أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 أغسطس 2020

الــــــــــــغـــــــــــــربــــــــــــــــاء وكتبه: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الــــــــــــغـــــــــــــربــــــــــــــــاء

لأبي بكر محمد بن الحُسين الآجري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


  تمهيد/ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلامُ غريباً وسيعودُ كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغُرباء) /رواه مسلم/.

 الغربة في أبسط معانيها هي التفرُّد، ويُرادفها: السَّفر والهجرة، وترك التوطن في الدنيا؛ وهي عندي: إحساسٌ عميقٌ لا يُمكن وصفه، يبعث في نفس المؤمن الحُر: العزة والكرامة والمروءة والغيرة لهذا الدين، والاندفاع إلى نصرته، ونشر التوحيد والسُّنة، وبعبارة أخرى؛ هي: التفرُّد في طريق الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة.. 

ويلمسُ كل مُسلمٍ في عصرنا راوفد الغُربة في نفسه ووطنه، بين أهله وأبنائه وجيرانه، وكلما تقدم بنا العمر تكبر معنا مشاعر الغُربة؛ ومن يرى تغيُّر الزمان، وكثرة الفتن، وتمكُّن أهل البدع؛ يعرف حقيقة الغربة التي يُعاني منها أهل السُّنة والجماعة-بحيث قلَّ من الناس من يسلم له دينه.

وتتجدد معالم الغربة عندما نرى المسلمين اليوم -يرزحون تحت نير حكامٍ ظلمة، لا يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمة، يُوالون أعداء الله، ويُحاربون شرعة الإسلام، وتعجب عندما ترى مشاهد الدمار والخراب والقتل، والفقر، والجوع، والحصار يغزو بلاد المسلمين، ليترك في كل بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي مأساةً حقيقية، وأشلاء متناثرة من جثث الأطفال والنساء والشيوخ !.

وتزداد هذه الغربة شدَّةً عندما تجد تكالب وتآلب أعداء هذا الدين من المستعمرين والمنافقين، وغلاة الصُّوفية، وأصحاب التيارات الخرافية، وهي تستهدف الثوابت والأصول والمبادئ الإسلامية، وذلك على كافة الأصعدة، وفي كل المجالات، فأمسكوا لذلك الأقلام، وبرزوا للفضائيات، وشحنوا المحابر لتوليف الكتب والموضوعات السخيفة التي تروِّجُ الدجل والشعوذة والخرافة، وصارت الفتنة الفكرية والقيمية سيدة الموقف!.

ورأينا كيف يُحارب الغربيون الإسلام بلا هوادة؛ ويتعدى أحد النازيين على مسلمة محجبة في محكمة ألمانية فيطعنها ثمانية عشر طعنة تُمزق جسدها أشلاءً متناثرة، فيُرديها طريحةً على الأرض !.

ورأينا كيف أن فرنسا أصدرت قانوناً يحظر النقاب ويعتبر ذلك جريمةً يُعاقب عليها الفنون !.

ورأينا ما حصل في الدانمارك من نشر الرسوم المسيئة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي تبجَّحوا بها أمام العالم بحجة حرية التعبير والرأي !.

ورأينا في سويسرا كيف يُحاربون الآذان، ويمنعون الإقامة في المآذن! 

ورأينا كيف أن بريطانيا تستصدر قوانين ضد الإرهاب الإسلامي الذي يستهدف الدُّعاة وناشري الدين؛ لأنَّه يُشكل الخطر الوحيد على أمنها !.

ولم يسلم من نير هذا التكالب رموز الدعوة الإسلامية المتقدمين والمُعاصرين، الذين أصبحوا في عصرنا مطيَّةً للاستهزاء والضحك من قبل العوام والدَّهماء من أبناء جلدتنا بسبب ما يُروجه الإعلام المجرم، عبر الأجراء الذين يعملون لصالح المستعمر في الداخل والخارج.

