له بهدية، فان قبل الهدية، أعلم أنه طالب دنيا، اذن أمكن للمرأة أن تفكر التفكير السليم، الذي تعرف به طبيعة سليمان هذا، أهو ملك من جباري الدنيا، يريد الدنيا وزينتها ويريد خيرهم وما يملكون، أم له مهمة أخرى؟ فأرسلت الهدية.. فماذا كان موقف سليمان قال: (.. أتمدونن بمال، فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون) ..
فعلمت أنه إنسان لا يريد مالا ولا جاها فالمسألة اذن جادة، وبعد ذلك قالت سأذهب اليه لانه غير طالب دنيا ولا مال، وإنما هو رجل له منهج.
وعلى الناحية الأخرى قال سليمان لجلسائه: (يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وبعد ذلك جيء بالعرش ونصب.. الى آخره، فلما جاء العرش ونصب، ووجهت به بعد ذلك. ولننظر هنا الى عقلية المرأة، كيف استطاعت أن تقف الموقف الدقيق وتعبر التعبير الذي نقول عنه (التعبير الدبلوماسي) أن عرشها تركته في بلدها ولكن هناك مسألة غريبة في كونها تركت العرش، وبعد ذلك تأتى فتجد العرش، فلكي يفك العرش، ولكى يحمل المسافة التي قطعتها وحتى يصل فان هذا كله يحتاج الى وقت طويل وهي تركت العرش وجاءت، فماذا تقول؟ وأنت هنا لو جمعت كل رجال السياسة وجعلتهم يكتبون لها بيانا لا يؤخذ عليها، فماذا كانت تقول؟ (قالت كأنه هو). كلام لا يعرف به العرش إذا كان هو أم لا؟ كلام دبلوماسي حقا، اذن هذه صورة من صور عقلية المرأة
فائدة ص 172
نحن في قصة آدم نجد حينما نصح الله آدم وزوجه وحذرهما من الشيطان قال (إن هذا عدو لك ولزوجك).. والعداوة مسبقة لأنه امتنع عن السجود، (عدو لك ولزوجك، فلا يخرجنكما من الجنة).. أى إياكما أن يغويكم، ويدليكم بغرور فيكون أن يخرجكما من جنة الامتثال عند الله فتشقى) .. هذا الخطاب للاثنين، (إنه عدو لك ولزوجك، فلا يخرجنكما).. للاثنين، كان الأصول أسلوبيا.. أن يقول القرآن فتشقيا).. لكن القرآن عبر التعبير الموحى، التعبير الذى يعطى لكل واحد منهما مهمته فقال: (فتشقى) فجعل الترتب في الشقاء لآدم فقط، فكان آدم مخلوق، للكفاح، ولجهاد الحياة والمقابلة صعابها، والمرأة فقط مخلوقة سكنا له، يتحرك حركته في الحياة ويأتى ليهدأ عندها، ويأتي ليستقر، هي مصدر الحنان، وهى مصدر العطف الذي يمسح بيده على كل متاعبه فتزول، حين تمسح بيدها على كل متاعبه فتزول، يستطيع أن يستأنف الحياة بعد ذلك بشيء من النشاط. الحق حينما قال (لتسكنوا اليها) اذا فالمهمة الأساسية للمرأة.. أن يسكن إليها الرجل. كلمة يسكن إليها.. كلمة معبأة، معنى يسكن اليها، انه كان متحركا، خارجا عنها ويأتي ليستقر عندها، اذن فهى التى تعوض الرجل عن المتاعب التي يلقاها بحنانها وبعطفها وبرقتها، وبسهرها على راحته، وبعد ذلك تجيء المهمة الثانية (وجعل بينكم مودة ورحمة)..
وبعد ذلك جاء للبنين والحفدة.. (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) إذن فالمهمة الأساسية للمرأة.. أن يسكن إليها الرجل، ومعنى يسكن إليها الرجل، لو قدرت المرأة هذه المهمة، لوجدتها تستوعب كل وقتها، بمعنى أنه ساعة أن يعمل هو، تعمل هي وتعد له ما يأتى ليرتاح به، فيأتى ويجد بيتا ساكنا، بيتاً مستقرا، بيتا كل أموره مرتبة.. كل أموره فيه منظمة، فبعد أن كان متعبا. يرتاح، وبعد ذلك تكون وعاءً للتكاثر، تأتي بالبنين، وتأتي بالحفدة.
