أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2020

شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية -د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار

شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار

الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض

اعتنى به: محمد ناهض عبد السلام حنّونة

تمهيد/ يُعد شرح الدكتور مُساعد من أنفس شروح مقدمة "ابن تيمية" في أصول التفسير، وقدم الشارح بين يدي شرحه بمدخل إلى رسالة شيخ الإسلام، ذكر فيها أهم طبعات المقدمة، وعنوانها، ومتى كتب شيخ الإسلام المقدمة؟، ومن أفاد من المقدمة، والموضوعات التي طرقتها المقدمة.

ثم بين الدكتور "مساعد" أهم المسائل الواقعة في مقدمة المؤلف، وخاصة بيان سبب تأليف هذه المقدمة، وقول ابن تيمية: «فإنَّ الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين»، وقوله: «أن التفسير إما منقول وإما معقول».

وقد نبَّه أن تحديد المنقول والمعقول من التفسير قضية نسبية تختلف باختلاف العصر، وأن ضابط المنقول في عصر الصحابة يختلف عنه في عصر التابعين، وفي عصر التابعين يختلف عنه في عصر من بعدهم.

كما نبه أن من بلغ درجة الاجتهاد في التفسير في العصر الحاضر فإن له مجالين: (المجال الأول): هو أن يجتهد في الاختيار بين أقوال المفسرين السالفين دون أن يخرج عنها. (المجال الثاني): هو أن يأتي المفسر بمعنى جديد لم يذكره المتقدمون، وهذا يظهر جليًا فيما يسمى بالتفسير العلمي الذي يستعين بالعلوم التجريبية في معرفة معاني الآيات القرآنية.

ثم تعرض لموضوع البيان النبويِّ للقرآن، ونبه أنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يناقش أقوال أقوامٍ لا يرون تفسير الصحابة والتابعين، ويذهبون إلى تفسيرات شيوخهم من أهل البدع، فقد ذكر هذه الأفكار في كتبٍ يناقش فيها هؤلاء، ككتاب (بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة، والقرامطة والباطنية وأهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد)، وفي كلامه على المحكم والمتشابه.

وتطرق إلى شرح اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف، وذكر أن مراد شيخ الإسلام في هذا الفصل بيان نوع الاختلاف الذي وقع عند السلف، وذكر أنَّ غالب ما يصحُّ عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وذكر في آخر هذا الفصل أنه لا بدَّ من وجود اختلاف محقق بينهم، وهو ما يُسمى بالتَّضاد، لكنه قليل بالنسبة لاختلاف التنوع.

  • وعرض لعدة مسائل على وجه التفصيل:

المسألة الأولى: في تعريف اختلاف التنوع واختلاف التضاد.

المسألة الثانية: في نوعي الاختلاف اللذَين يكثران في تفسير سلف الأمة.

المسألة الثالثة: تنبيهات تتعلق بأسباب النُّزول.

وعرض لعدة قضايا مهمة في أسباب النزول يحسن مراجعتها.

  • كما تعرض لعدة قضايا علمية، وهي:

1 - الألفاظ المترادفة.

2 - التضمين.

3 - فائدة جمع أقوال السلف.

4 - وقوع الاختلاف المحقق في تفسير السلف.

5 - أسباب الاختلاف.

وفي شرح الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ومن جهة الاستدلال، ذكر أن الاختلاف في التفسير على نوعين:

الأول: ما يرجع إلى النقل.

والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال.

  • وقد طرح فيما يرجع إلى النقل الموضوعات الآتية:

1 - الإسرائيليات.

2 - الإشارة إلى أسانيد التفسير، وغلبة المراسيل عليها، وحكمها.

3 - الموضوعات في كتب التفسير، مع الإشارة إلى بعض الكتب التي فيها ضعف من هذه الجهة.

وتعرض لمسألة المراسيل في التفسير، وذكر أن هذه المسألة من نفائس هذه المقدمة التي يحسن بالمعتنين بالتفسير الاستفادة منها في حال دراسة أقوال مفسري السلف.

كما تعرض في شرحه لنقد شيخ الإسلام لبعض المفسرين، وهم البغوي (ت:516 هـ)، والثعلبي (ت:427 هـ) وتلميذه الواحدي (ت:468 هـ).

وفي مسائل الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة الاستدلال، تعرض إلى أن أكثر الخطأ في الاستدلال من جهتين لا توجدان في تفسير السلف:

أحدهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وكان نظرهم إلى المعنى أسبق.

والثانية: قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنَزَّل عليه، والمخاطب به، وكان نظرهم إلى اللفظ أسبق.

كما أشار إلى جملة علوم العربية ومنْزلتها من التفسير.

كما تعرض لنقد بعض التفاسير المخالفة لمنهج السلف، وبيان المنهج العقدي العام لها.

ومن المسائل المهمة التي تعرض لها، قوله: (وأما كيفية معرفة فساد أقوال هؤلاء فقد ذكر شيخ الإسلام طريقة ذلك، ورتبها على الآتي:

1 - معرفة القول الصواب الذي خالفه هؤلاء المبتدعة.

2 - أن يتيقن أن قول السلف هو الحقُّ، وأن تفسير السلف يخالف تفسير المبتدعة.

3 - أن يعرف أن تفسير المبتدعة مُحدثٌ مبتدع.

4 - أن يعرف بالأدلة التي نصبها الله للحق فساد قولهم.

هذا خلاصة ما ذكره في هذه الفقرة، ويمكن أن يزاد عليه: معرفة الرأي المبتدع على وجهه وحقيقته، إذ كثيرٌ ممن يقرؤون التفسير لا يُحسنون معرفة المذاهب المخالفة، فيفوت عليهم شيء من أقوال المبتدعة، وتدخل عليهم وهم لا يشعرون).

وفي شرح أحسن طرق تفسير القرآن، لاحظ على هذه الطرق أمور:

الأول: أنها دائرة بين الأثر والرأي.

الثاني: أن هذا التقسيم الذي ذكره شيخ الإسلام إنما هو تقسيم فنيٌّ، وليس المراد أن المفسر يتدرَّج في التفسير على هذه الطرق، فالذي يخوض غمار التفسير يعلم أنَّ هذه الطرق ستكون مختلطة، ولا يوجد تفسير مرتَّب على هذا الترتيب، حتى التفسير الذي كتبه شيخ الإسلام.

الثالث: أنَّ هذه الطرق من حيث الجملة هي التي يجب الرجوع إليها عند التفسير، لكن أفراد هذه الطرق لها أحكامٌ خاصَّةٌ بحيث إنه لا يمكن القول بأنه يجب الأخذ بهذه الطرق جملة وتفصيلاً، بل في الأمر تفصيلات سيأتي في محلها من هذه الطرق.

الرابع: إن تمايز المفسرين عمومًا هو في مدى اعتمادهم على هذه الطرق، ولا يكاد أن يخلو منها كتاب في التفسير؛ إما نصًّا وإما إشارة.

  • ثم تعرض لهذه الطرق بالشرح، وهي:

1 - تفسير القرآن بالقرآن.

2 - تفسير القرآن بالسنة.

3 - تفسير القرآن بأقوال الصحابة.

4 - تفسير القرآن بأقوال التابعين.

وبعد أن أنهى شيخ الإسلام الحديث عن أحسن طرق التفسير ذكر عددًا من القضايا المتعلقة بالتفسير بالرأي، وهي:

1 - حكم التفسير بالرأي المجرد.

2 - الأحاديث الناهية عن ذلك.

3 - تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، والمقصود بتحرج هؤلاء.

ثمَّ ختم الرسالة بحديث ابن عباس في تقسيم التفسير، وقد تعرض لها الشارح بالتفصيل، والبيان.

وختم الشارح شرحه بإيراد الملاحق العلمية، وهي: نقولٌ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية.

وخُتم الشرح بعدة فهارس علمية.

  • ويمتاز الشرح بعدة مميزات، من أهمها:

1 - حسن التصوير لمسائل المقدمة.

2 - جودة إقامة الدليل عليها.

3 - كثرة الأمثلة الموضحة للمقصود.

