حكم المسح على الجبيرة
(بين الظَّاهريّة والجمهور)
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنُّونة
اختلف الفقهاء في جواز المسح على الجبيرة؛ وهي كل ما يُوضع على الجُروح أو الحروق أو الكسور أو الفصد وما شابهها من اللفائف والعصائب، واللصوق، والخرق، والأربطة والضمادات، والأشرطة. وذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يرى مشروعية المسح على الجبيرة، وهو مذهب الجمهور من المالكية والحنفيَّة والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية، وهو مرويٌّ عن عبد الله بن عمر، وعبيد بن عُمير، وعطاء، والحسن، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور، ورواه البيهقيُّ عن أئمة التابعين.
واخلتفوا في حكمه؛ فذهب الشَّافعيَّة والحنابلة إلى وجوبه مطلقاً، وذهب المالكية وجمهور الحنفيَّة إلى وجوبه إذا خاف على نفسه الهلاك، أما إذا لم يخف الهلاك فيُندب له المسح والغسل أفضل، أما أبو حنيفة فذهب إلى ندبه مطلقاً؛ لأن الفرضية عنده لا تثبت إلا بدليل مقطوعٍ به، والأحاديث الواردة في الباب من أخبار الآحاد؛ فلا تثبت به الفرضيَّة عنده؛ فلو لم يمسح أصلاً لم تبطل صلاته.
المذهب الثاني: يرى المنع من المسح على الجبيرة، ويُسقِطُ حكم موضعها من الغسل عند التطهير، وهو مذهب الظاهرية: كابن حزم، والشوكاني، والصنعاني، وبعض الزيدية، ونقله ابن حزم عن بعض السلف القول به، وهو مرويٌّ عن الشَّعبيّ.
1-ضعف الأحاديث المرفوعة التي استدلَّ بها الجمهور القائلين بمشروعية المسح على الجبيرة.
ويؤيد ذلك أن الإمام البيهقيّ رحمه الله بعد أن بيَّن ضعف الأحاديث التي استدل بها في ذا الخصوص؛ قال (1/ 349): "وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي قد تقدم (انظر الدليل: 1/ ج) وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، والله أعلم".
2-أن عمدة الجمهور في مشروعية المسح على الجبائر: أثر ابن عمر الموقوف، وإجماع الصحابة، والنظر، وما صحَّ من مسح النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحوائل كالعمامة والخُف.
3-أن أدلَّة الظاهرية هي أدلَّة عامة في التوسيع على المكلفين ورفع الحرج عنهم.
عرض أدلة المذاهب ومناقشتها:
1-أما الجمهور القائلين بمشروعية المسح على الجبيرة؛ فاستدلوا:
أ- بما رواه ابن ماجه في "سننه"، عن علي بن أبي طالبٍ؛ قال: «انكسرت إحدى زنديَّ؛ فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني أن أمسح على الجبائر».
قالوا: هذا الحديث يدلُّ بظاهره على مشروعية المسح على الجبائر، والزند: هو عظم الساعد، واختلف أصحاب هذا القول في الوجوب والندب؛ فذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب المسح؛ لأن الأمر يُفيد الوجوب، ولا يوجد قرينةٌ تصرفه عن الوجوب إلى الندب.
بينما يرى أبو حنيفة أن العذر يسقط الحكم المتعلق بموضع الإصابة، ولا يجوز أن يتعلق بذلك الموضع حكمٌ آخر إلا بنصٍّ آخر مثله، وقد ثبت حكم المسح بخبر الآحاد، والغسل ثبت بالقطعي، فيكون ما ثبت بالقطعي فرضاً، وما ثبت بخبر الآحاد مُستحباً.
ولكن هذا الحديث ضعيفٌ جداً، فيه عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذّابٌ، مُتَّهمٌ بوضع الحديث؛ فلا يُعوَّلُ عليه، وقال الدارقطنيُّ: عمرو بن خالد الواسطي متروك. وقد كذَّبه أحمد وابن معين، وغيرهما. وقال البخاريُّ: إنه حديثٌ منكر. وتابع عمرو بن خالدٍ: عمرو بن موسى بن وجيه، وهو مُتَّهمٌ منسوبٌ إلى الوضع، وضعَّف هذا الحديث من الأئمة غير ما تقدَّم: ابن أبي حاتم، وابن حزم، والنووي، وعبد الحقِّ الإشبيلي، وابن حجر، والزيعلي، وغيرهم. قال البيهقيُّ: ولا يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأصحُّ ما فيه حديث عطاء بن أبي رباح، وليس بالقويّ
ب-واستدلوا بما رواه الدارقطنيُّ في "سننه" عن علي بن أبي طالب، قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجبائر يكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا أجنب؟، قال: «يمسحان بالماء عليها في الجنابة والوضوء»، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا اغتسل؟، قال: «يُمِرُّ على جسده»، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (النساء: 29) «ويتيمم إذا خاف».
