أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 ديسمبر 2020

لفتة الكبد إلى نصيحة الولد -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

لفتة الكبد إلى نصيحة الولد

للإمام أبي الفرج بن الجوزي

نصح بها ولده أبا القاسم بدر الدين علي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ إن لكلمات ابن الجوزي رحمه الله -شذىً تتفتح له القلوب المضيئة، وعبيراً يسري في أجزاء الأرواح الطيبة، وحلاوةً  تحار من لذتها النفوس الكريمة، وقد كان ابن الجوزي علامةً فارقةً في زمانه في الوعظ والتوجيه والإرشاد، حتى قال الذهبيُّ: "ما أظن الزمان يسمح بمثله"، وقد تاب على يديه الآلاف وأسلم على يديه المئات، وقد كانت له هيبةٌ وقبول رحمه الله تعالى، وليس ذلك إلا للعناية الربانية التي أودعها قلب وعقل هذا الرجل، الذي انقادت له قلوب العامة والخاصة بأمر الله؛ لتسمع منه أحسن القول، وتستجيب لموعود الله.

وهذا الكتاب "لفتة الكبد" وضعه الإمام ابن الجوزي نصيحة لابنه بدر الدين علي الذي توانى في شبابه عن طلب العلم، ولزم البطالة واشتغل بما لا ينفع، وصحب البطالين وترك المسار الذي رسمه والده له؛ وهو ولده الوحيد في تلك المُدة، بعد أن فقد ابن الجوزي أكبر أولاده "عبد العزيز" الذي قتل مسموماً على يد جماعةٍ حسدوه!.

وإذا تأملت العنوان "لفتة الكبد" وجدته يُشير بنفسه إلى الشلل والمرض والعطب الذي أصاب قلب الوالد وأدمى كبده عندما رأى ضياع ابنه من بين يديه، وهو ينصحه وابنه لا يستجيب، وبعد أن وجَّه أبو الفرج هذه الرسالة لابنه  يحثه فيها على ترك البطالة، والاشتغال بما ينفع، تمادى الولد في طغيانه، ولم ينتصح، بل زاد ميله إلى اللهو والخلاعة، مما كان سبباً في هجر والده له، ومقاطعته إياه.

وزاد عقوق الولد لوالده، فاصبح يسبُّ أباه وينال منه في المجالس؛ حتى أنه سرق مصنفات أبيه التي كدَّ في كتباتها وتعنَّى في جمعها، وباعها في السوق بأبخس الأثمان نكايةً في والده، وقد شقَّ ذلك على أبي الفرج، حتى صار يدعو عليه في كل ليلةٍ وقت السَّحر، واستمرت القطيعة العمياء بينهما إلى أن مات الأب الحاني أبو الفرج ابن الجوزي عليه سحائب الرحمة والرضوان.

وصلَّى عليه ابنه عليٌّ، ولعله صلح حاله بعد ذلك، ونسأل الله عز وجل أن يكون هذا الابن قد تاب قبل موته مما جرى له مع أبيه.

وقد بقيت هذه النصيحة شاهدةً على ما جرى بين الأب وأبيه، لنأخذ العبرة والعظة، ولا شكَّ أن ما جرى لابن الجوزي مع ابنه من المصائب التي يسترجع الإنسان عندها، قال الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} /البقرة: 155 - 157/.

وهذا الابتلاء الذي ظاهره الشر هو نعمةٌ للإنسان في تكفير السيئات، ورفعة الدرجات، ولا شكَّ أن هذه الكلمة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هي أبلغ ما يُقال في هذا المقام الذي لا يرضي حبيباً ولا يصدُّ عدواً، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.

أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، فإن الإنسان محفوف بعدمين: عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه، حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة: بلا أهل، ولا مال، ولا عشيرة، ولكن بالحسنات، والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟؟!! ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء!.

وقد وضع المحقق جزاه الله خيراً عناوين مميزة لهذه الرسالة؛ لتكون محاور أساسية دارت حولها موضوع الرسالة، وخدمها خدمةً جليلة، نذكر تلك العناوين باختصار:

مقدمة المصنف: الباعث على كتاب الوصية.

فصل: ترغيب وترهيب بين يدي هذه الوصية النافعة.

فصل: الواجبات والفضائل والهمة العالية.

فصل: تقوى الله سبب في حصول العلم وزيادته.

فصل: حفظ الأوقات واغتنام اللحظات.

فصل: الثمن الي تشتري به الحياة الأبدية.

فصل: الانتباه بعد الغفلة والتفريط

فصل: منهج تربوي في اليوم والليلة.

فصل: العلم أفضل من النافلة إذا صلحت النية.

فصل: الحذر من الآفات والعوائق.

فصل: العفة عما في أيدي الناس.

فصل: متى صحَّت التقوى رأيت كل خير.

فصل: من سير السلف الصالح في اغتنام الأوقات.

فصل: الحفظ رأس مال الطالب.

فصل: العلم والعمل متلازمان.

فصل: من روائع تصانيف ابن الجوزي

فصل: صفة الواعظ النافع.

فصل: أداء الحقوق إلى أهلها.

خاتمة حسنة للكتاب.






الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

تنوير الحلك في إمكان رؤية النبيِّ والملك "عرض ونقد" -للإمام جلال الدين السيوطي

تنوير الحلك في إمكان رؤية النبيِّ والملك

(عرض ونقد)

للإمام جلال الدين السيوطي


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا الكتاب هو جزء من كتاب "الحاوي للفتاوي" للإمام السيوطي، ويقع في "الجزء الثاني" من الفتاوى الصُّوفية، في القسم الثالث منها، والذي يتناول فيه إمكان رؤية الأنبياء على الحقيقة، وسماه "تنوير الحلك" أي إضاءة السواد "في إمكان رؤية النيِّ والملك"، حيث يعتقد السيوطي رحمه الله (ت 911 هـ) إمكان رؤية الأنبياء حقيقةً يقظةً رأي العين في الحياة الدنيوية.

وهذا الكتاب وقع جواباً عن سؤال ورد للسيوطيُّ، ونصُّه: "قد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي - صلى الله عليه وسلم -في اليقظة، وإن طائفة من أهل العصر … بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه وادعوا أنه مستحيل، فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها: تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك".

وكانت خلاصة جواب السيوطي: أن الأنبياء أحياءٌ بأرواحهم وأجسامهم، وهم موجودن بين الناس في الدنيا على هيئتهم التي كانوا عليها، غير أنَّهم مُغيَّبون عن الأبصار كالملائكة تماماً، كما أن لهم القدرة على جميع التصرُّفات من الكلام والأخذ والإعطاء والأمر والنهي، كما أنهم يسيرون في جميع أقطار الأرض والسماء، فيحضرون جنائز الصالحين، ويُسلمون عليهم، وكما أنهم يظهرون لمن أراد الله عز وجل إكرامه من الأولياء !! وذلك برفع الحجاب عن الرائي فيراه بهيئته على الحقيقة. 

ولا شكَّ أن هذا القول باطلٌ جملةً وتفصيلاً، فالأنبياء عليهم السلام في عالمٍ غيبيٍّ يختلف عن عالمنا؛ ولهم حياتهم البرزخية الخاصة التي تختلف عن حياتنا؛ فلا يمكن لأحدٍ من الناس -كائناً من كان -أن يراهم في اليقظة؛ وحيث أجمعت الأمة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وكذلك الأنبياء قبله ماتوا، وقد قال الله تعالى مخبراً عن موت النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، وأخبر عن موت الأنبياء قبله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} /الأنبياء: 34/. وكذلك فإنه لا بعث للأموات قبل يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} /المؤمنون:15-16/.

وروى البخاريُّ في صحيحه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الْأُولَى). 

فيفهم من هذا النقل أن الرسول هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولم يثبت أن الأرض تنشق له قبل يوم القيامة، أو أنه يخرج من قبره ويسير في الأرض، وهذا يوضح بطلان عقيدة "الرجعة" التي يؤمن بها الصُّوفية وتابعهم عليها السيوطيُّ وبعض الفضلاء الذي أخطأوا الطريق !. 

قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": واتفقوا أن محمداً عليه السلام وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس. فمن يزعم أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة؛ فإنه يكون قد ادعى أنه أحد صحابته صلى الله عليه وسلم، ويلزم من هذا عدم انقطاع الوحي، وأن الشريعة غير كاملة بدليل أن الوحي ما زال يتنزل بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرى يقظة، وهذه الأمور إنما تلزم على إمكانية رسول الله يرى يقظة.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "الفتح": وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع – يعني الرؤية – بعيني الرأس حقيقة .

وزعم أبو محمد ابن أبي جمرة (ت 675 هـ)، أن رؤيا الأنبياء يقظةً حاصلٌ، وأنه من كرامات الأولياء، وردَّ عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح"؛ فقال: وهذا مُشكلٌ جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. 