وهذا الشعور لم نتفرَّد به نحن المتأخرون؛ فقد قاسى الأولون أضعاف أضعاف ما نقاسيه اليوم من آلام الغُربة وعذاباتها؛ فقد عاش النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغربة هو وأصحابه، حينما جاء بالتوحيد الخالص؛ فاستهجن قومه دعوته، وتحول وصفه من الصادق الأمين إلى الساحر الكذَّاب المجنون. 

وعاش الصحابة آلام هذه الغُربة حينما فارقوا ديارهم وأموالهم، وهاجروا إلى الله ورسوله نصرة هذا الدين الحنيف.

إن الشعور بالغربة لا يعني الضعف والخور، ولا يعني الاستسلام والهزيمة، ولا يعني الخمول والعزلة، بل لا بُدَّ لأهل الحقِّ أن يصبروا لإعزاز الحق، ولأجل أن يستمر هذا الدِّين، وإن لم نقف اليوم -معاشر أهل السنة -لحمله وبثِّه بين الناس، فمن سيحمله ؟! وإذا خفت صوت الحقّ فمن لهذه الجماهير يُثبتها ويُنير لها الطريق من أمامها إلى رضوان الله وجنته ؟! وإذا تنازلنا نحنُ فمن يرتقي غير الجُهَّال وأهل الأهواء والبدع !.

ولا بُدَّ أن ترتبط لدينا الغربة بعقيدة التضحية من أجل هذا الدين؛ بالوقت والمال والجهد، كذلك ترتبط بالإيمان العميق بأنَّ الغلبة لهذا الدين، والثقة الكبيرة بحتمية انتصار هذه الدعوة.

  ونحن نؤمن أن هذه الابتلاءات والتمحيصات ما هي إلا إعدادٌ عظيم لهذه الأمة، لتكون رائدة الإبداع والحضارة، وسيخرج أهل الإيمان من هذه الفتن والشدائد كما يخرج الإبريز النقي من النار، وقد تحرر ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وقد سقط أهل الإرجاف التغريبي والنفاق العلماني والتخريف الصُّوفي.


وسأنتقل سريعاً للحديث عن هذا الكتاب "الغرباء" للآجري.

  •  ومؤلفه

هو أحد أئمة السلف الشَّافعية وهو أبو بكر محمد بن الحُسين الآجري، الذي نشأ في قرية آجر (قرية من قرى بغداد)، وكان مُحدثاً، فقيهاً، ورعاً، مُصنفاً، عابداً، وكان رحمه الله صاحب سُنةٍ واتباع، وتوفي سنة (360 هـ)، وله كتاب "الشريعة" في العقائد، وغيره.


  • وموضوع الكتاب

هو بيان حال المؤمنين المتجردين لله، المستمسكين بالعروة الوثقى، وفيه تسليةٌ لأهل السُّنة فيما يلقونه من ضيق وشدة لقلة الأعوان والإخوان، ويُمكن إدراجه في كتب الرقائق والزهد والآداب.


  • منهج الإمام الآجري في كتابه

جرى الإمام الآجري في كتابه "الغرباء" على طريقة المُحدثين؛ فذكر الأحاديث والآثار مُسنندةً إلى قائليها، وتضمن الكتاب الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، وبعض المعلقات، وعقد تراجم للأبواب، لبيان مقصده فيما يسوقه من المرويات، مع شرح غريب الألفاظ، والتعليق على الأبواب، وهو مشحونٌ بالأشعار المستظرفة، والقصص المستطرفة.

وتضمن هذا الكتاب (54) إسناداً مفرقةً ما بين حديثٍ مرفوع، وأثر موقوف، وشعرٍ مُسند، عن (26) شيخاً تقريباً. 


  • وشرح هذا الكتاب من المعاصرين:

أ-الشيخ هشام البيلي المصري في ثلاث محاضرات.

ب-الشيخ صالح العُصيمي في محاضرة واحدة.