  • من أفاد من المقدمة:

جُلُّ من كتب في مسائل هذا العلم بعد شيخ الإسلام ابن تيمية؛ عالةٌ على هذه الرسالة الفريدة في بابها. وعلى وجازتها؛ فإنه قد استفاد منها كثيرٌ ممن جاء بعد شيخ الإسلام، ومنهم:

1 - تلميذه ابن كثيرٍ (ت:774) الذي ذكر جزءًا من موضوعات المقدمة في مقدمة تفسيره، ولم يُشر فيها إلى أنه ينقل من هذه الرسالة، كما هي عادة بعض العلماء في نقولاتهم.

2 - الزركشي (ت:794) في كتابه البرهان في علوم القرآن.

3 - السيوطي (ت:911) في الإتقان في علوم القرآن..

4 - القاسمي (ت:1332) في مقدمة تفسيره محاسن التأويل.

وهناك غيرهم من اللاحقين والمعاصرين.

  • الموضوعات التي طرقتها المقدمة:

وتنقسم أفكار هذه الرسالة إلى:

* بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم معاني القرآن وألفاظه للصحابة.

* اختلاف التنوع والتضاد في تفسير السلف.

* سبب الاختلاف من جهة المنقول ومن جهة الاستدلال.

* أحسن طرق التفسير.

* التفسير بالرأي.

مع طرحه لبعض المسائل العلمية المتعلقة بالتفسير وكتب التفسير أثناء هذه الموضوعات.





مقدمة في أصول التفسير -تحقيق الأستاذ الدكتور عدنان زرزور

مقدمة في أصول التفسير

تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

(661 -728 هـ)

تحقيق الأستاذ الدكتور عدنان زرزور

(المدرس بكلية الشريعة -جامعة دمشق)


اعتنى بها:أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالة في أصول التفسير؛ لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، الدمشقي، رحمه الله تعالى، والتي أجاب فيها بعض أصحابه الذين سألوه أن يكتب لهم (مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل)، وهي التي سُمِّيت ـ فيما اشتهر ـ بمقدمة في أصول التفسير.

وتُعد هذه الطبعة لهذا الكتاب هي أفضل الطبعات كما أشار إلى ذلك الشيخ مُساعد الطيار في "شرح هذه المقدمة" (ص 11)، قال: "وقد قدَّم لها بمقدمة حسنة في التعريف بها".

وتسمَّى هذه الرسالة (مقدمة في أصول التفسير)، وهذا العنوان لم يضعه شيخ الإسلام ابن تيمية، بل هو من صنع القاضي الحنبلي بدمشق (محمد جميل الشطي)، الذي نشر الرسالة عام (1355 هـ/ 1936 م)، وقد استفاد ذلك مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة رسالته: «فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمةً تتضمَّنُ قواعدَ كليةً تُعينُ على فَهْمِ القرآنِ، ومعرفةِ تفسيرِه ومعانيه، والتمييزِ ـ في منقولِ ذلك ومعقولِه ـ بين الحقِّ وأنواعِ الأباطيلِ، والتنبيه على الدليلِ الفاصلِ بين الأقاويلِ».

ولا يظهر من هذه الرسالة متى كتبها شيخ الإسلام؟ وقد ذكر ابن القيم (ت:751 هـ) في مدارج السالكين (1/ 520) ما يمكن أن يفيد عن وقتها، قال: «وبعثَ إليَّ في آخر عمره قاعدةً في التفسير بخطِّه ...».

وقد تكون هذه القاعدة التي أرسلها لتلميذه هي هذه الرسالة، وواضحٌ فيها أنه كتبها بعد قراءة واسعة في كتب التفسير، وهذا ظاهر من عدد التفاسير التي ذكرها، ومن طريقته في معالجة الموضوعات التي طرحها، وسيأتي ذلك في مقدمة الشيخ (زرزور).

ويعتبر شيخ الإسلام من المفسرين المحررين، وقد كان واسع الاطلاع على تفاسير السلف والخلف، وكان ذا حافظةٍ فذَّة، ونفسٍ ناقدةٍ لما تقرأ، وقد مكَّنه ذلك من القدرة على تحرير التفسير، فلم يكن ناقلاً، بل كان ناقدًا مرجِّحًا.

قال تلميذه ابن عبد الهادي: «قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق ـ وكان من أخص أصحاب شيخنا، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصًا على جمعه ـ: كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردةً عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورًا وآيات يفسرها، ويقول في بعضها: كَتَبْتُهُ للتَّذَكُّرِ، ونحو ذلك.

وبعد هذا التمهيد الوجيز ننتقل إلى مقدمة الدكتور زرزور والتي كتبتها كاملةً ليستفيد منها الطالب:

يقول الدكتور عدنان زرزور في (المقدمة/ ص 7 - 23): "والكلمة التي أحب أن أقدمها بين يدي تحقيق هذه الرسالة: هي أنه لا مجال للحديث عن حياة شيخ الإسلام الحافلة، وعن كتبه ورسائله، وما أغنى به المكتبة الإسلامية من كنوز المعرفة -كما جرت العادة في مثل هذا الموطن، وذلك بعد أن كتب في حياة الشيخ، وترك الشيء الكثير في القديم والحديث وبعد الدراسات المستفيضة عن آرائه ومنهجه في الإصلاح الفكري والاجتماعي، والتي لم يقتصر الأمر فيها على الكُتَّاب المسلمين، بل شارك فيها كذلك كثيرٌ من المستشرقين والباحثين الأوروبيين، حتى غدت حياة ابن تيمية ومواقفه وآراؤه معروفةً لدى عامة المثقفين… وبحسبنا في هذه التقدمة السريعة أن نُشير إلى رأس الأمر في (منهج) ابن تيمية الفكري بوجهٍ عام، والذي كان يصدر عنه -بحزمٍ ودقةٍ ونفاذ بصيرة تدعو إل الإعجاب -في كل مواقفه وكتبه ورسائله وفتاواه الكثيرة، إن هذا (المنهج) يُلخص في (الاتباع) كطريق علمي مدروس، أو في (السلفية) مدعوة واضحة المعالم، تدعمها الشواهد والبراهيم… وإذا كان الأعلام (المتبعون) في تاريخ الإسلام كثير منذ أن خطَّ المنهج أبو بكرٍ في كلمته المشهورة: (أنا مُتبع ولستُ بمبتدع)، فإن القليل من هؤلاء الأعلام من كان له ذكاء ابن تيمية، وألمعيته، وإحاطته، وعجيب استحضاره، وقوة نفسه، وشجاعته في الحق، وقدرته الفائقة على صياغة هذا المنهج متكامل الجوانب، ثم عرضه وإقامة الدليل من دونه، ذلك في وقتٍ ذاعت على المسلمين فيه معالم الطريق الذي رسمه القرآن الكريم في ركام المناهج اليونانية، والمنطق الأرسطو طاليسي، الذي ظنه بعض العلماء طريق المعرفة الذي لا يُخطئ !!.

والواقع أن الفوضى الفكرية التي خلفها تطبيق مناهج البحث اليونانية في العالم الإسلامي،وما تبع ذلك من انحرافات ومزالق خطيرة -وبخاصة بعد انقضاء القرن الخامس الهجري الذي ختم بالإعجاب الشديد بهذه المناهج -كل ذلك لم يكن خافياً على كثيرٍ من علمائنا وفقهائنا، الذين أدركوا بحسهم ووجدانهم الذي تربى في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية، غرابة هذه المناهج على الفكر الإسلامي، ولكنهم لم يكونوا يملكون في حربها سوى إطلاق الفتاوى في تحريم المنطق ومنع الاشتغال به، وكان الأمر يستفحل، والفوضى تزداد، حتى جاء "مفكر السلف ابن تيمية" فوضع أسس النقد المنهجي لهذا المنطق، بعد أن استوى له الإحاطة به، وبعد أن تنبه إلى منطلقاته الفكرية البعيدة عن روح الإسلام، وقد تم له ذلك -كما هو معروف من مواطن كثيرة. على ضوء إدراكه الكامل لطبيعة المنهج الإسلامي في البحث، ومن خلال اطلاعه الهائل على علوم السلف وآثارهم الغزيرة، بل إن ابن تيمية لم يكتفِ بالقول بأن المنطق يُخالف صحيح المنقول، بل اعتبره كذلك مُخالفاً لصريح المعقول؛ فبين مناقضة هذا المنهج في ذاته، ومخالفته لقضايا العقل الذي كان يظن بأنه دليلها الذي لا يُخطئ.

