أفعال العباد عند الفرق الاسلامية
د. سعد عبد الله عاشور
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: مسألة أفعال العباد كانت ولا زالت مثار اهتمام الباحثين من أرباب الديانات السابقة والفلسفات القديمة، كما كانت موضع خلاف كبير بين جميع الفرق الإسلامية، وخاصة الجبرية، والمعتزلة، وأهل السنة من الأشاعرة والماتريدية والسلف.
بل وما زالت هذه المسألة حيـة ومعاصـرة، تـشغل العقـل الإنساني وتؤرقه؛ فمنهم من ينكر على العبد حريته وإرادته، فيجعله مسيراً لا شأن له في خلـق أفعالـه التي حددت له مسبقاً، ولا سبيل إلى تعديلها أو تحويرها، ومنهم من يربأ بالإنسان أن يكـون فـي منزلـة الجماد فيثبت له الإرادة، ويجعله قادراً على أفعاله، ويرى أن من العدل أن يثاب أو يعاقب بناء على مـا قدمت يداه.
ولعل السبب في ذلك أن القرآن الكريم وردت فيه آيات كثيرة تشير إلى أن الله خـالق كـل شـيء، وآيات أخرى تقرر أن العبد حر في اختياره أفعاله مسئول عنها..
ولذا انقسم المسلمون في فهم هذه المسألة إلى ثلاثة فرق:
1-أهل الجبر المحض (الجبرية)
2-المعتزلة (القدرية)
3-أهل السُّنة (القائلون بالكسب): وهم الأشاعرة، والماتريدية، والسلف، على خلاف دقيـق بيـنهم فـي المقصود من الكسب ومدى إرادة الإنسان فيه.
وجاء هذا البحث ليكشف عن حقيقة هذه مسألة، وهي مسألة أفعال العباد، ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث وضرورته في كشف وبيان هذه المسألة الهامة. كما تبرز أهمية هذا البحـث من خلال ظاهرة الجبر التي أخذت تنتشر في عصرنا هذا، حيث يحاول الكثير من النـاس الاحتجـاج بالقدر على الجرائم والمعاصي التي ترتكب والـسكوت علـى ظلـم الظـالمين، وإجـرام المفسدين.
ويظهر دور هذا البحث في نقض البحث آراء الجبرية والمعتزلة، والرد على الشبهات التي وقعت لهم من خلال الأدلة الشرعية، وتوضيح فهم السلف لمسألة أفعال العباد، والذي استمدوه من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وقد ذكر الباحث -حفظه الله -الآيات الدالة على حرية العبد واختياره، والآيات الدالة على أن الله خالق كل شيء، والآيات التي جمعت بين الأمرين، وآراء الفرق الإسلامية في ذلك، والأدلة التي استدلوا بها، ومناقشتهم فيها، وبيان تعسفهم في تأويلها.
وقد جاء البحث في مقدمة بسيطة وتمهيد وثلاثة مباحث:
التمهيد: بين فيه الباحث علاقة أفعال العباد بالقضاء والقدر.
المبحث الأول: بين فيه الباحث رأي الجبرية في أفعال العباد، مع ذكر أدلتهم والرد عليها.
المبحث الثاني: عرض فيه الباحث رأي القدرية والمعتزلة في أفعال العباد، مع ذكر أدلتهم ومناقشتها.
المبحث الثالث: خصصه الباحث للقائلين بالكسب، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تحدث فيه عن الكسب عند الأشاعرة
المطلب الثاني: تحدث فيه عن الكسب عند الماتريدية، ثم الفرق بين كسب الأشـعري وكـسب الماتريدي.
المطلب الثالث: تحدث فيه عن الكسب عند السلف، ثم الفرق بين كسب الأشاعرة والماتريدية، والسلف.
تلخيص هذا البحث في نقاط:
1- يرتبط القضاء والقدر بمسألة أفعال العباد ارتباطاً وثيقاً، فهذه الأخيرة (أعني أفعال العباد) جـزء مـن تلـك المسألة (يعني القضاء والقدر).
2- الكسب في القرآن الكريم، جاء على ثلاثة معاني:
أحدها: الكسب بمعنى عقْد القلب وعزمه.
الثاني: الكسب بالتجارة من المال (الربح).
الثالث: الكسب بمعنى السعي والعمل.
