أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 6 مارس 2023

جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر يوسف بن حسن ابن عبد الهادي بن المبرد الحنبلي (٨٤٠ - ٩٠٩ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر

يوسف بن حسن ابن عبد الهادي بن المبرد الحنبلي 

(٨٤٠ - ٩٠٩ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ هذا الكتاب وضعه ابن المبرد الحنبلي رداً على الحافظ ابن عساكر، وذلك أن ابن عساكر ألف كتابه (تبيين كذب المفتري) للدفاع عن أبي الحسن الأشعري، ويردُّ فيه على أبي علي الأهوازي الذي وضع كتابه (مثالب ابن أبي بشر الأشعري)، وكان ابن المبرد -رحمه الله -وضع كتاباً يردُّ فيه على الأشعري ويذكر فيه مثالبه وسماه (كشف الغطا عن محض الخطا)، وذلك قبل أن يطلع على كتاب ابن عساكر (تبيين كذب المفتري)، وبعدما اطلع عليه باشر في كتابة هذا الكتاب الذي أسماه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر).

وقد أغلط ابن المبرد الرد على ابن عساكر، وتعقبه حذو القذة بالقذة في مقدمته التي وضعها في (تبيين كذب المفتري)، وشنّع عليه كثيراً، وبّين فساد طريقته في التقرير وغشه وتمويهه، ووصف ابن المبرد كتاب ابن عساكر؛ بقوله: وقد أبدع في وضعه، وأجاد في تصنيفه فهو من جهة الوضع وضع جيد على طريقة المحدثين، بحيث إذا رآه المرء أوقعه في أعظم شبهة، غير أنها أمور مدلسة، ودراهم مزيفة، إذا تحققها البصير وتأملها الخبير علم أنها باطنة الفساد، فأردت أن أبين ذلك وأوضحه وأشهره وأفضحه أهـ.

ويقول في موضعٍ آخر: "وكأن ابن عساكر جهل أن الله عز وجل قد خبأ له من يرد كلامه، ويظهر أدغامه، عميت بصيرته حين جمع تلك العساكر، أني لا أسير خلفه بهذه الدساكر".

وقد نقل ابن المبرد الحنبلي في هذا الكتاب عن أكثر من ٤٠٠ أربعمائة عالمٍ ما بين فقيه ومُحدث وإمام أنهم ذموا الأشعرية والكلابية بالاسم، وذلك رداً على أكذوبة أن الأشعرية هم أكثر الأمة المحمدية، وبيّن رحمه الله أنهم منبوذون من الجمهرة العظمى للأمة، وجعل أول فصل من فصول كتابه في ذم الكلام وأهله وتحذير الناس منهم وهو طويلٌ بالنسبة إلى ما بعده، ثم ناقش كتاب ابن عساكر وأبوابه باباً باباً.

وابتدأ ابن المبرد بذكر علماء أهل السنة المتوافرون في عصر الأشعري الذين أنكروا طريقة الأشعري وأضرابه -إلى علماء أهل السنة في القرن العاشر الهجري، وقد صدرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف بن محمد المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف).

ثم قال بعد ذلك: "والله ثم والله ثم والله ما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس".

بل إن ابن عساكر -وهو ممن خدم الأشعرية بكتابه (تبيين كذب المفتري) قد اعترف في كتابه المذكور (ص ٣٣١): بأن أكثر الناس في زمانه وقبل ذلك كانوا على غير ما عليه الأشعرية ... فقد قال في التبيين: "فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم"

وقد قال ابن المبرد معلقاً على كلامه هنا: "وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعد لم يظهر شأنهم".

فصول الكتاب:

الأول: ذكر فيه ما ورد من السنن والآثار عن الأئمة في ذم البدع أهلها عموماً، وخصوصاً القدرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية والكلابية وذم الكلام وأهله، وينقل في ذلك عن الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، ومن تعصب لبدعة أو مبتدع، أو قام معه ومدح في رد ذلك.

الثاني: فصل في بيان أن غالب العلماء على أن أبا الحسن الأشعري كان أولاً على مذهب الاعتزال، وقد أقر بذلك أتباعه وأصحابه، وأما الكلام وعلمه؛ فلا شك فيه أنه كان عليه ولم يتب منه بل الاعتزال، قد ذكر جماعة توبته منه من أصحابنا وأصحابه وغيرهم.

وبين ابن المبرد: أن الأشعري اختلف العلماء في نسبه، ومن تيك الأقوال: أن جده أسلم على يد رجل من ولد أبي موسى الأشعري، فقيل له الأشعري. وأنه ليس له كتب في غير الكلام، ثم ذكر أن عدة من أهل العلم، قالوا عن كتابه الإبانة إنه وضعها يموه بها على الناس، ليؤخذ عنه، ويقبل منه، لأن الناس هجروه قبل ذلك. وقيل: إنه أظهر التوبة حتى يأخذ الميراث، وكان القاضي أفتاه بأن أهل ملتين لا يتوارثان.

ونقل قول الإمام أبي علي الأهوازي في أبي الحسن الأشعري: أنه ليس يعرف بالبصرة إلا بابن أبي بشر، قال: وأصحابه يفرون من هذا الاسم، ولا يصفونه به، قال: وسمعت شيوخاً من أهل البصرة، يقولون: ما فرارهم من هذا الاسم إلا لسبب، وذلك أن جده أبا بشر كان يهوديا، كان يهوديا أسلم على يد رجل ينسب إلى الأشعريين فانتسب إلى ذلك.

وشدَّد ابن المبرد النكير على ابن عساكر، بقوله: أما كان للمسلمين أئمة يقتدى بهم، حتى يتخذ مبتدع تاب من بدعته إماما، كأن الناس ماتوا إلى هذا الحد كله، ولم يبق فيهم من يصلح للإمامة حتى يتوب مبتدع من بدعته، فيصير إمامهم، وأهل الإسلام قاطبة!!.

الثالث: في أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة، وحكم المبتدعة أزواجهم وأموالهم ومخالطتهم ومجالستهم.

الرابع: في أن الحق حق يتبع، والذي ندين الله به أن الشعري إن تاب فإن توبته تقبل، شرط أن يدع بدعته، يظهر توبته، وبين أن بشارة النبيّ عليه السلام بأبي موسى الشعري أنها حق لا نزاع فيه، وأما إشارته إلى ما يظهر من علم أبي الحسن فأمر مردود، أين في الحديث ذلك؟ وأي علم ظهر منه ليس له في مسألة من أمر الدين والحلال والحرام قول، ولا يعلم له من مسألة من الفروع كلام، فأي علم ظهر منه؟.

كلك فإن هذا الرجل لا يعرف أنه قام للدين بمحنة ولا قائمة، ولا يعرف له مسألة في الأحكام والفروع، وأما مدح ابن مسلم السلمي: للأشعري وجعله له من مجددي المائة الثالثة؛ فقال ابن المبرد: إنما قال هذا لأنه من جملة أتباع الأشعري، ومن يمدح العروس غير أمها وخالتها ؟!

