أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

المسح على الخفين والتيمُّم -علوي بن عبد القادر السَّقاف

المسح على الخفين والتيمُّم

إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية

إشراف الشيخ 

علوي بن عبد القادر السَّقاف

وكتبه: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة


تمهيد/ يعتبر فقه التيمم والمسح على الخفين من المواضيع المهمة التي يحتاج إليها كُلُّ مُسلمٍ ومسلمة... وهذا بحثٌ لطيفٌ، نفيسٌ، مُقارن، جامعٌ لأقوال أهل العلم، يعتمد على فقه الدليل، ويعرض آراء الفقهاء المختلفة والمتنوعة في هذه المسألة بأدلتها التفصيلية، ويتضمن تفريعات مُهمَّة بنى عليها الفقهاء الكثير من الأحكام العملية، وهو في جملته مقتبسٌ من كتاب "مختصر فقه الطهارة" من الموسوعة الفقهية، وهو على قسمين:

القسم الأول: تناول بحث المسح على الخُفين، وفيه سبعة فصول، تضمنت مواضيع كثيرة، وهي على الترتيب: تعريف المسح على الخُفين، ومشروعيته (من الكتاب، والسنة، والإجماع)، وبيان الحكمة من مشروعيته، وحكم المسح على الخُفين وما يُحلق بهما (النعلين، واللفائف)، وشروط المسح، وصفة المسح على الخُفين، ومُدَّة المسح، ومبطلات المسح على الخُفين، والمسح على الجبائر.

أما القسم الثاني: فيتناول التيمُّم وأحكامه، وفيه خمسة فصول، تضمنت مواضيع، نذكرها على الترتيب: مشروعية التيمُّم (من الكتاب والسنة والإجماع)، وأحكامه، حالات التيمُّم، شروط التيمُّم، صفة التيمُّم (واجباته، وسننه)، وما يَبطُل به التيمُّم.













الاثنين، 17 أغسطس 2020

اختلاف الفقهاء في المسح على الجبيرة -بين الشَّافعيَّة والجمهور

اختلاف الفقهاء في المسح على الجبيرة

بين الشَّافعيَّة والجمهور

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة


وقبل عرض هذه المسائل، أقول (مُحمَّد): إن الاختلاف الواقع بين الفقهاء في تقدير هذه المسائل وترجيح رأيٍ على آخر، مرجعه إلى القياس، والاستدلال بعموم الأدلة، والنظر إلى الأحوط، وأن الضرورة تُقدَّر بقدرها، والضرر يُزال.. فمرجع الاختلاف بينهم هو تباين الاجتهاد في فهم النصوص والأحاديث والآثار الواردة في هذه المسألة.

وأكثر الأدلة التي يستدلُّ بها الفقهاء ضعيفةٌ لا يُحتجُّ بها، وقد ثبتت مشروعية المسح على الجبائر وما في معناها بالإجماع، وعمل الصحابة، والقياس.

قال البيهقيُّ: «ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أي المسح على الجبيرة- شيء، وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي تقدم ـ أي حديث جابر -في صاحب الشَّجةـ وليس بالقوي»!.

وإليك بيان عشرةٍ من المسائل في قضية المسح على الجبيرة والتي اختلف الفقهاء فيها:


1-اختلفوا في مشروعية المسح على الجبيرة وحكم ذلك ؟

* فذهب جماهير العلماء من المالكية والشَّافعية والحنابلة، وأبي يوسف، ومحمد من الحنفية إلى وجوب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة؛ ومعنى الوجوب عند الجمهور: هو الإثم بالترك، مع فساد الطهارة والصلاة.

* وذهب أبو حنيفة: إلى أنه مُستحبٌّ غير واجبٍ، فيأثم بتركه فقط مع صحة وضوئه، ورُوِيَ أنه رجع إلى قول الصاحبين.

* وذهب الظَّاهريَّة إلى عدم مشروعية المسح على الجبيرة، فيسقط حكمها.

والصحيح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب المسح على الجبيرة؛ لما ثبت بالسنة والإجماع، والأثر، وعموم الأدلة التي تؤكد على أن لهذا الأمر أصلاً.


وقد سبق التعرض لهذه المسألة بالتفصيل في بحث "حكم المسح على الجبيرة"، انظرها في: الرابط.



2-واختلفوا في وجوب التيمُّمِ مع الغسل والمسح على الجبيرة ؟

* فذهب والمالكية، والحنفية، والحنابلة، وهو قول للشافعي في القديم: أنه لا يجب عليه أن يتيمم مع المسح على الجبيرة، وصححه الشيخ أبو حامد، والجرجاني، والروياني من الشَّافعية.

* وذهب الشافعيَّة في الأصح، وهو جديد المذهب، والحنابلة في رواية إلى أنه يجب عليه التيمم مع المسح على الجبيرة، وقد نصَّ عليه في "الأم".

* وقال بعض الشافعية: يغسل الصحيح ويتيمم ولا يمسح على الجبيرة.

والصَّحيحُ -والله أعلم -هو ما ذهب إليه الشَّافعية في الجديد، وهو الأصحُّ في المذهب، وهو أنه يجبُ التيمُّمُ والغسل مع المسح على الجبيرة؛ للنص والقياس.


  • عرض الأدلة ومناقشتها:

واستدلَّ الشَّافعيةَّ ومن وافقهم في الجديد: بحديث جابر رضي الله عنه: «أن رجلا أصابه حجرٌ؛ فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه، ثُم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده».

