إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء
الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذا الكتاب هو جزء من كتاب "الحاوي للفتاوي" للإمام السيوطي، ويقع في "الجزء الثاني" من الفتاوى الأصولية الدينية، وبالتحديد في مبحث النبوات، وقد أراد الإمام السيوطي في هذا الكتاب إثبات حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها حياة حقيقة مماثلة لحياة الناس في الدُّنيا، وقد أفاض السيوطي رحمه الله -في تأييد ما ذهب إليه بالآثار المنقطعة والواهية والضعيفة، حتى أنه أورد بعض كلام أهل البدع والمتصوفة، الذين يُثبتون لأنفسهم رؤيا الأنبياء في قبورهم كما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم موسى في قبره ليلة أسري به، ومن أعحب ما قاله: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتردد في أقطار الأرض ليُحلَّ البركة فيها، وأنه يحضر جنازة من مات من صالح أمته!. قال: فإن هذه الأمور من جملة أشغاله"!! وهذا من أعظم الباطل.
وفي المقابل نجده يتوسع في الحديث عن هذه المسألة في كتابه "تنوير الحلك"، وأثبت إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبته وسماع كلامه وهو في قبره، وحاول أن يُدلِّل على دعواه باستدلالات واهية، وحكايات منامية باطلة، إلا أن أهم دليلٍ تشبث به لاثبات هذا الأمر: الحديث الذي أورده بلفظ: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وينقل ذلك عن عددٍ من الأشاعرة؛ كالبيهقي، والقرطبي، والبارزي، وعبد القاهر البغدادي، والفاكهاني، وعفيف الدين اليافعي وحاصل كلامهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد صار حياً بعد وفاته وهو على نبوته.
ولعلَّ أعدل الأقوال وأقربها إلى الحق هو ما ذكره التقيّ السُّبكي، وهو قوله: ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وأما الإدراكات كالعلم والسماع؛ فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى"، ولكن السماع مختصٌّ بمن يُسلم عليهم، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الثابت: "ما مِن رَجُلٍ يمر بقبرِ الرَّجُلِ كان يعرِفُهُ في الدُّنيا فيُسلِّمُ عليهِ إلا ردَّ اللَّهُ عليهِ رُوحَهُ حتّى يرُدَّ عليهِ السَّلامَ"، ولا شكَّ أن الميت يُدرك السلام، ويردُّه.
وقد جعل الإمام السيوطي كتابه هذا على قسمين:
القسم الأول: قصد منه إثبات حياة الأنبياء في قبورهم من خلال الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وهي إما صحيحة لا تؤدي المعنى الذي أراده، أو ضعيفةٌ تحتمل المعنى الذي قصده، ولا دلالة فيها بوجهٍ من الوجوه.
القسم الثاني: قصد فيه الجواب على حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي)، ، وذلك التزاماً لما قال به الأشاعرة أن الروح إذا فارقت البدن فنيت، وأن إعادتها يلزم منه خلق روحٍ جديدة فيه، وفصَّل فيه القول من خمسة عشر وجهاً، وأقواها ما كان مجازاً، ولا يُلجأ للمجاز إلا عند تعذر الحقيقة، والحقيقة ممكنة، بل ثابتة بالنص، وقد بيَّنت ضعفها في التعليق عليها، كذلك فإن كثرة الأجوبة عن الحديث الواحد يدلُّ على الاضطراب في تأويله، والحمل على الظاهر أولى من التكلف في الرد.
الجواب على من يستدل بحياة الشهداء على حياة الأنبياء
ويجعل حياتهم البرزخية مماثلة لحياتهم الدنيوية
وأعظم ما يستدلُّ به القائلين بحياة الأنبياء بعد موتهم، هو قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} /البقرة: 154/، ومعلومٌ أن الأنبياء أعظم من الشهداء، ولذلك كانوا أحقَّ بالحياة منهم.
وقد صرَّح بذلك السيوطيُّ في كتابه "هذا": وقد قال تعالى في الشهداء (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). قال: والأنبياء أولى بذلك فهم أجل وأعظم وما نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة فيدخلون في عموم لفظ الآية، وقال بعد أن سرد جملةً من الآثار: فهذه الأخبار دالة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء.
كذلك استدلوا بأن عقد نكاحه صلى الله عليه وسلم على زوجاته بقي على ما كان عليه ولم ينفسخ وأنهن بقين في عصمته، ولذلك لم يحل نكاحنَّ لغيره، بالإضافة إلى نصوص أخرى ذكرها البيهقيُّ في كتابه "حياة الأنبياء".