والخامس: فيما ذكر ابن عساكر في اجتهاد أبي الحسن الأشعري في العبادة، فأورد أنه كان يُصلي الصُّبح بوضوء العتمة، وقد ردها ابن المبرد الحنبلي.

والسادس: الرد على ابن عساكر في زعمه أن الأشعري أصابته النعمة في كونه في خير قرون هذه الأمة، وردَّ عليه ابن المُبرّد بأن المراد (بخير القرون قرني) هم الناس لا الزمن، والمراد بالقرن الأول الصحابة، وبالثاني التابعين، وبالثالث من لقي التابعين مثل مالك وأشباهه بالرابعة على رواية الإثبات أنه ذكر بعد قرنه ثلاثا تابع تابع التابعين مثل الشافعي وسفيان. ذلك أن  القرن اسم مشترك يطلق على المائة سنة، وعلى من عاصر الإنسان من الناس، وقرن الحيوان مثل البقر والغنم، وقرن المنازل موضع، ويدل على أن المراد بالحديث الناس دون الوقت عدة مواضع.

وذكر جملة ممن ذكر ابن عساكر صحبتهم لأبي الحسن الأشعري، وبيّن أن جماعة كثيرةً منهم لا يُسلم له أنهم من أصحابه، وذكر أنه كذب وافترى على كثيرٍ منهم بهذه النسبة، وأراد بذلك التخفيف والتقبيش على حد تعبير ابن المبرد، وساق بعض الأخبار التي تؤيد كلامه. وفي ذلك يقول ابن المبرد: "وقد أدخل في ذكر أصحابه جماعة كانوا يتبرون منه ويجانبونه هو وأصحابه فكيف يكون هذا؟ يأتي بالأجانب يدخلهم البيت ويزعم أنه ترك بعض الأقارب هذا هو المحال".

والسابع: في ذكر جماعة ممن ورد عنهم مجانبة الأشاعرة، ومجانبة الأشعري، وأصحابه من زمنه وإلى اليوم على طريق الاختصار لا على باب التطويل في التراجم كما فعل ابن عساكر.

مقدمة الباحث (محذوفة من الشاملة)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

{يأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

أما بعد: فقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عنه مـا يـأتيهم به من خير أوحاه الله إليه بلسان عربي مبين، وصحابته عليه الصلاة والسلام من أفضـح الناس وأعلمهم بمدلولات الوحي. وآيات العقيدة من أوضح النصوص التي لا تتحمل الجدل والمراء، ولذلك لم ينقل إلينا أي اختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في هذا الشأن. 

ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين، خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفارقوه، وكانت بدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، ولم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب -كما حدث في أيام علي رضي الله عنه الشيعة وكان منشأ بدعتهم هو الغلو في حبه رضي الله عنه - وأهل بيته. 

وفي آخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع !

وبعد عصر الصحابة ظهر مذهب جهم بن صفوان وكان أول من أظهر ذلك الجعد بن درهم، ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان وكانت بدعة الجهمية في أسماء الله وصفاته التي كان لها أثرها في مسار العقيدة الإسلامية، ثم جاء المعتزلة من بعدهم، فورثوا تلك البدعة منهم.

وعندما تولى المأمون الخلافة، وكان قد شغفه حبُّ العلوم القديمة، فبعث إلى بلاد الروم من عرب له كتب الفلاسفة حتى اشتهرت كتبهم بعامة الأمصار. وكان المسلمون في بداية ترجمتهم لكتب الفلاسفة اقتصروا على ما يتعلق بالطب والكيمياء ونحوهما، ثم انحرف هذه الاتجاه إلى ترجمة الفلسفة الإلهية، وأقبلت الجهمية، والمعتزلة، وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها.

ثم إن المأمون قد أخذ يشايع المعتزلة ويقربهم إليه، فخدعوه حتى أخذ هذا المذهب الباطل. عنهم ولم يكتف المأمون باعتناقه هذا المذهب، بل دعـا إليه، وحمـل النـاس علـى القـول بخلق القرآن والتنزيه حسبما يوحي إليه عقله وعقول خلطائه، ومحنة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في تلك الفتنة معروفة ومشهورة.

وبذلك انجر على المسلمين من علوم الفلاسفة مالا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع، وأحدثوا في الإسلام الحوادث التي تؤذن بهلاك الإسلام.

وفي الربع الأخير من القرن الثالث الهجري جاء أبو الحسن الأشعري، وقد كان يتلقى درسه الأول على يد شيخ المعتزلة أبي علي الجبائي حتـى بـرع في علــــوم الكلام على مذهب الاعتزال، ولكن بفضل الله اهتدى إلى الحق بعدما توغل في الاعتزال مـا يقارب أربعين سنة، فأعلن براءته منهم.

ومنذ ذلك الوقت بدأ أبو الحسن الأشعري يرد على شبه المعتزلة، ويبين باطلهم، ويدحض حججهم بالنقل والعقل. وبما أن المؤلف في هذا الكتاب وهو جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر قد تكلم عن موقف أئمة السلف - رحمهم الله - في ذم الكلام وأهله وتحذير الناس منهم، وعقد فصلاً طويلاً في ذلك.

وسرد في هذا الكتاب أيضاً تراجم الأئمة الذين جانبوا أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم منذ زمن الأشعري إلى زمن المؤلف، ولم يقصد وراء ذلك إلا ليبين للناس أن العلماء على ممر الزمان والأوقات مجمعون على ذم الكلام وأهله، وأن أهل الحق الذين اتبعوا هدى الكتاب والسنة واقتفوا آثار السلف الصالح من هذه الأمة هم المنصورون {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة الآية ٥٦).

وكما أن المؤلف رحمه الله - أيضا قد تطرق إلى الكلام في أبي الحسن الأشعري، وعرض لنا أقوال الناس فيه، فأحببت أن أقف على حقيقة الأمر لهذا العالم الشهير، واختيار الصواب مما قيل فيه.

ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب وسبب اختياره للتحقيق والتعليق عليه:

وقد قسمت العمل في الكتاب إلى قسمين: 

القسم الأول: قسم الدراسة. 

والثاني: في تحقيق الكتاب.

وقدمت بين يدي ذلك مدخلاً في بيان مراحل أبي الحسن الأشعري، وموقف الناس من توبته ورجوعه إلى مذهب السلف.