  • وقد قسَّم الإمام الآجريّ -رحمه الله -كتابه هذا إلى خمسة أبواب:

الباب الأول:باب أوصاف الغرباء في الدُّنيا.

الباب الثاني: باب الحث على بلوغ مرتبة الغرباء.

الباب الثالث: باب صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره.

الباب الرابع: باب ذكر من كان يُحب الغربة، ويُخفي نفسه من موضعٍ لآخر.

الباب الخامس: باب موت الغريب.


  • ما يؤخذ على هذا الكتاب:

يؤخذ عل هذا الكتاب السلبية الكبيرة تجاه الواقع -والتي يوحيها أسلوب الإمام الآجري في الكتاب؛ فهو يميل إلى أن الغربة هي الحزن الشديد، وسكب العبرات، ومفارقة الأوطان، والعزلة التامة عن الناس، ولا شكَّ أن هذه الحال ليست بحال كمال، بل تدلُّ على ضعفٍ في الإيمان.

ومعلومٌ أن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فالغربة الحقيقية التي يحتاجها المسلم الصادق هي الغربة الشعورية؛ بحيث تعيش في زمن الصحابة بروحك وقلبك وأنت في القرن العشرين، فيُعطي أفضل ما عنده للناس، ويتجنب أسوأ ما عندهم، ويُسدد ويُقارب، ويُبشِّر بظفر هذا الدين، وانتصار هذه الدعوة، ويُخالط الناس بحذر، ويُدافع عن مبادئه بعزيمة وقوة وثبات.

كذلك الحكايات في هذا الكتاب قد تكون مُبالغٌ فيها، وقد تمجُّها طباعنا السليمة، ومع ذلك فلا نُبادر لإنكارها إلا إن خالفت الشرع، ونأخذ منها العبرة والعظة، وكما قيل: إن الحكايات كهوفٌ تُصاد بها القلوب، وقد درج أهل العلم على ذكر الحكايات والقصص في كتبهم والتي تتناسب مع موضوع الرقائق والزهد.


  • وأختم بضوابط عامة في باب الغُربة:

  1. هذا الدين له غربتان:

  • غربة بالمعنى العام، وتشمل (الغربة الأولى)، وكانت عند مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و(الغربة الثانية)؛ حيث يقلُّ المسلمون، وتكثر فرق الضلال والإلحاد والكفر.

  • غربة بالمعنى الخاص؛ حيثُ يقلُّ أهل السُّنة المتمسكين بها بالنسبة لعموم المسلمين وأهل الملة.

  1. كثرة الفرق والأهواء في الأمة يزيد على أهل الحق الغربة.

  2. الغربة صفة مدحٍ باعتبار السلامة من الفتن والأهواء المضلة.

  3. صفة الغريب في نفسه: العقل والفقه، والتمييز بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والضار والنافع.

  4. وصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغرباء؛ بأوصافٍ منها:

أ- أنهم يعملون على إحياء سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويعلمونها عباد الله.

ب- أنهم من قبائل شتى (النُّزاع من القبائل).

ج-أنهم يظهرون إذا فسد الناس.

د-أنهم صالحون ومصلحون، ويصلحون ما أفسد الناس.

ه-وهم: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير.

و- وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

ز-أنهم  يمسكون بكتاب الله حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ.

  1. الغربة تشمل الأمور الدينية والدنيوية.

  2. الغربة تعني التمايز في العقائد والأفكار والصفات.

  3. الغربة تقتضي علو الهمة في السير إلى الله، والتحري في السفر إليه؛ بفعل ما ينفع وترك ما يضر.

  4. والغريب قسمان:

أ- غريبٌ يموت طائعاً لله عز وجل؛ وهم على أصنافٍ شتى كلها محمودة.

ب- غريبٌ عاصٍ لله بغربته، يجب عليه التوبة والرجوع إلى الغربة المحمودة.