وقد ذكر الإمام ابن القيم هاتين الحجتين بقوله في "نونيته المشهورة":
فإن احتججتم بالشهيد بأنه ... حيّ كما قد جاء في القرآن
والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيان
فلذاك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والبرهان
وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيان
ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمان
أفليس في هذا دليل أنه ... حيّ لمن كانت له أذنان
ويردُّ على احتجاجهم بهذين الدليلين بما يلي:
أما الدليل الأول: فهو دليلٌ عليهم لا لهم؛ لأن حياة الشهداء ثابتةٌ بالنص، وليس ثبوتها بالقياس المستوفي لأركانه، كما ورد النهي الصريح في القرآن عن تسمية الشهيد ميتاً، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} /البقرة: 154/، وكما في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} /آل عمران: 169/ ومع ذلك لم تقتض هذه الحياة شيئاً مما جعلتموه دليلاً على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره، فإن نساء الشهيد يجوز نكاهن بعد موته، وماله مقسوم بين ورثته، ولحمه تأكله الأرض وسباع الوحش والطير والديدان، ومع ذلك فهو حيٌّ كما أخبر الله، فرح مستبشرٌ بكرامة الله ورضوانه، فدل ذلك على أن حياة الشهداء التي نصَّ عليها القرآن ليست تلك الحياة الجسدية في القبر، ولكنها حياة لأرواحهم عند الله كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها (أي أرواحهم) تُجعل في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها، فهم بذلك فرحين مستبشرين بكرامة الله كما في قوله: { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} /آل عمران: 170/ ولا شك أن الرسل أولى بتلك الحياة عند الله مع موت جسومهم، وهي طرية في التراب، وقد حرَّم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وهذه مزية عظيمة للأنبياء، مع أن بعض أتباع الأنبياء منَّ الله عليهم بهذه الخصيصة أيضاً، وقد شوهد ذلك عياناً.
وقد أجمل الإمام ابن القيم هذه الإجابة على هذا الاستدلال،بقوله:
فيقال أصل دليلكم في ذاك ... حجتنا عليكم وهي ذات بيان
إن الشهيد حياته منصوصة ... لا بالقياس القائم الأركان
هذا مع النهي المؤكد أننا ... ندعوه ميتاً ذاك في القرآن
ونساؤه حل لنا من بعده ... والمال مقسوم على السهمان
هذا وأن الأرض تأكل لحمه ... وسباعها مع أمة الديدان
لكنه مع ذلك حيّ فارح ... مستبشر بكرامة الرحمن
فالرسل أولى بالحياة لديه مع ... موت الجسوم وهذه الأبدان
وهي الطرية في التراب وأكلها ... فهو الحرام عليه بالبرهان
ولبعض أتباع الرسول يكون ذا ... أيضا وقد وجدوه رأي عيان
أما الدليل الثاني: فليس فيه دليلٌ أيضاً على حياته في قبره؛ لأن تلك المنقبة لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي خصوصية اختصهنَّ الله بها، حيث إن نساءه صلى الله عليه وسلم لم ينفسخ نكاحهن منه، فيبقين محرمات على غيره، لأن الله سبحانه خيرهن بين رسوله وبين من سواه، فاخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوة إيمانهن، فشكر الله لهن هذا الاختيار وقصر رسوله عليهن، بقوله: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} /الأحزاب: 52/، رحمةً منه بهن، وشكراً لهن، وكذلك قصرهن عليه، فهن زوجاته في الدنيا والآخرة، ولذلك حُرمن من بعده على من سواه، ومع ذلك جرى عليهم من العدة الشرعة ما يجري على النساء المتوفى عنهن أزواجهن.
ويُجمل ابن القيم هذا الرد بقوله:
لكن رسول الله خص نساؤه ... بخصيصة عن سائر النسوان
خيرن بين رسوله وسواه ... فاخترن الرسول لصحة الإيمان
شكر الإله لهن ذلك وربنا ... سبحانه للعبد ذو شكران
قصر الرسول على أولئك رحمة ... منه بهن وشكر ذي الإحسان
وكذاك أيضا قصرهن عليه ... معـلوم بلا شك ولا حسبان
زوجاته في هذه الدنيا وفي ... الأخـرى يقينا واضح البرهان
فلذا حرمن على سواه بعده ... إذ ذاك صونا عن فراش ثان
لكن أتين بعدة شرعية ... فيها الحداد وملزم الأوطان
يقول الإمام السيوطي في هذا الكتاب: "قد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)؛ فظاهره مفارقة الروح في بعض الأوقات، فكيف الجمع ؟ وهو سؤال حسن يحتاج إلى النظر والتأمل.