فائدة ص 176
قرأت أنا كتابا عن (أطفال بلا أسر) وجدوا أن جيلهم متخلف، لماذا؟ لان عشرين طفلا مثلا يتعاملون مع مربية واحدة ويتعامل مع الطفل أطفال فى سنة، لكن حين يكون الولد في مجتمع بين أمه، وبين أبيه، وبين جده وبين جدته، وبين أخواته المتفاوتين في الأعمار، يبدأ الولد الصغير يلتقط من كل جيل، ولذلك هذا هو السر في أن القرآن قال بنين وحفدة ).. وأنت تتصور الوليد الناشيء في بيت فيه جد وجدة وأب وأم، الجد والجدة، الذين فرغوا من شئون الحياة المادية، ومن التهافت عليها أصبحوا يقبلون على المثل وعلى القيم وعلى الوضوء والصلاة وسائر الفضائل، فيبدأ يلتقط من هذا الجيل الذى يعاشره، أما الأب فيبدأ يأخذ شيئا من نشاطه الى آخره، وأخوه الصغير يأخذ من مستواه أيضاً
فائدة ص 182
هناك ظروفا قد تضطر المرأة الى أن تعمل، لكن الاسلام يعرضها فى حدود الضرورة، وفى إطارها. هذا الإطار وضحته لنا قصة سيدنا موسى، لما ورد ماء مدين (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان).. تذودان أي تمنعان ما ترعيان عن الماء، إذن لأي شيء خرجتا؟ مع أن هذا مكان ورود الماء، وما دامتا تمنعان ما ترعيان عن السقى، فلماذا خرجتا؟ (قال ما خطبكما.. قالتا لا نستنى حتى يصدر الرعاء).. لا نسقى حتى يصدر الرعاء معناه، أن الفتاتين وقفتا بعيدا، حتى ينتهي الرجال من سقى ماشيتهم، وبعد ذلك يخلو البئر أو العين فيصلان الى هناك، اذا الفتاتان أخذتا الضرورة بالقدر، وليس معنى ان ضرورة أخرجتهما، أنهما يتناسيان نوعهما، فلابد أن يفهما أنهما لا يصح أن يحتكا بالنوع الآخر فظلتا في مكانهما إلى أن ينتهى الرجال، ثم عللتا سبب الخروج بأن هناك حاجة دفعت الى ذلك ) لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير).
فكأن (أبونا شيخ كبير) تبرير لخروجهما لهذا العمل، فكأن أحداً قال لهم ما دمتما خائفتين من الزحام أو التزاحم مع الرجال، فما الذي أخرجكما من بيتكما؟ فقالتا.. (أبونا شيخ كبير) إذن فالآية تحدد أن ضرورة قد تلجأ المرأة الى ان تخرج الى الخارج ولكن حين تخرج لا تنسى نوعيتها، فلا تنسى أنها امرأة ولا يصح أنها تدخل في زحام الرجال. وبعد ذلك جاءت لقطـــــة أخرى، وهي مهمة الرجل حينما يرى ذلك، أو مهمة المجتمع ممثلا في الرجل هنا.. (فسقى لهما).