  1. ومن الأمثلة على الغربة المشروعة: الحج، والجهاد، وطلب العلم، وزيارة في الله، وهروباً من الفتن، وطلباً للرزق الحلال.

  2. أغرب الغرباء في زماننا هو المتمسك بالسنن الصابر عليها، المجتنب للبدع، والمُحذر منها.

السبت، 22 أغسطس 2020

توقيت المسح على الخُفين -أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

توقيت المسح على الخُفين

(إعداد)

أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

غزَّة -فلسطين

اتفق فقهاء أهلُ السُّنةِ على مشروعيَّة المسح على الخُفين؛ واستدلوا لذلك بدخوله في قراءة الجرِّ عطفاً على مسح الرأس في قوله: {وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين} (المائدة: 6).

وقد ثبت ذلك في السُّنة من حديث سعد بن أبي وقاص، والمُغيرة بن شُعبة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم "توضأ، ومسح على الخُفين".

ونقل العلماء الإجماع على مشروعيته: كابن المبارك، وابن المنذر، وابن عبد البر، والبغويُّ، وابن قدامة، والنوويُّ. 

وقال الحسن البصري: حدَّثني سبعون من أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح على خفيه. وقال الإمام أحمد: ليس في نفسي مِنَ المَسْحِ شيء؛ فيه أربعون حديثًا عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم. وقال ابن المبارك: ليس بين الصحابة خلافٌ في جواز المسح على الخفين.

وخالفنا في ذلك الشيعة الذين لا يُجوزون المسح على الخفين أصلاً، ولذلك ذكر بعض علماء العقيدة هذا الفرع تمييزاً بين الطائفتين. 

يقول الطحاويُّ رحمه الله في "عقديته": "وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ كما جاء في الأثر".


واختلفوا في توقيت المسح على الخُفين:

1- فذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأصحاب المذاهب المتبوعة وأتباعهم: من الحنفيَّة والشافعيَّة في الجديد، والحنابلة: إلى أن المسح مؤقتٌ بيومٍ وليلةٍ للمقيم، وثلاثة أيامٍ بلياليها للمسافر، وهو وروايةٌ عن مالك، واختاره ابن حزم من الظاهرية، وهو قول: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبو زيد الأنصاري، وشريح، وعطاء بن أبي رباح، وبه قال سفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. 

2- وذهب المالكية في المشهور عنهم، والشافعي في القديم: أنه لا توقيت فيه؛ فيمسح من غير تحديد مُدَّةٍ، ما لم يخلعه أو يحدث له ما يوجب الغسل، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وزيد، والليث بن سعد، والحسن البصري، واستحبُّوا له نزعه في كل أسبوعٍ مرَّة.

3-واختار شيخ الإسلام ابن تيمية مذهباً وسطاً؛ فقال: بعدم التوقيت في المسافر في الذي يشقُّ اشتغاله بالخلع واللبس؛ كالبريد المجهز لمصلحة المسلمين.


  • عرض الأدلَّة ومناقشتها:


  • واستدلَّ الجمهور على التأقيت، بأدلةٍ منها:

1- بما رواه مسلمٌ عن شُريح بن هانئٍ؛ قال: "أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخُفَّين؛ فقالت: عليك بابن أبي طالب فسلهُ، فإنه كان يُسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه؛ فقال: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيامٍ ولياليهُنَّ للمُسافر، ويوماً وليلةً للمُقيم».


قالوا: فهذا نصٌّ، صريحٌ، مُفصِّلٌ، بيِّنٌ في أنَّ المسح مؤقَّتٌ بمُدَّةٍ، وهي يومٌ وليلة للمُقيم، وثلاثة أيامٍ بلياليها للمُسافر.


2-وبما رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن صفوان بن عسّال، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كُنَّا على سفرٍ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ وليالِيَهُنَّ إلا من جَنابةٍ، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم».