ثُمَّ قال في الجواب: "حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا علماً قطعياً؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت الأخبار. وقد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء في قبورهم"، وسرد السيوطي الأدلة التي ساقها الإمام البيهقي في كتابه المذكور، وقد وفَّينا الحديث عليها عند كلامنا على كتاب "البيهقي" فانظره.
ولا شكَّ أن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنها حياةٌ برزخية خاصة، لا تماثل حياتهم في الدُّنيا، وهي أكمل من حياة الشهداء، خلاف ما ادَّعاه البيهقي رحمه الله،
ذكر الأحاديث التي تفرد السيوطيُّ بذكرها دون الإمام البيهقي
في هذه المسألة والجواب عنها
(1) أخرج أبو نعيم في "الحلية" عن يوسف بن عطية قال: سمعت ثابتاً البناني، يقول لحميد الطويل: هل بلغك أن أحداً يصلي في قبره إلا الأنبياء؟ قال: لا.
وزاد أبو نعيم -وأغفله السيوطي -قال ثابت: "اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لثابت أن يصلي في قبره"، وعند البيهقي في "الشعب": قال: وسمعت ثابتا، يقول: " اللهم إن كنت أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي".
وهذا الإسناد ضعيفٌ جداً، فيه يوسف بن عطية بن باب الصفار، قال البخاري: منكر الحديث، وذكره أبو زرعة الرازي في "أسامي الضعفاء"، وقال أبو داود: ليس بشيءٍ، وقال النسائي: متروكُ الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: متروك.
ويُعارضه الحديث الذي أخرجه ابن جرير في "مسند عمر"، وابن حبان في "صحيحه"، بإسنادٍ صحيح، عن أبي هريرة مرفوعاً: أن الملكين حينما يأتيان المؤمن، ويقالُ له اجلسْ فيجلسُ قدْ مُثِّلَتْ له الشمسُ قد دنت للغروبِ فيقالُ له أخبرْنا عما نسألُكَ فيقولُ دَعوني حتى أُصَلِّيَ فيقالُ له إنكَ ستفعلُ". وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمن يُصلي في قبره.
(2) وأخرج أبو يعلي، من طريق أبي صخر حميد بن زياد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم ثم لئن قام على قبري؛ فقال: يا محمد، لأجيبنه).
قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "الصحيحة": إسناده جيد -يعني بمجموع الطرق، وأبو صخر مختلفٌ فيه؛ فقد ضعفه ابن معين والنسائي، وأحمد في رواية، وقد وثقه الدارقطني، وقال فيه أحمد في رواية أخرى: ليس به بأس، وقد ورد بلفظ آخر عند الحاكم: من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن عطاء "مولى أم صبية"، عن أبي هريرة: (وليأتين قبري فليسلمن علي ولأردنَّ عليه)، وعطاء مولى أم صبية قال فيه الذهبي في "الميزان": لا يُعرف، ومحمد بن إسحاق مُدلِّس لا تُقبل عنعنته كما هنا. وعند ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وأيضاً: فسعيد المقبري رمي بالاختلاط في آخر عمره ، وقيل : إن أثبت الناس فيه الليث بن سعد –كما في ميزان الاعتدال"، وقد رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه اللفظ محل الإشكال كما عند مسلم في "الصحيح". وذكر الحافظ ابن عساكر رواية الليث بن سعد هذه في تاريخ دمشق، وقال: "وهذا هو المحفوظ" وهذا فيما يظهر إشارة من الحافظ بن عساكر رحمه الله، إلى تضعيف هذه الألفاظ، وأنها ألفاظ شاذة غير محفوظة.
ثم ذكر ابن عساكر الألفاظ الأخرى التي رواها محمد بن إسحاق، وأبو صخر ، وهي محل الإشكال، وخلاصة القول: أن اللفظ المقطوع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الجملة محل الإشكال، وثبوت الجملة محل الإشكال غير مقطوع به.
وعلى القول بصحة الحديث؛ فإن ظاهر النداء هو السَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل الرواية الأخرى (فليسلمنَّ عليَّ)، وتكون إحدى الروايتين مُبينة للمراد من الرواية الأخرى، وبالتالي يزول الإشكال بالكلية؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم سلام من يسلم عليه: ثابت في حق غير عيسى عليه السلام، وغيره ولا إشكال فيه: كما ورد في حديث أبي داود الصحيح: (ما مِن أحَدٍ يُسلِّمُ علَيَّ إلّا ردَّ اللهُ علَيَّ رُوحي حتّى أرُدَّ عليه السَّلامَ) وتقتضي الروايات السابقة مع هذا الحديث سماع عيسى بعليه السلام إجابة نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا الأمر معجزةً لنبينا صلى الله عليه وسلم الذي أخبر بوقوع ذلك بعد وفاته، وهو خصيصةً لعيسى عليه السلام حيثُ يُسمعه الله عز وجل جواب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو كان هناك إذن من الله بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لوقع ذلك؛ وحيث لم يقع ذلك فيثبت الاختصاص.