ومعنى سقى لهما أنه أعانهما على أداء مهمتهما حتى يسرعا بالرجوع الى البيت، تلك مهمة المجتمع، حتى لو كان فردا شهما يرى المرأة مثلا وقد اضطرتها ظروفها أن تخرج لعمل من الأعمال، فشهامة الرجل تقتضي أن يؤدى عنها هذه المهمة لتنتهي، ولا يجعلها تضطر الى أن تزدحم مع الناس في الحياة (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ) . هذه اللقطة من القصة تدلنا على أن القرآن عرض هذه العرضة، ليدلنا على أن المرأة قد تضطرها ظروفها إلى أن تخرج، ولكن ظروفها التي اضطرتها الى أن تخرج، يجب ألا تخرجها عن نوعيتها بحيث تحتسب نفسها رجلا، بل تأخذها بقدرها ما أمكن الى أن ينتهى الرجال من السقى كما فى القصة وتؤدي مهمتها، وبعد ذلك جاءت بالعلة ( وأبونا شيخ كبير) وبعد ذلك جاءت بالمجتمع، سواء كان مجتمعا قريبا أو بعيدا مجتمع أسرة أو فرد، فأنا مثلا حين أكون في أسرة وأجد أن المرأة خرجت لتعمل، فان كانت لدى الشهامة وأنا أعتبر أن هذه من لحمي ومن دمي، فأنا أغار على هذا، وأرى أى مصلحة لها تمنعها من الخروج، فإذا لم تجد، فلا مانع من أن تذهب ولكن على أن تأخذ الضرورة بقدرها، وألا تتزيد فيها، وهنا فإنها ساعة أن تخرج، فصحيح منعت. من الازدحام، لكن فى خروجها يلزمنا الشارع بشيء آخر، هذا الشيء الآخر هو أنها تكون على هيئة غير مثيرة.
فائدة ص 85
قال تعالى: (.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. ) إذاً (إن من شيء) أى كل شيء في الوجود مسبح، ولكننا ألفنا التسبيح بألفاظ، وألفنا التسبيح بلغة، فلما لم نسمع من الكون ألفاظا، ولما لم نسمع من الكون لغة، قال بعض العلماء.. أنه تسبيح الدلالة على وجود الله، وعلى وحدانيته، نقول لهم مرحبا، له أيضا تسبيح الدلالة، ولكن ذلك لا يمنع من التسبيح الحقيقي، لأنه إن كان تسبيح دلالة كما تقولون، فالحق قال.. (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وأنتم قد فقهتموه، إذاً فهو غيره، والذي يدل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى عرض من أجناس الوجود أشياء، وجعلها تشترك أيضا مع الإنسان فيقول في شأن داود (.. يا جبال أوبى معه..)، ومعنى أوبى.. رجعي تسبيح الله، أى يجب أن يوافق ترجيعك ياجبال ترجيع داود.. (وسخرنا مع داود الجبـــــــال يسبحن) والجبال مسبحة مع داود، ومع غير داود، ولكن الأمر.. أن يتفق تسبيح الجبال مع تسبيح داود ليكون كأنه عرس توحيدي في الكون، وأيضا الحق سبحانه وتعالى يعرض لنا.. أن لجميع الأجناس منطقا، ولها لغة، جهلنا بها.. هو الذي جعلنا لا نفقهها، فإذا علم الله انسانا من خلقه لغة هذه الأشياء، أمكنه أن يفقه تسيحها، وأن يفقه منطقها، اقرأوا إن شئتم قول الله (.. قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) قالت.. وسمعها سليمان، وحمد الله على أن أنعم عليه بأن فهم لغة النملة، قد يقال إن تلك أمور تعلمتها النملة، لتحافظ على نوعها، بدليل ( لا يحطمنكم سليمان وجنوده) فهي تحافظ على بقاء النوع، نقول له.. لا، حينما عرض الحق أيضا، قصة هدهد سليمان، فماذا قال الهدهد، لقد قال (.. وجئتك من سبأ.. بنبأ يقين، أني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم) .. هذا كلام الخبر، ولكن الذي يهمنا فى قضية العقيدة والتوحيد، وأنها أمر سائر فى كل أجناس الكون، أن يقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) هذا ما حز في نفس الهدهد.. أن يسجدوا للشمس من دون الله، إذا فالهدهد يعرف من يجب أن يسبح.. من يجب أن يسجد له (ألا يسجدوا لله، الذي يخرج الخبء في السموات والأرض..)