القسم الأول: قسم الدراسة ويشتمل على مقدمة ومدخل، وثلاثة فصول:

المقدمة: بينت فيها موجزاً لتاريخ ظهور البدع، وذكرت فيها أيضا أهمية الكتــاب وسبب اختياره للتحقيق والتعليق عليه. الفصل الأول: في التعريف بالمؤلف، وابن عساكر صاحب "تبيين كذب المفتري"، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: التعريف بالمؤلف، ويتضمن: اسمه، ونسبه وكنيته، ولقبه ومولده وأسرته، وطلبه للعلم، وأشهر شيوخه وتلاميذه، ومؤلفاته، وثناء العلماء عليه، ومذهبه، ووفاته. 

المبحث الثاني: التعريف بابن عساكر، وبيان عقيدته. الفصل الثاني: التعريف بالكتاب، ويتضمن: اسم الكتاب وموضوعه توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف، سبب تأليفه ، قيمته العلمية، وصف المخطوطة، منهج المؤلف ومحتويات الكتاب مصادر المؤلف، نقد الكتاب والمآخذ على المؤلف فيه. 

الفصل الثالث: منهجي في التحقيق وبيان الاصطلاحات والرموز التي استعملتها في التحقيق.

 القسم الثاني: الكتاب المحقق.

هذا وقد حرصت كل الحرص أن أخرج الكتاب على الصورة التي تركه عليها المؤلف، فإن وفقت فذلك من فضل الله ومنه وكرمه علي، وإن زللت وأخطأت فلعل الله يعذرني في ذلك، لأني قد بذلت جهدي وطاقتي للوصول إلى الصواب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مدخل في التعريف بأبي الحسن الأشعري وبيان أحواله، وذكر موقف الناس من توبته ورجوعه إلى مذهب السلف. 

التعريف بأبي الحسن الأشعري

هو إمام المتكلمين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر ، واسم أبي بشر : إسحاق بن سالم ، يتصل نسبه إلى صاحب رسول الله له أبي موسى الأشعري اليماني البصري، ولد سنة ٢٦٠ هــ أخذ علم الكلام عن أبي علي الجبائي المعتزلي ، وعلم الحديث عن زكريا الساجي، وعنه أخذ مقالة السلف في الصفات.

ولأبي الحسن ذكاء مفرط وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة وتصانيف جمة تقضي له بسعة العلم. قال الذهبي: "رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات". 

توفي ببغداد سنة ٣٢٤ هـ - رحمه الله ـ 

بيان أحوال أبي الحسن الأشعري: 

اعلم أن الأشعري قد مرّ في حياته بأطوار مختلفة: وقد كان أولاً معتزلياً وهذا أمر لاريب فيه، وقد تربى على يد شيخ المعتزلة أبي علي الجبائي.

ولكن الله جل وعلا شاء لأبي الحسن الخير، فوفقه للتوبة عن الاعتزال وترك مذهبهم، فأخذ يرد عليهم ويبين باطلهم حتى أصبح أعدى الخلق إلى المعتزلة، ولذلك فإنهم يشنعون عليه وينسبون إليه الأباطيل.

وقد بقي أبو الحسن فترة يعتمد في بعض القضايا العقدية على قول ابن كلاب ويرد على المعتزلة معتمداً على القوانين والقواعد التي سلكها ابن كلاب. 

ثم إن الله جل وعلا من عليه ونور بصيرته وذلك لإخلاصه في الحق فوفقه أخيراً للرجوع التام إلى مذهب السلف مذهب أهل الحديث والسنة، وأعلن منذ ذلك الوقت انتسابه إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله - إمام الهدى، وقد سجل ذلك كله في كتابه المسمى طل سب بـ "الإبانة عن أصول الديانة".

هذا وقد بقي أتباع الأشعري والمنتسبون إليه يسلكون مسلك ابن كلاب ويؤولون الصفات الخبرية التي أثبتها الأشعري، وفي ذلك يقول عبدالله شاكر الجنيدي: "وهكذا نجد أتباع الأشعري والمنتسبين إليه يضعون مذهبا لأنفسهم بعيدا كل البعد عن عقيدة الأشعري التي لقي الله عليها، فأولوا الصفات التي أثبتها الأشعري لله عزوجل، وتلقى الناس عنهم ذلك على أنه مذهب الأشعري، ... والأشعري منه بريء.

نعم، وليس من الإنصاف أن ينسب إلى الأشعري مذهب تبين أنه قد تبرأ منه وعدل عنه إلى مذهب السلف الصالح. قال شيخنا الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي: والحق ما شهد به العلماء الذين لا يشك في ديانتهم وعدالتهم لأبي الحسن الأشعري بأن عقيدته التي يعتقدها ويدين  الله بها هي ما أثبته في هذا الكتاب "الإبانة" وأنه آخر كتبه الذي استقر عليه أمره في العقيدة.

بيان موقف الناس من توبة أبي الحسن ورجوعه إلى مذهب السلف:

أشرنا فيما سبق أن الأشعري قد مرّ في حياته بأطوار مختلفة، وبحكم أنه كان يوما ما من المعتزلة ويقول بقولهم، فعندما تاب عن الاعتزال وسلك سبيل السلف وصنف "الإبانة" كان له غيرة على السنة وعقيدة السلف بدأ بعض من  يتشكك في توبته وتصنيفه "الإبانة". 

وكذلك أعداؤه من المعتزلة وغيرهم انتهزوا هذه الفرصة للطعن في أبي الحسن الأشعري وينسبون إليه الأباطيل ويشنعون عليه أشياء هو منها برئ. وقد عرض لنا المؤلف اختلاف الناس في توبة أبي الحسن وتصنيفه "الإبانة". 

وخلاصة ما ذكره من أقوالهم في ذلك ما يأتي: 

قيل: إنه مات له قريب من الذكور أو الإناث فتاب لئلا يمنعه الحاكم من الميراث، لأن أهل الملتين لا يتوارثان.

قيل: إنما فارق مذاهب المعتزلة لما لم يظفر عند العامة . بسموّ المنزلة، فأظهر التوبة ليؤخذ عنه وتعلو منزلته.

قيل: إنه أظهر التوبة وصنف "الإبانة" تقية من الحنابلة. 

قيل: إنه كان معمياً كلما جاء إلى أرباب مذهب يظهر لهم أنه منهم.

وقيل: إنه بان له الحق فاتبعه وترك ما عداه.

وهذا القول الأخير هو القول الصحيح، وهو الذي نعتقده ونقول به، وذلك لأن واقع أبي الحسن بعد تربته يدل على ذلك.

وأما ما قيل في تعليل تحول الأشعري بسبب إغرائه بالمال، أو للظُّفَرِ عند العامة  بسموّ المنزلة، أو أن ذلك كان تقية منه للحنابلة، أو غيرها من التعليلات، فإنها أقوال لا تتفق مع تاريخ هذا الإمام العظيم، فلم يكن في حاجة إلى المال حتى يغرى به، وقد كان زاهداً متعففاً، كما أنه لم يكن في حاجة إلى الشهرة أو ممن يؤمنون بمبدأ التقية.