وهذا الحديث فيه ردٌّ على من جعلوا سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجابته عامةً لكل البشر. ولو شاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم لقال ذلك، ولكن لم يثبت عنه شيء في ذلك. بل إن النبي لم يقل هذا في المهدي الذي يكون مرافقاً لعيسى عليه السلام إذ ذاك، فهذا الجواب من النبيِّ صلى الله عليه وسلم على تقدير وقوع الخطاب من عيسى بن مريم عليه السلام يكون خاصاً به.
(3) وأخرج أبو نعيم في "دلائل النبوة"، عن سعيد بن المسيب قال: "لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الآذان من القبر". وتمامه: "ثم أتقدم فأقيم وأصلي وإن أهل الشام ليدخلون المسجد زمرا فيقولون: انظروا إلى الشيخ المجنون".
وفي إسناده عبد الحميد بن سليمان: ضعفوه، وذكره ابن عقيل في "الضعفاء"، وقال: عَن يَحْيى بن معين، قَالَ: عَبد الحميد بن سليمان أخو فليح ليس بشَيْءٍ، وقال مرَّة: ليس بثقة. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال النسائي، والدارقطني وغيرهما: ضعيف. وعليه فلا يُعوَّل على هذا الأثر.
(4) وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" عن سعيد بن المسيب قال: "لم أزل أسمع الآذان والإقامة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحرة حتى عاد الناس". وهذا ضعيفٌ كالذي قبله.
(5) وأخرج ابن سعد في "الطبقات"، عن سعيد بن المسيب: "أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع آذانا يخرج من قبل القبر الشريف".
(6) وأخرج الدارمي في "سنده" قال أنبأنا مروان بن محمد عن سعيد ابن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولم يقم ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم معناه.
وذكره الهيثمي في "تحفة الزوار" (ص 49): وعدَّه أوفى دليلٍ على استمرار حياته في قبره.
وهذا الحديث رجاله ثقات، ولكن سعيد بن عبد العزيز أصغر من أن يدرك هذه الحادثة أو يسمع من سعيد بن المسيب، ولم نجد من صرَّح بسماع سعيد بن عبد العزيز من سعيد بن المسيب، وذلك بعد البحث في كتب التراجم والرجال المتوفرة، ثم إن سعيد بن عبد العزيز مختلط، ولا ندري هل سمع منه الراوي عنه قبل الاختلاط أو بعده.
ثانياً: أنه ليس في الأثر عند الدارمي ذكر أذان ولا إقامة، ولكن الذي عنده أنه سمع همهمة من القبر.
ثالثاً: أنه لو فُرض سماع أذان أو إقامةٍ من القبر الشريف؛ فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم -هو الذي كان يؤذن أو يُقيم، وهو وإن كان صلى الله عليه وسلم حيَّاً عند ربه، فإن حياته صلى الله عليه وسلم -ليست نظير الحياة المعهودة في حياتنا، فإن هذا اعتقادٌ باطلٌ، ولوازمه تبعٌ له في البطلان.
ولم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم أنه أذن في حياته، سوى ما ورد أنه أذَّن في أذن الحسن والحسين، فإذا لم يثبت ذلك في حياته؛ فلا يُمكن أن يثبت ذلك له بعد وفاته وانتقاله، ثُمَّ إن صلاته صلى الله عليه وسلم في قبره دائمةٌ، ولا تحتاج إلى إذانٍ ولا إقامة؛ لأنه في عالم البرزخ وليس في عالم الدُّنيا، بحيث يتبين له دخول الوقت وخروجه.
وقد ذكر أهل العلم حكماً وعللاً وأسباباً عدة، لعدم أذان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، نجملها فيما يلي:
أولًا: أنه لو أذن لكان من تخلف عن الإجابة داخلًا تحت قوله تعالى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حي على الصلاة" ولم يعجلوا، لحقتهم العقوبة، حسبما أشار العلامة الحطاب في "مواهب الجليل".
ثانيًا و ثالثًا: لأنه بُعِث داعيًا وشاهداً، فلم يَجُز أن يشهد لنفسه. أو أنه لو أذّن وقال "أشهد أن محمدًا رسول الله" لتُوهِّم أن هناك نبيًّا غيره.