فائدة ص 89
(.. ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل کیدهم فى تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) وقعت ورسول الله لم ير وقتها، ولكنه علم بالقضية من الله، هنا نلتفت لفته هامة، هذه اللفتة، هي لماذا عبر الله بـ.. ألم تر.. في مقام «ألم تعلم»؟ لأن العلم اذا كان بواسطة الإخبار من الله، فيجب أن يستقبله المؤمن بالله، استقباله لما يرى، ولما يحدث، فليس خبرا عن غيب، فكأن ما يقوله الحق في (ألم تر).. أى ألم تعلم.. وكأن الحق يقول : إنني أقول لك، واذا قلت لك، فأنا عينك، وكأنك ترى ذلك، ويقول الحق.... ألم تر كيف فعل ربك... ومعنى الاضافة هنا، تدل على أن المسألة متعلقة بمحمد صلى الله وسلم، فعل ربك، والرب، تفيد التربية، والكمال والبلوغ بالمربى الى مرتبة الكمال، فما دام فعل ربك، فيكون لمحمد صلى الله عليه وسلم علاقة بالمحافظة على ذلك البيت. وبعد ذلك حين عرض القضية، عرضها العرض الذي تعلمه حيث أرسل عليهم طيرا أبابيل (ترميهم بحجارة من سجيل).. هنا وقف بعض العلماء وقفة.
فائدة ص 98
حينما تكلم القرآن عن قوم فرعون، وأن الله أخرجهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين.. كذلك وأورثناها قوما آخرين يقول الحق (.. فما بكت عليهم السماء والأرض) فما بكت؟ كأن السماء تبكى؟ نعم، هذا البكاء فرع العاطفة، وما دامت السماء والأرض تبكي، أفيكون عندها عاطفة؟ لماذا تبكى السماء والأرض؟ ولماذا لا تبكى على قوم فرعون؟ لأنهم قوم كانوا غير منسجمين معها فى قضية الخضوع للحق، فلذلك لم تبك عليهم، فاذا جئنا بالنقيض أو المقابل، لوجدنا القوم الذين على ضد مسلك قوم فرعون، إذا ماتوا أو ذهبوا، تبكى عليهم السموات والارض، اذا فما بكت عليهم السماء، كأنها تبكى على قوم، نعم، ولذلك لما سئل الإمام على عن هذا، قال (..مات المؤمن، بكى عليه موضعان، موضع في الأرض وموضع فى السماء، أما موضعه في الأرض، فموضع مصلاه، لأنه فقد الذاكر، فقد المسبح، فقد المنسجم معه في الخضوع لربه، لم يعد يسمع ذلك منه، فكيف لا يبكى، وبكى عليه موضع من السماء أيضا، وهو عمله الطيب، فلم يعد ذلك المصعد يستقبل مصعد عملا طيبا، فكأن للأرض والجماد احساسا بالعابد، ولذلك قديما.. كنا نسمع فى اللغة.. فلان نبا به المكان، نبا ۰۰ به المكان.. أى كره إقامته فيه، لماذا كره إقامته فيه؟ لأنه غير منسجم التصرف مع الوجود كله، فهو يكرهه، والمكان الذي يكره، فإذا كان المكان منسجما معه، فلا ينبو.. به، بل يفرح به ویؤنسه، إذاً فما دامت السموات والأرض لها العواطف التى تبكي، ولا تبكي، إذن فلا نستبعد أبداً أن يكون الوجود قد استقبل ميلاده صلى الله عليه وسلم بفرحة، بفرحة ابتهاج يعيد الإنسان إلى انسجامه مع ذلك الكون.