وقد شهد بفضله وزهده وعلمه وبعده عن مظنة الكذب كثير من العلماء والباحثين، مما يدل على عدم صحة هذه الأقوال التي قيلت في حقه. ولكن يبدو أن القوم فهموا أن تحول الأشعري عن اعتزاله لم يكن متصلاً بالعقيدة، وكأنهم بهذا قد كشفوا عن قلب الرجل، وعرفوا حقيقة معتقده حتى يحكموا عليه هذا الحكم المتشدد.

وأما المؤلف رحمه الله فليس له موقف محدد تجاه توبة أبي الحسن وتصنيفه "الإبانة"، وهناك أقوال له تدل على أنه كان يرى أن أبا الحسن يموه على الناس بإظهاره التوبة وتصنيفه "الإبانة"، وخاصة الحنابلة منهم. ولكنه قال في موضع من كلامه فلعله قد تاب ،حقيقة بل نسأل الله له ولأتباعه المسامحة.

 وهنا قد صرّح المؤلف أنه لم يقطع بأن أبا الحسن أظهر التوبة تمويهـاً وتلبيساً على الناس، وإنما كان يرجو لأبي الحسن أنه قد تاب حقيقة، ولعل هذا القول الذي يراه المؤلف. والله أعلم بحقيقة الأمور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- في الرد على من زعم أن أبا الحسن كان يموه على الناس بإظهاره التوبة وتصنيفه "الإبانة": "والأشعري ابتلي بطائفتين: طائفة تبغضه وطائفة تحبه، كل منهما يكذب عليه، ويقول إنما صنف هذه الكتب تقية وإظهاراً المرافقة أهل الحديث والسنة من الحنابلة وغيرهم وهذا كذب على الرجل، فإنه لم يوجد له قول باطن يخالف الأقوال التي أظهرها، ولا نقل أحد مـن خـواص أصحابه ولا غيرهم عنه ما يناقض هذه الأقوال الموجودة في مصنفاته، فدعوى المدعي أنه كان يبطن خلاف ما يظهر دعوى مردودة شرعا وعقلا، بل من تدبّر كلامه في هذا الباب في مواضع تبين له قطعا أنه كان ينصر ما أظهره"

الفصل الأول: في التعريف بالمؤلف، وابن عساكر صاحب "تبيين كذب المفترى"، وفيه مبحثان: 

المبحث الأول: التعريف بالمؤلف، ويتضمن: اسمه، ونسبه، وكنيته ولقبه ومولده وأسرته وطلبه للعلم، وأشهر شيوخه وتلاميذه، ومؤلفاته، وثناء العلماء عليه، ومذهبه، ووفاته. 

المبحث الثاني: التعريف بابن عساكر، وبيان عقيدته.

المبحث الأول: التعريف بالمؤلف (ابن المبرد الحنبلي)

اسمه ونسبه وكنيته

هو يوسف بن حسن بن أحمد أحمد بن حسن بن بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن يوسف بن محمد بن قدامة الإمام جمال الدين أبو المحاسن. وينتهي نسب ابن قدامة إلى سالم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

لقبه: 

اشتهر المؤلف رحمه الله بابن المبرد، بفتح الميم وسكون الباء، كذا ضبطه تلميذه ابن طولون)، والمبرد لقب جده أحمد لقبه بذلك عمه، قيل لقوته، وقيل: لخشونة يده.

مولده:

ولد المؤلف بالسهم الأعلى بصالحية دمشق سلخ سنة ٨٤٠ هـ.

أسرته، وطلبه للعلم:

امتازت أسرة المؤلف يوسف بن عبد الهادي بأنها أسرة ذات جذور راسخة في شرف العلم والنسب، وقد نبغ وترعرع في بيت عريق في الفضل والعلوم الشريعة والدين ألا وهو بيت آل عبد الهادي وآل عبد الهادي من "آل قدامة"، وجده الأعلى محمد بن قدامة بن نصر هو أخو الشيخ أحمد قدامة بن بن نصر والد الإمام موفق الدين. وآل قدامة كان لهم السهم الأعلى في حمل لواء العلم في بلاد الشام وغيرها، الذين تولوا القضاء والتدريس والفتوى وأفادوا الناس. وارتحل إليهم الطلاب من وهم عامة بلاد الشام والعراق والحجاز واليمن ومصر واشتهروا بخدمة الكتاب والسنة، لقد عاش المؤلف طفولته بين أكناف عائلة علمية متدينة".

وكان والده وجده وبعض أعمامه وإخوانه من أهل العلم، ومن الطبيعي أن تعتني مثل هذه العائلة بأبنائها. 

بدأ المؤلف حياته العلمية بمبادئ العلوم على أبيه وجده ، ثم في مدارس وكتاتيب دمشق، كما ارتحل إلى بعلبك وأخذ عن مشايخها، وهذه المدينة تعتبر - بعـد الصالحية من أكثر مراكز الحنابلة ازدهاراً بالعلم والعلماء في تلك الفترة. 

وقد كان المؤلف ذكيا حاد الذكاء حريصا كل الحرص على الطلب، جاداً مجتهداً في ذلك، حتى تمكن من لقاء المشايخ الكثيرين.

شيوخه:

تلقى المؤلف يوسف بن عبد الهادي العلم عن أبيه وجده وعن مشايخ كثيرين كان لهم الأثر في تكوينه العلمي والثقافي. وقد قرأ القرآن على الشيخ أحمد المصري الحنبلي والشيخ محمد، والشيخ العسكريين، وتفقه على الشيخ تقي الدين الجراعي، وابن قندس، والقاضي علاء الديـن عمر المرداوي، كما تفقه على أبيه وجده. وحضر دروس خلائق منهم القاضي برهان الدين بن مفلح، والبرهان الزرعي، وأخذ الحديث عن خلائق من أصحاب الحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن العراقي، وابن ناصر الدين وغيرهم، وقد ألف المؤلف ثلاثة معاجم كبيرا ووسطا وصغيرا ضمنها أسماء شيوخه.

تلاميذه:

لم نجد ممن ترجم للشيخ يوسف بن عبدالهادي من أصحاب كتب الرجال والطبقات من يذكر تلاميذه، ولكننا إذا رجعنا إلى مؤلفات الشيخ يوسف نجد هناك مجموعات كبيرة من العلماء والطلاب الذين استفادوا منه وتتلمذوا عليه، وقد أجاز لهم رواية هذه المؤلفات.

ومن أشهر تلاميذه:

۱ - شمس الدين محمد بن طولون المتوفى سنة ٩٥٣ه.

٢ - نجم الدين بن حسن الماتاني، المتوفى سنة ٩٢٣هـ، وغيرهما كثير، بالإضافة إلى أولاده وأقاربه.

مؤلفاته:

كان المؤلف رحمه الله -من المكثرين في التأليف في فنون شتى، وعلـوم مختلفة، وأغلبها في علوم الحديث.