وأجاب عليه السيوطيُّ بقوله: إنها رؤيا في عالم الملكوت؛ فلا تُعد صُحبة!! وهذا جوابٌ ضعيف.

وهو قول ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) في "الفتاوى الحديثية"؛ حيث يقول: "أنكر ذَلِك جمَاعَة وجوّزه آخرون وهو الْحق، فقد أخبر بذلك من لقيتهم من الصَّالِحين". ولعل الهيتمي -رحمه الله نقل هذه الأوهام والخيالات عن بعض من ليس عنده علم شرعي ولا عقل ناضج فراح يتخيل ويتصور وجود ما لا حقيقة له!.

ويرى فريقٌ من الأشاعرة أن هذه الرؤيا هي رؤيا مثال لا رؤيا حقيقية، مع إمكان سماع كلام النبيِّ ومخاطبته، وأن هذه الرؤيا تتمُّ للرائي عند دخوله في عالم البرزخ عن طريق حالةٍ وجدانية يصل إليها الرائي فيدخل في جذبةٍ أو خطفةٍ أو غيبة، وأن ما يراه هو مثالٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صفته المعلومة، لا أنه يرى ذاته الحقيقية. 

ولا شكَّ أن ما ادَّعاه الفريقان كلامٌ مبتذل، وخرافة لا أصل لها في الشرع ولا في واقع الحال، وقد وقعت للصحابة رضوان الله عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده بينهم، فَلِمَ لمْ يظهر لهم ليفصل بينهم ،وينهي ذلك النزاع القائم بينهم ويمنعهم من الاختلاف والاقتتال !! 

ولم يصلنا عن الصحابة الكرام، ولا عمَّن بعدهم من التابعين من  القرون الثلاثة المفضلة أن واحداً منهم رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقظةً بعيني رأسه، وهذه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ حزنها على أبيها؛ حتّى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاورٌ لقبره الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه، ولم يحصل ذلك مع أبي بكر أيام الردة، ولا مع عمر أيام القحط والجوع، ولا مع عثمان أيام الفتنة، ولا مع عليٍّ أيام صفِّين والجمل. ذكر معناه السخاويّ، كما نقله عنه القسطلاني في "المواهب".

وحجة كلا الفريقين في هذا الباب إنما هي حكايات وقصص مخترعة، لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة، بل هي من كلام أهل التخييل والجنون، فادِّعاء رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته أمرٌ باطلٌ كذب؛ وعلامات الكذب والوضع على تلك القصص ظاهرةٌ جداً.

وقد حشا الإمام السيوطي كتابه هذا بالخرافات والبدع والأباطيل التي تمجُّها الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ويترفع عن تصديقها العقلاء فضلاً عن أهل العلم والدين والشرف، وتجد فيها من الدعاوي العريضة التي يتنزه عنها الجناب النبوي الكريم، ومما ذكره السيوطي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يكتب مناشر لتعيين الأولياء في الأرض؟!! 

وحكي السيوطيُّ عن بعض الأولياء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يحضر مجلس بعض الفقهاء ليُصحح ويُضعف له الحديث، وأن آخر يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة سبع عشرة مرة !! وذكر عن بعضهم أنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في كل ساعة؛ حتى لا تكاد ساعة إلا ويخبر عنه !! ويذكر عن آخر أنه يُصلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مكة بعد وفاته بأكثر من ستة قرون !! وهذه قصص لا يكاد ينقضي منها العجب !!.

بل قد يصل الأمر ببعض المتصوفة إلى الكفر -والعياذ بالله تعالى، ومن ذلك قول بعضهم في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نظر فإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي جميعها مملوءة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم !! 

ولا عجب أن نجد مثل هذه القصص المفتراة والمخترعة في كتاب السيوطي، وهي تُنقل عن مثل اليافعي في "روض الرياحين"، وعن مثل أبي اللطائف بن فارس في "المنح الإلهية في مناقب الوفائية"، وعن محمد بن النعمان في "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" لمحمد بن النعمان؛ وعن إسماعيل بن ياطيس في "مزيل الشبهات في إثبات الكرامات"، فإنها محشوَّةٌ كذباً وافتراءً.

ومع قطعنا بكون هذه القصة محض خرافة، إلا أن غرضها واضحٌ جداً من تفضيل علوم التخريف والدجل على علوم الفقه والدين، ولمثل هذه القصص أثرها البالغ على الجُهَّال من العوام والسُّوقة الذين لا يعرفون حقيقة هؤلاء الكذبة من أدعياء الولاية والمعرفة.

 وكثيرٌ ممن يدعي رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة تجد في عبارته غموض والتباس وارتباكٌ لأنه يعلم كذبه وعدم ضبطه لذلك الخيال، ولا يدري ذلك المُدَّعي هل رآه في اليقظة أو رآه في المنام أو رآه بين بين!! وغالب كلام هؤلاء إنما هو مبنيٌّ على الكذب والبهتان، لا على اليقين وأهل الحق والعرفان.

وبالجملة: لا يمكن لعاقلٍ أن يجد روايةً صحيحة متصلة عمن يوثق به يُثبت به هذا الأمر، وقد يبدو للرائي خيالاً، أو نوراً فيظنُّه الرسول، وقد يُلبِّس عليه الشيطان ذلك؛ وهذا القول يُدرك بطلانه ببدائه العقول؛ لا سيما من يدَّعي خروجه من القبر ومشيه في الأسواق، وحضوره الموالد والجنائز، ومخاطبتهم، لأن هذا يقتضي خلو قبره منه. وقد أشار إلى ذلك الإمام القرطبي في كلامٍ قريب سيأتي.

والقصص في رؤيا النبيِّ لدى بعض الطرقية والمخرفين مثل شرب الماء، فما أسهل عليهم رواية تلك القصص التي تؤيد بدعهم وبهتانهم؛ ومن ذلك ما ذكره السيوطي عن أبي عبد الله القرشي أنه لقي خليل الله إبراهيم عليه السلام عند قبره!! ونقل ابن الملقن في "طبقات الأولياء" عن الجيلاني أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ورأى بعده عليَّ بن أبي طالب يحضر مجلسه !! ويُروى مثل ذلك عن الشاذلي! ومحمد بن عمر القرطبي "شيخ القسطلاني"!!.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: 

(فسيراني في اليقظة)

وقد حاول السيوطيُّ ومن وافقه من العلماء التدليل على ذلك بحديث الصحيحين: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)، مؤيداً تلك القولة بما يدعيه أرباب الأحوال من المتصوفة والخرافيين، واصفاً من بالغ في إنكارها بأنه "لا قدم لهم في العلم!!"، وما أورده -رحمه الله -من حكايا وقصص في هذا الكتاب لا دليل عليها من الشرع ولا مستند لها في الواقع، بل لا توجد إلا في أذهان المخرفين من الأدعياء، من أرباب البطالة والجهالة.

وأصحُّ ما يُجاب به على هذه الدعوى الباطلة التي أطلقها الإمام السيوطي، وتبعه عليها بعض أبناء عصره، هو ما قاله الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله (ت 1349 هـ) في كتابه "الصواعق المرسلة الشهابيَّة":

"والجواب أن يُقال:  هذا الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"، وأبو داود في "سننه" لا يدل على أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم يرى يقظة في الدنيا كما كان يرى حياً قبل أن يموت، وكذلك ليس بصريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ قبره الحياة المعهودة في الدنيا، ولا فيه دلالة على جواز التوسل به فضلاً عن أن يُدعى ويستغاث به ويرجى في كشف الشدائد والمهمات… قال في السراج الوهاج على قوله: (فسيراني في اليقظة): أي سيراني يوم القيامة رؤيا خاصة في القرب منه؛ أو من رآني في المنام ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة إليَّ والتشرف بلقائي ويكون الله جعل رؤيته في المنام علماً على رؤياه في اليقظة.

وقال النووي في "شرح مسلم": معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فسيراني في اليقظة)، "فيه أقوال: (أحدها): أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً. (وثانيها): أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته . (وثالثها): أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك".

ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ ابن حجر ؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم، وما أنكره الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

وقال في "المصابيح": وعلى الأول (أي الرؤية الخاصة في القرب) ففيه بشارة لرائيه بأنه يموت على الإسلام وكفى بها بشارة، وذلك أنه لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب منه إلا من تحقق منه الوفاة على الإسلام، أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي.

قال العلماء: إن كان الواقع في نفس الأمر "فكأنما رآني" فهو كقوله (فقد رآني)؛ أو (فقد رأى الحق)؛ وإن كان سيراني في اليقظة ففيه أقوال وسيأتي تفسيره: أحدها المراد به أهل عصره. الثاني: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة. الثالث: يراه في الآخرة رؤيا خاصة في القرب منه وحول شفاعته ونحو ذلك والله أعلم.