قالوا: فهذا الحديثُ يدلُّ على مشروعية المسح على الجبيرة إذا وُضعت على كسرٍ أو حُرجٍ ونحوهما.
ولكن هذا الحديث ضعيفٌ جداً؛ وله علتان: الأولى: الإرسال؛ فزيد بن علي بن الحسين لم يُدرك جده علي بن أبي طالب. والثانية: فيه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي، وخالدٌ ضعيفٌ، قال عنه يحيى بن معين: كذاب. وقال ابن أبي حاتم: كان كذاباً، وكان ذاهب الحديث، وترك أبو زُرعة الرواية عنه.
ج-واستدلوا بما رواه أبو داود في "سننه"؛ عن جابر رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفرٍ، فأصاب رجلاً منا حجرٌ فَشَجَّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر - أو» يعصب «شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».
قالوا: وها هنا مشروعية وضع العصائب والمسح عليها، وغسل الصحيح من الجسد، والجبيرة في معنى العصابة؛ لأن كلاً منهما حائلٌ يوضع على العضو المصاب؛ فيدل على جواز المسح على الجبيرة أيضاً.
ولكن هذا الحديث إسناده ضعيفٌ؛ فقد قال أبو داود والدارقطنيّ: تفرد بهذه الرواية الزبير بن خريق وليس بالقويِّ. وقال ابن حجر: لين الحديث وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبيُّ في "الميزان": صدوق.
وهنا لا بُدَّ أن نُميِّزَ بين ذكر ابن حبَّان لأحد الرواة في "الثقات" وبين توثيق ابن حبّان له، ومعروفٌ عن ابن حبان توثيقه للمجاهيل.
وضعفه البيهقيُّ؛ فقال: ولا يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب (يعني باب المسح على الجبيرة) شيءٌ، وأصحُّ ما رُوي فيه حديث عطاء بن أبي رباح (يعني هذا)، وليس بالقوي.
والحديث ضعَّفه العلامة الألباني في "الإرواء"، وانتقد على ابن السكن تصحيحه، وقال: ذلك من تساهله.. ثم عاد الألبانيُّ فصححه في صحيح أبي داود، وقال: حسنٌ دون قوله: "إنما كان يكفيه…" !.
وقال الظاهرية: إن ظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنه جمع بين الغسل، والمسح، والتيمُّمِ، وهذا -لو صحَّ -مشكلٌ.
فأجاب الجمهور: بأن الجمع بين التيمم والغسل محمولٌ على أن أعضاء الوضوء كانت جريحةً؛ فتعذر إمساسها بالماء؛ فعدل إلى التيمُّم، ثم أفاض الماء على بقية جسده.
وأما الشجة فكانت في الرأس؛ والواجب فيه (يعني الرأس) الغسل، لكن تعذر ذلك لأجل الشجة، فكان الواجب عليه عصبها، والمسح عليها.
د-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد عنه في "مسنده"، من طريق الأووزاعيِّ، عن عطاء عن ابن عبّاس، مرفوعاً، ولفظه: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال».
وهذا اللفظ: رواه الأربعة، وغيرهم. ورواه بعضهم عن الأوزاعي، قال: بلغني عن عطاء، وزاد بعضهم في روايته: قال عطاء: «وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لو غسل جسده وترك رأسه حيثُ أصابه الجراح». وهذه الزيادة مرسلة، وليس فيها إلا ترك موضع الجرح إلى غير بدلٍ من مسحٍ أو تيمُّمٍ، بل إن حديث ابن عباس كله، ليس فيه المسح على الجبيرة، وهو منقطعٌ بين الأوزاعي وعطاء بن أبي رباح".
وعلى الرغم من ضعف إسناد هذا الحديث؛ إلا أنه حسنه بعض العلماء لشواهده، وقد صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيق "المسند"؛ فقال: إسناده صحيح، وإن كان ظاهره الانقطاع.
وله شاهدٌ آخر أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، من حديث: الوليد بن عُبيد الله بن أبي رباح، عن عطاء، عن ابن عباس نحوه. وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ؛ فإن الوليد بن عبيد الله هذا ابن أخي عطاء بن أبي رباح"، ووافقه الذهبيُّ في "التلخيص". وقال الحافظ في التلخيص: "الوليد بن عبيد الله ضعَّفه الدارقطنيّ، وقوّاه من صحَّح حديثه هذا".
وقال ابن حجر: إنه لم يقع في رواية ابن عطاء عن ابن عباس ذكر التيمُّمِ؛ فثبت أن الزبير بن خريق تفرَّد به عن جابر، نبَّه على ذلك ابن القطان". ثم قال: "ولم يقع في رواية عطاء ذكر المسح على الجبيرة؛ فهو من أفراد الزبير".