وهذا الحديث صحيحٌ، صحَّحَهُ الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والطحاوي، ونقل الترمذي عن البخاري أنَّه قال: حديثٌ حسنٌ، ليس في التوقيت شيءٌ أصح منه، وقال النووي: إنَّه جاء بأسانيدَ صحيحةٍ.


وقال ابن المنذر: وحديث صفوان بن عسَّال معناه مرويٌّ من حديث علي بن أبي طالب، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعوف بن مالك الأشجعي، وغيرهم. وهذا الحديث يدلُّ بظاهره على أنَّ المسافر يمسح ثلاثة أيامٍ بليالها إلا من جنابةٍ؛ فإنه ينزع خُفيه ويغسل ما تحتهما.


3- واستدلوا بما رواه ابن ماجه، والدارقطنيُّ وابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة؛ إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما».


وهذا الحديث صحيحٌ. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: أخرجه ابن خزيمة، واللفظ له، وصححه الخطابي، ونقل البيهقي أن الشافعي صححه، واحتجَّ به في الجديد. وهو ظاهرُ الدلالة في التأقيت في المسح.


4- واستدلوا بما رواه ابن ماجه في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله ما الطهور على الخفين؟ قال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة».


وهذا الحديث ذكره ابن عديِّ في "الضُّعفاء"، وقال: فيه عمر بن عبد الله بن أبي خثعم: منكر الحديث، وبعضُ حديثه لا يُتابع عليه. وذكر الترمذيُّ في "العلل الكبير" عن البُخاريِّ، قال: عمر بن أبي خثعم منكر الحديث ذاهب، ولكن هذا الحديث مما يُتابع عليه؛ وقال ابن القيسراني في "ذخيرة الحفاظ": ثابتٌ من طُرقٍ أُخر.


5- واستدلوا بما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والطحاوي، والدارقطني، وغيرهم، عن عوف بن مالك الأشجعي، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك: ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة».


وقال البيهقيُّ: قال الترمذيُ: سألتُ البُخاريَّ عن هذا الحديث؛ فقال: هو حديثٌ حسنٌ. وهذا الحديثُ ظاهر الدلالة على التأقيت.


6- واستدلوا بما رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والدارقطني في "سننه"، عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلة».

ثم قال ابن خزيمة: وهذا الحديث لم يرُوَ عن عمر في التوقيت إلا من هذا الوجه، وقد رواه عن عمر جماعة: عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عمر وغيرهما فلم يذكروا فيه توقيتاً، وخالد بن أبي بكر (أحد الرواة): لين الحديث، وقد روى عنه غير واحد من أهل العلم.


7-وقد صحَّ هذا عن عمر موقوفاً؛ فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"،  عن يزيد بن وهب قال: كتب إليه عمر بن الخطاب، في المسح على الخفين: «ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم».

- وروى ابن أبي شبة أيضاً: عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال في المسح على الخفين: «للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم إلى الليل».

- وروى ابن المنذر في "الأوسط"، وعبد الرزاق في "مصنفه"، عن سويد بن غفلة، قال: قدمنا مكة، فأمرنا نباتة الوالبي أن يسأل عمر، وكان أجرأنا عليه عن المسح على الخفين فسأله، فقال: «يوم إلى الليل للمقيم في أهله، وثلاثة أيام للمسافر».

وحسَّن إسناده العيني في "نخبة الأفكار"، وهو في الجملة صحيح الإسناد. وهو ظاهر الدلالة جداً.


8-وروى عبد الرزاق في مصنفه: عن إبراهيم، أن عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، كانا يقولان: «يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة».


9-وروى ابن المنذر في "الأوسط"، عن أبي زيد الأنصاري، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة».


10-وروى ابن حزمٍ في "المُحلى"، عن عليِّ بن أبي طالب، قال: «المسح للمسافر ثلاثاً، وللمُقي يوماً وليلة».