لم يكن الاتباع عند ابن تيمية إذن منهجاً سلبياً يحمل في طياته بذور الضعف أو الخوف أو الجمود، ولكنه كان منهجاً إيجابياً بناءً، وكان ابن تيمية برفضه (القالب) اليوناني أداةً يعرض من خلالها الفكر الإسلامي، ويقوم به الدليل على صحة  هذا الفكر… يكون قد أوضح بجلاء الفكرة القائلة بأن التعبير عن الفكرة جزء من الفكرة ذاتها، وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة (الموضوع) وطبيعة (القالب)، وأن الفكر الإسلامي لا يصب، ولا يمكن أن يُصب في قالب (يوناني)، أو غير إسلامي.

والكلام حول منهج ابن تيمية وما ينطوي عليه من بوادر الإصلاح وأسسه -كذلك يطول… على أن المجال -في مواطن أخرى يبقى رحباً للحديث عن النقاط البارزة التي يعجب بها الباحث أو التي يراها جديرةً بالتنويه في أكثر من مناسبة، سواءً كانت هذه أو تلك: في حياة الشيخ رحمه الله، أو في (منهجه) وطريقته في التأليف.

  • مكانته في التفسير:

لا تقلُّ مكانة ابن تيمية في تفسير القرآن عنها في الحديث والفقه والعربية والكلام، وسائر فروع الثقافة الإسلامية الأخرى، فقد برع فيها جميعاً وتقدم فيها على علماء عصره، كما يتصح ذلك من أقوال العلماء وكتّاب التراجم، ومما وصل إلينا من تراثه الغزير -بل لعل ابن تيمية وقد كسر قيد القرون، وجمع علوم السلف وآثارهم، قد مهَّد الطريق لظهور مثل ابن كثير، وابن حجر، وغيرهما من العلماء الأعلام، قال فيه الإمام الذهبيُّ رحمه الله (ت 748 هـ): "كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً، وشجاعة وسخاءً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف، وقرأ وحصل، وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام: أصولها وفروعها, ودقها وجلها".

وقال في موضعٍ آخر: "وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث".

وقال: "ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما يبعد أنَّ تصانيفه إلى الآن -قبل وفاة الشيخ بدهرٍ طويل -تبلغ خمسمائة مجلد".

وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني (ت 727 هـ): "لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين وقد ألان الله له العلوم كما ألان الحديد لداود؛ كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أم من غيرها إلا فاق فيه أهله والمنتسبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب، والتقسيم، والتبيين".

وفي الوافي بالوفيات: قال شمس الدين: "ما رأيتُ أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشدَّ استحضاراً لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح، أو المسند، أو السنن، كأنَّ ذلك نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارةٍ رشقةٍ حُلوةٍ، وإفحامٍ للمُخالف".

  • أما الحديث عن مكانته في التفسير بخاصة، فأمره كذلك يطول:

وقد قال فيه الشيخ علم الدين البرزالي (ت 738 هـ): "وكان إذا ذكر التفسير بهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قولٍ ما يستحقه من الترجيح والتصنيف والإبطال -هذا مع انقطاعٍ إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، وداء الخلق إلى الله تعالى".

قال: "وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يُفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله خلقٌ كثير".

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي، وقد لقبه مع بعض العلماء الآخرين بـ"حَبر القرآن": "وأما التفسير فمُسلَّمٌ إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن، وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثيرٍ من أقوال المفسرين، ويُوهي أقوالاً عديدة".

وفي رسالتنا هذه يُشير ابن تيمية رحمه الله -في جملةٍ عارضةٍ إلى خمسة عشر تفسيراً من تفاسير السلف، في أول كلامه إلى الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال، حيث ذكر أن مثل هذه التفاسير خاليةٌ من هذا الوجه، وقد علقت على ذلك مُشيراً إلى هذا الاطلاع الواسع من ابن تيمية على آثار السلف، ثم قرأتُ في "الوافي بالوفيات" لابن بيك الصفدي (ت 764 هـ) ينقل عن بعض العلماء أن ابن تيمية رحمه الله: "كان آيةً من آيات الله في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين". وقوله ينقل عمن سمع ابن تيمية، يقول: "إني وقفتُ على مائة وعشرين تفسيراً، استحضر من الجميع الصحيح الذي فيها"، فعملتُ أي اطلاع كان لابن تيمية على هذا التفاسير، وأيُّ مكانةٍ له في تفسير القرآن الكريم.

ولقد كان له رضي الله عنه مع هذا الاطلاع اعتناء وتدقيق في الاختيار والترجيح، والاستدلال "وإنك لترى عقله المتفكر المتدبر -كما يقول أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة -يلمع وراء الروايات. وفي مزدحم الآثار" وكان هو نفسه يقول: "ربنا طالعتُ الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله تعالى الفهم، وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني …".

وقال الشيخ عبد الله رشيق -الذي وصفه ابن عبد الهادي بأنه كان من أخص أصحاب شيخه ابن تيمية وأكثرهم كتابةً لكلامه، وحرصاً على جمعه: "كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردةً عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعةً كبيرةً بالاستدلال" أي أنه رحمه الله جمع أقوال السلف في تفسير القرآن، تمهيداً لتفسيره، ثم ابتدأ تفسيره وجعل تلك الأقوال والنقول دليله لما يذهب إليه، فلم يخرج عن آراء السلف، ولم يحرم على نفسه -ولا على الناس -بعد ذلك التعرف على المبادئ والسنن التي تدل عليها الآيات. أو العلوم النفسية أو الاجتماعية التي تُفهم منها. كما يدل على ذلك تفسيره لبعض السور الذي وصل إلينا (النور -البينة -الكافرون … ) وغيرها، وكما يلمح ذلك من بعض رسائله القيمة: كالعبودية، وغيرها.

ويبدو أنه رحمه الله كان معنياً بعد كل هذه الإحاطة والدقة بالكتابة في تفسير الآيات المشكلة على العلماء، أو الآيات التي يفهم من تفسيرها نظائرها الأخرى الكثيرة، دون مجرد ترداد ما قاله المفسرون في سائر القرآن، قال الشيخ أبو عبد الله الذهبي: "ثم لما حُبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب على جميع القرآن تفسيراً مرتباً على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّنٌ بنفسه، وفيه ما قد بيَّنه المفسرون في غير كتاب. ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعةٍ من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتبت المصنف الواحد في آيةٍ تفسيراً، ويُفسر غيرها بنظيره! فقصدتُ تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غره، وإذا تبيَّن معنىآيةٍ تبيَّن معنى نظائرها".

ويبدو أنه بدأ في السجن يكتب في التفسير على هذه الطريقة -التي ربما قربت من التفسير الموضوعي في بعض المواطن، وأدرك رحمه الله -ما فتح الله عليه من جديدٍ في فهم القرآن في جو السجن -الذي اشتدت عليه وطأته في آخر عمره، وأدركه فيه الأجلفقال: "لقد فتح الله عليَّ في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثيرٌ من العلماء يتمنونها، وندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن". (دخل ابن تيمية قلعة دمشق سادس شعبان، 726 هـ، وتوفي بقاعتها صابراً ليلة الاثنين، لعشرين من ذي القعدة، سنة 728 هـ) 

رحم الله شيخ الإسلام ورضي عنه، لقد أنفق أكثر وقته في السجن الذي وصفه بأنه خُلوة في درس القرآن وتلاوته وفهمه، ليجد فيه من المعاني ما يتمنى أن يقف على مثلها كل عالمٍ ، ولكن أنَّى لمن لم يُعاني ما عاناه ابن تيمية أن يفهم مثل ما فهم من معاني القرآن وأصول العلم.