قالوا: دل هذا الحديث بظاهره على الجمع بين المسح على العصابة، والتيمم، مع غسل الصحيح من سائر جسده، وهذا يؤكد وجوب التيمُّم من المسح على العصابة.

وأجاب القرافيُّ -من المالكية -عن ذلك في "الذخيرة"؛ فقال: "إن التيمُّم لو كان طهارةً لم يحتج إلى الغَسل معه؛ لأنا لا نعني بالطهارة إلا ما أزال المانع الشرعي؛ ولأن الجمع بين طهارتين خلاف قواعد الشرع في الأحداث، فتعيَّن حمل الحديث على حالتين -حتى يكون معناه صحيحاً: أن يتيمم إن عجز عن استعمال الماء. أو يشدُّ على جرحه خرقة ويغسل سائر جسده إن أمكنه استعمال الماء، ومثل هذا الإضمار مُجمعٌ على جوازه. وما ذكرتموه على خلاف القواعد غير مجمعٍ عليه، وحمل كلام الشارع على موافقة قواعده، وطرد عوائده، وما أُجمع عليه أولى مما ذكرتموه".

وأجاب عليهم الشَّافعيَّةُ: بأن ذكر التيمُّمِ في هذا الموضع دليلٌ على وجوبه، ولا معنى لما ذكره القُرفيُّ في الاستدلال علينا؛ إذ هو مجرد احتمالٌ لا ينهض لظاهر الحديث.

وقال الجمهور: إنه يحتمل أن الواو في قوله: «ويعصب» بمعنى أو، ويحتمل أن التيمم فيه لشد العصابة فيه على غير طهارة.

وأجاب الشَّافعية: بأن الواو في أصل الوضع تُستعمل لمُطلق الجمع، وهذا يقتضي الإتيان بجميع المعطوفات، لأنَّ محلها الوجوب في الطهارة، وأما القول بأن التيمم لاحتمال شد العصابة على غير طهارة، يبقى مجرد احتمالٍ ولا ينهض لظاهر النص.

واستدل الجمهور بالقياس؛ فقالوا: إن أن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف للقواعد الشرعية، وموضع الحائل هو موضعٌ واحد، فإما أن تكون طهارة العضو: المسح أو التيمم، فلا يُجمع فيه بين بدلين قياساً على مسح الخفين؛ إذ الجمع بين الطهارتين خلاف قواعد الشرع في  الطهارة من الأحداث، ولا يكلف الله عبدًا بعبادتين سببُهما واحد.

وأجاب الشافعية عن ذلك، بقولهم: إن واضع الجبيرة أخذ شبهًا من الجريح؛ لأنه يخاف الضرر من غسل العضو، وأخذ شبهًا من لابس الخف؛ لأن المشقة تلحقه في نزع الجبيرة، فلما أشبههما وجب الجمع بين المسح والتيمم.

قال الجمهور: إن القياس يقتضي أن من مسح على الجبيرة أجزأه ذلك من غير تيمُّمٍ، كما في المسح على الخُفِّ، بل هو أولى؛ لأن ثمَّة ضرورة اقتضت مسحه على الجبيرة، وصاحب الجبيرة أحقُّ بالتخفيف من غيره.

وأجاب الشَّافعيَّةُ: أن قياس الجبيرة على الخُف قياسٌ مع الفارق، فالجريح الذي ليس عليه جبيرة-مثلاً -لا يستطيع مباشرة المسح لخوف زيادة الضرر، والغسل متعذر، فتعين عليه التيمم.كذلك فإن طهارة الماسح على الجبيرة طهارة ضرورة، وأما مسح الخف فإنه تخفيف ورخصة؛ فلا وجه للقياس عليه.

 

3-واختلفوا في المقدار الواجب مسحه من الجبيرة ؟

* فذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى وجوب استيعاب الجبيرة وما في حكمها بالمسح، وهو الأصح عند الحنفيَّة، وهو الأرجح.

* وذهب الحنفية، والشافعية في وجهٍ -إلى أن المطلوب مسح أكثره، أو ما يقع عليه اسم المسح؛ لأنه مسح البعض يقوم مقام الكل، ولأنه مسحٌ على حائل منفصل فهو كمسح الخف.

والصحيح -والله أعلم -هو قول الجمهور، وهو: وجوب استيعاب الجبيرة بالمسح.


  • مناقشة الأدلة:

استدلَّ الجمهور بالقياس؛ فقالوا: إن المسح هي طهارة ضرورة، فوجب الاستيعاب فيها كالتيمُّمِ. كذلك فإن التعميم بالمسح لا يضرُّ الجبيرة؛ فوجب تعيميها به. وكما أنه يجب استيعاب العضو بالغسل في حال سلامته كذلك يجب استيعابه في حال مسحه، والأصل بقاء ما كان على ما كان.

واستدل الحنفية بالقياس أيضاً، فقالوا: كما أنه لا يجب استيعاب الخف بالمسح، بل يُكتفى بمسح ظاهره، فكذلك لا يجب استيعاب الجبيرة بالمسح. وكذلك الأمر في التيمُّمِ؛ فكما يُكتفى بمسح اليدين إلى الكوعين في التيمُّمِ فكذلك الأمر في المسح على الجبيرة، لا يجبُ استيعاب المسح عليها.