  • واستدلَّ المالكية ومن وافقهم؛ على عدم التأقيت: 

1- بما رواه الحاكم في "المستدرك"، والدارقطني في "سننه"، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة، فدخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب، فقال لي: «متى أولجت خفيك في رجليك؟»؛ قلت: يوم الجمعة، قال: «فهل نزعتهما؟» قلت: لا، فقال: «أصبت السنة». 


قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وله شاهد آخر عن عقبة بن عامر، ووافقه الذهبيُّ في "التلخيص"؛ فقال: صحيح الإسناد وله شاهد. وقال الدارقطني: صحيح الإسناد. 


وحديث عُقبة بن عامر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وقال فيه: "لم أخلع لي خفاً مذ خرجتُ، فقال عمر: أحسنتَ". وأخرجه ابن ماجة في "سننه"، وفيه: "مُذ كم لم تنزع خُفيك؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة؛ فقال عُمر: أصبت السُّنة".


قالوا: والصحيح المشهور أن الصحابيَّ إذا قال "أصبت السُّنة"؛ فهو بمنزلة الحديث المرفوع، وحكى الحاكم وابن عبد البر الإجماع على ذلك، والحق أنه لا إجماع، ولكنه قول الأكثر، وهو الصواب.

ولكن يُجيب الجمهور على هذا الحديث: بأن قول عُمر لا يُقاوم صريح الحديث المرفوع القائل بالتأقيت.


2-واستدلوا بما رواه الحاكم في "المستدرك"، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما، وليمسح عليها، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة».


قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار بن داود ثقة غير أنه ليس عند أهل البصرة عن حماد. وقال الذهبيُّ في "التلخيص": على شرط مسلم تفرد به عبد الغفار وهو ثقة، والحديث شاذ. وقد ضعَّفه ابن حزم في "المُحلى"، وقال: منقطع. وضعفه النوويُّ في "المجموع"، وقوَّى إسناده محمد بن عبد الهادي في "التنقيح"، فهذا الحديث ضعيف.


3- واستدلوا بما رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، عن أبي بن عمارة، قال: قلت يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم! قلتُ: يوماً؟ قال: يوماً، قلتُ: يومين؟ قال: ويومين! قلت: وثلاثة:؟ قال: وما شئت".


قال الحاكم: وهذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى جرح وإلى هذا ذهب مالك بن أنس ولم يخرجاه. يعني أنه على شرط الشيخين، ولكن الذهبيَّ يقول: بل إسناده مجهول. وقال الدارقطني: هذا الإسناد لا يثبت، وقد اختلف فيه على يحيى بن يحيى اختلافاً كثيراً، وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن كلهم مجهولون.


قال المالكية ومن وافقهم: وهذا الحديثُ يدلُّ بظاهره على عدم توقيت المسح على الخفين، وأن المتوضىء يمسح عليهما اليوم واليومين والثلاثة، وما شاء بعدها من الأيام.


ولكنَّ الجمهور يُجيبون على المالكيَّةِ؛ بأن هذا الحديث ضعيف، قال ابن حجر في "التلخيص": ضعفه البخاري، فقال: لا يصح، وقال أبو داود: اختلف في إسناده، وليس بالقوي، وقال أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال أبو الفتح الأزدي: هو حديث ليس بالقائم. وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره، وقال الدارقطني: لا يثبت، وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه.

وقالوا: فهذا الحديث ضعيفٌ لا يُعمل به، وعلى فرض صحته؛ فهو مقيدٌ بأحاديث التوقيت باليوم والليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.


4-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد في "مسنده"، عن خزيمة بن ثابت، قال: «جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام للمسافر، ويوما وليلة للمقيم»، وايم الله لو مضى السائل في مسألته، لجعلها خمساً.