وقد كتب أيضا في علوم القرآن وفي الفقه الحنبلي، وفي التوحيد، والتفسير والتصوف، وفي التاريخ والسيرة النبوية والأدب، والطب، واللغة، وغير ذلك العلوم من والفنون.

قال الغزي: وله" من التصانيف ما يزيد على أربعمائة مصنف، وغالبها في علم الحديث والسنن". وقال ابن العماد: "وكان إماماً علامة يغلب عليه علم الحديث والفقه، ويشارك في النحو، والتصريف، والتصوف والتفسير، وله مؤلفات كثيرة وغالبها أجزاء.

ومع كثرة مؤلفات ابن عبد الهادي إلا أن بعضها جاءت غير محررة، ذكر صاحب "السحب الوابلة" عن النعيمي أنه قال: وقد صنف كثيراً من غير تحرير".

وقد وصف بعضهم بأن مؤلفاته جاءت في غاية التحرير، والقول الصواب في ذلك أن من وقف على الصنف الذي بقي على أصوله "مسودات لم يبيض ولم يفرغ لمراجعتها واستيفائها حكم عليها بأنها جاءت غير محررة . ومن وقف على الصنف الذي قد قام بتبييضها ومراجعتها واستيفائها حكم عليها بأنها جاءت في غاية التحرير. 

والذي يبدو - والله أعلم - أن من وقف على المحرر منها فظنها جميعا بهذه الدرجة كما أن النعيمي يقصد الأصول المسودات التي اطلع عليها فيفك بهذا الخلاف.

ومن الجدير بالذكر أن هذه المؤلفات الكثيرة قد كتبها المؤلف بخطه. ومع كثرة مؤلفات ابن عبد الهادي لم يطبع منها إلا القليل، وذلك يرجع إلى رداءة خط المؤلف إلى درجة يتعذر معه قراءة بعض الجمل والعبارات مما جعل كثير من النساخ لايتجاسر علـى نسخها واستخراجها من خطه فبقيت مؤلفاته بخطه إلى يومنا هذا. قال الشيخ جميل الشطي : وكان كثير الكتابة سريع القلم، قـل مـن يحسـن قـراءة خطه، لاشتباكه وعدم إعجامه".

عقيدته:

إذا جتنا نتحدث عن مذهب الشيخ، فسنجد أن الشيخ كان حنبلي الأصول والفروع على مذهب أهل الحديث والسنة، وكانت عقيدته في باب الصفات أنه يثبت الله عز وجل الصفات كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، بل على أساس قول الله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، ويظهر ذلك جليا لمن تدبر كلامه في عدة مواضع من هذا الكتاب.

قال في معرض الرد على ابن عساكر ص: ۸۹: "هل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه علم الكلام أو التأويل؟ أو كان من هديهـم الإقرار بذلك والسكوت عنه".

ثم قال: هل ورد علم الكلام والتأويل عنهم أم لا ؟ إن قلت: بلى، فهو كذب عليه، وإن قلت لا؛ فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم، وأين الاقتفاء بمنهجهم مع التأويل والنفي".

وقال في موضع من كلامه ص: ۹۲: "يا الله العجب ! هل التأويل مبتدع أو من يقول نمرها كما جاءت ونؤمن بها؟ .. وهل التمسك بالحديث مبتدع أو علم الكلام؟ أين العقول والأفهام؟".

وقال في ص: ٣٠١ عندما تكلم عن الصفات الخبرية: "فما أثبت الله لنفسه نثبته له، وليس فيه تشبيه فنحن لانؤول وننفي المثبت بحجة التشبيه، هذا هو العنـــاد والمخالفة، وإذا خرجت من الإثبات إلى التأويل فنفس ما خرجت إليه يلزم فيه ذلك الذي خرجت لأجله".

ومن خلال هذه النصوص التي ذكرناها تبين لنا أن الشيخ كان سلفي العقيدة لا ريب في ذلك. والله أعلم.

ثناء العلماء عليه:

العلماء على ابن عبد الهادي ثناء حسنا، سواء أكانوا من لقد أثنى كثير من تلاميذه أم من المؤرخين الذين رووا أخباره ووقفوا على آثاره، وهذا بعض ما قاله العلماء الأجلاء في الثناء عليه:

(١) قال تلميذه ابن طولون : هو الشيخ الإمام علم الأعلام المحدث الرحلة العلامة الفهامة العالم العامل المنتقي الفاضل جمال الدين أبو المحاسن…

(۲) وقال نجم الدين الغزي: "الشيخ الإمام العلامة المصنف المحدث وقال كمال الدين الغزي: "هو الشيخ الإمام العالم العلامة الهمام، نخبة المحدثين، عمدة الحفاظ المسندين بقية السلف وقدوة الخلف، كان جبلا من جبال العلم وفرداً من أفراد العالم، عديم النظير في التحرير والتقرير ... وقال في موضع آخر: "وأجمعت الأمة على تقدمه وإمامته، وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته"

(٣) وقال جميل الشطي : "وبالجملة فقد كان إماما جليلاً عالماً نبيلاً، أفنى عمره بيــن علم وعبادة وتصنيف وإفادة.

وفاته:

توفي الإمام جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن عبد الهادي -رحمه اللـه بعـد حياة حافلة بالعلم والتأليف والتدريس يوم الاثنين السادس عشر من محرم سنة ٩٠٩هـ، ودفن بسفح جبل قاسيون وكانت جنازته حافلة.

المبحث الثاني: التعريف بابن عساکر صاحب "تبيين" كذب المفتري" وبيان عقيدته

هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، الحافظ الكبير المجود هو محدث الشام، أبو القاسم بن عساكر الدمشقي الشافعي صاحب "تاريخ دمشق". 

ولد في المحرم سنة ٤٩٩ ، وكان بدء سماعه سنة ٥٠٥ هـ، وتفقه في حداثته بدمشق على الفقيه أبي الحسن السلمي، وارتحل إلى العراق وخراسان، وأقام ببغداد خمسة أعوام يحصل العلم، وارتحل أيضا إلى مكة والمدينة كما ارتحل إلى بلاد العجم كأصبهان ونيسابور، ومرو، وبيهق، وهراة، وغيرها. وعدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة، وصنف الكثير.

ولما دخل بغداد أعجب به العراقيون وقالوا ما رأينا مثله، وكذلك قال مشايخه الخراسانيون.

وقال الإمام النووي: هو حافظ الشام، بل هو حافظ الدنيا، الإمام مطلقاً، الثقة وقال الذهبي: وكان نهماً حافظاً ذكياً بصيراً بهذا الشأن، لا يلحن شاره، ولا يشق غباره ولا كان له نظير في زمانه.

توفي الحافظ ابن عساكر في رجب سنة ٥٧١ ، ودفن عند أبيه بمقبرة باب الصغير، غفر الله له ورحمه.

عقيدته:

كان ابن عساكر من المحبين للأشعري والأشاعرة وله ميل كبير إليهم، ولأجلهـم ألف كتابه "تبيين كذب المفتري" للدفاع عن الأشعري وأتباعه.

ولابن عساكر قصائد في مدح الأشعري وأتباعه ومن قصيدته في مدحهم:

الأشــعــري مـالـه شـبـيـه .. إمام عالم فقيه

مذهبه التوحيد والتنزيه .. وما عداه النفي والتشبيه

وليس فيما قاله تمويه .. وصــحــبــه كـلـهـم نبيه

في قوله على الهدى تنبيه .. ما فيهم إلا امرؤ وجيه

ومنها:

إن اعتقاد الأشعري مسدد .. لا يمتري في الحق إلا ممتري 

وبه يقول العالمون بأسرهم ..من بين ذي قلم وصاحب منبر

وقال في آخر قصيدته:

إن كان ينفي النقائص كلها .. عن ربه ترمونه بتمشعرِ

وترونه ذا بدعة في عقله .. فليشهد الثقلان أني أشعري

ولذلك قال العماد الأصفهاني عندما ترجم لاين عساكر -وقد كان العماد ممن لقي ابن عساكر بدمشق وسمع التاريخ - قال: "وهو الحافظ قد تفرد بعلم الحديث،... المظهر شعار الأشعري بالحد الحديد والجد الجديد والأيد الشديد".

 وقال ابن الجوزي: "وكان شديد التعصب لأبي الحسن الأشعري، حتى صنف كتابا سماه تبيين المفتري على أبي الحسن الأشعري وقد كان ابن عساكر ممن يثبت كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري، وصوّب ماجاء فيه، وبين أن ما سجّله في هذا الكتاب من إثبات الأسماء والصفات هو معتقد الأشعري الذي يدين الله به. 

قال ابن عساكر بعد أن نقل جملة من أقوال الأشعري في كتابه "الإبانة": فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العـالم الـذي شرحه وبينه وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه". 

ثم قال: "واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين"

ولكن مع إثبات ابن عساكر كتاب "الإبانة" للأشعري، كان أيضـا مـمـن يؤيد التأويل للصفات الخبرية عند الحاجة -على حسب تعبيره. وفي بيان ذلك قال: "فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف.. فحينئذ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزينه بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه، خوفا من وقوع من لا يعلم في ظلم التشبيه، فإذا أمنوا من ذلك، رأوا أن السكوت أسلم، وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم". 

وهنا قد سلك ابن عساكر مسلكا غير المسلك الذي سلكه أبو الحسن والسلف من أهل الحديث وغيرهم، حيث إن السلف لم يكونوا يؤولون الصفات الخبرية ولم يجيزوا تأويلها، وإنما أثبتوا لله الصفات كما أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل على حد قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر أن لابن عساكر مجلساً أملاه في نفي العلو، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحديث الذي يحتجون بـه فـي نـفـي العلـو، كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عـن شـيـخـه ابـن عبـد اللـه العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الذي أين الأين فلا يقال له: أين". 

ثم بين شيخ الإسلام أن هذا الحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث،  وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب. 

وأما عن موقف السلف من صفة العلو فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنفة في السنة، من كتاب السنة والرد على الجهمية للأثرم، ولعبد الله بن أحمد وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمـد بـن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، . وأضعاف هؤلاء، رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يرافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها ، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه.

ثم وقفت على أبيات لابن عساكر أنشدها في آخر مجلس له في الصفات، ومما جاء فيها:

رب على العرش استوى .. قهرا وينزل لا بنقلة 

وهنا قد حمل ابن عساكر الاستواء على القهر، وهذا مخالف لما كان عليه السلف، ومذهبهم في ذلك في غاية الوضوح من أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب. 

وتبين مما ذكرنا أن ابن عساكر كان موافقا للأشاعرة في معتقدهم ، وليـت ابن عساكر لو قال بإمرار الصفات كما جاءت بلا كيف كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري والسلف من أهل الحديث وغيرهم. غفر الله لابن عساكر وتغمده بمغفرته ورحمته -اللهم اهدنا وارحمنا.

الفصل الثاني: التعريف بالكتاب، ويتضمن: اسم الكتاب وموضوعه توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف، وسبب تأليفه وصف المخطوطة، منهج المؤلف ومحتويات الكتاب مصادر المؤلف، نقد الكتاب والمآخذ على المؤلف فيه.

اسم الكتاب:

فاسم الكتاب واضح، كما هو المثبت على غلاف الكتاب هو: "جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر". وقد ذكر المؤلف أيضا اسم الكتاب في الورقة الثانية من المخطوطة حيث قال: وسميته جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر".

موضوع الكتاب:

مقدمة المؤلف، وهو اسمه، ومن الموضوع الرئيسي للكتاب هو كما يفهم من في الرد على ابن عساكر في رده على أبي علي الأهوازي ودفاعه عن أبي الحسن الأشعري.

وهذا هو الموضوع الأساسي الذي ألف المؤلف من أجله هذا الكتاب، حيث إن المؤلف يرى أن ما كتبه ابن عساكر في كتابه "تبيين كذب المفتري" أشياء لا يحسن السكوت عليها، فشرع المؤلف في الرد عليه وأبدى ملاحظاته على أخطاء ابن عساكر.

وأما كتاب "تبيين كذب المفتري" فهو في ترجمة أبى الحسن الأشعري، وبيان أحوال حياته وحقيقة مذهبه والدفاع عما نسب إليه من التشنيعات. 

وقد أثبت أبو القاسم ابن عساكر في كتابه هذا كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري، وبين أن الذي ورد فيه من إثبات الأسماء والصفات لله عز وجـل هو معتقد الأشعري الذي يدين الله به، وردّ فيه على من اتهم أبا الحسن بأنه ألف "الإبانة" تمويها وتلبيسا على الناس أو وقاية من الحنابلة. 

ولكن مع ذلك كله لا يخلو ما كتبه ابن عساكر من الملاحظات، وقد حاول مؤلفنا أن يسجل تلك الملاحظات، ويرد على ابن عساكر فيما يعتقد المؤلف أنه أخطأ فيه، ولكن لا تخلو ملاحظات المؤلف أيضاً من الملاحظات، فالكمال لله وحده، وكل أحد ليؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. 

فعلينا أن نجرد أنفسنا من التعصب للهوى، ونختار الصواب، ونتجنب الخطأ ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها.

توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:

لا نشك في صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف يوسف بن عبد الهادي، فالنسخة الوحيدة التي بين أيدينا والتي عملنا عليها تحقيقا وتصحيحا وتعليقا، هي بخط المؤلف نفسه.

وقد ذكر المؤلف أيضا هذا الكتاب في فهرس كتبه.