قال ابن رشيق: "وأرسل إلينا شيخ الاسلام شيئاً يسيراً مما كتبه في الحبس، وبقي شيءٌ كثيرٌ في مسألة الحكم عند الحكام لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربع عشرة رزمة"!!.

  • آثاره في التفسير:

تدل هذه المحاورة الأخيرة التي جرت بين شيخ الإسلام وتلميذه أبي عبد الله بن رشيق أن ابن تيمية لم يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن، وإن كان ابن بطوطة قد توهم في هذا المجال -أيضاً -فزعم أن ابن تيمية صنف تفسيراً للقرآن في نحو أربعين مجلداً سماه بـ"البحر المحيط"!!.

والذي بين أيدينا من النصوص الموثوقة التي قد يُظن أنها تُشير إلى شيء من ذلك، قول ابن عبد الهادي المقدسي، وهو يتحدث عن تصانيف الشيخ: "فَمن ذَلِك مَا جمعه فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم، وَمَا جمعه من أَقْوَال مفسري السّلف الَّذين يذكرُونَ الْأَسَانِيد فِي كتبهمْ وَذَلِكَ فِي أَكثر من ثَلَاثِينَ مجلداً".

ولكن إذا أضفنا هذا النص إلى القول السابق لابن رشيق: "كتب الشَّيْخ رَحمَه الله نقُول السّلف مُجَرّدَة عَن الِاسْتِدْلَال على جَمِيع الْقُرْآن وَكتب فِي أَوله قِطْعَة كَبِيرَة بالاستدلال وَرَأَيْت لَهُ سوراً وآيات يُفَسِّرهَا وَيَقُول فِي بَعْضهَا كتبته للتذكر وَنَحْو ذَلِك ثمَّ لما حبس فِي آخر عمره كتبت لَهُ أَن يكْتب على جَمِيع الْقُرْآن تَفْسِيرا مُرَتبا على السُّور…" تبين لنا ما هو المراد بالثلاثين مجلداً المُشار إليها، وأنها ليست من تفسير شيخ الإسلام، ولكن من نقول السلف التي كان يُعول عليها في تفسير ما فسر من كتاب الله تعالى، كما أشرنا من قبل.

يُضاف إلى ذلك أن ابن بطوطة قد نصَّ على أن تفسير ابن تيمية الذي سُمي بالبحر المُحيط قد صنفه في سجنه الذي لبث فيه أعواماً، ثم أمر بإطلاقه منه الملك الناصر! فكيف يتفق ذلك مع سؤال أبي عبد الله بن رشيق لشيخ الإسلام أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن في سجنه الذين توفي فيه ؟! ثم كيف يُجيبه ابن تيمية بما أجاب ؟!.

بل إن ما بين أيدينا اليوم من تفسير شيخ الإسلام رحمه الله يؤيد النص السابق الذي حكاه عنه تلميذه ابن رشيق من عنايته بالآيات التي لم يظهر على معناها المفسرون، أو من التي أشكلت عليهم، فهو يقول -مثلاً -في أول بعض الآيات التي عرض لتفسيرها من سورة النمل: "هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفةٍ من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها… "، والشواهد على ذلك كثيرة، ولبسط هذا الموضوع محلٌ آخر.

  • أما آثاره في تفسير مواضع من القرآن: آياتٍ وسوراً؛ فكثيرةٌ:

وقد بلغ جملة ما بين أيدينا منها اليوم أربعة مجلدات (الأجزاء: 14 -17) من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي)، وقد وضعها ابن تيمية رحمه الله على شكل رسائل في تفسير بعض الآيات أو إجابةً على سؤالٍ حول آية أو بضع آيات، إلى جانب تفسيره لبعض السور القصار الأخرى.

 ويرى ناشر "مجموعة شيخ الإسلام" عبد الصمد شرف الدين، التي احتوت على تفسير ست سور، هي (الأعلى -الشمس -الليل -العلق -التين -الكافرون) أنها مما فسَّره ابن تيمية في سجنه الذي قضى فيه نحبه رحمه الله.

  • هذه الرسالة:

ورسالتنا هذه (مقدمة في أصول التفسير) تعتبر من أهم ما كتبه ابن تيمية في الدلالة على منهجه في التفسير وأصوله عنده، بل تعتبر من أهم ما كتب في هذا الباب بإطلاق، وقد ضمنها رحمه الله القواعد الأساسية التي تفتح طريق فهم القرآن، وتضع بين يدي المفسر أصول الموازنة والترجيح بين الأقوال والآراء، وتعصمه من الخطأ والزلل.

ويبدو أن ابن تيمية رحمه الله قد وضع هذه الرسالة بعد أن قطع شوطاً في تفسير القرآن على النحو الذي أشرنا إليه من قبل -يوم الجمعة في المسجد الجامع -وقد تم تأليفها بناءً على رغبة بعض طلاب الشيخ أن يفقه على طريق التفسير، وأن يُبين له سبيل التمييز فيه بين الحق وأنواع الأباطيل؛ فلعل هذا الطالب قد فطن على وقوف شيخه عند بعض القواعد والأصول، ينطلق منها في تفسيره ولا يتجاوزها؛ فلا تتضارب أقواله أو وجوه التأويل التي يعتمدها على تباعد الأزمان واختلاف الأحوال، قال رحمه الله: "أما بعد؛ فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمةً تتضمَّنُ قواعدَ كليةً تُعينُ على فَهْمِ القرآنِ، ومعرفةِ تفسيرِه ومعانيه، والتمييزِ ـ في منقولِ ذلك ومعقولِه ـ بين الحقِّ وأنواعِ الأباطيلِ، والتنبيه على الدليلِ الفاصلِ بين الأقاويلِ… ".

ولم يعتمد شيخ الإسلام في وضع هذه الرسالة على أحدٍ ممن تقدمه من المصنفين في التفسير، أو ينظر فيها إلى قواعد مُفسرٍ سابق؛ قال رحمه الله: "وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد".

وهذا يُذكرنا بالإلماعة السريعة التي قدمناها عن منهج ابن تيمية؛ فإن قواعده في هذه الرسالة تنطلق من ذلك المنهج، الذي رسمه لنفسه بدقة، وفهمه بعمق، وطبَّقه بقوَّة وشمول، ويتضح ذلك من هذه الدراسة السريعة للخطوط العريضة في هذه الرسالة:

قسَّم ابن تيمية هذه الرسالة إل خمسة فصول: بيَّن في (الفصل الأول) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه، عملاً بقوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، واستدل على ذلك ببعض الآيات والآثار، وبنى على ذلك قوله: إن النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلٌ جداً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما ذكره ابن تيمية من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن، يلتقي مع التأويل الدقيق الذي قدمه الطبري للخبر الذي رُوي عن رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعدد!!

قال أبو جعفر: في هذا الخبر إنه يًُحح ما قاله هو من "أن من تأويل القرآن، ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم". قال: "وذلك يفصل مجمل ما في آيه، من أمر الله ونهيه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة… فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك، إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بتعليم الله إياه ذلك، بوحيه إليه…  فذلك هو الآي، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفسرها لأصحابه، بتعليم جبريل إياه، وهن لا شك أي ذوات عدد". قال: " وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم، فقال له جل ذكره: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل: 44)".

وواضحٌ أن هذا هو المعنى الذي أشار إليه ابن تيمية، قال أبو جعفر: "ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يفسر من القرآن شيئا إلا آيا تعد هو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه، واليسير من حروفه، كان إنما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الذكر، ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم!!".

وفي (الفصل الثاني): تحدث ابن تيمية عن الخلاف الواقع بين السلف -وليس بين الصحابة فحسب- في التفسير، وذكر كذلك أنه خلافٌ قليل، ورجع غالب ما يصحُّ من الخلافات في هذا الباب إلى اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وبيَّن ذلك، ودلَّل عليه من خلال ثقافته اللغوية والأصولية والمنطقية بدقة ووضوح.