فائدة ص 105
معنى الوحي، إعلام بخفاء، أي بطريقة مستورة إعلام (بخفاء).. أى ليس بوضوح، هذا الوحى يأخذ معانى متعددة، يأتى الوحى من الله لكل أجناس الكون.. ( يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها) ۰۰ أوحى للأرض، ثم أوحى للنبات، وأوحى للحيوان.. ( وأوحى ربك الى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) .. وأوحى الله إلى الملائكة.. (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) وأوحى الله إلى الرسل والأنبياء، وأوحى الله إلى بعض الصالحين.. (واذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) .. اذا مره يطلق الوحي، فيراد به الإعلام بخفاء، من أي معلم، الأن الشياطين أيضا لهم وحى.. (وان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم ) لكن إذا أطلقت كلمة الوحي - انصرفت الى الوحى من الله إلى الرسول وكل أنواع الوحي الأخرى انتهت، والوحي من الله الى الرسول، يحدده الحق سبحانه وتعالى في ثلاث وسائل، الوسيلة الأولى، أن يقذف في قبله المعنى الدقيق في خاطره، الوسيلة الثانية أن يكلمه من وراء حجاب، الوسيلة الثالثة، أن يرسل رسوله وهو جبريل فيوحي بإذنه ما يشاء، (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا.. ) إلهاماً يقذفه في القلب (أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا، فيوحي بإذنه ما يشاء) الرسول صلى الله عليه وسلم أوحى إليه بهذه الطرق الثلاث، أوحى إليه بأن قذف في روعه، هذا هو الأول، وأوحى إليه بأن الله كلمه حينما فرض عليه الصلاة، وأوحى إليه بواسطة الملك يرسله له. إلا أن القرآن لم يثبت إلا بالطريق الأخير، الذي هو عن طريق الملك، لماذا، لأن القذف في المروع، قد يتهم الانسان معه بأنه خاطر بشري وإذا كان كلاما من وراء حجاب، فربما يقال ان شيئاً تمثل له، إنما حين يأتي ملك رسول ويختلط بالبشر، ويحدث فى تكوينه صلى الله عليه وسلم انفعال کیماوی خاص، بحيث يرتعد، ويرتعش، ويثقل بحيث إذا كان على دابة بركت به مثلا فهذه ظاهره كيماوية في نفسه، فإذا جاءت هذه الظاهرة بذلك الشكل، فلاشك أنه أمر غير عادي، فكان الوحى على رسول الله بهذه المثابة، فإذا كان الوحى التقاء ملك - والملك له طبيعة - ببشر - والبشر له طبيعة - وما دامت الطبيعة النورانية الملكية ستلتقي بالبشرية، فلا مناص من أمرين، أما أن تتحول الملكية إلى بشرية، وتبقى البشرية على حالها، وذلك ما كان يحدث، حين يتشكل جبريل بصورة إنسان، فيأتي فيسأل رسول الله، فيجيبه وبعد ذلك يقول.. هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمور دينكم، وفي ذلك ليس هناك إجهاد على رسول الله، لأن رسول الله في بشريته العادية، وفى انسجامه التكويني والكيماوى، وأما أن يحدث.. بأن ينتقل الرسول من بشريته الى ملكية تستقبل عن الملك.
هذا التفاعل الذي يحدث، تكون له آثار عضوية في نفسه.. وإن جبينه ليتفصد عرقا في الليلة شديدة البرد. إذاً فالعملية كيماوية في نفسه، ويسمع صلصلة الجرس إيذاناً بالوحي، ويسمع أصحابه حول رأسه، دويا كدوى النحل، ويرتعش، اذا هذا التفاعل، بدل على أن محمدا يعالج انفصالا من البشرية، حتى يستطيع أن تكون فيه روحانية، أهل للتلقى عن الملك، فإذا ما انفصل عنه الملك، عاد إلى بشريته، إنما عاد مجهدا بدليل أنه قال.. (زملوني.. دثرونى) ويقول حين وصف صلى الله عليه وسلم لقاءه الأول مع جبريل عليه الصلاة السلام (غطنى حتى بلغ منى الجهد)
إذن فهذه عملية كان من الصعب جدا على مادية رسول الله، وعلى بشريته أن يستقبل الملك بهذه الصورة، الصورة الاندماجية التي تحدث بأن يكون التحول فى كيماوية رسول الله وبشريته ليلتقي بالملك، ثم يفصم الملك عنه فيعود، فتكون عمليــة مقلقة.. متعبة. ولكن الإنسان منا حين يتعب في أمر من الأمور، ويرتاح بعد التعب، وتبقى له لذة ما ظفر به وقت التعب، فان نفسه تحدثه بأنه، ياليت هذا التعب يأتي مرة ثانية، فتهون عليه المشقات، اذا فالشوق فى ناحية المستقبل، هو الذي يعينه على أن يفتر الوحي عن رسول الله. تحمل صعاب الخطوة ناحية الاستقبال، فكان ولابد لتبقى حلاوة الوحى.
ولتزول متاعب الوحي.. فيتشوق رسول الله إلى الوحي من جديد، وحين يتشوق رسول الله، فان هذا الشوق يعطيه طاقة جديدة في استقبال هذا المرتقب، فإذا ما استقبل هذا التعب بعد ذلك، لم نجد الصورة التى ذكروها، لم نجد الالم، لم نجده بعد كل وحى يقول ( ۰۰ زملوني، ولا دثروني.. ) لماذا؟ لانه اشتاق بطبيعته الى أن يأتى ذلك الوحى.