وردَّ الجمهور عليهم؛ فقال: بأن هذا قياسٌ مع الفارق، فالفارق بين الجبيرة والخفين في أن المسح على ظاهر الخفين رخصة، بينما المسح على الجبيرة ضرورة، فالاستيعاب في الضرورة أولى من الأخذ بالرخصة.

والفرق بين المسح في التيمم والمسح في الجبيرة، أن التيمم عبادةٌ مُستقلة عند فقد الطهورين، أما المسح فهي عبادةٌ مُتعلقةٌ بوجود العُذر مع وجود الطهورين. 

واستدل الحنفية: بالقياس؛ فقالوا: كما أنه لا يجب استيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، كذلك لا يجب استيعاب الجبيرة بالمسح.

وأجاب الجمهور: بأن الأصل في الرأس المسح، والمقصود استيعابه بالمسح، فكذلك هنا في الجبيرة (وهذا يصحُّ عند المالكية والحنابلة)، وأما الشافعية فيقولون: إن مسح الرأس طهارة أصلية تُجزئ فيها مسح شعرة، ومسح الجبيرة طهارة بدلٍ عن غسل، والمبدل يأخذ حكم المبدل عنه في حكم الاستيعاب.

كذلك فإن الشرع لم يرد بتحديد المقدار الممسوح من الجبيرة، فوجب الرجوع إلى الأصل وهو وجوب الاستيعاب.



4-واختلفوا في اشتراط الطهارة المائية لجواز المسح ؟

* اشترط الشافعية في الصحيح المشهور عنهم، ورواية عن الإمام أحمد: أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة مائية؛ وذلك إن لم يخف ضرراً بنزعها، فإن خاف الضرر لم ينزعها ويصح مسحه عليها، قالوا: ولأن الجبيرة حائل يُمسح عليه فكان من شرط المسح عليه تقدم الطهارة كسائر الممسوحات.

* وذهب المالكية والحنفية ورواية عن أحمد (اختارها بعض أصحابه)، وهي مقابل الصحيح عند الشافعية (قال عنه النووي: إنه شاذ): أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شد الجبيرة، لأنه لم يرد الأمر باشتراطها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.

والصحيح الراجحُ -والله أعلم -عدم اشتراط الطهارة المائية في جواز المسح على الجبيرة، مع قولنا: أنه إذا أمكن نزع الجبيرة وغسل ما تحتها بلا ضررٍ على العضو كما في موضع الكسرٍ ونحوه؛ فإنه يجب عليه نزعها، والإتيان بالطهارة المائيَّة، ومن ثمَّ يضع الجبيرة، ويمسحُ عليها، وإن لم يتمكَّن من ذلك سقط ذلك عنه.


  • عرض الأدلَّة، ومناقشتها:

واستدل الشافعية والحنابلة، ومن وافقهم: بحديث صاحب الشجَّة، وفيه أنه قال: "إنما كان يكفيه أن يتيمَّم، ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده". 

قالوا: فأوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم -عليه أن يتمَّم أولاً؛ وهذا يدلُّ على اشتراط الطُّهر قبل وضع الحوائل. 

وأجاب الجمهور: بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم ما ينبغي في طهارة المشجوج، ومن به جروحٌ أو قروح يضرها إيصال الماء إليها، ولو كانت الطهارة شرطاً لجواز المسح على هذه الحوائل لبيَّن ذلك؛ فدل هذا على عدم اشتراطها، وأما التيمُّم فهو بدلٌ عن موضع الجبيرة، بدليل توفر الماء، وقوله في آخر الحديث "ويغسل سائر جسده"، فلو كان التيمُّم يرفع الحدث لما احتاج إلى ذكر الماء معه.

واستدلَّ الشَّافعيَّة والحنابلة بالنظر؛ فقالوا: إن الجبيرة وما في حكمها حائلٌ يُمسح عليه، فكان من شروط المسح عليه تقدُّم الطهارة شأنه في هذه شأن سائر الممسوحات، ومنها الخُف.

وأجاب القرافي عليهم: بأن القياس بالمسح على الخف قياسٌ مع الفارق؛ إذ الخف رخصةٌ ولا ضرورة في لبسه، ثم إن وقت المسح على الخف معلوم بخلاف الجبيرة، فإن المسح عليها غير مؤقت والمسح عليه ضرورة.

والحقُّ الذي نميلُ إليه -هو ما ذهب إليه المالكية والحنفية في عدم اشتراط الطهارة في المسح على الجبيرة، وذلك أيسر للنَّاس، لا سيما في حقِّ من طالت مُدَّةُ وضع جبيرته.

 واستدلَّ الجمهور بالإجماع؛ فقد قال القرافي في "الذخيرة": "انعقد الإجماع على جواز الصلاة بالمسح على الجبيرة، وإن ابتدأ لبسها على غير وضوء، وإنما الخلاف في حكم إعادة هذه الصلاة؛ وإذا ثبت الجواز بدون طهارة فلا تكون شرطاً لجواز المسح عليها".

كذلك فإن الجبيرة أمرٌ فجائي لا يُمكن توقعه؛ وإنما توضع في حال الضرورة، وذلك عند حدوث ما يُوجب وضعها، واشتراط الطهارة يُفضي إلى الحرج والمشقَّة لما فيه من حصول الضرر؛ فلا يُعتبر هذا الشرط لجواز المسح عليها.