وعرض في هذا الفصل الكلام على سبب النزول، ومدى أهمية الوقوف عليه بالنسبة للمُفسّر.

وانتقل في الفصل الثالث للكلام على الاختلاف في التفسير -أصلاً وبعد أن تعددت مناهجه ومدارسه -ومن أين يقع، ورد هذا الاختلاف -على تشعب كتب التفسير، وتأثر معظمها بآراء الفرق -إلى نوعين: الاختلاف المستند إلى النقل، والاختلاف المستند إلى طرق الاستدلال.

ولكنه -من ثمَّ -يخصُّ هذا الفصل بالنوع الأول فقط، ويعقد للخلاف الواقع من جهة طرق الاستدلال فصلاً خاصاً، هو الفصل الرابع.

في هذا الفصل الثالث، الذي عرض فيه ابن تيمية لأخطر مسائل علوم الحديث ومصطلحه -لمناسبة الكلام على النقل والأخبار، وأثر ذلك في اختلاف المفسرين -يتحدث عن الإسفاف الذي وقع فيه بعض المفسرين في نقل ما لا يفيد ولا دليل على صحته، كما يُشير إلى الاسرائيليات إشارةً عابرة ثم يذكر مدارس التفسير -الأثرية -في مكة والمدينة والكوفة ،و إلى رؤوسها وأعلامها من المفسرين.

وبعد أن يتحدث عن أمارات صحة الحديث، ودلائل تصحيحه -في كلامٍ طويل عرض فيه لكثيرٍ من الأعلام -يتحدث عن أدلة كذب الحديث، ويذكر طرفاً من الموضوعات في باب التفسير -اضطرنا إيجاز ابن تيمية السريع إلى التعليق على بعضها بتوسع، -كما يعرض لبعض المفسرين الذين راجت عليهم مثل هذه الروايات.

ويفرد الفصل الرابع -كما أشرنا للنوع الثاني من سببي الاختلاف في التفسير، وهو الخلاف الواقع من جهة الرأس والاستدلال. وهنا ينصُّ ابن تيمية على أن الخطأ والزيغ الواقع في هذا الباب إنما حدث بعد تفسير الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان.

والذين وقعوا في هذا الخلاف -عنده -قومان: "قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وكان نظرهم إلى المعنى أسبق. وقوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنَزَّل عليه، والمخاطب به".

ويُقدم شيخ الإسلام في شرح هذين المنهجين وما يندرج تحتهما من الفروع، كلاماً فائقاً لا يستغني عنه ناظرٌ في تفسير … أيَّ تفسير، لا يستغني عنه أي مشتغلٍ بلونٍ من ألوان الثقافة الإسلامية والعامة.

تحدث ابن تيمية في هذا الفصل عن تفاسير المعتزلة، وأصولهم في الاعتقاد التي بنوا عليها هذه التفاسير، وذكر رأيه في كتبهم، وفي كشاف الزمخشري بخاصة، ثم عرض لضلالات الرافضة والفلاسفة، والقرامطة في تأويل القرآن على غير تأويله، وأشار إلى مسؤولية المعتزلة الكبيرة حيث عبَّدوا الطريق لمثل هؤلاء.

وأشار في هذا الفصل إلى بعض التفاسير التي يراها "أتبع للسنة والجماعة"، وإن كان لم يعف بعضها من النقد على منهجه الذي لا يعرف في تطبيقه أيَّ لونٍ من ألوان التهاون، أو التحامل، وختم هذا الفصل بكلمة عن تفسير الصوفية والوعاظ ونحوهم.

ولعل هذا الفصل أن يكون أغنى فصول هذه الرسالة، وأدلها على منهجية ابن تيمية ومدى أصالته -في ذلك العصر وفي عصور متباعدة -في الحكم على المختلفين وأرباب الفرق، وإن كان المرء لا ينقضي عجبه من القوم "الذين اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل القرآن عليها" كيف يجعلون القرآن خاصعاً لتصوراتهم ومقرراتهم الفكرية المُسبقة، ولا يجعلون تصورهم تابعاً لما في القرآن، ولا يدخلون إلى النص القرآني بأداة التفسير الأساسية -اللغة التي أنزل بها الكتاب -وبما أثر في تفسيره عن السلف الصالح!!.

والأعجب منه أن يُصبح تصورهم هذا عند بعض الناس هو الدين، وأن يجر الآية أو الآيات بتأويلات باردة ومجازات مُعقدة -لتوافق ذلك التصور!

ولقد وضع ابن تيمية بهذه الكلمات القلائل على أساس كبير من أسس الخلاف بين أصحاب الفرق والأهواء في تاريخ الإسلام.

وأخيراً، بعد الوقوف على أسباب الخطأ والاختلاف والانحراف في تفسير القرآن؛ يتكفل ابن تيمية ببيان أحسن الطرق وأصحها في التفسير، فيقدم بذلك خطوات منهجه الايجابي، وإن كانت دراسته النقدية في الفصل السابق قد قطعت بالقارئ نصف الطريق إلى هذا المنهج، أو رسمت له: حدوده، وإطاره العام.

يرى ابن تيمية بحق أن أصح طرق التفسير أن يُفسر القرآن بالقرآن، قما أُجمل أو اختصر في مكان فقد فُسر في موضع آخر -ومن المؤكد أن النظر المبتدئ أو المستقل إلى الآية في مكانها دون الرجوع إلى موضوعها في سائر المواضع الأخرى، يقطعها عن السياق والنظر في بعض الأحيان، وقد أوقع كثيراً من المفسرين وأرباب الكلام في مآزق!!. ثم يفسر القرآن بالسنة؛ فإنها شارحةٌ للقرآن وموضحةٌ له، ثم بأقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من نزول القرآن، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح.

ويخصص ابن تيمية رحمه الله سائر هذا الفصل (الخامس) للكلام على منزلة الصحابة في تفسير القرآن، وبخاصة ابن مسعود وابن عباس، ثم يُعرج على ما نُقل عنهم من الاسرائيليات، ويذكر بهذه المناسبة أقسام هذه الروايات الإسرائيلية، والموقف الذي يجب اتخاذه منها رفضاً أو قبولاً.

أما تفسير القرآن بأقوال التابعين -إذا لم يوجد التفسير في كل ما تقدم، فقد أفرد له ابن تيمية الفصل الأخير، وذكر أن كثيراً من الأئمة رجعوا في هذه الحال إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر الذي أفاض في الحديث عن مكانته في التفسير وقتادة، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. وعنده أن المصير إلى تفسير التابعين -وأكثر اختلافهم فيه اختلاف تنوع -متعيِّنٌ إذا كان القول محل إجماعهم.

ويتطرق ابن تيمية رحمه الله في ختام هذا الفصل -وختام الرسالة -إلى الحديث عن تفسير القرآن بمجرد الرأي ،و يحكم بأن ذلك حرام، وينقل عن ذلك من السلف نقولاً كثيرة كلها تُغلظ القول على تفسير القرآن، وقد علقت على هذه الفقرة بشيء من التوسع والبيان -دفعاً للتوهُّم -ناظراً في ذلك إلى ما سبق لشيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري أن قدّمه، رحمهما الله تعالى.

  • أثر هذه الرسالة:

وقد تركت رسالة ابن تيمية هذه -وحالها ما قدمناه من الأصالة والسبق -أثراً كبيراً لدى المشتغلين بالتفسير وعلوم القرآن، فاعتمد عليها الحافظ ابن كثير (تلميذ شيخ الإسلام) وأقام مقدمة تفسيره الأثري القيم على الفصلين الأخيرين منها اللذين بيَّن فيهما ابن تيمية أحسن طرق التفسير، واللذين نقلهما ابن كثير بالحرف الواحد.

كما أفاد منها كل من الزركشيِّ والسيوطيُّ، ورما نقل منها الزركشيُّ على النحو السابق، أو قريباً منه، بل إن السيوطي في النوع الثامن والسبعين عنده من علوم القرآن -معرفة شروط المفسر وآدابه -يقوم بتلخيص أهم فصول هذه الرسالة، ولعله -رحمه الله ما كان يُحب ترك النظر فيها، الاقتباس منها -لولا رغبته في النظر في بعض الرسائل والكتب الأخرى التي تنطوي على ذلك النوع المُشار إليه -فهو يُودعها بقوله: "انتهى كلام ابن تيمية، وهو نفيسٌ جداً" (انظر الاتقان: 2/ 298 -303، والبرهان: 2/ 175).