طبيعة هذا الشوق، تجعله يتغلب، وينسى متاعبه المادية، إذا فرسول الله عليه الصلاة والسلام حين فتر عنه الوحي، إنما كان ليرفع الله عنه ما أتعبه من المادية التي كانت تتحول فتعد لتتلقى عن الملك. فحينما يهدأ ويسكن وتبقى حلاوة الوحي في نفسه.
فانه يصبح هو نفسه الذي يشتاق إلى الوحي، وإذا ما اشتاق الى الوحى، أصبحت عنده طاقة، وهذه الطاقة تجعله لا يعترف بأى متاعب، ومادام لا يعترف تاعب، فهو يستقبل الشيء استقبال المشوق.
فائدة ص 111
قوله تعالى: (والضحى، والليل إذا سجى ). حين يقسم الحق بالضحى والليل إذا سجى، فقد أقسم بمتقابلين، ضحوة وليل، والضحوة محل الكدح، كدح العمل والتعب والنصب، والليل مكان السكون والراحة، فكأن الحق يلفت الى قضية وجودية، هذه القضية الوجودية، هي أننا في الأحوال العادية نتعب نهارا فى ضحانا، ويأتي الليل فنحتاج الى أن نسكن، والى أن نرتاح، اذا فالسكون هو الراحة من كل أمر مجهد.. أمر طبيعي، وليس مجيء الليل بعد الضحى معناه، أن الضحى لا يأتي، ولكن معناه.. أننا نهدأ، ونسكن لنستقبل ضحى الغد بنشاط، لنستقبله بحيوية، فيقول.. الآية الكونية موجودة، ( والضحى، والليل إذا سجى ما ودعك ربك، وما قلى.. ) وتجد هنا العبارة المنبئة بجمال الأداء فى الأسلوب من الله لمحمد (.. ما ودعك) تجد هنا الضمير يعود على محمد.. فعل. (ما ودعك..) الأن التوديع قد يكون للحبيب، ودعت حبيبك وسافر، ولكن القلى لا يكون إلا لعدو، فلما جاء - ولو مع النفي - قال «ما ودعك» ولم يقل، وما قلاك.. بل : «وما قلى» فقط، ولم يقل (قلاك)، بالكاف، حتى مع النفس، فكأنه مع التوديع، جاء بالضمير، ومع القلى لم يأت بالضمير ـ فكأنه يقول: .. يا من تقولون، أن رب محمد قد قلاه أنتم مخطئون، لأنكم لم تلتفتوا إلى مظاهر الكون فمظاهر الكون. ضحى فيه عمل، ضحى فيه إجهاد. وليل فيه سكون. ففترة الوحى سكون، يهدأ بعده صلى الله عليه وسلم من مشاق ومتاعب الوحي، حتى يستأنف نشاطه من جديد، ولذلك سيقول له (وللآخرة خير لك من الأولى..) وتظنون أن الآخرة هى الدار الآخرة، لكن.. المرة الأخيرة فى الوحى (خير لك من الأولى). لانها هى التى ستطول، وستمتد الى أن يكمل الله لك هذه الرسالة. وبعد ذلك تجد العجب فى هذه السورة، أنها جاءت على طريقة العرب.. بما لم يأت به العرب، الآية فيها قسم وهو : (.. والضحى، والليل، إذا سجى.. )
فائدة ص 47
الحق سبحانه وتعالى يقول (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) لو أخذنا.. فهديناهم» على المعنى العام، نجد أن الله تعالى يقول بعدها مباشرة ( فاستحبوا العمى على الهدى (فكلمة هديناهم هنا ليست بمعنى حملناهم
على أن يكونوا مهديين ولكن هديناهم هنا.. أى دللناهم على الطريق الموصل للخير، فهل استمعوا أم لم يستمعوا؟ لم يستمعوا، إذا فوردت الهداية في القرآن بمعنى الدلالة على الطريق الموصل للخير ووردت أيضا بمعنى آخر وهو التمكين من فعل الخير والمعونة على فعل الخير. كيف هذا؟ نقول منلا.. ولله المثل الأعلى، أنا أمضى فى الطريق، وأريد أن أذهب الى رأس البر مثلا وأنا لا أعرف الطريق الموصل اليها، فجاء جندى المرور وقال لي (هذا هو الطريق المؤدي الى رأس البر، فدلني على الطريق بكلامه. إذن أنا انصعت له وشكرته، وبعد ذلك اتجهت الأسير فيه فأجده يقول لي (اسمع، هذا الطريق فيه عقبة فى مكان كذا ويصح أن تعمل كدا حتى تنتهى منه) أى يرشدني الى شيء في الطريق، والثانية أنه قد يطلب منى أن يذهب معى حتى يخلصني من هذه العقبة، فإذن هناك هدايتان، هداية دلت على الطريق فقط، وهداية أعانت على أن تسلك الطريق، أعان جندى المرور من الذى انصاع له وآمن بمشورته فى أن الطريق هو هنا.