والمعنى الثالث هو المقصود بـ "أفعال العباد"، وبالطبع فالكسب بهذه المعاني لثلاثة ليس من فعل الله تعالى، لأن أفعال الله تعالى لا توصف بأنها كسب؛ لكونه تعالى منزهٌ عن جلب نفع أو دفع ضرر.
3-اتفق أهل السنة والأشاعرة على أن الله تعالى هو خالق أفعال العباد كلها خيرها وشرها، ولكنهم اختلفوا فيما بعد في .. على ما سيأتي بيانه.
4-قسم علماء الفرق الإسلامية أفعال العباد إلى قسمين:
• أفعال اضطرارية "لا إرادية: "كضربات القلب، وحركة الدم في الشريان، وحركة المرتعش... الخ، وهذه مردها إلى الله تعالى لا دخل للعبد في إيجادها.
• أفعال اختيـارية" إراديـة": وهي الأفعال التي يقصد العبد إليها بقدرته وإرادته، وهي التي وقع فيها الخلاف بين المتكلمين فانقسمت آرائهم إلى اتجاهات متعددة.
أولاً: مذهب الجبرية في القدر وأفعال العباد:
أما الجبرية فقد انقسموا إلى فرقتين:
أ- جبرية محضة "خالصة": وهي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، فهو عندهم بمنزلة الجماد والنبات، والريشة المعلقة في الهواء.
ب- جبرية متوسطة: وهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، فيكون إسناد الفعل له على سبيل المجاز، لأن الفعل على زعمهم هو فعل الله تعالى، أجراه على يد العبد بدون إرادة منـه ولا اختيار.
فالجبرية يقولون: إن الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء، بل هو كالريشة في مهب الريح، فقالوا: إن الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولكـن يـستطيع الكسب.
مستند الجبرية في اعتقادهم:
يبدو أن اعتقاد الجبرية هذا نابع من عدم الفهم السليم لآيات القرآن الكريم، إلى جانب تحكمهم في توجيه النص، والاستدلال به حسب مبادئهم وأفكارهم، وأدلتهم هي الأدلة التي ذكر فيها خلق الله تعالى لأفعال العباد.
الرد على الجبرية، من وجوه، منها:
الأول: أن المجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل بخلاف اختياره وقصده، وأما من وقع فعله باختياره وقصده وإرادته فلا يسمى في اللغة مجبراً.
الثاني: أن المجبر مكره على فعله، والإكراه يتنافى مع اللـذة والـشهوة والرضى، وأهل المعاصي يفعلونها متلذذين بها مشتهين لها مسرورين، وهذا كله يضاد
الجبر والإكراه وينافيه.
الثالث: أن إجماع الأمة كلها على أن "لا حول ولا قوة إلا بالله"، مبطل لقول الجبرية وموجب أن لنا حولاً وقوة، ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى.
الرابع: أن القول بالجبر يؤدي إلى تعطيل جميع التكاليف الشرعية، وبطلان الأمر بـالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الإجبار يتنافى مع التكليف، فالمجبر على فعل شيء لا يكلـف بضده أو بنقيضه؛ لأنه يصبح تكليفاً بالمحال، والتكليف بالمحال يتنافى مع صفات الله تعالى العدل والحكمة، ولم يعهد في عدل الله تعالى أو حكمته أن يكلف مخلوقاً من مخلوقاته فوق وسعه وطاقته، ثم يعاقبه على المخالفة أو التقـصير، لأنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
الخامس: أن القول بالجبر يلزم منه عدم التفريق بين أولياء الله وأعداء الله، ولا من بين المؤمنين والكفار، ولا بين المحسنين والمسيئين، ولا أهل الجنة ولا أهل النار؛ لأن كل فريق مقهور ومجبور على سعيه وعمله وفعله.
السادس: أنه يستحيل عقلاً أن يتوجه أمر التكليف الإلهي لإنسان لا يملك في نفـسه القـدرة علـى اختيار الطاعة، وذلك لأن الله جل وعلا حكيم، لا يوجه أوامر التكليف لمجرد العبث فهو تعالى منزه عن العبث.
السابع: أن القول بالجبر يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وغيرهم من الأقوام السابقة الذين أهلكهم الله بذنوبهم، معذورين لأنهم أكرهوا على ذلك، وهذا مما هو معلوم بطلانه بالضرورة، ومن الكفر الواضح الصريح، لأنه مخـالف لنـصوص القـرآن الكـريم..