كما أن السيوطي رحمه الله في بعض المواطن الأخرى ينقل عن هذه الرسالة بطريق غير مباشر، عن طريق نقله عن الزركشي، الذي لم يلتزم العزو إلى ابن تيمية فيما يبدو !.

ثم نقف في كتاب "الثقافة الإسلامية" للشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله على تلخيصٍ آخر لهذه الرسالة في الصفحات (100 -108)، قدَّم لها بقوله –في هذه المقدمة – "وهي من أحسن ما كُتب في أسباب، وأحسن طرق التفسير". قال رحمه الله: "ونحن نقتطف منها ما يُعلم به بالجملة أسباب الاختلاف وأحسن طرق التفسير، ومن أراد التوسع في هذا الباب، فعليه بها؛ ففيها ما يكفي ويشفي!"، وقد اعتمد عليها كذلك في كلامه على بعض طبقات المفسرين.  

ولا أحب أن أدع الكلام في هذه الفقرة قبل الإشارة إلى طرفٍ مما وصف به أستاذنا العلامة محمد بهجت البيطار هذه الرسالة؛ قال حفظه الله: "رسالته هذه فيضٌ من بحره، قد أملاها من فؤاده كما قال، وأودعها نفائس لألئه ورده؛ فهي تُريك صفحةً ناصعةً من دراسة سلفنا للقرآن وفهمه، وتهديك لحل بعض مشكلات التفسير ومصطلحاته، وتدلُّك على أهدى المفسرين، وأفضل كتبهم، وتُحذرك ممن انتحلوا لأنفسهم عقائد وأصولاً بنوا تفاسيرهم عليها، وردُّوا كلام الله وسُنة رسوله إليها" (حياة شيخ الإسلام، ص 178).

انتهى كلام الشيخ زرزور رحمه الله تعالى.



الأحد، 1 نوفمبر 2020

الحديث حُجَّة بنفسه في العقائد والأحكام -تأليف الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني

الحديث حُجَّة بنفسه في العقائد والأحكام

تأليف الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني

تقديم: محمد عيد عباسي

اعتنى به: محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذه رسالة صغيرة في حجمها، كبيرةٌ في مضمونها؛ للعلامة مُحدث العصر محمد ناصر الدين الألباني بعنوان: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام"، وهي محاضرة كان ألقاها الشيخ الألباني في مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين الذي انعقد في مدينة غرناطة ببلاد أسبانيا (الأندلس الإسلامية سابقاً)، وذلك في شهر رجب، عام (1392 هـ الموافق 1972 م)، وقد تحدث فيها المؤلف عن موقف المسلم الصحيح من السنة، ومكانتها في الشريعة، وحجيتها، وهي مقسمة على أربعة فصول.

تحدث في (الفصل الأول) عن منزلة السنة في الإسلام، وواجب المسلمين في الرجوع إليها، واتباعها، والتحذير من مخالفتها من خلال سوق الأحاديث والآيات الدالة على ذلك، وذكر لذلك (16) آية، و(6) أحاديث، وذكر من دلالاتها التي هي محل الشاهد (19) وجهاً.

وتحدث في (الفصل الثاني) عن بطلان محاولات الخلف لمخالفتها، وفساد ما تذرعوا به لذلك من القياس، ونقد بعض القواعد الأصولية التي اصطنعوها وضربوا بالسنة عرض الحائط من أجلها.

وأما (الفصل الثالث)؛ فقد جاء للتدليل على بطلان القاعدة التي وضعها بعض علماء الكلام قديماً وأشاعها بعض العلماء والدعاة حديثاً، وهي دعواهم "أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة"، وبيَّن خطأ واضعي هذه القاعدة من أربع وجوه، حيث أن هؤلاء المتكلمين فرقوا بسببها بين أحاديث العقائد وأحاديث الأحكام دون دليل صحيح ظاهر وإنما لمجرد التوهم والتخيل، بناءً على قياسهم كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم على كلام الناس، متناسين أن الله حفظ السنة كما حفظ القرآن.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هذا الموضوع قد تعرض له الشيخ الألباني هنا بشيء من الاختصار، وقد بحث ذلك موسعاً واستقصى فيه أهم ما يمكن ذكره من الأدلة على بطلان ذاك الرأي في رسالة خاصة عنوانها "حديث الآحاد والعقيدة"، وقد يسر الله نشرها بعنوان "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة".

وأما (الفصل الرابع) والأخير من هذه الرسالة؛ فقد عرض فيه المؤلف إلى الأمر الذي أدى إلى إضعاف مكانة السنة عند الناس وتعطيل العمل بها وذلك هو التقليد الذي عمَّ وطم جميع نواحي الفكر والحياة في العالم الإسلامي لعدة قرون من الزمان، والذي أناخ بكلكله على العقول والنفوس.

هذا التقليد الذي قتل في الأمة مادة الابتكار، ومواهب الابداع والاجتهاد، ودفن فيها المواهب، وحرم الناس فيما حرم من هدى ربهم سبحانه، وصدهم عن الانتفاع بالخير الذي جاءهم عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم ركوناً إلى اجتهادات علماء لم يرضوا لتلاميذهم أن يقلدوهم فيها من غير بصيرة، ومن الأسباب التي جعلتهم يُقدمون القياس والآراء على السُّنن:

1- نظرتهم إلى السنة أنها في مرتبة دون مرتبة القرآن.

2-.حصول الشك لديهم في ثبوت أكثرها.

وقد أهاب الأستاذ الألباني رحمه الله في ختام هذه الرسالة بالشباب المسلم أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة في كل ما يبلغهم منهما وأن يعملوا لتحقيق مرتبة الاتباع في نفوسهم حسب استطاعتهم وإمكانياتهم

هذا وقد نالت هذه المحاضرة استحسانا كبيراً من جماهير الطلبة المثقفين المسلمين الذين استمعوا إليها لما رأوا فيها من المناقشة العلمية الموضوعية والرأي الصائب القويم وأرسلوا عدة رسائل إلى المؤلف يطلبون منه طبعها ونشرها ليعم النفع بها كل مسلم مخلص غيور يبحث عن الحق ويتمسك به.

  • أهمية هذا الكتاب:

1- بيان منزلة السنة في الإسلام، وأن التمسُّك بها كفيلٌ بتحقيق الوحدة الشعورية بين أبناء الأمة الواحدة.

2-بيان أن السُّنة محفوظة بحفظ الله تعالى لها، وأن كل حديث مكذوب أو موضوع فإن الله تعالى يُقيض له من يكشف حقيقته، ويُبين زيفه.

3- إبطال محاولات الخلف من الحداثيين والعلمانيين وبعض المبتدعة والجهال في ردِّ السُّنة بقواعد مصطنعة ومُحدثة سواءً سُميت علمية أو منطقية.

3-إبطال قواعد علماء الكلام في ردَّ السنة لا سيما ما يتعلق بالعقل المجرد، أو دعوى مخالفته للأصول، أو بتقديم القياس عليها، وكذلك كشف زيف قولهم بأن أحاديث الآحاد لا تثبت به عقيدة.

4-الرد على محاولة إشاعة التقليد الأعمى، وجعل المذاهب أدياناً قائماً بذاتها، والذي قضى على العقول بالجمود في فترة سابقة من تاريخنا الإسلامي، وقد حكمت هذه المذهبية المتعصبة على النفوس بالضلال والتخبط والاختلاط، بل والتنازع.

وقد قام بطباعة هذه الرسالة الأخ محمد عيد عباسي بإشراف الشيخ الألباني رحمه الله، وقد وضع مجموعة من التعريفات لبعض المصطلحات الحديثية التي لها صلة بالموضوع و فوائد هامة يحسن بيانها، وهي كما يلي:

تعريفات حديثية

السُّنة والحديث، والخبر، والأثر

السُّنة: في اللغة الطريقة المسلوكة والمعتادة في الحياة، ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) /متفق عليه/، و (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء… ) /رواه الترمذي/.