وهذا الحديث بهذه الزيادة: صحَّحه ابن معين، وابن حبان وغيرهما، وبه تعلم أن ادعاء النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏ الاتفاق على ضعف لهذه الزيادة، غير صحيح‏. وقول البخاري رحمه الله:‏ إنه لا يصحُّ عنده؛ لأنه لا يعرف للجدلي سماعٌ من خزيمة، مبني على شرطه، وهو ثبوت اللقى، والصحيح أنه لا يُشترط ثبوت اللقاء، وإنما يكفي المُعاصرة كما بيَّن مُسلمٌ ف مُقدمة صحيحه.


واعترض عليه الجمهور؛ بأن هذا الحديث قد رواه غير خزيمة بن ثابت، ولم يظن هذا الظن، ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه.


فأجاب المالكية:‏ أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين، وعدالته، وصِدْقُه، يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استُزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك، بأمور أُخر اطلع هو عليها، ولم يطلع عليها غيره.


5-واستدلوا بما رواه البيهقيُّ في "سننه"، عن زبيد بن الصلت، قال: سمعت عمر، يقول: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة».

وهذا الحديث ضعَّفه ابن حزم في "المُحلى"، وقال: لا يصح. فهو ضعيف، ولكن المالكية يقولون: إنه يرتقي إلى درجة الحُسن بشواهده.


6-واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (باب من كان لا يُوقت في المسح شيئاً)، عن سعد بن أبي وقاص، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة، والحسن: «أنهم كانوا لا يُوقتون في المسح شيئاً».


7-واستدلوا بما رواه أحمد في "مسنده"، عن عمر بن إسحاق بن يسار، قال: قرأت في كتاب لعطاء بن يسار، مع عطاء بن يسار، قال: فسألت ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين؟ قالت: قلت: يا رسول الله، أكل ساعة يمسح الإنسان على الخفين ولا ينزعهما؟ قال: «نعم».

وأخرجه ابن أبي يعلى في "مسنده"، والدارقطني في "سننه"، بلفظ: "أيخلع الرجل خُفية كل ساعة؟ قال: لا، ولكن يمسحهما ما بدا له".

وذكره الهيثميُّ في "المجمع"، وقال: فيه عمر بن إسحاق بن يسار، قال الدارقطني: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في الثقات.


6-واستدلَّ المالكيَّةُ من النظر؛ فقالوا: إن المسح على الخُفين يكون في طهارة فلم يتوقت بوقتٍ كمسح الرأس في الوضوء والمسح على الجبائر، ولأن التوقيت لا يؤثر في نقض الطهارة، إنما الناقض للطهارة الحدث من البول والغائط والجنابة.

ويُجيب الجمهور أنَّ التوقيت جاء به نصٌّ، ولا قياس مع النص.


* ونظر الفقهاء في هذه المسألة من وجهين:

الوجه الأول: الترجيح؛ فإذا نظرنا من هذه الزاوية، فإننا نُرجِّح مذهب من قال بالتوقيت؛ لأنَّه الأكثر رواةً، والأقوى دليلاً ففيه ما هو في الصحيح، وهو الأحوط من جهة النظر، واتباع الأحوط هو من المُرجحات عند الأصوليين، وإليه ذهب جمهور العلماء بل أكثرهم. كذلك فإن من مسح بالتأقيت؛ فإن صلاته صحيحةٌ بالإجماع، ومن مسح بلا تأقيت؛ فإن صلاته -بعد المُدَّة المؤقتة -باطلةٌ عند كثيرٍ من العلماء .

وقد يُرجَّح مذهب من قال بعدم التأقيت؛ للأحاديث الصحيحة، واالآثار الواردة، ثُمَّ إن القائل بعدم التأقيت مُثبت، والقائل بالتأقيت نافٍ، والمُثبت مُقدَّمٌ على النافي؛ لأنَّ القائل بعدم التأقيت عنده زيادةُ علمٍ.

الوجه الثاني: الجمع بين الأحاديث؛ بأن يُقال: إن الأصل في المسح التأقيت، ويُمكن أن يُفتى بترك التأقيت عند الحاجة إلى ذلك، وهو ما كان يُفتي به ابن تيمية رحمه الله تعالى. 


والراجح والله أعلم هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من الشافعية والحنفية والحنابلة، وهو توقيت المسح بيوم وليلة للمُقيم وثلاثة أيام بلياليها للمُسافر.


****

  • واختلف الجمهور في العاصي بسفره ؟

فصرح الشافعية والحنابلة بأن المسافر العاصي بسفره -كمن سافر ليشرب الخمر، أو ليزني -فإنه يمسح مدة المقيم يوماً وليلة؛ لأنه مُقيم حكماً، ولأن ما زاد عن الإقامة فهو معصية فلا يجوز أن يستفيد بها رخصة . 

وذهب الحنفية إلى جواز المسح ثلاثة أيام ولياليها في سفر المعصية، وفي المعتمد عند المالكية يجيزون للعاصي بسفره أن يمسح وإن طالت المُدَّة.


***

  • واختلفوا في ابتداء مدة المسح ؟

فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى: أنها تبدأ من الحدث بعد اللبس، وهو قول سفيان الثوري، واستدلوا بزيادةٍ في حديث صفوان بن عسَّال، وهي «من الحدث إلى الحدث»، ولكنها زيادةٌ ضعيفةٌ، قال ابن المُلقن في "البدر المُنير": غريبةٌ جداً.

واحتجوا أيضًا بالقياس وهو أن المسح عبادة موقتة، فيكون ابتداءُ وقتها من حين جواز فعلها، قياسًا على الصلاة‏.‏

وذهبت طائفةٌ من العلماء إلى: أن المدة تبدأ من المسح بعد الحدث؛ وهو مذهب عمر رضي الله عنه، وهو قول للشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمد، وروايةٌ عن داود الظاهري، وهو قول والأوزاعيُّ وأبي ثور، واختاره ابن المنذر، ورجَّحه النوويُّ في "المجموع"، وبه قال ابن باز والعثيمين.

واستدلوا بظاهر حديث خزيمة بن ثابت: «يمسح المسافرُ على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلة»، قالوا: فجعل الثلاثة أيامٍ واليوم والليلة ظرفاً للمسح، ولا يمكن أن يَصْدُقَ عليه أنَّه ماسح إِلا بفعل المسح، وهذا هو الصَّحيح، والأظهر دليلاً.

قال البيهقي: المختار أن ابتداء المدة من وقت المسح، وقيل من وقت الحدث بعد اللبس. وكأنَّه يُضعفه.

وقال ابن المنذر في "الأوسط": فظاهر هذا الحديث يدل على أن الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث، ثم ليس للحدث ذكر في شيء من الأخبار، فلا يجوز أن يعدل عن ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير قوله إلا بخبر عن الرسول أو إجماع يدل على خصوص، ومما يزيد هذا القول وضوحا وبياناً، قول عمر بن الخطاب في المسح على الخفين قال: «يمسح إلى الساعة التي توضأ فيها».

قال:ولا شك أن عمر أعلم بمعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعده، وهو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه.

وقال أبو بكر ابن المنذر: وعلى البدء من الحدث بنى الشافعي مسائله إلا مسألة واحدة، فإنه ترك أصله فيها، وأجاب بما يوجب ظاهر الحديث (وهو المسح)، قال الشافعي: ولو أحدث في الحضر فلم يمسح حتى خرج إلى السفر صلى بمسحه في السفر ثلاثة أيام ولياليهن. وهذا يُوجب القول بابتداء المدة من المسح.



المصادر والمراجع:

-موسوعة الفقه الكويتية.

-الموسوعة الفقهية بمؤسسة الدرر السنية.

-فقه السُّنة.

-معرفة السنن والآثار؛ للبيهقي.

-توضيح الأحكام من بلوغ المرام.

-الشرح الممتع على زاد المستقنع؛ لابن عثيمين.

-الأوسط؛ لابن المنذر.