رابعًا: أن الأذان رآه غيره في المنام، فوكَّله إلى غيره، فالأذان شُرع بناء على رؤية منامية رآها غير الرسول لكنه صلى الله عليه وسلم أقرّها ووكلها إلى غيره لانشغال النبي بأمور أخرى كثيرة.
خامسًا: كما أن الأذان أمانة أسندها الرسول إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم "الإمام ضامن، والمؤذن أمين" رواه أحمد والترمذي وأبو داوود، ومن الطبيعي أن يكون المؤذن أميناً؛ لأنه لا ينادي فقط للصلاة وإنما للإمساك والإفطار للصائمين في شهر رمضان.
سادسًا: انشغاله صلى الله عليه وآله وسلم وضيق وقته، وكذلك الخلفاء الراشدين من بعده، لم يتول أحد منهم الأذان.
(7) أخرج أحمد، وأبو يعلي، والطبراني، والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "دلائل النبوة"، عن ابن مسعود قال: "لأن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً أحب إلى من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل وذلك أن الله اتخذه نبياً واتخذه شهيداً".
وهذا حديثٌ صحيحٌ، قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر، وشعيب الأرناؤوط، وقال: على شرط مسلم. ولا دلالة لما ذكره السيوطي؛ إذ حياة الشهداء برزخيَّةٌ أيضاً، وليست حياةً دنيوية، والأنبياء حياتهم أكمل من حياة الشهداء.
(8) وأخرج البخاري والبيهقي عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم".
قال السيوطيُّ: فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حياً في قبره بنص القرآن: إما من عموم اللفظ وأما من مفهوم الموافقة. قلتُ: وهي حياةٌ برزخية خاصَّة كما تقدَّم.
ونقل عن شيخ القرطبيِّ في "التذكرة": فيحصل من جملة الأدلة القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيّبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة؛ فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحدٌ من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته من أوليائه.
وهذا الكلام الذي ذكره القرطبيُّ باطلٌ، لا يصحُّ بحال، ويلزم عليه لوازم باطلة، وقد أجاب عليه الحافظ في "الفتح" بقوله: "وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل".
ذكر جواب السيوطي على حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي)
والجواب عليه
قال السيوطيُّ: (فصلٌ): وأما الحديث الآخر فأخرجه أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من طريق أبي عبد الرحمن المقري، عن حيوة بن شريح، عن أبي صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قشيط، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إليّ روحي حتى أرد عليه السلام).
قال السيوطيُّ: ولا شك أن ظاهر هذا الحديث مفارقة الروح لبدنه الشريف في بعض الأوقات وهو مخالف للأحاديث السابقة وقد تأملته ففتح علي في الجواب عنه بأوجه:
الأول وهو أضعفها: أن يدعى أن الراوي وهم في لفظة من الحديث حصل بسببها الإشكال، وقد ادعى ذلك العلماء في أحاديث كثيرة لكن الأصل خلاف ذلك فلا يعول على هذه الدعوى.
قلتُ: وهذا الحديث حسَّن إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب"، وقال ابن القيم في "جلاء الأفهام": إسناده صحيح، وقال ابن حجر، والسخاوي في "القول البديع": رجاله ثقات، وقال ابن الملقن: إسناده جيد، وقال الألباني: حسن، والأرناؤوط في "تخريج المسند".
الثاني: وهو أقواها ولا يدركه إلا ذو باعٍ في العربية: أن قوله (ردَّ اللهُ) جملة حالية وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلاً ماضياً قدرت فيها "قد"، كقوله تعالى (أو جاؤكم حصرت صدورهم) أي قد حصرت، وكذا تقدر هنا والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد. وحتى ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى الواو فصار تقدير الحديث: (ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك فأرد عليه).
ثم قال: وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله.
وأيده من حيث المعنى أن الرد ولو أخذ بمعنى الحال والاستقبال لزم تكرره عند تكرر المسلمين وتكرر الرد يستلزم تكرار المفارقة وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران: (أحدهما) تأليم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح منه أو نوع ما من مخالفة التكريم إن لم يكن تأليم، (والآخر) مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم. فإنه لم يثبت لأحد منهم أن يتكرر له مفارقة الروح وعودها في البرزخ. والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومحذور (ثالث) وهو مخالفة القرآن فإنه دل على أنه ليس إلا موتتان وحياتان وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل، ومحذور (رابع) وهو مخالفة الأحاديث المتواترة السابقة، وما خالف القرآن والمتواتر من السنة وجب تأويله، وإن لم يقبل التأويل كان باطلاً؛ فلهذا وجب حمل الحديث على ما ذكرناه.