وفي الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، مما يُرا به التشريع للأمة؛ فيخرج بذلك ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأمور الدنيوية، والجبلية التي لا دخل لها بالأمور الدينية، ولا صلة لها بالوحي. والسُّنة بمعناها العام عند المحديثن: تشمل الواجب، والمندوب. وفي اصطلاح الفقهاء: تختص بالمندوب وما دون الواجب.

وأما الحديث: فهو في اللغة الكلام الذي يُتحدث به، ويُنقل بالصوت والكتابة. وفي الاصطلاح: مرادفٌ للسنة عند جمهور العلماء، وذهب قومٌ إلى اختصاصه بما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولٍ دون الفعل والتقرير، والحقُّ أن الأصل في الوضع اللغوي للسُّنة: الفعل والتقرير. وللحديث: القول.

ولكن كما أن كليهما هنا يرجع إلى ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك مال أكثر المحدثين إلى تناسي أصليهما اللغويين، والاصطلاح بهما على شيء واحد، والقول إنهما مترادفان، كما مالوا إلى اختصاص الحديث بالمرفوع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُطلق على الصَّادر عن غيره صلى الله عليه وسلم إلا مُقيَّداً.

وأما الخبر: فهو في اللغة مرادفٌ للحديث، فهما يدلان على شيء واحد، ولكن شاع بين كثيرٍ من العلماء تخصيص الحديث بما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجعلُ ذلك الخبر أعمَّ منه، بأن يشمل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، وما صدر عن غيره؛ بينهما عموم وخصوص، فكل حديثٍ خبر، وليس كُلُّ خبرٍ حديثاً، ولذلك سُمي المشتغل بالسنة مُحدثاً، والمشتغل بالتاريخ وأخبار الناس: أخبارياً، وذهب بعضهم إلى جعل الخبر مُرادفاً للحديث والسُّنة، والأفضلُ الرأي الأول.

والأثر: هو الشيء المنقول عن السابقين، فيكون كالخبر يشمل في أصله ما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما صدر عن غيره، وبعضهم اصطلح على تخصيصه بما صدر عن السَّلف من الصحابة والتابعين، وأتباعهم، وهذا هو الأفضل والأحسن في الاستعمال، لأن فيه تمييز الموقوف من الحديث عن المرفوع منه.

السند والمتن:

يتألف الحديث النبوي المروي في كتب السنة من قسمين أساسيين، أولهما: السند، وثانيهما: المتن.

فأما السند أو الإسناد: فهو الطريق الموصلة إلى المتن، أي الرواة الذين نقلوا  المتن وأدوه، ابتداءً من الراوي المتأخر مُصنِّف كتاب الحديث، وانتهاءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما المتن: فهو ألفاظ الحديث التي تقوم بها المعاني، وقد امتنع العلماء عن قبول أي حديثٍ ما لم يكن له إسناد، وذلك بسبب انتشار الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال التابعيُّ الجليل محمد بن سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".

ثم يدرس العلماء بعد ذلك كل إسناد يُنقل إليهم؛ فإن توافرت فيه شروط الصحة -وهي أن يتصف رجاله بالضبط والعدالة والاتصال، ولا يكون فيه شذوذ أو عله قبلوه، وإلا ردُّوه، وصار بذلك "الإسناد من الدين"، ولولاه لقال من شاء ما شاء، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله (مقدمة مسلم).

وقد وضع علماء الحديث قواعد وأصولاً خاصة لكل من السند والمتن حتى يُقبلا، وهذه القواعد والأصول هي علم خاص، اسمه (علم مصطلح الحديث)، فمن شاء رجع إلى بعض المؤلفات فيه، ومن أفضلها كتاب (اختصار علوم الحديث) للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -وأحسن طبعاته طبعة مصرية، بتحقيق المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر وتعليقه، وعنوانها (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث).

أقسام السُّنة بحسب وصولها إلينا: المتواتر والآحاد:

تنقسم السُّنة باعتبار طريقة وصولها إلينا إلى: متواتر وآحاد، وزاد الحنفيَّة قسماً ثالثاً هو المستفيض أو المشهور.

فأما المتواتر: فهو في اللغة: مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، وهو مأخوذ من الوتر. وفي الاصطلاح: خبرُ جمعٍ يستحيل عادةً وعقلاً تواطئهم على الكذب -لكثرتهم أو ثقتهم -عن أمرْ محسوس، أو عن جمعٍ مثلهم إلى أن ينتهي إلى محسوس من مشاهدةٍ أو سماع، وهنا ينتهي الخبر إلى السماع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومشاهدة أفعاله أو إقراره.

ويتضح من هذا التعريف أن هناك شروطاً أربعة لا بُد من تحققها في الحديث المتواتر:

أولها: أن يكون رواتها عالمين بما أخبروا به، وجازمين، غير مجازفين ولا ظانِّين.

وثايها: أن يكون علمهم مُستنداً إلى شيءٍ محسوس؛ كمشاهدةٍ أو سماع.

وثالثها: أن يبلُغَ عددهم إلى مبلغٍ تمنع العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يُقيَّد ذلك بعددٍ مُعيَّن على الصحيح، بل يختلف ذلك باختلاف نسبة ثقة الرواة وضبطهم وإتقانهم.

ورابعها: أن يستمرَّ العدد المعتبر في كل الطبقات، أي: في أوله وأوسطه وآخره (عن إرشاد الفحول للشوطاني، ص 41 -42، بتصرف).

والتواتر قد يكون باللفظ، وقد يكون بالمعنى، وهو بنوعيه يُفيد القطع واليقين بصدق الخبر وصحته، ولا خلاف بين العلماء في ذلك.

وأما حديث الآحاد: فهو كل حديث لم يجمع شروط التواتر السابقة، وقد يتفرَّد به واحد؛ فيُسمَّى غريباً، ولذا يرويه اثنان فأكثر؛ فيُسمى عزيزاً، وقد يستفيض بأن يرويه جماعة، فيكون مشهوراً أو مستفيضاً، وعلى هذا لا يُفيد وصف الحديث بأنه حديث آحادٍ، أنه مرويٌّ عن واحدٍ دائماً.

وأما المشهور والمستفيض: فهو قسمٌ من خبر الآحاد على الصحيح، خلافاً للحنفية الذين جعلوه قسماً قائماً بنفسه، ورتبوا عليه أحكاماً خاصة، وقالوا: إنه يُفيد من الطمأنينة ما لا يفيده خبر الواحد، بنوا على ذلك أنه يُقيِّد مطلق الكتاب كالمتواتر (أصول الفقه للخضري، ص 212).

صحيحٌ أنه يُلاحظ في التعدد في رواته، والشهرة والاستفاضة بتناقله على الألسنة، ولكن الحق كما يرى الجمهور أن ذلك كله لا يُخرجه عن صفة الآحادية، ولا يبلغ به درجة الجمع المشروط في التواتر، وهو أولاً وآخراً حديث آحاد مهما اختلفت الأسماء والألقاب، وهو لذلك ينقسم مثله إلى صحيح وحسن وضعيف.

هذا؛ وقد اختلف العلماء في إفادة حديث الآحاد الصحيح: العلمَ واليقين، فبعضهم كالإمام النووي في "التقريب" ذهب إلى أنه يُفيد الظن الراجح، وذهب آخرون إلى أن ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من الأحاديث المُسندة يُفيد العلم والقطع، ورأى الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى -في (الإحكام 1/ 119 -137) أن خبر الواحد عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُوجب العلم والعمل معاً.

والحق الذي نراه ونعتقده أن كل حديث آحادي صحيحٌ، تلقته الأمة بالقبول، من غير نكيرٍ منها عليه، أو طعنٍ فيه؛ فإنه يُفيد العلم واليقين، سواءٌ كان في أحد الصحيحين، أو في غيرهما (وقد جزم بذلك الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، ص 96).