فغاية ما في هذا الحديث أن من رآه في المنام فسيراه في اليقظة في الآخرة رؤيا خاصة باعتبار القرب منه أو يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة، وليس فيه أنه حيٌّ في قبره كحياته في الدنيا لا تصريحاً ولا تلويحاً؛ وإنما هذه الدعوى المجردة من الدليل من تصرف هؤلاء الغلاة؛ واعتقادهم الباطل المخالف لكتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها.

وما ذكره الشيخ سليمان بن سحمان هو ما جزم به المحققون من أهل العلم بأن هذه الرؤيا غير ممكنة في دار الدنيا، وأولوا ما ورد مما ظاهره إمكانها، لأنه يلزم عليها لوازم باطلة، وقد اشتد إنكار القرطبي على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة، وقد نقل الحافظ ابن حجر قول القرطبي في كتابه "الفتح"؛ وأجاب عليه بقوله: "وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل".

وقال الحافظ ابن حجر بعد سياق كلام العلماء على مدلول هذا الحديث: والحاصل (يعني من كلام العلماء) على هذا الحديث ستة:

أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: "فكأنما رآني في اليقظة".

ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.

ثالثها: أنه خاصٌّ بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.

رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك؛ وهذا من أبعد المحامل.

خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية (لأن كل أمته يرونه يوم القيامة، من رآه منهم ومن لم يره) لا أنها رؤية مطلقة من يراه حينئذ ومن لم يره في المنام.

سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه؛ وفيه ما تقدم من الإشكال… وقد بيَّن الحافظ ابن حجر هذا الإشكال في "الفتح" عند كلامه على هذا الحديث؛ فقال: "وهذا مشكل جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف..".

وقال الخادمي في بريقة محمودية:" رؤية شخصه صلى الله عليه وسلم بعين الرأس بعد موته، ورؤيته تعالى في الدنيا بعين الرأس غير ممكن، والأول: عقلي، إذ الموتى ما داموا كذلك لا يتصور منهم ذلك ..".

وإذا كان الأمر كذلك؛ لم يبق إلا أن يحمل ما ورد في الحديث على معنى غير المعنى المتبادر، وقد حمله العلماء على محامل نرى أن أقربها إلى الصواب هو أن المقصود التشبيه والتمثيل.

ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرجها مسلم: (فكأنما رآني في اليقظة). ومنهم من قال: إن المراد هو أن من رآه في المنام؛ فإن رؤياه رؤيا صادقة، سيرى في اليقظة تأويلها بطريقة الحقيقة أو التعبير. ومنهم من حمل الحديث على أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه ومنهم من أوله بأن المراد أن يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.

رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام

-أما رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام فإنها ممكنة شرعاً وعقلاً، لكن لا يُقال لأحد إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه إلا لمن رآه على صورته المعروف بها التي جاءت بها الأخبار، قال البخاري بعد الحديث السابق : قال ابن سيرين: إذا رآه على صورته.

وقال ابن حجر في الفتح: "وقد رويناه موصولاً .. عن أيوب قال: كان محمد -يعني ابن سيرين - إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصفه له صفة لا يعرفها، قال لم تره" وسنده صحيح. 

وأخرج الحاكم -بإسنادٍ جيِّد -من طريق عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي قال: قلت لابن عباس: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي قال: ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته".

النتائج السلوكية والعقديَّة الخطيرة المترتبة 

على دعوى رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة

ويعتقد الصُّوفية عموماً أنه بإمكانهم رؤية الأنبياء يقظةً رؤيا عين كما سمعتُ بعضهم يُحدِّث بذلك هنا في بعض الزويا، وكذلك الديوبندية في "الهند" يعتقدون ذلك، تبعاً لتقرير التفتازاني "الماتريدي"، حيث ادعى رؤيته النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنه تفل في فيه فتضلع علماً ونوراً !!.

ويترتب على هذه المقولة الباطلة نتائج خطيرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ليس أقلها تعلق قلوب الرعاع والمرتزقة من مشايخ الطرق بترهات وشركيات وتوسلات واستغاثات بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل تعدى الحال بهم إلى حد اعتقادهم الرجعة إلى الدنيا لمشايخهم، كما اعتقدوا في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنهم في حياتهم الدنيوية الجديدة يملكون القدرة على الإغاثة، والضر والنفع من دون الله، بل وجعلوا التصرف المطلق في الكون كله لهم، فأضفوا عليهم من القداسة ما لا يجوز أن يكون إلا لله عز وجل.

الجواب على دعوى المتصوفة أن هذه المسألة

ممكنة في العقل، وإن لم يأتِ بها الشرع

 ويرى بعض المتصوفة أن هذه المسألة ليست من المسائل التشريعية التي ينبني عليها حكم شرعي من ثبوت الصحبة له صلى الله عليه وسلم، ولكنها من المسائل الواقعية التي تحدث لآحاد الناس على سبيل الكرامة! ويُقرر ذلك من طريق العقل بأن رؤيته صلى الله عليه وسلم أمرٌ ممكن عقلاً، وأنه كشفٌ يحصل للولي لا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يكون في مكانين في وقتٍ واحد! 

ولكن طريق إثبات هذا الأمر لا يؤخذ بطريق العقل؛ لأن كثيراً من الممكنات العقلية لم يأتِ الشرع بإثباتها، لكونها من الأمور الغيبية، فلا تثبت إلا بالوحي الذي طريقه الشرع، ولم يأتِ في الكتاب ولا في السُّنة ما يُثبت هذا الأمر، بل ولم يأتِ أن أحداً من الصحابة أخبر بذلك، بالإضافة إلى كون هذا الأمر متعلق لديهم بإثبات حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها حياةً حقيقة مماثلة للتي في الدنيا، وهذا أمرٌ دونه خرط القتاد.

دعوى بعض الأشاعرة والمتصوفة أنَّ هذه الرؤيا

إنما هي رؤيا مثال لا رؤيا حقيقة

وقال بعضهم: إنها رؤيا مثال وصورة لا رؤيا حقيقية، بمعنى أن الرائي لشدة تعلُّقه وحبه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يتخيل صورة النبيِّ؛ فتتراءى له كأنها رؤيا عين، ولم يكن بذلك رائياً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) في "المنقذ"، وهو ما اعتمده التقيُّ السُّبكي (ت 756 هـ)، وإليه أشار الفقيه ابن الحاج (ت 737 هـ) في "المدخل".

 وهذا القول يبطل دعوى السيوطي ومن تبعه في إمكان رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظةً، ولا يرد على هذا أن رؤية المثال تدعو إلى إمكان رؤية الذات حقيقة في دار الدنيا، للفرق الكبير بينهما.

ولكن بعد أن أشبع السيوطيُّ رسالته بكلام هؤلاء "المثاليين" نجده يُخالفهم، بقوله: "لا مانع من ذلك -أي الرؤية على وجه الحقيقة في اليقظة -ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال". وقد بينا بطلان قول السيوطي رحمه الله وأن هذا الأمر مُتوهَّم لا يمكن أن يوجد في الخارج.

التعليق على قصّة تقبيل الرفاعي ليد النبيِّ صلى الله عليه وسلم

 ولا شكَّ أن أعذب القصص أكذبها، وحيث يروي الصوفيون قصة خيالية، يذكرون فيها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدّ يده للرفاعي؛ فقبلها الرفاعي ! وأقل من ذلك ما ذكره السيوطي عن نور الدين الإنجي أنه سمع سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من داخل القبر! وكذلك الأمر مع أبي بكر الدياربكري.

وأما قصة الرفاعي؛ فذكرها النبهاني في كتابه "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق"، وذكرها السيوطيُّ أيضاً في كتابه هذا حيث زعم: أن أحمد الرفاعي لما جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قام مقابل القبر، وأنشد هذين البيتين:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي 

وهذه دولة الأشباح قد حضرت... فامدد يمينك كى تحظى بها شفتي 

فزعموا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدَّ يده من قبره؛ فقبلها الرفاعي!! وقد شاهد هذه القصة جمعٌ يقارب 90000 شخص!! ولا شكَّ أن هذه القصة من الكذب الظاهر، الذي لا يحتاج إلى تعليق.

ولا شكَّ أن هذه فرية ما فيها مرية، فما أسهل أن يفتري المفترون، ويكذب الكاذبون، وفي المقابل ما أسهل أن تنهار شُبه الباطل أمام دعوة الحق، وقد تصدى للرد على هذه الفرية الإمام العلامة محمود شكري اللألوسي في كتابه النفيس "غاية الأماني في الرد على النبهاني" وقد بيَّن فيه كذب وقوعها أصلاً، وبطلانها من خمسة أوجه، وهي:

(1) أن هذه القصة لم يذكرها أحدٌ ممن ترجم للرفاعي؛ إذ لو كانت ثابتةً لما خفيت عليهم، ولذكروها وعدوها أعظم مناقبه وأكبر مفاخره، حتى السُّبكي الذي يُعد من أبرز المتعصبين للمتصوفة، ولا سيما من كان على مذهبه ونحلته الأشعرية، لم يذكر هذه القصة في ترجمة الرفاعي المذكور، ولو صحَّت -وهي طبعاً لم تصح ولن تصح -لعُدت غرة وجه مناقبه، إذ لو صحت لكانت أحق بالذكر من جميع ما ذكره المتصوفة، فلما لم يذكروها علمنا أنها من اختراع أفّاكٍ أثيم.

(2) أن أحسن من روها وأسندها هو السيوطيُّ؛ حيث أسندها إلى بعض المجاميع، ولم يذكر لها سنداً لا صحيحاً ولا وهياً، مع أن حاله في الرواية معلوم، وهذه القصة لو صحت لتوافرت الدواعي على نقلها، لأنها حادثٌ عظيم، وخارقٌ عجيب، ولم نجد من ذكرها إلا الدجالون والمضلون.

(3) أن رواة هذه الأكذوبة ادعوا أن من حضر القصة وشاهد مدَّ اليد، وسمعوا ردَّ السلام نحو مائة ألف أو يزيدون، وهذا من أكبر شواهد هذا الكذب والبهتان، فأين المحل الذي يسع هذا الجمع الغفير في المسجد، وكلهم يُشاهد ويسمع، فمثل هذه الفرية لا تروج إلا على ضعفاء العقول.

(4) أن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين المذكورين إلى غير أحمد الرفاعي، كما فعل صلاح الدين الصفدي الذي عزاها إلى ابن الفارض، وأنه قالها للسهروردي حين اجتماعه به في مكة. وكذا فعل الشهاب الخفاجي الشافعي في كتابه "طراز المجالس".

(5) أن أحمد الرفاعي قد نقل عنه الرواة الثقات خلاف ما يدعيه من انتمى إليه من المبتدعة والفساق، وأنه لم يزل على النهج المستقيم؛ فحسن الظن به يقتضي عدم مخالفته للسنة!!

وهذا هو حال هذه الأكذوبة وأمثالها.

وفي إبطال القول برؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه بعد وفاته، يقول الإمام الألوسي: "ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نُسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه؛ لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وإلى أبي بكر وعلي ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادّعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره".

وبهذا يتضح بطلان هذه الدعوى التي يترتيب على القول بها خطرٌ عظيم، فهؤلاء أرباب الموالد في ليلتهم المزعومة يُمارسون الطقوس الشيطانية، ويزعمون حضور الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مجلسهم، فيقومون له بزعمهم، وربما ادَّعى بعضهم رؤيته ومشافهته، ومصافحته، كل ذلك بعد هذيانٍ محموم بنباحٍ قبيح، يهون معه نيح الكلاب، في بدعٍ لا حصر لها، وممارسات لا ضابط لها، واعتقادات لا مستند لها، إلا وساوس الشيطان، ودعاوى المرتزقة من أدعياء العلم، الذين ضربوا فيه بأطناب الخزعبلات المضحكة، والضلالات المهلكة، نسأل الله العفو والعافية.

ضوابط العمل بالرؤية المنامية 

للنبيِّ صلى الله عليه وسلم

ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته المعروف بها، وزعم أنه أعطاه وِرْداً أو أمره بأمر أو نهاه عنه، فينظر فيه: 

(1) فإن كان مما ثبت بالشرع وجاء به الكتاب والسنة فالالتزام به التزام بالشرع وبما جاء به، والرؤيا تأنيس للرائي، وبشارة له، وحث له على ذلك الخير المشروع.

(2) وإن كان مما لم يثبت بالشرع فلا يكون حجة، ولا يثبت به حكم شرعي، ولا شعيرة تعبدية، فإن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قد كمل، والدين قد تم، ولم يرد دليل على أن من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام بعد موته وأمره بأمر أو نهاه عن أمر يكون ذلك دليلا وحجة، بل قبضه الله إليه بعد أن أكمل لهذه الأمة ما شرع، وبعد أن أمرهم بالتمسك به ، وعدم الأخذ بغيره ، ونهاهم عن الإحداث والابتداع فيه.

ذكر بعض الروايات التي ذكرها السيوطي 

في كتابه هذا -والتعليق عليها

أ- نقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر في "الفتح"، قال: وذكر ابن أبي جمرة، عن بن عباس أو غيره: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فبقي بعد أن استيقظ متفكراً في هذا الحديث؛ فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها فرأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه!.

هكذا ذكره من غير إسنادٍ، ومثل هذا لا يُعوَّلُ عليه، وأما حديث: (مَن رآني في المنامِ فقد رآني؛ فإنِّي أُرى في كلِّ صورةٍ)؛ فقد ضعفه الحافظ أن حجر في "الفتح"، وقال: "في إسناده صالح مولى التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه وهو من راوية من سمع منه بعد الاختلاط"، وضعفه القسطلاني في "المواهب اللدنية"، والعيني في "عمدة القاري"، والسخاوي في "الأجوبة المرضية"، وقد أخرجه الديلي في "الفردوس".

ب- قال السيوطيُّ نقلاً عن ابن حجر في "الفتح": ونقل عن جماعة من الصالحين -وقد حرفها السيوطي إلى "ذكر السَّلف والخلف" -أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك.

 قال الحافظ ابن حجر: وهذا مشكل جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. ويعكر عليه أن جمعا جماً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف. وبذلك يظهر بطلان دعوى السيوطي من إمكان رؤية الأنبياء في اليقظة.

 قال السيوطيُّ رحمه الله: ومراده بقوله (من رآني في المنام فسيراني في اليقطة) وقوع الرؤية الموعود بها في اليقظة على الرؤية في المنام ولو مرة واحدة تحقيقاً لوعده الشريف الذي لا يخلف، وأكثر ما يقع ذلك للعامة قُبيل الموت عند الاحتضار، فلا يخرج روحه من جسده حتى يراه وفاءً بوعده، وأما غيرهم فتحصل لهم الرؤية في طول حياتهم إما كثيراً وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، والإخلال بالسنة مانعٌ كبير من الرؤية.

ج- وفي حديث ابن عباس: «سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بين مكة والمدينة فمررنا بواد؛ فقال: أي واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية ماراً بهذا الوادي ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، قال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف ماراً بهذا الوادي ملبياً».

والجواب: أن هذا الإخبارُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما هو إلَّا إخبارٌ عن أفعالِ الأنبياءِ في حياتِهم وسابِقِ أيَّامِهم، وحَكَاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أَعْلَمَهُ اللهُ مِن أخْبارِهِمْ. وليس فيه دليل على أن الأنبياء يخرجون من قبورهم، ليفعلوا هذه الأمور كما حاول السيوطيُّ صرف هذا الحديث لذلك المعنى البعيد.

إمكان رؤية المؤمنين للملائكة عند تشكلهم

بصور الآدميين، لا بصورهم الحقيقية

وقد ثبت بالدليل إمكان رؤية المؤمنين للملائكة الكرام عليهم السلام، متشكلين على هيئة بشرية وأما صورهم الحقيقية فلا يراها إلا الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة كانت تُصافح عمران بن الحصين: وتُسلم عليه ثلاثين سنة، كما أخبر بذلك مُطرِّفٌ عنه. ثم لما اكتوى تركت الملائكة السلام عليه، قال السيوطيُّ: فانظر كيف حجب عمران عن سماع تسليم الملائكة، لكونه اكتوى مع شدة الضرورة الداعية إلى ذلك؛ لأن الكي خلاف السنة ! وقال البيهقي في "شعب الإيمان": لو كان النهي عن الكي على طريق التحريم لم يكتو عمران مع علمه بالنهي، غير أنه ركب المكروه ففارقه ملك كان يسلم عليه فحزن على ذلك، ثم قد روي أنه عاد إليه قبل موته.

وثبت ذلك لسعد بن أبي وقاص، الذي رأى عن يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ملكاً، وعن شماله ملكاً يوم أحد، وكانا يُقاتلان حوله، وكذلك لرجل من الأنصار رأى جبريل على صورة رجلٍ يُخاطبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وممن يُروى عنه أنه رأى جبريل أو سمعه: تميم بن سلمة، وحارثة بن النعمان، وعبد الله بن عباس، وأبو بكر، وحذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأُسيد بن حضير، وأبو أُسيد الساعدي، 



الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء (عرض ونقد) إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء

الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا الكتاب هو جزء من كتاب "الحاوي للفتاوي" للإمام السيوطي، ويقع في "الجزء الثاني" من الفتاوى الأصولية الدينية، وبالتحديد في مبحث النبوات، وقد أراد الإمام السيوطي في هذا الكتاب إثبات حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها حياة حقيقة مماثلة لحياة الناس في الدُّنيا، وقد أفاض السيوطي رحمه الله -في تأييد ما ذهب إليه بالآثار المنقطعة والواهية والضعيفة، حتى أنه أورد بعض كلام أهل البدع والمتصوفة، الذين يُثبتون لأنفسهم رؤيا الأنبياء في قبورهم كما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم موسى في قبره ليلة أسري به، ومن أعحب ما قاله: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتردد في أقطار الأرض ليُحلَّ البركة فيها، وأنه يحضر جنازة من مات من صالح أمته!. قال: فإن هذه الأمور من جملة أشغاله"!! وهذا من أعظم الباطل.