سبب تأليفه:

لقد ذكر لنا المؤلف نفسه سبب تأليفه لهذا الكتاب، حيث إنه أراد أن يبين أخطاء ابن عساكر في كتابه "تبيين كذب المفتري" في دفاعه عن أبي الحسن الأشعري ورده على أبي علي الأهوازي.

وفي ذلك قال المؤلف: "أما بعد فقد كنت رأيت ثلب الأشعري في عدة من الكتب منها كتاب الأهوازي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وغير ذلك، إلا أني رأيت على كتاب الأهوازي أن غالب ما فيه (درادم =أي لا قيمة له) قد ردها أبو القاسم بن عساكر، وكنت حين جمعت الكتاب الذي وسمته بكشف الغطاء" لم أطلع على ذلك، ثـم إنـه وقـع لي، فرأيته كتابا قد أبدع في وضعه، وأحاد في تصنيفه، فهو من جهة الرفع وضع جيد على طريقة المحدثين، بحيث إذا رآه المرء أوقعه في أعظم شبهة، غير أنه أمور مدلسة ودراهم مزيفة إذا تحققها البصير وتأملها الخبير علم أنها ظاهرة الجودة وباطنة الفساد، فأردت أن أبين ذلك وأوضحه، وأشهره وأفضحه، وسميته جمع الجيوش والدسـاكـر علـى ابـن عساكر" حيث بال وخرى، وتعصب للأشعري وردّ على الصحيح البري، وزعم أنـه كذاب ،مفتري، والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل".

قيمته العلمية:

تظهر القيمة العلمية لهذا الكتاب من حيث إن المؤلف قد سرد لنا أحاديث كثيرة في ذم البدع والمبتدعة ، كما أن المؤلف قد سرد لنا أيضا نصوصا كثيرة عن أئمة السلف علماء السلف في بيان موقفهم تجاه علم الكلام المذموم. كالأئمة الأربعة وغيرهم من الجيوش والدساكر على ابن عساكر وهـو فـي قال الشيخ الألباني: "كتاب جمع الرد على كتاب ذم المفتري" لابن عساكر، وفيه أحاديث كثيرة وآثار في ذم البدعة والمبتدعة.

وهذا الكتاب أيضاً يعتبر من كتب أئمة الحديث، فمؤلفه من كبار علماء الحديث والسنة الذي عاش ما بين القرن التاسع والعاشر، وقد اهتم المؤلف كثيراً في هذا الكتاب بذكر الأسانيد للأحاديث أو الآثار التي أوردها مما يدل على مكانته في علم الرواية.

وقد كان المؤلف رحمه الله شديدا في التمسك بالسنة، متمسكا بما كان عليه سلف هذه الأمة، وخاصة في باب العقيدة، وكان شديدا على المبتدعة وأهل الأهواء من علماء الكلام وغيرهم.

وقد سجل لنا المؤلف في هذا الكتاب ملاحظاته على ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري وناقشه في ذلك مناقشة حادة. وعندما ذكر ابن عساكر أن الحنابلة قبل حدوث الاختلاف بينهم وبيــن الأشاعرة ببغداد كانوا موافقين للأشاعرة في أبواب العقيدة، وأنهم إنما استفادوا من الأشاعرة في الرد على المبتدعة وأهل الأهواء، لم يسكت المؤلف على ذلك وبين أن أصول الحنابلة مبني على الكتاب والسنة لا على علم الكلام، وأنهم على ممر الأزمان والأوقات متفقون على مجانبتهم محذرون الناس عن أهل الكلام، وقد سرد المؤلف جماعة كثيرة من العلماء الذين جانبوا علم الكلام والأشاعرة. وهذا مناسب لاسم الكتاب عندما سمّاه المؤلف : "بجمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر".

منهج المؤلف في الكتاب مع ذكر بعض محتوياته:

باعتبار أن المؤلف واحد من أئمة الحديث، فقد سلك في هذا الكتاب مسلك المحدثين، فهو ينقل إلينا أحاديث وآثاراً وأخـبـاراً بأسانيدها.

وقد بدأ المؤلف كتابه بذكر أحاديث وآثار كثيرة في ذم البدع وأهلها، ثم تكلم عن فتنة الكلام. وما أصاب الإمام أحمد رحمه الله - المحنة من في فتنة القول بخلق القرآن.

وبعدها أورد المؤلف الأحاديث والآثار في ذم البدع وأهلها شرع في بيان اختلاف الناس في توبة أبي الحسن الأشعري هل هي توبة صادقة أو هي توبة مستفتحة لغرض من الأغراض؟ 

ثم ذكر ترجمة الأهوازي، ثم يرد على ابن عساكر في تكذيبه الأهوازي وأثنى على الأهوازي وأطنب في الثناء عليه. وبعدما أورد ترجمة الأهوازي شرع في الرد على ابن عساكر في دفاعه عـن أبـي الحسن الأشعري.

طريقة المؤلف في الرد على ابن عساكر:

سلك المؤلف في الرد على ابن عساكر إلى نهاية الكتاب، حيث إنه تطرق إلى كل ما تكلم به ابن عساكر فرد عليه وأيده أحيانا إذا اعتقد أن ابن عساكر أصاب فيما ذهـب إليه.

وقد ابتدأ المؤلف الرد على ابن عساكر بذكر كلامه في مدح أبي الحسن الأشعري وعقيدته، ثم تعقب المؤلف على ابن عساكر في ذلك ورد عليه، وبين أن أبا الحسن لم يزل على الاعتزال إلى آخر عمره، وعندما علم أن ذلك لا يصعد معه موه بمذهب وسط، وأتى بالتأويل الذي توصل به إلى النفي ثم ذكر المؤلف أن بيان حال المبتدع لتحذير الناس منه ليس من الغيبة، ورد على ابن عساكر في إيراده الأحاديث في النهي عن الغيبة، وبين أن الغيبة المحرمة إنما هي في أهـل الخير.

ثم ذكر المؤلف كلام ابن عساكر في إثبات صحة نسب أبي الحسن الأشعري إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري -رضي ، ثم تعقب على ابن عساكر وبين الله عنه، أن كل ماذكره لا يوجب إثبات صحة نسب أبي الحسن الأشعري إلى أبي موسى الأشعري. 

ثم ذكر المؤلف كلام ابن عساكر في بيان سبب رجوع أبي الحسن عن الاعتزال، وأعقب ذلك بذكر اختلاف الناس في سبب رجوع أبي الحسن وتوبته عن أبي عبد الله الحمراني. ثم ذكر ترجمة الحمراني وأثنى عليه. 

ثم أورد المؤلف كلام ابن عساكر في بيان قبول توبة المبتدع، ثم تعقب المؤلف على ابن عساكر في ذلك، وأورد الأحاديث والآثار في عدم قبول توبة المبتدع، ولكنه في الأخير رجح أيضا أن توبة المبتدع مقبولة. 