وأما ما تنازعت الأمة فيه؛ فصحَّحه بعض العلماء وضعَّفه آخرون، فإنما يُفيد عند من صحَّحه الظن الغالب فحسب. والله تعالى أعلم.

السُّنة من الذكر وهي محفوظةٌ إلى يوم القيامة:

وهذه مسألةٌ أحببتُ التنبيه عليها؛ لأهميتها وغفلة الكثيرين عنها، وهي أن السنة من الذكر، وأنها محفوظةٌ من الضياع، ومأمونةٌ من الاختلاط بغيرها، بحيثُ يستحيل تمييزها أو فصلها عما ليس منها، خلافاً لما يظنه أهل بعض الفرق المارقة الضالة القاديانية، والقرآنيين الذين يقولون: إنه قد اختلط المكذوب المختلق من الحديث في الصحيح الثابت منه، وليس في وسع إنسان التفريق بينهما، وأن المسلمن بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد التبس عليهم حديث نبيهم وضاع، ولم يعودوا قادرين على الاستفادة منه والرجوع إليه؛ لأنه لا يُمكن الوثوق بشيءٍ منه أبداً !.

وهكذا ضرب هؤلاء عرض الحائظ بالمصدر الثاني للدين الإسلامي، وأطاحوا به وهدموه، وهو المصدر الذي يتوقف عليه أيضاً؛ فهم المصدر الأول نفسه (أي القرآن) والاستفادة منه، وهذا هدفٌ عظيم، ومطمحٌ كبير للكفار وأعداء الإسلام، يبذلون من أجله كل ما يملكون.

وبعضهم قال: إن من الواقع الثابت اختلاط الحديث الصحيح بالموضوع، ولكن هناك طريقةٌ لتمييز بعضها من بعض، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (سيفشو الكذب عليَّ؛ فما سمعتم عني فاعرضوه على القرآن، فما وافقه فأنا قلته، وما لم يُوافقه فأنا بريء منه)، وهذا الحديث من الأحاديث الموضوعة المختلقة عند جميع أهل العلم بالحديث، وقال أحد العلماء الأذكياء: لقد فعلنا بهذا الحديث ما طلبه منا؛ فعرضناه على القرآن؛ فوجدناه يُخالفه في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7)، وغيره فحكما بوضعه وبراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم منه (عن إرشاد الفحول للشوكاني، ص 29، بتصرف).

ومن الأدلة على حفظ السنة قوله تبارك وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9)؛ ففي هذه الآية الكريمة، وعدٌ قاطعٌ من الله تعالى بحفظ الذكر. فما هو الذكر؟ لا شك أنه يشمل أول ما يشمل القرآن الكريم، ولكنه عند التأمُّل والتدقيق يشمل أيضاً السُّنة النبوية الشريفة، وإلى هذا ذهب عددٌ من العلماء المحققين، منهم الإمام أبو محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى؛ فقد عقد فصلاً طويلاً في (الإحكام، 1/ 109 -122)، وساق فيه أدلة قوية، وبراهين مُفحمة؛ للتدليل على أن السنة من الذكر، وأنها محفوظة كالقرآن، وأن خبر الآحاد يُفيد العلم، ومما قاله (ص 109 -110): "قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحى} (النجم: 3 -4)، وقال تعالى آمراً لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: {إن أتبع إلا ما يُوحى إليَّ} (الأحقاف: 9)، وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44)؛ فصحَّ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحيٌ من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحدٍ من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحيٍ نزل من عند الله تعالى فهو ذكرٌ مُنزَّل؛ فالوحي كله محفوظٌ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمونٌ أن لا يضيع منه، وأن لا يُحرّف منه شيءٌ أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً، وضمانه خائساً (أي فاسداً وناقصاً)، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقلٍ؛ فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بتولي الله تعالى حفظه، مُبلَّغٌ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى: {لأنذركم به ومن بَلَغ} (الأنعام: 19).

فإذا كان ذلك كذلك؛ فبالضرورة ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيءٍ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطلٌ موضوعٌ اختلاطاً لا يتميز عن أحدٍ من الناس بيقين، إذ لو جاز لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} كذباً، ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلمٌ.

ومن الأدلة أيضاً: أن الله جل شأنه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائه ورسله، وجعل شريعته الشريعة الخاتمة، وكلَّف الناس بالإيمان به واتباع شريعته إلى يوم القيامة

فإن قال قائل: إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده؛ فهو الذي ضمن تعالى حفظه، لا سائر الوحي الذي ليس قرآناً، قلنا به: هذه دعوى كاذبة مُجردة عن البرهان، وتخصيصٌ للذكر بلا دليل، وما كان هكذا؛ فهو باطلٌ؛ لقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل: 64)؛ فصحَّ أنَّ من لا بُرهان له على دعواه فليس بصادقٍ فيها، والذكر اسمٌ واقعٌ على ل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآنٍ أو من سنة وحيٍ يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نُزل إليهم}، فصحَّ أنه عليه السلام مأمورٌ ببيان القرآن للناس، وفي القرآ مُجملٌ كثيرٌ؛ كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك  مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المُجمل غير محفوظ، ولا مضمونٌ سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاعُ بنصِّ القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذن لم ندر صحيح مُراد الله تعالى منها مما أخطأ فيه المخطئ، أو تعمَّد فيه الكذب الكاذبُ، ومعاذ الله من هذا …".

قلتُ: وقد نقل كلام ابن حزمٍ وغيره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "مختصر الصواعق المرسلة (ص 487 -493)، وأقرَّه واستحسنه، وقال عقبه: "وهذا الذي قال أبو محمد -يعني ابن حزم -حقٌّ في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول عملاً واعتقاداً، دون الغريب الذي لم يُعرف تلقي الأمة له بالقبول".

وممن ذهب إلى ذلك أيضاً الإمام عبد الله بن المبارك؛ فقد سئل رحمه الله عن هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (تدريب الراوي؛ للسيوطي، ص 102، والباعث الحثيث؛ لأحمد شاكر، ص 95)، وقد نُقل مثل ذلك عن الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.

ومنهم العلامة محمد بن إبراهيم الوزير؛ فقد قال بعد ذكر الآية السابقة: "وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تزال محفوظة، وسُنَّته لا تبرح محروسة … " (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، ص 33).

وألغى كل شريعة تخالفها، فمما تقتضيه إقامة حجة الله تعالى على عباده أن يُبقي دينه صلى الله عليه وسلم، ويحفظ شرعه، إذ من المحال أن يُكلف الله عباده بأن يتبعوا شريعةً مُعرَّضةً للزوال أو الضياع، ومعلومٌ أن المرجعين الأساسيين للشريعة الإسلامية، هما القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 59)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيتُ القرآن، ومثله معه -أي السنة)/رواه أبوادود وغيره بإسناد صحيح/.

والقرآن محفوظٌ لكونه منقولاً إلينا بالتواتر، وهو أعلى درجةً من درجات ثبوت الأخبار، وبما أن السنة هي المُبيِّنة للقرآن والشارحة له، والمُخصِّصة لعمومه، والمُقيِّدة لمطلقه، ولا يُمكن فهم القرآن، ولا العمل به إلا بواسطتها، كما قال تبارك وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلَّهم يتفكرون} (النحل: 44).

فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم بسنته هو الذي يُبين ويشرح للناس ما نُزِّل إليهم من كلام الله تبارك وتعالى؛ فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه السُّنة، ويتعهَّد بقاءها، وعلى هذا تنطبق القاعدة الأصولية الصحيحة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فحجة الله تعالى على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، وهذا الحفظ لا يتمُّ إلا بحفظ السُّنة؛ فلزم من ذلك حفظ السُّنة وهو المطلوب.

أخي القارئ هذه أمورٌ أحببتُ أن أعرض لها في هذه المُقدِّمة، والآن ما يسعني إلا أن أدع زمام الحديث لأستاذنا المفضال العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ليُحدثنا ببيانه العذب وأسلوبه العلمي، فلنستمع إليه بانتباه تام، ولنتابع حديثه بقلوبنا وعقولنا.