وفي المقابل نجده يتوسع في الحديث عن هذه المسألة في كتابه "تنوير الحلك"، وأثبت إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبته وسماع كلامه وهو في قبره، وحاول أن يُدلِّل على دعواه باستدلالات واهية، وحكايات منامية باطلة، إلا أن أهم دليلٍ تشبث به لاثبات هذا الأمر: الحديث الذي أورده بلفظ: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وينقل ذلك عن عددٍ من الأشاعرة؛ كالبيهقي، والقرطبي، والبارزي، وعبد القاهر البغدادي، والفاكهاني، وعفيف الدين اليافعي وحاصل كلامهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد صار حياً بعد وفاته وهو على نبوته.

ولعلَّ أعدل الأقوال وأقربها إلى الحق هو ما ذكره التقيّ السُّبكي، وهو قوله: ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وأما الإدراكات كالعلم والسماع؛ فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى"، ولكن السماع مختصٌّ بمن يُسلم عليهم، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الثابت: "ما مِن رَجُلٍ يمر بقبرِ الرَّجُلِ كان يعرِفُهُ في الدُّنيا فيُسلِّمُ عليهِ إلا ردَّ اللَّهُ عليهِ رُوحَهُ حتّى يرُدَّ عليهِ السَّلامَ"، ولا شكَّ أن الميت يُدرك السلام، ويردُّه.

وقد جعل الإمام السيوطي كتابه هذا على قسمين: 

القسم الأول: قصد منه إثبات حياة الأنبياء في قبورهم من خلال الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وهي إما صحيحة لا تؤدي المعنى الذي أراده، أو ضعيفةٌ تحتمل المعنى الذي قصده، ولا دلالة فيها بوجهٍ من الوجوه.

القسم الثاني: قصد فيه الجواب على حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي)، ، وذلك التزاماً لما قال به الأشاعرة أن الروح إذا فارقت البدن فنيت، وأن إعادتها يلزم منه خلق روحٍ جديدة فيه، وفصَّل فيه القول من خمسة عشر وجهاً، وأقواها ما كان مجازاً، ولا يُلجأ للمجاز إلا عند تعذر الحقيقة، والحقيقة ممكنة، بل ثابتة بالنص، وقد بيَّنت ضعفها في التعليق عليها، كذلك فإن كثرة الأجوبة عن الحديث الواحد يدلُّ على الاضطراب في تأويله، والحمل على الظاهر أولى من التكلف في الرد.

الجواب على من يستدل بحياة الشهداء على حياة الأنبياء 

ويجعل حياتهم البرزخية مماثلة لحياتهم الدنيوية 

وأعظم ما يستدلُّ به القائلين بحياة الأنبياء بعد موتهم، هو قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} /البقرة: 154/، ومعلومٌ أن الأنبياء أعظم من الشهداء، ولذلك كانوا أحقَّ بالحياة منهم. 

وقد صرَّح بذلك السيوطيُّ في كتابه "هذا": وقد قال تعالى في الشهداء (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). قال: والأنبياء أولى بذلك فهم أجل وأعظم وما نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة فيدخلون في عموم لفظ الآية، وقال بعد أن سرد جملةً من الآثار: فهذه الأخبار دالة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء.

كذلك استدلوا بأن عقد نكاحه صلى الله عليه وسلم على زوجاته بقي على ما كان عليه ولم ينفسخ وأنهن بقين في عصمته، ولذلك لم يحل نكاحنَّ لغيره، بالإضافة إلى نصوص أخرى ذكرها البيهقيُّ في كتابه "حياة الأنبياء".

وقد ذكر الإمام ابن القيم هاتين الحجتين بقوله في "نونيته المشهورة":

فإن احتججتم بالشهيد بأنه ... حيّ كما قد جاء في القرآن

والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيان

فلذاك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والبرهان

وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيان

ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمان

أفليس في هذا دليل أنه ... حيّ لمن كانت له أذنان

ويردُّ على احتجاجهم بهذين الدليلين بما يلي:

أما الدليل الأول: فهو دليلٌ عليهم لا لهم؛ لأن حياة الشهداء ثابتةٌ بالنص، وليس ثبوتها بالقياس المستوفي لأركانه، كما ورد النهي الصريح في القرآن عن تسمية الشهيد ميتاً، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} /البقرة: 154/، وكما في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} /آل عمران: 169/ ومع ذلك لم تقتض هذه الحياة شيئاً مما جعلتموه دليلاً على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره، فإن نساء الشهيد يجوز نكاهن بعد موته، وماله مقسوم بين ورثته، ولحمه تأكله الأرض وسباع الوحش والطير والديدان، ومع ذلك فهو حيٌّ كما أخبر الله، فرح مستبشرٌ بكرامة الله ورضوانه، فدل ذلك على أن حياة الشهداء التي نصَّ عليها القرآن ليست تلك الحياة الجسدية في القبر، ولكنها حياة لأرواحهم عند الله كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها (أي أرواحهم) تُجعل في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها، فهم بذلك فرحين مستبشرين بكرامة الله كما في قوله: { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} /آل عمران: 170/ ولا شك أن الرسل أولى بتلك الحياة عند الله مع موت جسومهم، وهي طرية في التراب، وقد حرَّم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وهذه مزية عظيمة للأنبياء، مع أن بعض أتباع الأنبياء منَّ الله عليهم بهذه الخصيصة أيضاً، وقد شوهد ذلك عياناً. 

وقد أجمل الإمام ابن القيم هذه الإجابة على هذا الاستدلال،بقوله:

فيقال أصل دليلكم في ذاك ... حجتنا عليكم وهي ذات بيان

إن الشهيد حياته منصوصة ... لا بالقياس القائم الأركان

هذا مع النهي المؤكد أننا ... ندعوه ميتاً ذاك في القرآن

ونساؤه حل لنا من بعده ... والمال مقسوم على السهمان

هذا وأن الأرض تأكل لحمه ... وسباعها مع أمة الديدان

لكنه مع ذلك حيّ فارح ... مستبشر بكرامة الرحمن

فالرسل أولى بالحياة لديه مع ... موت الجسوم وهذه الأبدان

وهي الطرية في التراب وأكلها ... فهو الحرام عليه بالبرهان

ولبعض أتباع الرسول يكون ذا ... أيضا وقد وجدوه رأي عيان

أما الدليل الثاني: فليس فيه دليلٌ أيضاً على حياته في قبره؛ لأن تلك المنقبة لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي خصوصية اختصهنَّ الله بها، حيث إن نساءه صلى الله عليه وسلم لم ينفسخ نكاحهن منه، فيبقين محرمات على غيره، لأن الله سبحانه خيرهن بين رسوله وبين من سواه، فاخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوة إيمانهن، فشكر الله لهن هذا الاختيار وقصر رسوله عليهن، بقوله: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} /الأحزاب: 52/، رحمةً منه بهن، وشكراً لهن، وكذلك قصرهن عليه، فهن زوجاته في الدنيا والآخرة، ولذلك حُرمن من بعده على من سواه، ومع ذلك جرى عليهم من العدة الشرعة ما يجري على النساء المتوفى عنهن أزواجهن.

ويُجمل ابن القيم هذا الرد بقوله:

لكن رسول الله خص نساؤه ... بخصيصة عن سائر النسوان

خيرن بين رسوله وسواه ... فاخترن الرسول لصحة الإيمان

شكر الإله لهن ذلك وربنا ... سبحانه للعبد ذو شكران

قصر الرسول على أولئك رحمة ... منه بهن وشكر ذي الإحسان

وكذاك أيضا قصرهن عليه ... معـلوم بلا شك ولا حسبان

زوجاته في هذه الدنيا وفي ... الأخـرى يقينا واضح البرهان

فلذا حرمن على سواه بعده ... إذ ذاك صونا عن فراش ثان

لكن أتين بعدة شرعية ... فيها الحداد وملزم الأوطان

يقول الإمام السيوطي في هذا الكتاب: "قد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)؛ فظاهره مفارقة الروح في بعض الأوقات، فكيف الجمع ؟ وهو سؤال حسن يحتاج إلى النظر والتأمل.

ثُمَّ قال في الجواب: "حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا علماً قطعياً؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت الأخبار. وقد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء في قبورهم"، وسرد السيوطي الأدلة التي ساقها الإمام البيهقي في كتابه المذكور، وقد وفَّينا الحديث عليها عند كلامنا على كتاب "البيهقي" فانظره.

ولا شكَّ أن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنها حياةٌ برزخية خاصة، لا تماثل حياتهم في الدُّنيا، وهي أكمل من حياة الشهداء، خلاف ما ادَّعاه البيهقي رحمه الله،  

ذكر الأحاديث التي تفرد السيوطيُّ بذكرها دون الإمام البيهقي

 في هذه المسألة والجواب عنها

(1) أخرج أبو نعيم في "الحلية" عن يوسف بن عطية قال: سمعت ثابتاً البناني، يقول لحميد الطويل: هل بلغك أن أحداً يصلي في قبره إلا الأنبياء؟ قال: لا.

وزاد أبو نعيم -وأغفله السيوطي -قال ثابت: "اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لثابت أن يصلي في قبره"، وعند البيهقي في "الشعب": قال: وسمعت ثابتا، يقول: " اللهم إن كنت أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي".

وهذا الإسناد ضعيفٌ جداً، فيه  يوسف بن عطية بن باب الصفار،  قال البخاري: منكر الحديث، وذكره أبو زرعة الرازي في "أسامي الضعفاء"، وقال أبو داود: ليس بشيءٍ، وقال النسائي: متروكُ الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: متروك.

ويُعارضه الحديث الذي أخرجه ابن جرير في "مسند عمر"،  وابن حبان في "صحيحه"، بإسنادٍ صحيح، عن أبي هريرة مرفوعاً: أن الملكين حينما يأتيان المؤمن، ويقالُ له اجلسْ فيجلسُ قدْ مُثِّلَتْ له الشمسُ قد دنت للغروبِ فيقالُ له أخبرْنا عما نسألُكَ فيقولُ دَعوني حتى أُصَلِّيَ فيقالُ له إنكَ ستفعلُ". وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمن يُصلي في قبره.

(2) وأخرج أبو يعلي، من طريق أبي صخر حميد بن زياد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم ثم لئن قام على قبري؛ فقال: يا محمد، لأجيبنه).

قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "الصحيحة": إسناده جيد -يعني بمجموع الطرق، وأبو صخر مختلفٌ فيه؛ فقد ضعفه ابن معين والنسائي، وأحمد في رواية، وقد وثقه الدارقطني، وقال فيه أحمد في رواية أخرى: ليس به بأس، وقد ورد بلفظ آخر عند الحاكم: من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن عطاء "مولى أم صبية"، عن أبي هريرة: (وليأتين قبري فليسلمن علي ولأردنَّ عليه)، وعطاء مولى أم صبية قال فيه الذهبي في "الميزان": لا يُعرف، ومحمد بن إسحاق مُدلِّس لا تُقبل عنعنته كما هنا. وعند ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة.  

وأيضاً: فسعيد المقبري رمي بالاختلاط في آخر عمره ، وقيل : إن أثبت الناس فيه الليث بن سعد –كما في  ميزان الاعتدال"، وقد رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه اللفظ محل الإشكال كما عند مسلم في "الصحيح". وذكر الحافظ ابن عساكر رواية الليث بن سعد هذه في تاريخ دمشق، وقال: "وهذا هو المحفوظ" وهذا فيما يظهر إشارة من الحافظ بن عساكر رحمه الله، إلى تضعيف هذه الألفاظ، وأنها ألفاظ شاذة غير محفوظة.

ثم ذكر ابن عساكر الألفاظ الأخرى التي رواها محمد بن إسحاق، وأبو صخر ، وهي محل الإشكال، وخلاصة القول: أن اللفظ المقطوع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الجملة محل الإشكال، وثبوت الجملة محل الإشكال غير مقطوع به.

 وعلى القول بصحة الحديث؛ فإن ظاهر النداء هو السَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل الرواية الأخرى (فليسلمنَّ عليَّ)، وتكون إحدى الروايتين مُبينة للمراد من الرواية الأخرى، وبالتالي يزول الإشكال بالكلية؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم سلام من يسلم عليه: ثابت في حق غير عيسى عليه السلام، وغيره ولا إشكال فيه: كما ورد في حديث أبي داود الصحيح: (ما مِن أحَدٍ يُسلِّمُ علَيَّ إلّا ردَّ اللهُ علَيَّ رُوحي حتّى أرُدَّ عليه السَّلامَ) وتقتضي الروايات السابقة مع هذا الحديث سماع عيسى بعليه السلام إجابة نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا الأمر معجزةً لنبينا صلى الله عليه وسلم الذي أخبر بوقوع ذلك بعد وفاته، وهو خصيصةً لعيسى عليه السلام حيثُ يُسمعه الله عز وجل جواب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو كان هناك إذن من الله بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لوقع ذلك؛ وحيث لم يقع ذلك فيثبت الاختصاص.

وهذا الحديث فيه ردٌّ على من جعلوا سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجابته عامةً لكل البشر. ولو شاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم لقال ذلك، ولكن لم يثبت عنه شيء في ذلك. بل إن النبي لم يقل هذا في المهدي الذي يكون مرافقاً لعيسى عليه السلام إذ ذاك، فهذا الجواب من النبيِّ صلى الله عليه وسلم على تقدير وقوع الخطاب من عيسى بن مريم عليه السلام يكون خاصاً به.

(3) وأخرج أبو نعيم في "دلائل النبوة"، عن سعيد بن المسيب قال: "لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الآذان من القبر". وتمامه: "ثم أتقدم فأقيم وأصلي وإن أهل الشام ليدخلون المسجد زمرا فيقولون: انظروا إلى الشيخ المجنون".

وفي إسناده عبد الحميد بن سليمان: ضعفوه، وذكره ابن عقيل في "الضعفاء"، وقال: عَن يَحْيى بن معين، قَالَ: عَبد الحميد بن سليمان أخو فليح ليس بشَيْءٍ، وقال مرَّة: ليس بثقة. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال النسائي، والدارقطني وغيرهما: ضعيف. وعليه فلا يُعوَّل على هذا الأثر.

(4) وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" عن سعيد بن المسيب قال: "لم أزل أسمع الآذان والإقامة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحرة حتى عاد الناس". وهذا ضعيفٌ كالذي قبله.

(5) وأخرج ابن سعد في "الطبقات"، عن سعيد بن المسيب: "أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع آذانا يخرج من قبل القبر الشريف".

(6) وأخرج الدارمي في "سنده" قال أنبأنا مروان بن محمد عن سعيد ابن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولم يقم ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم معناه.

وذكره الهيثمي في "تحفة الزوار" (ص 49): وعدَّه أوفى دليلٍ على استمرار حياته في قبره.

 وهذا الحديث رجاله ثقات، ولكن سعيد بن عبد العزيز أصغر من أن يدرك هذه الحادثة أو يسمع من سعيد بن المسيب، ولم نجد من صرَّح بسماع سعيد بن عبد العزيز من سعيد بن المسيب، وذلك بعد البحث في كتب التراجم والرجال المتوفرة، ثم إن سعيد بن عبد العزيز مختلط، ولا ندري هل سمع منه الراوي عنه قبل الاختلاط أو بعده.

ثانياً: أنه ليس في الأثر عند الدارمي ذكر أذان ولا إقامة، ولكن الذي عنده أنه سمع همهمة من القبر.

ثالثاً: أنه لو فُرض سماع أذان أو إقامةٍ من القبر الشريف؛ فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم -هو الذي كان يؤذن أو يُقيم، وهو وإن كان صلى الله عليه وسلم حيَّاً عند ربه، فإن حياته صلى الله عليه وسلم -ليست نظير الحياة المعهودة في حياتنا، فإن هذا اعتقادٌ باطلٌ، ولوازمه تبعٌ له في البطلان.

ولم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم أنه أذن في حياته، سوى ما ورد أنه أذَّن في أذن الحسن والحسين، فإذا لم يثبت ذلك في حياته؛ فلا يُمكن أن يثبت ذلك له بعد وفاته وانتقاله، ثُمَّ إن صلاته صلى الله عليه وسلم في قبره دائمةٌ، ولا تحتاج إلى إذانٍ ولا إقامة؛ لأنه في عالم البرزخ وليس في عالم الدُّنيا، بحيث يتبين له دخول الوقت وخروجه.

وقد ذكر أهل العلم حكماً وعللاً وأسباباً عدة، لعدم أذان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، نجملها فيما يلي:

أولًا: أنه لو أذن لكان من تخلف عن الإجابة داخلًا تحت قوله تعالى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حي على الصلاة" ولم يعجلوا، لحقتهم العقوبة، حسبما أشار العلامة الحطاب في "مواهب الجليل".

ثانيًا و ثالثًا: لأنه بُعِث داعيًا وشاهداً، فلم يَجُز أن يشهد لنفسه. أو أنه لو أذّن وقال "أشهد أن محمدًا رسول الله" لتُوهِّم أن هناك نبيًّا غيره.