وليس في هذه الطريق ولا التي قبلها ذكر المسح على الجبيرة أو العصابة أو نحوه؛ إنما ذكر وضعها دون مسحها، وذكر البدل وهو التيمُّم، فلا يصحُّ اعتباره دليلاً على المسح على الجبيرة.
هـ-واستدلوا بما رواه الدارقطني في "سننه"، عن ابن عمر: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر».
قال الجمهور: هذا الحديث يدلُّ على جواز وضع الجبيرة، وأنه كان يمسح عليها؛ فدلَّ ذلك على جواز المسح على الجبائر.
ولكن هذا الحديث ضعيف؛ فقد قال الدارقطني: لا يصحُّ مرفوعاً، فيه أبو عمارة ضعيفٌ جداً. ومن طريقه: رواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وفي "التحقيق".
و-واستدلوا بما رواه أبو داود في "سننه"، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بعث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سريَّةً فأصابهم البردُ؛ فلما قدموا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحُوا على العصائبِ والتَّساخينِ».
قالوا: في هذا الحديث رخَّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمسح على العصائب والتساخين عند ضرورة البرد، وفي معناها الجبائر على المواضع المكسورة من البدن، فيجوز المسح عليها من باب أولى؛ مراعاةً لحال الضرورة الشديدة.
وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وصحَّح إسناده النوويُّ، وضعَّفه الشوكاني في "الدراري المضيَّة"، وقال: في إسناده راشد بن سعد؛ قال أحمد لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان؛ فكأنه أشار إلى انقطاعه، وهو ما أشار إليه الرباعي في "فتح الغفار"، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وقال ابن حزم في "المحلى": هذا الحديث لا يصحُّ من جهة الإسناد، ولو كان صحيحاً لم يكن فيه حجة؛ لأن العصائب هي العمائم، والتساخين هي الخفاف.
ولكن أجاب الجمهور: على من ضعَّف الحديث بأنه يُحسَّن بمجموع طُرقه، ثُمَّ إن العصائب في عُرف أهل اللغة هي كل ما يُعصب به، وهي أعمُّ من أن تكون عمائم أو غيرها.
ز-واستدلو بما رواه الطبراني في "الكبير"، عن أبي أمامة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شُجَّ في وجهه يوم أحد، داووه بعظمٍ بالٍ، وعُصب عليه، وكان يمسح على العصابة".
قالوا: وهذا الحديث صريحٌ في مشروعية المسح؛ حيث مسح رسول الله على موضع الشجة بعد مداواته، ولكنه حديثٌ ضعيف، قال الهيثميُّ في "الزوائد": فيه حفص بن عمر العدني وهو ضعيف.
ح-واستدلوا بما رواه البيهقي في "سننه الكبرى": أن ابن عمر رضي الله عنهما -توضأ وكفُّه معصوبة، فمسح عليها، وعلى العصابة، وغسل ما سوى ذلك.
وصحَّح إسناده ابن الملقن في "البدر المُنير"، وقال المنذريُّ: "صحيحٌ موقوفٌ على ابن عمر". وقال البيهقيُّ: "إن هذا عن ابن عمر صحيح، والموقوف في هذا كالمرفوع؛ لأن الإبدال لا تنصب بالرأس"، وإذا ثبت هذا الأثر أن ابن عمر مسح على العصابة؛ فإنه يدلُّ أيضاً على جواز المسح على الجبيرة لأنها في معناها.
واعترض ابن حزمٍ على هذا الأثر؛ فقال: لا يعدو أن يكون ذلك فعلاً من ابن عمر، ومثله لا يدلُّ على إيجاب المسح على العصائب، وقد صحَّ عن ابن عمر أنه كان يُدخل الماء في باطن عينه في الوضوء والغُسل، وأنتم لا ترون ذلك! وصحَّ عنه أنه كان يُجيز بيع الحامل واستثناء ما في بطنها وذلك عندكم حرام !!.
وأجاب الجمهور: بأن ما ثبت عن ابن عمر من مسحه على العصابة لا يكون منه إلا عن توقيف، وإذا صحَّ هذا عنه؛ فقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه، ولهذا فلم يُخالفه في ذلك أحدٌ من الصحابة، فكان إجماعاً منهم على جوازه، وهم لا يُجمعون على أمر منكر.
ط-واستدلوا لذلك من الإجماع؛ قالوا: إن جواز المسح على الجبائر هو قول ابن عمر، ولم يُعرف له في الصحابة مُخالف -كما يقول ابن قدامة في "المغني" -فكان هذا إجماعاً منهم على جواز ذلك.
ي-واستدلوا على ذلك من النظر؛ فقالوا: إن الجبيرة ملبوس يشقُّ نزعه؛ فجاز المسح عليه قياساً على الخُفّ، بل إن الجرح في نزعه فوق الحرج في نزع الخف؛ فهو أولى بمشروعية المسح من الخف. وقالوا: إن المسح على الجبيرة مسحٌ على حائلٍ أُبيح المسح عليه؛ فجاز قياساً على المسح على الخف. وقالوا: إن المسح على الجبيرة بالماء جائزٌ قياساً على جواز المسح على أعلم الخفين وعلى العمامة.
ويُجيب الظاهرية على هذا الاستدلال بأن القياس عندنا باطلٌ فلا تُلزمونا به، لأننا نمنع القياس.
قالوا: ثم لو أجزنا القياس لكان ذلك باطلاً؛ لأنه قياسٌ مع الفرق، لأن المسح على الخُفين مؤقت بمدة زمنية مُعينة، بينما لا يوجد وقتٌ مُعيَّنٌ في المسح على الجبائر.
قالوا: ثم كيف تقيسون ما شُرع رخصةً وتيسيراً (وهو المسح على الخفين) وموضعه التخيير والإباحة على ما كان موضعه فرضاً واجباً، وهذا ليس من القياس في شيء!.
وردَّ عليهم الجمهور: بأن المسح على الجبيرة ضرورة، وقياسها على ما شُرع رخصةً هو الأقيس، وعليه فلا حُجَّة للظاهرية فيما ذهبوا إليه.
وقال الجمهور: قياس المسح على الجبيرة بالمسح على الخف، إنما يتعلق بالمشروعية وعدمها، وليس في التوقيت وعدمه. ثم إن الضرر الحاصل في نزع الجبيرة فوق الضرر الحاصل بنزع الخف؛ فكان القياس من باب أولى.
ك-واستدلوا على ذلك بالقاعدة الفقهية (الميسور لا يسقط بالمعسور)؛ فقالوا: يغسل ما استطاع من الواجب ويمسح على الباقي من اللفائف والجبائر؛ لحديث جابرٍ في الشَّجة، وحديث ابن عمر الموقوف.
قالوا: والحاجة داعيةٌ إلى المسح على الجبائر؛ لأن في نزعها لغسل العضو حرجاً وضرراً، وكلٌّ منهما مرفوعٌ مدفوعٌ في هذه الشريعة السمحاء.
وقالوا: إن الموضع الذي وُضعت عليه الجبيرة قد تعذَّر غسله بالماء؛ فيُمسح ما فوقه قياساً على شعر الرأس.
2-وأما الظاهريَّة ؛ كابن حزم، والشوكاني، ومن وافقهم؛ فاستدلوا:
أ- بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286).
قالوا: إن الموضع الذي وُضعت عليه الجبيرة لا يُمكن إيصال الماء إليه في الطهارة، ولم يرد عن الشارع تكليفه بإزالة الجبيرة وغسل ما تحتها، أو جعل المسح بدلاً عن غسل ما تحتها، فسقط حكم ذلك الموضع في التطهير؛ لعدم القدرة على غسله، والتكليف منوط بالقدرة والوسع كما بيَّنت الآية.
وأجاب الجمهور على الظاهرية، بقولهم: إن التكليف بالمسح على الجبيرة بالماء يدخل تحت قدرة المكلف ووسعه، فلزمه الإتيان به؛ لأنه مأمور بتحصيله بحسب وسعه وطاقته.
ب-واستدلوا بما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم».
قالوا: وهذا لحديث يُفيد وجوب امتثال أمر رسول الله، ولم يأمرنا بالمسح على الجبيرة بدلاً عن غسل العضو المصاب، ولم يأت في كتاب ولا في سنة ما يوجب المسح عليها.
وأجاب الجمهور: بأن ما استدلَّ به الظاهرية لا يُفيدهم فيما ذهبوه من عدم جواز المسح على الجبيرة؛ لأنه صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُفيد المسح على الحوائل، وفعل بعض الصحابة، ولم يُنكر عليه غيرهم، وهم لا يسكتون على باطل؛ فوجب أن يكون إجماعاً.
ج-وروى ابن حزم في المحلى عن بعض السلف أنهم قالوا: بعدم جواز المسح على الجبائر.
وأجاب الجمهور: أن ابن حزم لم يُصرِّح بمن منع جواز المسح على الجبائر من السلف، وإن كان المُرجَّح أنهم غير الصحابة؛ لثبوت إجماع هؤلاء على جواز المسح، ولم ينكر أحدهم على ابن عمر، ولو أنكر لنُقل لنا ذلك، ثم إن كان من نقل ابن حزم غير الصحابة، فلا يُحتجُّ بقولهم على غيرهم.
والراجح -والله أعلم -مذهب من قال بوجوب المسح على الجبيرة؛ للأثر، والإجماع، والنظر، ومجموع الأدلة وإن كانت ضعيفةً إلا أنها تدلُّ على أن لهذا الأمر أصلاً.