والجواب على هذا الإشكال: أن الحياة البرزخية للأنبياء لا تقتضي مفارقة الروح للبدن بالكلية، بل لها نوع تعلُّقٍ به، بحيث يردُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سلام من سلَّم عليه، وعلى هذا يتبين أن هذا الذي التزمه من عودة الروح بالكلية إلى الجسد ثُم مفارقتها إياه التزامٌ باطل، وكذلك فإن السيوطي رحمه الله بإثباته عودةً الروح إلى الأنبياء قبل يوم القيامة يكون أثبت ثلاثة موتات، وهو ما حاول تأييد كلامه به، فكان حجَّةً عليه لا له، لأنه عند النفخ في الصور لا يبقى على وجه الأرض أحدٌ إلا مات، والقول بأن الأنبياء أحياءٌ يقتضي أنهم يموتون، وهذا باطلٌ؛ لقوله جل وعلا: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}، وهذا عامٌ في الأنبياء وغيرهم. وما ذكرناه من أن حياة الأنبياء في قبورهم إنما هي حياةٌ برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسُّنة، وبه تجتمع الأدلة وتتفق النصوص، بخلاف ما ذكره السيوطي، الذي يحصل معه التعارض والتناقض ولا بُد.
الوجه الثالث: أن يقال أن لفظ "الرد" قد لا يدل على المفارقة، بل كُنّى به عن مطلق الصيرورة؛ كما قيل في قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم}. أن لفظ العود أريد به مطلق الصيرورة لا العود بعد انتقال لأن شعيباً عليه السلام لم يكن في ملتهم قط، وحسن استعماله هذا اللفظ في هذا الحديث مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله (حتى أرد عليه السلام)، فجاء لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث.
والجواب على هذا الوجه: أنه جاء في كتاب الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ميِّتٌ؛ كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، وقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } /آل عمران: 144/، وعليه فقد صحَّ وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات حقيقةً، وفارقت روحه جسده، فلا وجه لما ذكره السيوطي رحمه الله أن الموت في حقه كان غيبوبة، وأن الرد هنا مجازي وليس حقيقي، وقد قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} /العنكبوت: 57/، ولا يخرج من هذا العموم أحدٌ لا من الأنبياء ولا من غيرهم.
الوجه الرابع: أنه ليس المراد برد الروح عودها بعد المفارقة للبدن، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ مشغولٌ بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهدة ربه كما كان في الدنيا في حالة الوحي وفي أوقات أخر فعبر عن إفاقته من تلك المشاهدة وذلك الاستغراق برد الروح. ونظير هذا قول العلماء في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء وهي قوله: (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام) ليس المراد الاستيقاظ من نوم! فإن الإسراء لم يكن مناماً وإنما المراد الإفاقة مما خامره بن عجايب الملكوت، وهذا الجواب الآن عندي أقوى ما يجاب به عن لفظة "الرد" وقد كنت رجحت الثاني ثم قوى عندي هذا.
والجواب: أن كلام السيوطي هنا يُشبه الوجه الثالث من حيث اشتراكهما في إثبات الغيبة المعنوية ، وإنكار المفارقة الحسية للروح من البدن، وهذا الوجه وإن كان فيه نوع حقٍّ من حيث أن روح النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السماء تتنعم بما أعدَّ الله عز وجل لها من الرزق الكريم والمقام الحسن إلا أن كلام السيوطي هنا معناه أن حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قبره تماثل الحياة الدنيوية تماماً، وأنَّه قد يغيب عنها أحياناً لمشاهدة عظيم فضل الله عليه، ثُمَّ يفيق من ذلك ليردَّ على من سلَّم عليه ونحو ذلك، وبهذا يجعله كالنائم تماماً، وهو باطلٌ بما قدَّمنا من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مات حقيقةً، وأن روحه متعلقة ببدنه تعلُّقاً خاصاً، يقدر به على رد السلام والصلاة ونحو ذلك.
الوجه الخامس: أن يقال إن الرد يستلزم الاستمرار لأن الزمان لا يخلو من مصل عليه في أقطار الأرض فلا يخلو من كون الروح في بدنه… وحالته صلى الله عليه وسلم (يعني من السماع) في برزخ كحالته في الدنيا سواء!!.