ثم ذكر المؤلف كلام ابن عساكر في ذكر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم أبي الأشعري، ثم رد المؤلف على ابن عساكر في ادعائه أن تلك البشارة فيهـا موسی إشارة إلى ما سيظهر من علم أبي الحسن. ثم ذكر المؤلف كلام ابن عساكر في مسألة محددي الدين وناقشه في ذلك، وبين أخطاءه فيها.

ثم تكلم عن تقسيم ابن عساكر البدعة إلى حسنة وسيئة ورد عليه في ذلك، وبين أن البدعة في الدين لا تكون إلا سيئة ومذمومة. 

كما ذكر المؤلف كلام أبي الحسن في كتابه "الإبانة" ووصفه بأنه كلام جيد، ثـم أعقب ذلك بذكر اختلاف الناس في تصنيف أبي الحسن "الإبانة" هل أنه فعل ذلك صادقا من قلبه، أو أنه كان يموه بذلك على الناس وخاصة الحنابلة منهم؟

ثم أقام المؤلف الحجة على الأشاعر بعد نقله کلام أبي الحسن من "الإبانة" حيث قال: فيقال للأشاعرة لم لم تقولوا بهذا الكلام الذي قد صح عندكم أنه قوله وقد نقلتموه عنه"

ثم ذكر المؤلف من وافق الأشعري في معتقده نقلاً عن ابن عساكر، وأردف ذلك بذكر من جانب الأشعري والأشاعرة منذ زمن الأشعري إلى زمن المؤلف. 

ثم ذكر المؤلف أن الأشاعرة في زمن شيخ الإسلام الأنصاري كانوا يخفون مذهبهم ولا يتظاهرون بذلك إلى أن قويت شوكتهم في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنه كان يقاومهم هو وأصحابه ويدحضون حججهم ويبينون أخطاءهم. ثم بين المؤلف خطأ ابن عساكر في فهم مراد الشافعي في ذمه لعلم الكلام ، ثم ذكر أن أهل الكلام لا يعدّون من العلماء. ثم أخذ يرد على الأشاعرة في تأويلهم الصفات الخبرية.

ويقول في ذلك: "وإذا خرجت من الإثبات إلى التأويل فنفس ما خرجت إليـه يلزم فيه ذلك الذي خرجت لأجله".

ثم أخذ يرد على ابن عساكر في تكذيبه الأهوازي ويدافع المؤلف عن الأهوازي ذلك، وذكر أن كل من ضعفوه فقد أخطأوا في ذلك. ثم أخذ في كما تكلم المؤلف عن تعصب الخطيب وابن عساكر ونسبهما إلى الكذب والافتراء، وبين أن جرحهما للأهوازي غير مقبول. 

وختم المؤلف كتابه بذكر بعض الرؤى المنامية في ثلب أبي الحسن الأشعري رحمه الله وغفر له ولنا ولجميع علماء المسلمين.

موارد المؤلف ومصادره:

يوسف بن عبد الهادي واحد من أئمة الحديث والعلماء الأثريين، ولقد عاش بين * القرن التاسع والعاشر الهجري (۸٤٠-۹۰۹ هـ) وذلك بعد انتهاء عصر التدوين بقرون عديدة، غير أنه ممن يلتزم الرواية بالسند فنجده يعتني بهذا الأمر أشد العناية، فينقل إلينـا الأحاديث والآثار أو الأخبار والأحداث غالبا بأسانيدها. 

ويمكن أن نحدد مصادر ابن عبد الهادي فيما يأتي: 

١ - القرآن الكريم. 

٢-السنة المطهرة.

٣-والآثار المروية عن سلف هذه الأمة. 

ومن أهم الموارد التي استقى منها المؤلف مادة هذا الكتاب:

 أ- كتاب "ذم الكلام وأهله لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي. 

ب- كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري. 

ج-كتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" لابن بطة العكبري. 

د- كتاب "مثالب ابن أبي بشر الأشعري" لأبي علي الأهوازي.
هـ - كتاب تبيين" كذب المفتري" لابن عساكر .

و - كتاب العبر في خبر من غبر" للذهبي. 

ز- كتاب كشف الغطاء عن محض الخطأ" للمؤلف.

نقد الكتاب والمآخد على المؤلف فيه:

ومن خلال تتبعي لمادة هذا الكتاب، وقفت على مآخذ أحببت الإشارة إليها والتنبيه على وجودها زيادة في العلم وتحقيقا للإفادة العلمية الموجبة لذلك، وليس معنى الإقدام على نقد الكتاب إخلال بقدره ومكانته، وقد يكون ما يراه الناقد خطـأ هـو الصواب وهو لايدري. 

ومن أهم المآخذ التي تؤخذ على المؤلف ما يأتي: 

١ - إيراده لبعض الأحاديث الضعيفة بل وبعضها موضوعة ليستشهد على ذم البدع وأهلها، وهناك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب مـا يغني المؤلـف عـن مثـل هذه الأحاديث الواهية أو الموضوعة.

٢- عدم دقة المؤلف في النقل، ينقل العبارات والجمل بالتصرف وبالمعنى، ولم ينبه على ذلك، وكثيراً ما يفعل هذا مع ابن عساكر عندما نقل نصوصه من "التبيين" ومع ذلك يقول: قال ابن عساكر. 

٣– اكتفاء المؤلف أحيانا في الرد على ابن عساكر بقوله: وهذا الكلام لا يقوله عاقل، ثم سكت. ولم يبين لنا ما هو وجه الخطأ في كلام ابن عساكر، ومثل هذا الرد لا يكفي في الردود العلمية. 

٤- وقوع المؤلف في بعض الأوهام، فيظن الرجل الواحد رجلين، فيترجم له في موضعين.

ومن الأمثلة على ذلك عندما ترجم لمحمد بن الحسين السلمي فكناه مرة بأبي عبد الله وكناه مرة أخرى بأبي عبد الرحمن، فظن المؤلف أنهما شخصان مع أنهما في الحقيقة شخص واحد. وكذلك وتع عندما ترجم لزاهر بن أحمد السرخسي، وأبي سعد الزاهد الهروي.

٥- كثرة الأخطاء والسقط في هذا الكتاب ولعل سببها استعجال المؤلف في إكمال كتابه، ولم يتمكن من مراجعته وتصحيحه.

٦ - حدته في الكلام على مخالفيه، ويظهر ذلك جليا في وصفه إياهم بأوصاف قاسية، كما سيلاحظ القارئ ذلك في أثناء قراءته للكتاب ولعل سبب ذلك غيرته على عقيدة السلف وحماسه في الدفاع عنها، وكان الأولى له تركها وتجنبها. - إيراده لبعض المنامات للاستشهاد على ذم مخالفيه والمنامات لا يحتج بهـا في العقيدة ولا في الشريعة، وإنما الحجة في الكتاب والسنة.