رابعًا: أن الأذان رآه غيره في المنام، فوكَّله إلى غيره، فالأذان شُرع بناء على رؤية منامية رآها غير الرسول لكنه صلى الله عليه وسلم أقرّها ووكلها إلى غيره لانشغال النبي بأمور أخرى كثيرة.

خامسًا: كما أن الأذان أمانة أسندها الرسول إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم "الإمام ضامن، والمؤذن أمين" رواه أحمد والترمذي وأبو داوود، ومن الطبيعي أن يكون المؤذن أميناً؛ لأنه لا ينادي فقط للصلاة وإنما للإمساك والإفطار للصائمين في شهر رمضان.

سادسًا: انشغاله صلى الله عليه وآله وسلم وضيق وقته، وكذلك الخلفاء الراشدين من بعده، لم يتول أحد منهم الأذان.

(7) أخرج أحمد، وأبو يعلي، والطبراني، والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "دلائل النبوة"، عن ابن مسعود قال: "لأن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً أحب إلى من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل وذلك أن الله اتخذه نبياً واتخذه شهيداً".

وهذا حديثٌ صحيحٌ، قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر، وشعيب الأرناؤوط، وقال: على شرط مسلم. ولا دلالة لما ذكره السيوطي؛ إذ حياة الشهداء برزخيَّةٌ أيضاً، وليست حياةً دنيوية، والأنبياء حياتهم أكمل من حياة الشهداء.

(8) وأخرج البخاري والبيهقي عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم". 

قال السيوطيُّ: فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حياً في قبره بنص القرآن: إما من عموم اللفظ وأما من مفهوم الموافقة. قلتُ: وهي حياةٌ برزخية خاصَّة كما تقدَّم.

ونقل عن شيخ القرطبيِّ في "التذكرة": فيحصل من جملة الأدلة القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيّبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة؛ فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحدٌ من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته من أوليائه.

وهذا الكلام الذي ذكره القرطبيُّ باطلٌ، لا يصحُّ بحال، ويلزم عليه لوازم باطلة، وقد أجاب عليه الحافظ في "الفتح" بقوله: "وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل".

ذكر جواب السيوطي على حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي)

والجواب عليه

قال السيوطيُّ: (فصلٌ): وأما الحديث الآخر فأخرجه أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من طريق أبي عبد الرحمن المقري، عن حيوة بن شريح، عن أبي صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قشيط، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إليّ روحي حتى أرد عليه السلام).

قال السيوطيُّ: ولا شك أن ظاهر هذا الحديث مفارقة الروح لبدنه الشريف في بعض الأوقات وهو مخالف للأحاديث السابقة وقد تأملته ففتح علي في الجواب عنه بأوجه:

الأول وهو أضعفها: أن يدعى أن الراوي وهم في لفظة من الحديث حصل بسببها الإشكال، وقد ادعى ذلك العلماء في أحاديث كثيرة لكن الأصل خلاف ذلك فلا يعول على هذه الدعوى.

قلتُ: وهذا الحديث حسَّن إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب"، وقال ابن القيم في "جلاء الأفهام": إسناده صحيح، وقال ابن حجر، والسخاوي في "القول البديع": رجاله ثقات، وقال ابن الملقن: إسناده جيد، وقال الألباني: حسن، والأرناؤوط في "تخريج المسند".

الثاني: وهو أقواها ولا يدركه إلا ذو باعٍ في العربية: أن قوله (ردَّ اللهُ) جملة حالية وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلاً ماضياً قدرت فيها "قد"، كقوله تعالى (أو جاؤكم حصرت صدورهم) أي قد حصرت، وكذا تقدر هنا والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد. وحتى ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى الواو فصار تقدير الحديث: (ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك فأرد عليه).

ثم قال: وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله.

وأيده من حيث المعنى أن الرد ولو أخذ بمعنى الحال والاستقبال لزم تكرره عند تكرر المسلمين وتكرر الرد يستلزم تكرار المفارقة وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران: (أحدهما) تأليم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح منه أو نوع ما من مخالفة التكريم إن لم يكن تأليم، (والآخر) مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم. فإنه لم يثبت لأحد منهم أن يتكرر له مفارقة الروح وعودها في البرزخ. والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومحذور (ثالث) وهو مخالفة القرآن فإنه دل على أنه ليس إلا موتتان وحياتان وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل، ومحذور (رابع) وهو مخالفة الأحاديث المتواترة السابقة، وما خالف القرآن والمتواتر من السنة وجب تأويله، وإن لم يقبل التأويل كان باطلاً؛ فلهذا وجب حمل الحديث على ما ذكرناه.

والجواب على هذا الإشكال: أن الحياة البرزخية للأنبياء لا تقتضي مفارقة الروح للبدن بالكلية، بل لها نوع تعلُّقٍ به، بحيث يردُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سلام من سلَّم عليه، وعلى هذا يتبين أن هذا الذي التزمه من عودة الروح بالكلية إلى الجسد ثُم مفارقتها إياه التزامٌ باطل، وكذلك فإن السيوطي رحمه الله بإثباته عودةً الروح إلى الأنبياء قبل يوم القيامة يكون أثبت ثلاثة موتات، وهو ما حاول تأييد كلامه به، فكان حجَّةً عليه لا له، لأنه عند النفخ في الصور لا يبقى على وجه الأرض أحدٌ إلا مات، والقول بأن الأنبياء أحياءٌ يقتضي أنهم يموتون، وهذا باطلٌ؛ لقوله جل وعلا: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}، وهذا عامٌ في الأنبياء وغيرهم. وما ذكرناه من أن حياة الأنبياء في قبورهم إنما هي حياةٌ برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسُّنة، وبه تجتمع الأدلة وتتفق النصوص، بخلاف ما ذكره السيوطي، الذي يحصل معه التعارض والتناقض ولا بُد.

الوجه الثالث: أن يقال أن لفظ "الرد" قد لا يدل على المفارقة، بل كُنّى به عن مطلق الصيرورة؛ كما قيل في قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم}. أن لفظ العود أريد به مطلق الصيرورة لا العود بعد انتقال لأن شعيباً عليه السلام لم يكن في ملتهم قط، وحسن استعماله هذا اللفظ في هذا الحديث مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله (حتى أرد عليه السلام)، فجاء لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث.

والجواب على هذا الوجه: أنه جاء في كتاب الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ميِّتٌ؛ كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، وقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } /آل عمران: 144/، وعليه فقد صحَّ وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات حقيقةً، وفارقت روحه جسده، فلا وجه لما ذكره السيوطي رحمه الله أن الموت في حقه كان غيبوبة، وأن الرد هنا مجازي وليس حقيقي، وقد قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} /العنكبوت: 57/، ولا يخرج من هذا العموم أحدٌ لا من الأنبياء ولا من غيرهم.

الوجه الرابع: أنه ليس المراد برد الروح عودها بعد المفارقة للبدن، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ مشغولٌ بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهدة ربه كما كان في الدنيا في حالة الوحي وفي أوقات أخر فعبر عن إفاقته من تلك المشاهدة وذلك الاستغراق برد الروح. ونظير هذا قول العلماء في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء وهي قوله: (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام) ليس المراد الاستيقاظ من نوم! فإن الإسراء لم يكن مناماً وإنما المراد الإفاقة مما خامره بن عجايب الملكوت، وهذا الجواب الآن عندي أقوى ما يجاب به عن لفظة "الرد" وقد كنت رجحت الثاني ثم قوى عندي هذا.

والجواب: أن كلام السيوطي هنا يُشبه الوجه الثالث من حيث اشتراكهما في إثبات الغيبة المعنوية ، وإنكار المفارقة الحسية للروح من البدن، وهذا الوجه وإن كان فيه نوع حقٍّ من حيث أن روح النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السماء تتنعم بما أعدَّ الله عز وجل لها من الرزق الكريم والمقام الحسن إلا أن كلام السيوطي هنا معناه أن حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قبره تماثل الحياة الدنيوية تماماً، وأنَّه قد يغيب عنها أحياناً لمشاهدة عظيم فضل الله عليه، ثُمَّ يفيق من ذلك ليردَّ على من سلَّم عليه ونحو ذلك، وبهذا يجعله كالنائم تماماً، وهو باطلٌ بما قدَّمنا من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مات حقيقةً، وأن روحه متعلقة ببدنه تعلُّقاً خاصاً، يقدر به على رد السلام والصلاة ونحو ذلك.

الوجه الخامس: أن يقال إن الرد يستلزم الاستمرار لأن الزمان لا يخلو من مصل عليه في أقطار الأرض فلا يخلو من كون الروح في بدنه… وحالته صلى الله عليه وسلم (يعني من السماع) في برزخ كحالته في الدنيا سواء!!.