والجواب عليه: أن الرد لا يستلزم استمرار الروح بالبدن، لأن الروح تتعلق بالبدن تعلُّقاً خاصاً لا نعلمه، بحيث لا تعود إلى الجسد الحياة الكاملة، وأما أن الزمان لا يخلو من مُصلٍّ عليه في أقطار الأرض؛ فنعم، ولكن لا تُقاس حياته في البرزخ بحياته في الدنيا، ثم إن القول: بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه بواسطة الملائكة، وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة. وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، وليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يُسَلِّم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان". ومفهوم كلام السيوطي باطل؛ فلو فُرض خلو بعض الزمان من المصلين عليه، فهل يلتزم أن مفارقة الروح تحصل في وقتٍ دون وقت؟ أم أنه سيقرر الوجه الثالث؟! وكلاهما معلوم البطلان.
السادس: قد يقال أنه أوحى إليه بهذا الأمر أولاً قبل أن يوحي إليه بأنه لا يزال حياً في قبره فأخبر به، ثم أوحى إليه بعد بذلك فلا منافاة لتأخير الخبر الثاني عن الخبر الأول.
والجواب: أن هذا القول عند فرض وجود التعارض، ولا تعارض بحمد الله، لأن أخبار النبيِ صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقبر وعذابه لا تتعارض ولا تتناقض، وقد جمع العلماء بين أحاديث حياة الأنبياء في قبورهم، وبين كونهم ماتوا حقيقةً، بأن الحياة الثابتة لهم في القبور هي حياة برزخية خاصة، لا تشبه حياتهم الدنيوية، وهي أكمل من حياة الشهداء.
السابع: وقد ذكره عن الفاكهاني المالكي: المراد بالروح هنا النطق مجازاً؛ فكأنه قال عليه السلام إلا رد الله إلي نطقي وهو حي على الدوام لكن لا يلزم من حياته نطقه فالله سبحانه يرد عليه النطقة عند سلام كل مسلم وعلاقة المجاز أن النطق من لازمه وجود الروح كما أن الروح… وهذا الذي ذكره من الجواب ليس واحدا من الستة التي ذكرتها فهو إن سلم جواب سابع عندي… وحال الأنبياء عليهم السلام في البرزخ مصرحة بأنهم ينطقون كيف شاؤا لا يمنعون من شيء بل وسائر المؤمنين كذلك الشهداء وغيرهم ينطقون في البرزخ بما شاؤا غير ممنوعين من شيء ولم يرد أن أحداً يمنع من النطق في البرزخ إلا من مات عن غير وصية. أخرج أبو الشيخ بن حيان في كتاب الوصايا، عن قيس بن قبيصة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى"، قيل يا رسول الله وهل يتكلم الموتى؟ قال: "نعم ويتزاورون".
والجواب: أنه لا يُصار إلى المجاز إلا عند تعذُّر الحقيقة، والحقيقة هنا غير متعذرة، بل هي ممكنة، بل وهي ثابتةٌ بالنص، والحقيقة المعتبرة هنا هي الحقيقة الشرعية التي تثبت خروج الروح من البدن حين الموت، وأن الله عز وجل يردُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم روحه ردَّاً خاصاً لا تحصل معه الحياة الكاملة، ولا يتعذر بها ردُّ السلام على من يُسلم عليه. والحديث الذي ذكره ضعف ابن حجر في "الإصابة"، وقال: إسناده ضعيف. وإن ثبت فإن مقتضاه أن الموتى يكلمون بعضهم بعضاً ويسمعون بعضهم ويُجيبون بعضهم، ويتزاورون فيما بينهم، لأنهم من عالم البرزخ، ولا يُقاس عالم الغيب بعالم الشهادة؛ فتبين الفرق من اختصاص ذلك بالموتى دون الأحياء، وأما ردُّ السلام على الأحياء فهذا ثابتٌ بالنص، ولا يُسعف ذلك في إثبات حياة للموتى في قبورهم، تماثل الحياة الدنيوية.
الثامن: "عده الحادي عشر"، وهو أنه ليس المراد بالروح روح الحياة، بل الارتياح كما في قوله تعالى (فروح وريحان)؛ فإنه قرئ فروح بضم الراء، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له بسلام المسلم عليه ارتياح وفرح وهشاشة لحبه ذلك فيحمله ذلك على أن يرد عليه.
وهذا خلاف ظاهر النص الذي ذكر تعليل ردِّ الروح برد السلام، وذكر العلة يدلُّ على حقيقة اللفظ، وأنه ردٌّ خاص للروح، على ما قدمنا.
التاسع: "جواب ثاني عشر" وهو أن المراد بالروح الرحمة الحادثة من ثواب الصلاة. قال ابن الأثير في النهاية تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معان والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد، وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة وعلى جبريل.