كذلك فإن المسح على هذه الحوائل إنما جاز دفعاً لمشقة نزعها، ونزعها يشقُّ إذا لبسها على غير طهرٍ؛ كمشقته إذا لبسها طاهراً. كذلك فإن المسح على هذه الحوائل إنما جاز مراعاةً لحال الضرورة الداعية إلى المسح عليها؛ فلا يشترط تقدم الطهارة له قياساً على التيمُّم.


5- واختلفوا في حكم الصلاة التي يُصليها صاحب الجبيرة إذا لبسها على غير طُهرٍ ؟

* فذهب جمهور العلماء من المالكية والحنفية إلى أنه لا يُعيد الصلاة.

* وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب إعادة الصلاة.

والراجح -والله أعلم -هو مذهب من قال بعدم وجوب الإعادة؛ لما فيه من رفع الحرج والمشقة، وللإجماع، وأثر ابن عمر، وإن كان الأحوط هو القضاء، خروجاً من الخلاف، وأخذاً بالعزيمة في الطهارة، وهذا أحبُّ إليَّ.


  • الأدلة ومناقشتها:

واستدل الجمهور المانعون من القضاء: بحديث عليِّ: "أنه انكسرت إحدى زنديه، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبيرة".

قال الجمهور: فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم علياً بالمسح على زنده المكسورة، ولم يأمره بإعادة الصلاة مع حاجته إلى البيان، ولو كانت إعادة الصلاة واجبة لبيَّنها له، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.  

واستدلوا بحديث جابرٍ رضي الله عنه، في صاحب الشَّجة، وفيه: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثُم يمسح عليه، ثم يغسل سائر بدنه».

قالوا: وكذلك الأمر في حديث صاحب الشَّجة؛ فإنه بيَّن له ما يفعله ولم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها بجرحه بعد أن يبرأ، ولو كانت إعادة الصلاة واجبة لبين ذلك، فدلَّ ذلك على أنه لا تجب إعادتها.

وقالوا: ومعنا إجماع الصحابة؛ فابن عمر رضي الله عنه، كان يرى المسح على هذه الحوائل، ولم يُنقل عنه أنه أعادها، ولم يُعرف له في الصحابة مُخالفٌ، فكان إجماعاً سكوتياً.

قالوا: ومعنا القياس، فكما لا تُعاد الصلاة بالمسح على الخُفِّ، فكذلك لا تُعاد الصلاة بالمسح على الجبيرة.

ولكن يرَدِ ُعليهم: أن المسح على الخُفِّ يأتي بعد طهارة؛ ولذلك لا تُعاد الصلاة منه، بخلاف المسح على الجبيرة إذا وُضعت على غير طهارة ! فالقياس أن المسح على الجبيرة يجب أن يكون بعد طهارة.

ولكن ثبت الفرق بين الخُفِّ والطهارة فلا يُقاس أحدهما على الآخر، وإن اتحدا في عموم الحكم، الذي هو المسح.

وقال الجمهور: إن قضاء هذه الصلاة إنما يكون بأمرٍ جديد والأصلُ عدمه.

ولكن يُجيب الشَّافعية ومن وافقهم، بقولهم: إن الله تعالى أمر بغسل الموضع الذي وضعت عليه الجبيرة، ولم يأتِ أمرٌ بوضع الطهارة عن هذا الجزء، فلما لم يكن متطهراً كانت صلاته باطلة، ومع ذلك يُصلي لحُرمة الوقت إن لم يُمكنه نزعها، وتلزمه الإعادة.

وقال الشافعية كذلك: إن العذر الذي اقتضى وضع هذه الحوائل هو عُذرٌ نادرٌ، والعذر النادر لا حكم له، فلا يمنع وجوب القضاء عند زواله، كالسجين الذي فقد الطهورين يُصلي على حاله لحُرمة الوقت، ثُم يُعيد إذا أخرج من السِّجن.


6-واختلفوا في الجبيرة إذا سقطت قبل البُرء هل تنقض الوضوء وتُبطل الصلاة ؟

* ذهب الحنفية إلى بطلان الصلاة إن كان سقوطها قبل البُرء، وأما الطهارة؛ فيمسح عليها بعد الطهارة من الحدث، ولا يمسح عليها إن كان طاهراً.

* وذهب المالكية إلى بطلان الصلاة سواءً كان سقوطها قبل البُرء أو بعده، وأما الطهارة قبل البُرء؛ فإنه يجب فيها المسح سواءً كان طاهراً أو مُحدثاً.

* وذهب الشافعية والحنابلة إلى بطلان الطهارة والصلاة سواءً كان سقوطها قبل البُرء أو بعده، وسواءٌ كان طاهراً أو مُحدثاً .

* وأما الظاهرية ومن وافقهم؛ فيرون أنه لا أثر لسقوط الجبيرة في الصلاة وخارجها، وفي الطهارة وعدمها.


7-واختلفوا في مسح القدر الزائد عن موضع الشدَّ أو غسله ؟

* فيرى المالكية والحنفية: إجزاء المسح على القدر الزائد تبعاً للمسح على موضع الحاجة، إن كان غَسْلُ ما تحت الزائد يضرُّ، ولأن القدر الزائد من ضروريات الشد.

* ويرى الشافعية والحنابلة: وجوب نزع القدر الزائد عن موضع الحاجة وغسله ما أمكن، ولو أن يُمسَّه الماء، إلا إن خاف الضرر بنزعه؛ فإنه يتيمَّمُ عن القدر الزائد ولا يغسله؛ لأن موضع الألم يقتضي المسح، وما زاد على ذلك القدر يقتضي التيمُّم.