الثامن: وإذا كان الجبرية يحتجون على قولهم بسابق القدر، ليؤكدوا أنهم أجبروا على أفعالهم، فهو حجة لجميع الناس، والناس كلهم مـشتركون فيه، وحينئذ لا يحق للجبري أن ينكر أو يعترض على من يظلمه أو يـشتمه، أو يأخـذ ماله أو يضرب عنقه، لأنه مجبر على ذلك، فهل يقبل الجبري بهذا ؟!
ثانيا مذهب القدرية المعتزلة:
غالت القدرية والمعتزلة في نفي القدر، وقالوا: لا قدر والأمر أنف. وقالوا: الإنسان يقدر أعمال نفسه بنفسه، ويتوجه إليها بإرادته، ثم يوجهها بقدرته. وهذا يعنى أن الله لا يقدر هذه الأعمال أزلاً، ولا دخل لإرادته وقدرته في وجودها، وبهذا المعنى تكون القدرية والمعتزلة قد جعلت الإنسان خالقاً لأفعاله.
وفارقت المعتزلة القدرية في قولهم: أن الله تعالى لا يعلم أفعال إلا بعد وقوعها، بينما أنكرت المعتزلة هذا القول، وأثبتت علم الله الأزلي بكل ما يكون من أفعال خلقه، وهذا القول يميزهم ويخـرجهم عـن دائـرة القدريـة الخالصة.
كذلك لم تنكر المعتزلة أن القدرة التي يعمل بها الإنسان من الله تعالى. فالمعتزلة يقولون: إن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله إياه.
مستند المعتزلة والقدرية في اعتقادهم:
إن اعتقاد القدرية والمعتزلة نابع من الاعتماد على الأدلة التي توافق أغراضهم ومبادئهم، وهي التي نصَّت على أن الإنسان كاسبٌ لعمله، محاسب عليها ومسؤول عنها، أما الادلة التي تخالفها، فإنهم يتأولونهـا أو يرفضونها.
الرد على القدرية والمعتزلة، من وجوه:
الأول: وجوب الاعتقاد بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لا يشاركه في خلق الأشياء أحد من خلقه.
الثاني: يمكن أن يكون الإنسان خالقاً لفعله؛ لأنه يمتنع اجتماع قدرتين مؤثرتين مستقلتين على مقـدور واحد، من جهة أن الشيء لا يكون أثراً إلا لمؤثر واحد.
الثالث: أن العبد لو كان موجداً لأفعاله، لكان عالماً بتفاصيلها، وهذا غير واقع، لأنه أحياناً يـأتي بالزيـادة والنقصان، وأحياناً يصدر منه أفعال وهو نائم لا شعور له بتفاصيل كمياتها أو كيفيتها، وهـذا فـي بسائط أموره فضلاً عن معتقداتها ودقائقها.
الرابع: أن العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً، لكان متمكناً من فعله وتركه، ويلـزم علـى هذا ترجيح فعله على تركه، وهو في ذلك محتاج إلى مرجح؛ لأنه لو لم يتوقف على ذلك المرجح لكان صـدوره اتفاقاً لا اختياراً.
الخامس: وأيضاً لو لم يكن محتاجاً إلى مرجح، لكان وقوع أحد الجائزين غير مفتقر إلى سبب، وهذا يفضي إلى القول بجواز ألا يكون لهذا العالم صانع أوجده، لرجوح أحد طرفيـه الجـائزين –الوجود والعدم – على الآخر، وهذا معلوم بطلانه، فيبطل ما يؤدي إليه.
السادس: ثـم إن المـرجح الـذي يحتاج إليه فعل العبد، لا يعقل أن يكون صادراً عنه باختياره، وإلا لزم التسلسل المعلوم بطلانـه، فيلزم أن يكون صدور الفعل عند هذا المرجح واجباً، بحيث يمتنع تخلفه، فيكون الفعل اضـطرارياً لازماً لا يستقل العبد فيه استقلالاً تاماً، وهذا يعني أن الخالق للفعل هو الله تعالى.
ثالثاً: مذهب القائلين بالكسب، وهم أهل السنة:
وهم ثلاث فرق: الأشاعرة والماتريدية والسلف.
أ- الأشاعرة:
يرى الاشاعرة: أن أفعال العباد مخلوقة لله، مقدورة له، وليس للإنسان فيها أي تأثير غير اكتسابها، أي أن الفاعل الحقيقي هو الله، وما الإنسان إلا مكتسب للفعل الذي أحدثه الله على يد هذا الإنسان.