وجوابه هو جواب ما قبله.
العاشر: "وعده ثالث عشر" وهو أن المراد بالروح الملك الذي وكل بقبره بلغه السلام، والروح يطلق على غير جبريل أيضاً من الملائكة، ومعنى رد الله إلى روحي أي بعث إلى الملك الموكل بتبليغي السلام هذا غاية ما ظهر.
وهو خلاف ظاهر النص، وقد تقدم جوابه فيما ذكرناه.
ورد في حديث أبي داود (إلا ردَّ الله عليَّ) ولفظ رواية البيهقي: (رد الله إليَّ) وهي ألطف وأنسب فإن بين التعديتين فرقا لطيفا فإن رد يعدى بعلى في الإهانة وبإلى في الإكرام.
الحادي عشر: "عدّه الجواب الرابع عشر" عن الحديث وهو أن المراد فوض الله إلي روحي السلام عليه على أن المراد بالروح الرحمة والصلاة من الله الرحمة فكان المسلم بسلامه تعرّض لطلب الصلاة من الله والصلاة من الله الرحمة ففوض الله أمر هذه الرحمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو بها للمسلم فتحصل إجابته قطعا فتكون الرحمة الحاصلة للمسلم إنما هي ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له وسلامه عليه وينزل ذلك منزلة الشفاعة في قبول سلام المسلم، والحاصل أن معنى الحديث على هذا الوجه إلا فوض الله إلي أمر الرحمة التي تحصل للمسلم بسببي فأتولى الدعاء بها بنفسي بأن انطق بلفظ السلام على وجه الرد عليه في مقابلة سلامه والدعاء له.
وهو خلاف ظاهر النص، وهو بعيدٌ جداً وضعيف، وقد تقدم جوابه فيما ذكرناه.
الثاني عشر: ثم ظهر لي جواب خامس عشر وهو أن المراد بالروح الرحمة التي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم على أمته والرأفة التي جبل عليها وقد يغضب في بعض الأحيان على من عظمت ذنوبه أو انتهك محارم الله.
*** وخلاصة الكتاب السَّابق "اتحاف الأذكياء":
أن الأشاعرة لما زعموا أن الرُّوح عرضٌ من الأعراض تفنى بموت الجسد، رتبوا على ذلك القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس رسولاً الآن، لأن روحه فنيت ولكنه كان رسولاً !!
ولا شك أن هذا القول ضلال عظيم، وإفك مبين، عند ذلك لجأ متأخروهم إلى القول بحياة الأنبياء في قبورهم حياةً كاملة، خلافاً لقول أهل السُّنة والجماعة الذين يعتبرون الروح جسمٌ قائمٌ بذاته، وليس عرضا يفنى بموت الجسد.
ثم وجد الأشاعرة أنفسهم أمام حديث عظيم، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أحَدٍ يُسلِّمُ علَيَّ إلّا ردَّ اللهُ علَيَّ رُوحي حتّى أرُدَّ عليه السَّلامَ)، والذي يدلُّ بظاهره على أن الروح تُفارق أبدان الأنبياء، وأن الأنبياء يموتون كما أخبر بذلك القرآن الكريم، فأرواحهم لا تكون مستمرَّة في ابدانهم، فاحتاجوا معه إلى تأويل هذا الخبر.
ولذلك وضع الإمام السيوطي هذا الكتاب للجواب عليه، وذكر لذلك خمسة عشر وجهاً، ولكنها (بحمد الله!) كلها ضعيفٌ، مُجابٌ عنها.
ومن ذلك قوله: (رَّد عليَّ روحي):
فوَّض إليَّ روحي -ردَّ الرحمة في قلب النبيّ -بتقدير "قد" أي قد ردَّ عليَّ روحي فيكون حياً قبل ذلك -ردَّ عليَّ النطق -تفرُّغها من شغلها الدنيوي-إفاقته بعد شهوده الملكوت -استمرار الحياة فيه -الارتياح -الرحمة الحاصلة من ثواب الصلاة عليه -الملك الذي وكل بقبره يُبلغه السلام -أنه منسوخ!! -أنه ضعيف !! وهذا الاضطراب الشديد في التأويل يدل على ضعف ما ذهبوا إليه.
والصواب: هو ما ذكره أهل السُّنة والجماعة: أن هذا الرد هو رد خاص، تكون الروح فيه متعلقة بالبدن بكيفية نؤمن بها ولا نعلمها، وهذا التعلق لا يجعل الأنبياء في حياة تماثل الحياة الدنيوية.