8-واختلفوا في عدد مرات مسح الجبيرة ؟

* فذهب المالكية والحنفية في الأصح، والشافعية والحنابلة: إلى أنه يكفي في المسح على الجبيرة مرة واحدة، وإن كانت في محل يغسل ثلاثاً؛ قياساً بالمسح على الخفِّ.

* وفي قولٍ للحنفيَّةِ: إنه يمسح على المحل المغسول ثلاثاً ثلاث مرات، قالوا: لأن المسح بدلٌ عن الغسل، والغسل يسن تكراره فكذا بدله، وهذا إذا لم تكن على الرأس.


9-واختلفوا في المسحِ على الجبيرةِ المُحرَّمةِ والمغصوبة ؟

* فذهب المالكية والشافعية والحنفيَّة: إلى صحَّة المسح على الجبيرة المُحرَّمة والمغصوبة مع الضرورة، وبغير الضرورة يأثم بفعله ويصحُّ مسحه، ولا يجب نزعها إن تضرَّر بذلك.

* وقال الحنابلة: يُشترط أن تكون هذه الحوائل مُباحةً؛ فلا يصحُّ المسح على الحرير للرجال، أو المغصوب، ونحو ذلك.


10-واختلفوا في اشتراط طهارة عين الجبيرة ؟

* اشترط الحنابلة: طهارة عين الجبيرة؛ فلا يصحُّ المسح على الجبيرة المتنجسة. 

* ولم يشترط المالكية :طهارة الجبية؛ لأنها طهارة ضرورة.

* ولم تُبيِّن بقيَّة المذاهب موقفها من ذلك، والصَّحيح اشتراط طهارة الجبيرة، وهو الموافق لأصول الشافعية.




حكم المسح على الجبيرة (بين الظَّاهريّة والجمهور)-إعداد: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنُّونة

حكم المسح على الجبيرة 

(بين الظَّاهريّة والجمهور)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنُّونة


اختلف الفقهاء في جواز المسح على الجبيرة؛ وهي كل ما يُوضع على الجُروح أو الحروق أو الكسور أو الفصد وما شابهها من اللفائف والعصائب، واللصوق، والخرق، والأربطة والضمادات، والأشرطة. وذلك على مذهبين:


المذهب الأول: يرى مشروعية المسح على الجبيرة، وهو مذهب الجمهور من المالكية والحنفيَّة والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية، وهو مرويٌّ عن عبد الله بن عمر، وعبيد بن عُمير، وعطاء، والحسن، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور، ورواه البيهقيُّ عن أئمة التابعين.


واخلتفوا في حكمه؛ فذهب الشَّافعيَّة والحنابلة إلى وجوبه مطلقاً، وذهب المالكية وجمهور الحنفيَّة إلى وجوبه إذا خاف على نفسه الهلاك، أما إذا لم يخف الهلاك فيُندب له المسح والغسل أفضل، أما أبو حنيفة فذهب إلى ندبه مطلقاً؛ لأن الفرضية عنده لا تثبت إلا بدليل مقطوعٍ به، والأحاديث الواردة في الباب من أخبار الآحاد؛ فلا تثبت به الفرضيَّة عنده؛ فلو لم يمسح أصلاً لم تبطل صلاته.

المذهب الثاني: يرى المنع من المسح على الجبيرة، ويُسقِطُ حكم موضعها من الغسل عند التطهير، وهو مذهب الظاهرية: كابن حزم، والشوكاني، والصنعاني، وبعض الزيدية، ونقله ابن حزم عن بعض السلف القول به، وهو مرويٌّ عن الشَّعبيّ.


  • ويُلاحظ في هذا البحث ما يلي:

1-ضعف الأحاديث المرفوعة التي استدلَّ بها الجمهور القائلين بمشروعية المسح على الجبيرة.

ويؤيد ذلك أن الإمام البيهقيّ رحمه الله بعد أن بيَّن ضعف الأحاديث التي استدل بها في ذا الخصوص؛ قال (1/ 349): "وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي قد تقدم (انظر الدليل: 1/ ج) وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، والله أعلم".

2-أن عمدة الجمهور في مشروعية المسح على الجبائر: أثر ابن عمر الموقوف، وإجماع الصحابة، والنظر، وما صحَّ من مسح النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحوائل كالعمامة والخُف.

3-أن أدلَّة الظاهرية هي أدلَّة عامة في التوسيع على المكلفين ورفع الحرج عنهم.


عرض أدلة المذاهب ومناقشتها:


1-أما الجمهور القائلين بمشروعية المسح على الجبيرة؛ فاستدلوا:

أ- بما رواه ابن ماجه في "سننه"، عن علي بن أبي طالبٍ؛ قال: «انكسرت إحدى زنديَّ؛ فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني أن أمسح على الجبائر».

قالوا: هذا الحديث يدلُّ بظاهره على مشروعية المسح على الجبائر، والزند: هو عظم الساعد، واختلف أصحاب هذا القول في الوجوب والندب؛ فذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب المسح؛ لأن الأمر يُفيد الوجوب، ولا يوجد قرينةٌ تصرفه عن الوجوب إلى الندب. 

بينما يرى أبو حنيفة أن العذر يسقط الحكم المتعلق بموضع الإصابة، ولا يجوز أن يتعلق بذلك الموضع حكمٌ آخر إلا بنصٍّ آخر مثله، وقد ثبت حكم المسح بخبر الآحاد، والغسل ثبت بالقطعي، فيكون ما ثبت بالقطعي فرضاً، وما ثبت بخبر الآحاد مُستحباً.

ولكن هذا الحديث ضعيفٌ جداً، فيه عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذّابٌ، مُتَّهمٌ بوضع الحديث؛ فلا يُعوَّلُ عليه، وقال الدارقطنيُّ: عمرو بن خالد الواسطي متروك. وقد كذَّبه أحمد وابن معين، وغيرهما. وقال البخاريُّ: إنه حديثٌ منكر. وتابع عمرو بن خالدٍ: عمرو بن موسى بن وجيه، وهو مُتَّهمٌ منسوبٌ إلى الوضع، وضعَّف هذا الحديث من الأئمة غير ما تقدَّم: ابن أبي حاتم، وابن حزم، والنووي، وعبد الحقِّ الإشبيلي، وابن حجر، والزيعلي، وغيرهم. قال البيهقيُّ: ولا يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأصحُّ ما فيه حديث عطاء بن أبي رباح، وليس بالقويّ


ب-واستدلوا بما رواه الدارقطنيُّ في "سننه" عن علي بن أبي طالب، قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجبائر يكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا أجنب؟، قال: «يمسحان بالماء عليها في الجنابة والوضوء»، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا اغتسل؟، قال: «يُمِرُّ على جسده»، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (النساء: 29) «ويتيمم إذا خاف».

قالوا: فهذا الحديثُ يدلُّ على مشروعية المسح على الجبيرة إذا وُضعت على كسرٍ أو حُرجٍ ونحوهما.

ولكن هذا الحديث ضعيفٌ جداً؛ وله علتان: الأولى: الإرسال؛ فزيد بن علي بن الحسين لم يُدرك جده علي بن أبي طالب. والثانية: فيه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي، وخالدٌ ضعيفٌ، قال عنه يحيى بن معين: كذاب. وقال ابن أبي حاتم: كان كذاباً، وكان ذاهب الحديث، وترك أبو زُرعة الرواية عنه.

ج-واستدلوا بما رواه  أبو داود في "سننه"؛ عن جابر رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفرٍ، فأصاب رجلاً منا حجرٌ فَشَجَّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر - أو» يعصب «شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».

قالوا: وها هنا مشروعية وضع العصائب والمسح عليها، وغسل الصحيح من الجسد، والجبيرة في معنى العصابة؛ لأن كلاً منهما حائلٌ يوضع على العضو المصاب؛ فيدل على جواز المسح على الجبيرة أيضاً.

ولكن هذا الحديث إسناده ضعيفٌ؛ فقد قال أبو داود والدارقطنيّ: تفرد بهذه الرواية الزبير بن خريق وليس بالقويِّ. وقال ابن حجر: لين الحديث وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبيُّ في "الميزان": صدوق. 

وهنا لا بُدَّ أن نُميِّزَ بين ذكر ابن حبَّان لأحد الرواة في "الثقات" وبين توثيق ابن حبّان له، ومعروفٌ عن ابن حبان توثيقه للمجاهيل.

وضعفه البيهقيُّ؛ فقال: ولا يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب (يعني باب المسح على الجبيرة) شيءٌ، وأصحُّ ما رُوي فيه حديث عطاء بن أبي رباح (يعني هذا)، وليس بالقوي.

والحديث ضعَّفه العلامة الألباني في "الإرواء"، وانتقد على ابن السكن تصحيحه، وقال: ذلك من تساهله.. ثم عاد الألبانيُّ فصححه في صحيح أبي داود، وقال: حسنٌ دون قوله: "إنما كان يكفيه…" !.

وقال الظاهرية: إن ظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنه جمع بين الغسل، والمسح، والتيمُّمِ، وهذا -لو صحَّ -مشكلٌ.

فأجاب الجمهور: بأن الجمع بين التيمم والغسل محمولٌ على أن أعضاء الوضوء كانت جريحةً؛ فتعذر إمساسها بالماء؛ فعدل إلى التيمُّم، ثم أفاض الماء على بقية جسده.

وأما الشجة فكانت في الرأس؛ والواجب فيه (يعني الرأس) الغسل، لكن تعذر ذلك لأجل الشجة، فكان الواجب عليه عصبها، والمسح عليها.


د-واستدلوا بما رواه الإمام  أحمد عنه في "مسنده"، من طريق الأووزاعيِّ، عن عطاء عن ابن عبّاس، مرفوعاً، ولفظه: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال».

وهذا اللفظ: رواه الأربعة، وغيرهم. ورواه بعضهم عن الأوزاعي، قال: بلغني عن عطاء، وزاد بعضهم في روايته: قال عطاء: «وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لو غسل جسده وترك رأسه حيثُ أصابه الجراح». وهذه الزيادة مرسلة، وليس فيها إلا ترك موضع الجرح إلى غير بدلٍ من مسحٍ أو تيمُّمٍ، بل إن حديث ابن عباس كله، ليس فيه المسح على الجبيرة، وهو منقطعٌ بين الأوزاعي وعطاء بن أبي رباح".

وعلى الرغم من ضعف إسناد هذا الحديث؛ إلا أنه حسنه بعض العلماء لشواهده، وقد صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيق "المسند"؛ فقال: إسناده صحيح، وإن كان ظاهره الانقطاع.

وله شاهدٌ آخر أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، من حديث: الوليد بن عُبيد الله بن أبي رباح، عن عطاء، عن ابن عباس نحوه. وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ؛ فإن الوليد بن عبيد الله هذا ابن أخي عطاء بن أبي رباح"، ووافقه الذهبيُّ في "التلخيص". وقال الحافظ في التلخيص: "الوليد بن عبيد الله ضعَّفه الدارقطنيّ، وقوّاه من صحَّح حديثه هذا".

وقال ابن حجر: إنه لم يقع في رواية ابن عطاء عن ابن عباس ذكر التيمُّمِ؛ فثبت أن الزبير بن خريق تفرَّد به عن جابر، نبَّه على ذلك ابن القطان". ثم قال: "ولم يقع في رواية عطاء ذكر المسح على الجبيرة؛ فهو من أفراد الزبير". 

وليس في هذه الطريق ولا التي قبلها ذكر المسح على الجبيرة أو العصابة أو نحوه؛ إنما ذكر وضعها دون مسحها، وذكر البدل وهو التيمُّم، فلا يصحُّ اعتباره دليلاً على المسح على الجبيرة.


هـ-واستدلوا بما رواه الدارقطني في "سننه"، عن ابن عمر: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر».

قال الجمهور: هذا الحديث يدلُّ على جواز وضع الجبيرة، وأنه كان يمسح عليها؛ فدلَّ ذلك على جواز المسح على الجبائر.

ولكن هذا الحديث ضعيف؛ فقد قال الدارقطني: لا يصحُّ مرفوعاً، فيه أبو عمارة ضعيفٌ جداً. ومن طريقه: رواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وفي "التحقيق".


و-واستدلوا بما رواه أبو داود في "سننه"، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بعث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سريَّةً فأصابهم البردُ؛ فلما قدموا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحُوا على العصائبِ والتَّساخينِ».

قالوا: في هذا الحديث رخَّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمسح على العصائب والتساخين عند ضرورة البرد، وفي معناها الجبائر على المواضع المكسورة من البدن، فيجوز المسح عليها من باب أولى؛ مراعاةً لحال الضرورة الشديدة.

وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وصحَّح إسناده النوويُّ، وضعَّفه الشوكاني في "الدراري المضيَّة"، وقال: في إسناده راشد بن سعد؛ قال أحمد لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان؛ فكأنه أشار إلى انقطاعه، وهو ما أشار إليه الرباعي في "فتح الغفار"، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

وقال ابن حزم في "المحلى": هذا الحديث لا يصحُّ من جهة الإسناد، ولو كان صحيحاً لم يكن فيه حجة؛ لأن العصائب هي العمائم، والتساخين هي الخفاف.

ولكن أجاب الجمهور: على من ضعَّف الحديث بأنه يُحسَّن بمجموع طُرقه، ثُمَّ إن العصائب في عُرف أهل اللغة هي كل ما يُعصب به، وهي أعمُّ من أن تكون عمائم أو غيرها.


ز-واستدلو بما رواه الطبراني في "الكبير"، عن أبي أمامة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شُجَّ في وجهه يوم أحد، داووه بعظمٍ بالٍ، وعُصب عليه، وكان يمسح على العصابة".

قالوا: وهذا الحديث صريحٌ في مشروعية المسح؛ حيث مسح رسول الله على موضع الشجة بعد مداواته، ولكنه حديثٌ ضعيف، قال الهيثميُّ في "الزوائد": فيه حفص بن عمر العدني وهو ضعيف.


ح-واستدلوا بما رواه البيهقي في "سننه الكبرى": أن ابن عمر رضي الله عنهما -توضأ وكفُّه معصوبة، فمسح عليها، وعلى العصابة، وغسل ما سوى ذلك.

وصحَّح إسناده ابن الملقن في "البدر المُنير"، وقال المنذريُّ: "صحيحٌ موقوفٌ على ابن عمر". وقال البيهقيُّ: "إن هذا عن ابن عمر صحيح، والموقوف في هذا كالمرفوع؛ لأن الإبدال لا تنصب بالرأس"، وإذا ثبت هذا الأثر أن ابن عمر مسح على العصابة؛ فإنه يدلُّ أيضاً على جواز المسح على الجبيرة لأنها في معناها.

واعترض ابن حزمٍ على هذا الأثر؛ فقال: لا يعدو أن يكون ذلك فعلاً من ابن عمر، ومثله لا يدلُّ على إيجاب المسح على العصائب، وقد صحَّ عن ابن عمر أنه كان يُدخل الماء في باطن عينه في الوضوء والغُسل، وأنتم لا ترون ذلك! وصحَّ عنه أنه كان يُجيز بيع الحامل واستثناء ما في بطنها وذلك عندكم حرام !!.


وأجاب الجمهور: بأن ما ثبت عن ابن عمر من مسحه على العصابة لا يكون منه إلا عن توقيف، وإذا صحَّ هذا عنه؛ فقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه، ولهذا فلم يُخالفه في ذلك أحدٌ من الصحابة، فكان إجماعاً منهم على جوازه، وهم لا يُجمعون على أمر منكر.


ط-واستدلوا لذلك من الإجماع؛ قالوا: إن جواز المسح على الجبائر هو قول ابن عمر، ولم يُعرف له في الصحابة مُخالف -كما يقول ابن قدامة في "المغني" -فكان هذا إجماعاً منهم على جواز ذلك.


ي-واستدلوا على ذلك من النظر؛ فقالوا: إن الجبيرة ملبوس يشقُّ نزعه؛ فجاز المسح عليه قياساً على الخُفّ، بل إن الجرح في نزعه فوق الحرج في نزع الخف؛ فهو أولى بمشروعية المسح من الخف. وقالوا: إن المسح على الجبيرة مسحٌ على حائلٍ أُبيح المسح عليه؛ فجاز قياساً على المسح على الخف. وقالوا: إن المسح على الجبيرة بالماء جائزٌ قياساً على جواز المسح على أعلم الخفين وعلى العمامة.

ويُجيب الظاهرية على هذا الاستدلال بأن القياس عندنا باطلٌ فلا تُلزمونا به، لأننا نمنع القياس.

قالوا: ثم لو أجزنا القياس لكان ذلك باطلاً؛ لأنه قياسٌ مع الفرق، لأن المسح على الخُفين مؤقت بمدة زمنية مُعينة، بينما لا يوجد وقتٌ مُعيَّنٌ في المسح على الجبائر. 

قالوا: ثم كيف تقيسون ما شُرع رخصةً وتيسيراً (وهو المسح على الخفين) وموضعه التخيير والإباحة على ما كان موضعه فرضاً واجباً، وهذا ليس من القياس في شيء!.

وردَّ عليهم الجمهور: بأن المسح على الجبيرة ضرورة، وقياسها على ما شُرع رخصةً هو الأقيس، وعليه فلا حُجَّة للظاهرية فيما ذهبوا إليه.

وقال الجمهور: قياس المسح على الجبيرة بالمسح على الخف، إنما يتعلق بالمشروعية وعدمها، وليس في التوقيت وعدمه. ثم إن الضرر الحاصل في نزع الجبيرة فوق الضرر الحاصل بنزع الخف؛ فكان القياس من باب أولى.


ك-واستدلوا على ذلك بالقاعدة الفقهية (الميسور لا يسقط بالمعسور)؛ فقالوا: يغسل ما استطاع من الواجب ويمسح على الباقي من اللفائف والجبائر؛ لحديث جابرٍ في الشَّجة، وحديث ابن عمر الموقوف. 

قالوا: والحاجة داعيةٌ إلى المسح على الجبائر؛ لأن في نزعها لغسل العضو حرجاً وضرراً، وكلٌّ منهما مرفوعٌ مدفوعٌ في هذه الشريعة السمحاء.

وقالوا: إن الموضع الذي وُضعت عليه الجبيرة قد تعذَّر غسله بالماء؛ فيُمسح ما فوقه قياساً على شعر الرأس.


2-وأما الظاهريَّة ؛ كابن حزم، والشوكاني، ومن وافقهم؛ فاستدلوا:


أ- بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286).

قالوا: إن الموضع الذي وُضعت عليه الجبيرة لا يُمكن إيصال الماء إليه في الطهارة، ولم يرد عن الشارع تكليفه بإزالة الجبيرة وغسل ما تحتها، أو جعل المسح بدلاً عن غسل ما تحتها، فسقط حكم ذلك الموضع في التطهير؛ لعدم القدرة على غسله، والتكليف منوط بالقدرة والوسع كما بيَّنت الآية.

وأجاب الجمهور على الظاهرية، بقولهم: إن التكليف بالمسح على الجبيرة بالماء يدخل تحت قدرة المكلف ووسعه، فلزمه الإتيان به؛ لأنه مأمور بتحصيله بحسب وسعه وطاقته.


ب-واستدلوا بما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم».

قالوا: وهذا لحديث يُفيد وجوب امتثال أمر رسول الله، ولم يأمرنا بالمسح على الجبيرة بدلاً عن غسل العضو المصاب، ولم يأت في كتاب ولا في سنة ما يوجب المسح عليها.

وأجاب الجمهور: بأن ما استدلَّ به الظاهرية لا يُفيدهم فيما ذهبوه من عدم جواز المسح على الجبيرة؛ لأنه صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُفيد المسح على الحوائل، وفعل بعض الصحابة، ولم يُنكر عليه غيرهم، وهم لا يسكتون على باطل؛ فوجب أن يكون إجماعاً.


ج-وروى ابن حزم في المحلى عن بعض السلف أنهم قالوا: بعدم جواز المسح على الجبائر.

وأجاب الجمهور: أن ابن حزم لم يُصرِّح بمن منع جواز المسح على الجبائر من السلف، وإن كان المُرجَّح أنهم غير الصحابة؛ لثبوت إجماع هؤلاء على جواز المسح، ولم ينكر أحدهم على ابن عمر، ولو أنكر لنُقل لنا ذلك، ثم إن كان من نقل ابن حزم غير الصحابة، فلا يُحتجُّ بقولهم على غيرهم.


والراجح -والله أعلم -مذهب من قال بوجوب المسح على الجبيرة؛ للأثر، والإجماع، والنظر، ومجموع الأدلة وإن كانت ضعيفةً إلا أنها تدلُّ على أن لهذا الأمر أصلاً.


  • مصادر البحث:

  • المجموع شرح المهذب؛ للنووي.

  • الأوسط؛ لابن المنذر.

  • المحلى لابن حزم.

  • موسوعة الفقه الكويتية.

  • معرفة السنن والآثار؛ للبيهقي.