فالأشاعرة يقولون: أفعال العباد تتم بالمشاركة بين الله تعالى وعباده، فتنسب إلى الله باعتبار أن الله هو الخالق لها، وتنسب إلى العبد باعتبار قصدها وجريانها على يديه، فالكسب إذن اقتران قدرة العبد بفعل الله، فالله يخلق هذه القدرة "إرادة الفعل وقصده واختياره" في العبد وبها العبد يكتسب فعله، والله يخلق له هذا الفعل، فدور القدرة الحادثة هو اكتساب وإيقاع فقط دون أي تأثير من ناحية العبد.
وقد اعتبر بعض العلماء موقف الأشاعرة هذا توسطاً بين الطرفين - المعتزلة والجبرية -ولكـن يبدو أن مذهب الأشاعرة في الكسب يرتد في النهاية إلى مذهب القائلين بالجبر، لنفيهم في الحقيقة قدرة العبد على الفعل، وبالتالي ليس لهذه القدرة المخلوقة أي تأثير في الفعل..
ولكن وإن كان مرجع قولهم يعود للجبر، إلا أنه جبر غير خالص، لتفريقهم في اعتقادهم بين الخلق والكسب، فالكسب عندهم: أن يكون الفعل بقدرة محدثة. وعليه فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة، فهـو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب. كما أنهم يفرقون بين الأفعال الاضطرارية، والأفعال الاختيارية أو الإرادية.
مستند الاشاعرة في قولهم:
أولاً: إفراد الله تعالى بالخلق وهي أخص صفة له لا يجوز أن يشاركه فيهـا أحـد، وإلا كـان مشركاً معه إلهاً آخر في الخلق.
ثانياً: أن في إثبات قدرة العبد على إحداث أي شيء تعطيل لقـدرة الله الـشاملة الكاملة، وتعطيل وإبطال للبرهان القائم على إثبات تفرده بالخلق، فالحفاظ على واحدية الخالقية لله تعالى يلزم منه القول بعدم تأثير قدرة العبد الحادثة في الفعل.
وبيان دليل وحدانية الله في الخلق: أنه سبحانه لو أراد الله شيئاً وأراد العبد ضده، للزم إما وقوعها أو عدمها، أو كون أحدهما عاجزاً، لا يقال نختار أنه يقع مقدور الله تعالى لأن قدرته أتم، ألا ترى أنها أعم؟ لأنا نقول عموم القدرة لا تؤثر، فإن تعلق القدرة بغير المقدور المعين لا أثر له في هذا المعين ضرورة.
ثالثاً: أنه لو كان العبد موجداً لأفعاله، لوجب أن يعلم تفاصيلها واللازم باطل، فثبت بطلان أن يكون موجداً لأفعاله.
ب- الماتريدية:
وقالت الماتريدية بما قالت به الأشاعرة وجميع أهل السنة من أن أفعال العباد مخلوقـه لله تعالى، وهي كسب من العبد.
ولكن فارقوا الأشاعرة في قولهم: إن المؤثر في أصل الفعل هو قدرة الله تعالى، بما أودعه في العبد من قدرة تمكنه من فعل الشيء وضده على السواء، فيكون العبد هو المؤثر في صفة الفعل بكونه طاعة أو معصية، وإيماناً أو كفراً، وحسناً أو قبحاً، ولكن لا تأثير للعبد في إيجاد فعله، وتأثير العبد هنا هو في صفة الفعل أو الكسب ويسميه الماتريدي "الاختيار".
فالعبد عند الماتريدي يستطيع أن يكسب الفعل بقدرة مخلوقة فيه، ويستطيع ألا يكسبه بهذه القدرة، فهو حر مختار في هذا الكسب، إن شـاء فعـل واقترن بالفعل الذي هو مخلوق الله تعالى، وإن شاء ترك وبذلك يكون العقاب، وحينئذ لا يتنافى كون الله خالقاً لأفعال العباد مع اختيارهم.
وهذا بلا شك تقريب للأفهام موافق للفطرة والواقع، وهو في نفس الوقت قريب مـن رأي السلف -كما سنرى بعد قليل.
مما سبق:
يتضح أن الكسب عند الأشعري يختلف عنه عند الماتريدي في ثلاث نقاط، هي:
الأولى: إن قدرة العبد على الفعل عند الأشعري مقارنة للفعل، أما عند الماتريدي فهـي عند الفعل وقبله.