والجواب عليه: أن الرد لا يستلزم استمرار الروح بالبدن، لأن الروح تتعلق بالبدن تعلُّقاً خاصاً لا نعلمه، بحيث لا تعود إلى الجسد الحياة الكاملة، وأما أن الزمان لا يخلو من مُصلٍّ عليه في أقطار الأرض؛ فنعم، ولكن لا تُقاس حياته في البرزخ بحياته في الدنيا، ثم إن القول: بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه بواسطة الملائكة، وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة. وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، وليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يُسَلِّم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان". ومفهوم كلام السيوطي باطل؛ فلو فُرض خلو بعض الزمان من المصلين عليه، فهل يلتزم أن مفارقة الروح تحصل في وقتٍ دون وقت؟ أم أنه سيقرر الوجه الثالث؟! وكلاهما معلوم البطلان.

السادس: قد يقال أنه أوحى إليه بهذا الأمر أولاً قبل أن يوحي إليه بأنه لا يزال حياً في قبره فأخبر به، ثم أوحى إليه بعد بذلك فلا منافاة لتأخير الخبر الثاني عن الخبر الأول.

والجواب: أن هذا القول عند فرض وجود التعارض، ولا تعارض بحمد الله، لأن أخبار النبيِ صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقبر وعذابه لا تتعارض ولا تتناقض، وقد جمع العلماء بين أحاديث حياة الأنبياء في قبورهم، وبين كونهم ماتوا حقيقةً، بأن الحياة الثابتة لهم في القبور هي حياة برزخية خاصة، لا تشبه حياتهم الدنيوية، وهي أكمل من حياة الشهداء.

السابع: وقد ذكره عن الفاكهاني المالكي: المراد بالروح هنا النطق مجازاً؛ فكأنه قال عليه السلام إلا رد الله إلي نطقي وهو حي على الدوام لكن لا يلزم من حياته نطقه فالله سبحانه يرد عليه النطقة عند سلام كل مسلم وعلاقة المجاز أن النطق من لازمه وجود الروح كما أن الروح… وهذا الذي ذكره من الجواب ليس واحدا من الستة التي ذكرتها فهو إن سلم جواب سابع عندي… وحال الأنبياء عليهم السلام في البرزخ مصرحة بأنهم ينطقون كيف شاؤا لا يمنعون من شيء بل وسائر المؤمنين كذلك الشهداء وغيرهم ينطقون في البرزخ بما شاؤا غير ممنوعين من شيء ولم يرد أن أحداً يمنع من النطق في البرزخ إلا من مات عن غير وصية. أخرج أبو الشيخ بن حيان في كتاب الوصايا، عن قيس بن قبيصة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى"، قيل يا رسول الله وهل يتكلم الموتى؟ قال: "نعم ويتزاورون".

والجواب: أنه لا يُصار إلى المجاز إلا عند تعذُّر الحقيقة، والحقيقة هنا غير متعذرة، بل هي ممكنة، بل وهي ثابتةٌ بالنص، والحقيقة المعتبرة هنا هي الحقيقة الشرعية التي تثبت خروج الروح من البدن حين الموت، وأن الله عز وجل يردُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم روحه ردَّاً خاصاً لا تحصل معه الحياة الكاملة، ولا يتعذر بها ردُّ السلام على من يُسلم عليه. والحديث الذي ذكره ضعف ابن حجر في "الإصابة"، وقال: إسناده ضعيف. وإن ثبت فإن مقتضاه أن الموتى يكلمون بعضهم بعضاً ويسمعون بعضهم ويُجيبون بعضهم، ويتزاورون فيما بينهم، لأنهم من عالم البرزخ، ولا يُقاس عالم الغيب بعالم الشهادة؛ فتبين الفرق من اختصاص ذلك بالموتى دون الأحياء، وأما ردُّ السلام على الأحياء فهذا ثابتٌ بالنص، ولا يُسعف ذلك في إثبات حياة للموتى في قبورهم، تماثل الحياة الدنيوية.

الثامن: "عده الحادي عشر"، وهو أنه ليس المراد بالروح روح الحياة، بل الارتياح كما في قوله تعالى (فروح وريحان)؛ فإنه قرئ فروح بضم الراء، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له بسلام المسلم عليه ارتياح وفرح وهشاشة لحبه ذلك فيحمله ذلك على أن يرد عليه.

وهذا خلاف ظاهر النص الذي ذكر تعليل ردِّ الروح برد السلام، وذكر العلة يدلُّ على حقيقة اللفظ، وأنه ردٌّ خاص للروح، على ما قدمنا.

التاسع: "جواب ثاني عشر" وهو أن المراد بالروح الرحمة الحادثة من ثواب الصلاة. قال ابن الأثير في النهاية تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معان والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد، وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة وعلى جبريل.

وجوابه هو جواب ما قبله.

العاشر: "وعده ثالث عشر" وهو أن المراد بالروح الملك الذي وكل بقبره بلغه السلام، والروح يطلق على غير جبريل أيضاً من الملائكة، ومعنى رد الله إلى روحي أي بعث إلى الملك الموكل بتبليغي السلام هذا غاية ما ظهر.

وهو خلاف ظاهر النص، وقد تقدم جوابه فيما ذكرناه.

ورد في حديث أبي داود (إلا ردَّ الله عليَّ)  ولفظ رواية البيهقي: (رد الله إليَّ) وهي ألطف وأنسب فإن بين التعديتين فرقا لطيفا فإن رد يعدى بعلى في الإهانة وبإلى في الإكرام.

الحادي عشر: "عدّه الجواب الرابع عشر" عن الحديث وهو أن المراد فوض الله إلي روحي السلام عليه على أن المراد بالروح الرحمة والصلاة من الله الرحمة فكان المسلم بسلامه تعرّض لطلب الصلاة من الله والصلاة من الله الرحمة ففوض الله أمر هذه الرحمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو بها للمسلم فتحصل إجابته قطعا فتكون الرحمة الحاصلة للمسلم إنما هي ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له وسلامه عليه وينزل ذلك منزلة الشفاعة في قبول سلام المسلم، والحاصل أن معنى الحديث على هذا الوجه إلا فوض الله إلي أمر الرحمة التي تحصل للمسلم بسببي فأتولى الدعاء بها بنفسي بأن انطق بلفظ السلام على وجه الرد عليه في مقابلة سلامه والدعاء له.

وهو خلاف ظاهر النص، وهو بعيدٌ جداً وضعيف، وقد تقدم جوابه فيما ذكرناه.

الثاني عشر: ثم ظهر لي جواب خامس عشر وهو أن المراد بالروح الرحمة التي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم على أمته والرأفة التي جبل عليها وقد يغضب في بعض الأحيان على من عظمت ذنوبه أو انتهك محارم الله.


*** وخلاصة الكتاب السَّابق "اتحاف الأذكياء":

أن الأشاعرة لما زعموا أن الرُّوح عرضٌ من الأعراض تفنى بموت الجسد، رتبوا على ذلك القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس رسولاً الآن، لأن روحه فنيت ولكنه كان رسولاً !!

ولا شك أن هذا القول ضلال عظيم، وإفك مبين، عند ذلك لجأ متأخروهم إلى القول بحياة الأنبياء في قبورهم حياةً كاملة، خلافاً لقول أهل السُّنة والجماعة الذين يعتبرون الروح جسمٌ قائمٌ بذاته، وليس عرضا يفنى بموت الجسد.

ثم وجد الأشاعرة أنفسهم أمام حديث عظيم، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أحَدٍ يُسلِّمُ علَيَّ إلّا ردَّ اللهُ علَيَّ رُوحي حتّى أرُدَّ عليه السَّلامَ)، والذي يدلُّ بظاهره على أن الروح تُفارق أبدان الأنبياء، وأن الأنبياء يموتون كما أخبر بذلك القرآن الكريم، فأرواحهم لا تكون مستمرَّة في ابدانهم، فاحتاجوا معه إلى تأويل هذا الخبر.

ولذلك وضع الإمام السيوطي هذا الكتاب للجواب عليه، وذكر لذلك خمسة عشر وجهاً، ولكنها (بحمد الله!) كلها ضعيفٌ، مُجابٌ عنها.

ومن ذلك قوله: (رَّد عليَّ روحي):

فوَّض إليَّ روحي -ردَّ الرحمة في قلب النبيّ -بتقدير "قد" أي قد ردَّ عليَّ روحي فيكون حياً قبل ذلك -ردَّ عليَّ النطق -تفرُّغها من شغلها الدنيوي-إفاقته بعد شهوده الملكوت -استمرار الحياة فيه -الارتياح -الرحمة الحاصلة من ثواب الصلاة عليه -الملك الذي وكل بقبره يُبلغه السلام -أنه منسوخ!! -أنه ضعيف !! وهذا الاضطراب الشديد في التأويل يدل على ضعف ما ذهبوا إليه.

والصواب: هو ما ذكره أهل السُّنة والجماعة: أن هذا الرد هو رد خاص، تكون الروح فيه متعلقة بالبدن بكيفية نؤمن بها ولا نعلمها، وهذا التعلق لا يجعل الأنبياء في حياة تماثل الحياة الدنيوية.