أما الذي لا يأتمر بأمره.. ويقول له (لا أنت لا تعرف الطريق، وماذا عرفت أنت عن الطريق : فالطريق ليس هناك، أيمكن لجندى المرور أن يعينه عملا بأن يسير معه الى أن يدله؟ بالطبع لا. كذلك ولله المثل الأعلى - الهداية بالنسبة لله، الله يهدى الجميع مؤمنا وكافرا، يهدى.. بمعنى يدل الجميع على طريق الخير، وبعد ذلك فالذي يؤمن به الها ويستمع إليه بعد ذلك، يعينه ويسهل عليه المهمة، ولذلك الاستاذ احمد قال ربنا يعينه، والمعونة لا تتأتى إلا من مقبل على عمل وبعد ذلك تعينه، أما غير مقبل على عمل فكيف تكون المعونة؟ فالمعونة لا تأتي لشخص لا يعمل، ثم تجعله يعمل.. لا، ولكن المعونة أن تجد واحدا مقبلا على عمل، وبعد ذلك تعينه أنت على العمل وأمكنك منه وأريك حلاوته، إذا فالحق حينما يقول وأما ثمود فهديناهم) أي دللناهم (فاستحبوا العمى على الهدى) أى أنهم قالوا : لا.. نحن غير مؤمنين بأن هناك ربا، وليس هناك من توجيه، فاذا كانوا غير مؤمنين بأن هناك ربا وبأن منه التوجيه فكيف يمكنهم من الهداية؟.. لا يمكنهم.. وإنما يمكن من أقبل مؤمنا به ومن سمع له وكأنه يقول له: آمنت بي وصدقت منهجي، وأقبلت بنفسك على؟ إذا فأعينك على ذلك الأمر، فإذا رأيت آية مطلقة في قوله (يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) فلابد أن نحمل المطلق فى القرآن على مقيده، نقول له هات آيات القرآن في الهداية كلها تجد هنا يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) .. على الكل عامة.. وفي آية أخرى يقول (والله لا يهدى القوم الكافرين) کافرين به، فكيف يعينهم على التقوى، لا يمكن، والله لا يهدى القوم الفاسقين» و (والله لا يهدى القوم الظالمين).... (إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) .. إذاً فهداية الله بمعنى تذليل العقبات والحمل على طريق الخير لمن؟ لمن أستمع له وآمن به وأقبل على منهجه، فالمعونة تأتي من الله لصاحب ذلك، وأما الذى لا يؤمن بالله ولا يستمع منه ولا يقبل على منهجه فكيف يعينه الله؟ لا يمكن أن يعينه الله فإذا رأيت آيات فى القرآن مطلقة، وآيات مقيدة، فاحمل المطلق دائما على المقيد، وقل (يهدى من يشاء) نعم صحيح. ولكن من هم.. والذين يشاؤهم؟ فأما الذى كفر به فلا يعينه على الهداية فهو قد هدى الجميع بمعنى دلهم لكن المعونة منه لا تكون الا لمن آمن به واقتنع بالمنهج عنه، فإذا آمن به واقتنع بالمنهج عنه تكون معونة الله سبحانه وتعالى له.