الثانية: إن القدرة عند الأشعري لمقدور واحد فقط إما طاعة أو معصية. أما عند الماتريدي فالقدرة تصلح للضدين.
الثالثة: أن هذه القدرة لا أثر لها عند الأشعري "بمعنى لا يترتب على قصد العبد وإرادته أي أثر في وجود الفعل"، أما عند الماتريدي فهي حرة مختارة.
الملاحظ أن الماتريدي قد كان له حظ أوفر وأنه قد خطى خطوة أبعد من الأشعري في إرسـاء قواعد نظرية الكسب، وقد استطاع إلى حد ما أن يحقق موقف الوسط بين الجبر المطلق والاختيار المطلق، ورأيه بلا شك كان له نصيب من التوفيق السداد أكثر من رأي الأشعري.
ج- الكسب عند السلف:
يعتقد السلف أن أفعال العباد خلق الله تعالى، وكسب من العباد بمنـزلة الأسباب للمسببات، فالعباد لهم قدرة ومشيئة وإرادة، لكنها داخلة تحت قدرة الله تعالى ومشيئته وإرادته.
فالمقصود أن فعل العبد هو فعله حقيقة، وهو مخلوق الله ومفعول له سبحانه، وليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق.
والمراد بكون العبد مؤثراً في فعله؛ هو أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثـة، بمعنـى أن القدرة المخلوقة هي سبب واسطة في خلق الله- سبحانه وتعالى -هذه القدرة.
ومعنى الكسب عند السلف هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضرر، وفارق السلف الماتريدية في أن التأثير عندهم أبلغ، حيث يكـون بمباشـرة الفعل في حين هو عند الماتريدي باختيار الفعل، وهو في النهاية لا يخرج عن كونه خلاف لفظي ليس إلا.
ولا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله، وكون هذا الإحداث ضمن مشيئة الله وإرادته. وكون الله سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد، لا يعني أن فعل العبد هو نفـس فعـل الله، ففعل العبد يخلقه الله، ويفعله العبد، ويكسب آثاره العبد، سـواء كانــت هـذه الآثــار والنتائـج نفعـاً أو ضرراً.
مستند السلف في مذهبهم:
-أن العقل يثبت لكل فاعل فعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن الله تعالى هو الذي جعله فاعلاً ومحدثاً له، فالله تعالى هو الخالق، والعبد هو الفاعل والكاسب.
- أن الحس يثبت أن هنـاك فرقـاً واضحاً بين صحيح الجوارح وبين من لا صحة لجوارحه، فالصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً، ولكن الذي لا صحة لجوارحه، كالمفلوج مثلاً والمقعد لا يستطيع أن يفعل ما يفعله الصحيح وإن حاول ذلك، وهذا يقتضي أن العبد مختار غير مجبور.
- أن الله سبحانه وتعالى أثبت في كثير من الآيات بأن للإنسان عملاً وفعلا، ولذلك كان التكليف بحسب القدرة والاستطاعة، وهذا من رحمـة الله تعالى، فلم يكلف المقعد بالصلاة قائماً، وإنما جعله بحسب استطاعته حيث قال صـلى الله عليه وسلم: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".
خلاصة الكلام على هذه المسألة:
مما تقدم يتبين لنا أن أهل السنة والجماعة جميعهم يعتقدون أن أفعال العباد تنسب إليهم فعلاً وكسباً، وتنسب إلى الله خلقاً وقدراً وإيجاداً مع بعض الفروق الدقيقة في نسبة الفعل إلـى العبـد ومدى تأثيره فيه.
فالأشاعرة: أثبتوا الكسب للعبد بقدرةٍ أودعها الله إياه، ولكنهم لم يجعلوا لقدرة العبـد أي تأثير في فعله.
والماتريدية: أثبتوا الكسب للعبد بقدرة أودعها الله إياه، وجعلوا لهذا القدرة أثر في الفعل، ولا أثر لها في الإيجاد، لأن الخلق يتفرد الله تعالى به، وإنما أثرها القصد والاختيار للفعل.
أما السلف: فقد أثبتوا الكسب للعبد -أيضاً -بقدرة أودعها الله إياه، وأن للعبد مشيئة واختياراً، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره.
ومن هذا نرى اقتراب مذهب الماتريدية من مذهب السلف -في هذه المسألة - أكثر مـن الأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أقرب إلى الصواب من الجبرية؛ لأنها أثبتت للعبد كسباً فـي حـين أن الجبرية لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً