ثبت شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي المكي
(٩٠٩ - ٩٧٤ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لما علم الموفقون في هذه الأمة فضل الحديث وأهله، سارعوا إلى الدخول في سلكه، والتمتع بوريف ظله، والمقيل في نعيمه ووصله، وذبوا عنه بصوارم الأقلام شبهات الأقزام، وأشرعوا في وجه الملحدين حداد السّنان..
وهذا الكتاب هو ثبت الإمام الفقيه المحدث أبي العباس أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المصري، وقد كتبه إجازة لأحد أعيان مكة وقضاتها، وهو أبو العباس أحمد بن الأمير محمد المشتهر بنشانجي زاده الحنفي (٩٣٤ -٩٨٦ هـ)، وهو قاضي الحرم المكي في الدولة العثمانية زمن السلطان سليمان خان بن سليم خان (٩٠٠ -٩٧٤ هـ)، وقد ضمنه إجازات مشايخه له، مع ذكر طرف من أخبارهم، والكتب التي أجازوه بها، وطرف مروياته عنهم، وبعض القواعد المهمة والفرائد واللطائف والنكات والفوائد العلمية والتاريخية.
وقد أتم الهيتمي تصنيف هذا الكتاب قبل وفاته بسنة، وذلك في يوم الاثنين ١٣/ رجب/ ٩٧٣ هـ.
وبدأ الإمام الهيتمي كتابه بمقدمة في غاية الفصاحة والبيان، أثنى فيها على الله سبحانه وتعالى بفضله وإحسانه، ثم ثنى بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمنها بعض أسماء الكتب نثراً وسجعاً، وبيّن فضل الأئمة الأعلام الذين نقلوا لنا هذا الدين من لدن الصحابة إلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم عرَّج على تفضيل العلم والعلماء، وبيان شرف السنة النبوية وعلم الحديث وأهله، ثم خصائص أهل الحديث الذين انفردوا بها دون غيرهم، وذكر قصة الذي قلب الله وجهه إلى وجه حمار.
ثم ذكر قاعدة في حمل الخبر على ظاهره، وبين بعد ذلك أن اتصال الأسانيد من خصائص هذه الأمة، وانقطاع أسانيد الأمم قبلها، ثم انقطاع أسانيد أهل البدعة، وعرّج بعد ذلك على مكانة المذاهب الأربعة وحكم تقليد غيرها، وتحدث عن أسباب عصمة السنة وحفظها، وأن الأئمة تشددوا في نقلها وتحملها، وما كان عليه أمراء الإسلام من تعظيم السُّنة ومعرفة قدرها، ثم أطنب في ذم من يتعرض للعلوم وهو غير أهلٍ لها.
ثم أسهب وأطنب في الثناء على قاضي مكة الحنفي، والذي أجازه بهذا الثبت، وألفه من أجله، فأجازه بأعلى درجات التحمل، وهي قراءة الشيخ عليه، ثم أثنى على السلطان العثماني سليمان بن سليم خان وأطنب في ذكر عدله وأمانته وانتظام أمور مملكته.
ثم ثنَّى بالثناء والتبجيل على الأمير محمد الطغرائي والد المُجاز القاضي أحمد، ثم ذكر طلب القاضي من ابن حجر الإجازة بصحيح البخاري وغيره من المسانيد والمجامع والأجزاء، فقرأ عليه ابن حجر الهيتمي طرفاً منه قبالة الكعبة المعظمة وهو يسمع، ثم ذكر طرفاً من أدب ابن عباس رضي الله عنه في طلب العلم عن أبيِّ بن كعب، وعرّج بعد ذلك على الأسباب التي تؤدي إلى تخلف الطلبة عن الاستفادة من شيوخهم وهو غشُّهم لهم، وتركهم النصيحة لهم.
ثم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي طرفاً من نعم الله عليه في الطلب، حتى أجازه الشيوخ بالتصدر والإفتاء والتأليف وهو دون العشرين من عمره، ثم تجرُّده لخدمة السُّنة النبوية المطهرة بعد انتقاله إلى البلد الحرام، ثم شرف الرحلة في طلب الحديث، ثم شرع في ذكر بعض أهشر شيوخه في الحديث رواية ودراية.
ثم شرع بذكر المسلسلات، وتخريجها، وذكر ما وقع له منها موافقةً وبدلاً، وما أنشد في معانيها، ثم إسناد الخرق والأوراد الصوفية، يلي ذلك أسانيد الكتب والمسانيد والتي جعل مدارها على ثلاثة من شيوخه، وهم زكريا الأنصاري، وعبد الحق السنباطي، والجلال السيوطي، وكان يترجم لكل صاحب مسند غالباً، مع ذكر فوائد نفيسة، وتعليقات غالية، وبلغ عدد من ترجم له أربعين عالماً من العلماء في الحديث والفقه والمعقول وبعضهم من الأحناف، ليتناسب ذلك مع مذهب القاضي المجاز.
وفي هذا المقال:
-سبب تأليف هذا الثبت
-المحاور التي دار عليها هذا الثبت.
-ذكر الشيوخ الذين يروي عنهم في هذا الثبت.
-الشيوخ الذين ترجم لهم في هذا الثبت.
-منهج المصنف في رواية هذا الثبت.
-مصادر المصنف في هذا الثبت.
-المسلسلات والكتب التي يرويها في هذا الثبت.
-الأمور والقضايا التي ناقشها الهيتمي في هذا الثبت.
-الاتصال بثبت ابن حجر الهيتمي (إسنادي في الكتاب).
-تراجم الأئمة والعلماء والفوائد والفرائد المنثورة في هذا الثبت.
-ترجمة موجزة لابن حجر الهيتمي مع عناية بدراسة كتبه العقدية.
* سبب تأليف هذا الثبت:
قال الشيخ ابنُ حَجَر : فطَلَبَ مني -يعني القاضي المذكور -قراءة «صحيح البخاري» وأُجِيزه به وبغيره، فأحببتُ له أعلى طرق التحمُّل، وهو قراءة الشيخ كما هو الأشهر عند الأئمة، فقرأتُ الآية والصحيح المبدوء بهما الصحيح، وهو يَسْمَعُ تجاه الكعبة المعظَّمة. ثم الْتَمَسَ منِّي أن أكتب له بعضَ مَسانيدي في الكتب الستة والمسانيد والمجامع المشهورة وغيرها من الفوائد المدثورة، فَأَجَبْتُهُ إلى ذلك المقصد الأسنى، والمطلب الأَسْمَى؛ لتكونَ عنده تلك الأسانيد عُدَّةً كاملةً في نَشر علوم السُّنة في الأقاليم المشهورة، الغاصة بالعلماء ذوي العلوم الباطنة والظاهرة، وأولي الرياسة والزعامة ، والإمامة والفخامة».
* المحاور التي دار عليها الثبت:
أدار الإمام ابن حجر كتابه هذا على محاور عدة يمكن إجمالها في الآتية:
الأول: مقدّمةٌ مُسْهِبةٌ جداً في ذكر فضل علم الحديث والإسناد وأهلهما، والثناء المسهبِ أيضاً على المجازِ له ووالدِهِ والسُّلطانِ سُليمان القانوني، ثمّ ذكر المصنِّفُ ما منَّ الله به عليه من طلب العلم وتلقيه عن أئمة عارفين إلى أن بلغ فيه ما أهله لإجازتهم له وهو دون العشرين، ولهذا الذي ذكره عن نفسه قال الفاكهي كما نقلته آنفاً: «تَرْجَمَ نفسه فيه بنوع ترجمة».
الثاني: ذكر أسانيده إلى بعض المسَلْسَلَات؛ كالمسَلْسَل بالرحمة والمصافحة.
الثالث: ذكر أسانيده إلى خرقة التصوّف بإسهاب، مع جمع فوائد وبحث مسائل حول الخرقة.
الرابع: ذكر سلسلة الفقه وأصوله على سبيل الاختصار.
الخامس: ذكر أسانيده إلى دواوين السُّنّة.
السادس: ذكر أسانيده إلى جماعة من الأئمة بمصنفاتهم، ومن الشُّعراء بدواوينهم. وقد تخلل تلك المرويات ترجمات لكثيرين من أصحاب الكتب التي يرويها، ثمّ ختم كتابه بنص الإجازة للمستجيز ومن أدرك حياته من أهل عَصْره.
* ذكر شيوخه الذين يروي عنهم في هذا الثبت
ذكر المصنف في كتابه هذا عشرةً من شيوخه:
أوّهُم - بحَسَبِ ترتيبه: شيخ الإسلام القاضي زكريا بن محمد الأنصاري الشافعي (٨٢٣ -٩٢٦هـ)، (وقدّمه لأنه أجلُّ شيوخه).
ثانيهم: الإمام الحافظ الفقيه المُعمّر زين الدين عبد الحق بن محمد السنباطي الشافعي (٨٤٢ -٩٣١هـ).
ثالثهم: الإمام الحافظ المفنّنُ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (٨٤٩ -٩١١هـ)، ويروي عنه بالإجازة عامة لأهل عصره.
رابعهم: الإمامُ الصوفي العارف شمس الدين محمد بن أبي الحمائل (ت٩٣٢هـ).
خامسهم: الإمام شمس الدين السَّمَنُودي، ولم يتعيَّن لي هذا الشيخ.
سادسهم: الإمامُ بَدْرُ الدِّين محمد بن أبي بكر المَشْهَديُّ الشافعي (٨٦٢-٩٣٢هـ).
سابعهم: الإمام الفقيه المحدِّثُ المقرى أمينُ الدِّين الغَمْرِيُّ (ت ٩٢٩هـ).
ثامنهم: الإمامُ الصالح محمدُ بنُ عبد الرحمن الخَطَّابُ الرُّعَيْنِيُّ المالكي (٨٦١- ٩٤٥هـ).
تاسعهم: الإمام الفقيه الأصولي علّامة المعقولات ناصر الدين محمد اللقاني المالكي (ت ٩٥٨هـ).
عاشرهم: الزَّين الشَّنْشَوْري، ولم أقف على ترجمته. وأشار إلى شيوخ آخرين من غير تسمية كقوله: «ذكر مصنفات الشيخ قاسم الحنفي، نرويها عن مشايخنا الحنفية وغيرهم عن مشايخهم عنه».
قلت: من مشايخه الحنفية الإمام أحمدُ بنُ الصائغ المصري، إمام وقته في عِلْم الطَّبّ، وفاتُه أوائل الثلاثين بعد التسعمئة.
ولا يفوتني أن المصنّف ذكرَ في مَعْرِض حديثه عن حكم القهوة الإمام المفنّنَ شهاب الدين أحمدَ بنَ شَيخه الزَّين عبد الحقِّ السُّنباطي (ت٩٥٠ هـ)، وهو ممن أخذ عنه المصنِّفُ الأصلين، لكن لم يصرح هنا بأنه شيخه ولا روى عنه.
وكل شيوخ الهيتمي من تلاميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني، عدا الإمام السيوطي، فإنه جاء متأخراً عن الحافظ.
* الترجمة لشيوخه ولأصحاب المصنفات المروية في الثبت:
لم يترجم المصنِّفُ لأحدٍ من شيوخه المذكورين الترجمة المعروفة عند أهلها، ولكنه اقتصر على الثناء عليهم بالأوصاف الجليلة المشيرة إلى مراتبهم في العلم والعمل، وذَكَرَ وقائع عن بعضهم.
أما أصحاب المصنّفاتِ المروية في هذا الثبت فقد اعتنى بترجمة غالبهم، ولم يمضي على طريقة واحدة في ذلك، بل طوَّلَ في بعضها كأئمة المذاهب الأربعةِ والبُخاري، وتوسط واختصر في أخرى.
وقد بلغ عددُ مَن ترجم له في هذا الثبت نحو أربعين نفساً. وله في أثناء تلك التراجم إفادات وتعليقات مهمة دالة على معرفته العميقة بتلك التصانيف.
وفيما يلي الشيوخ الذين ترجم لهم تفصيلاً:
أبو حنيفة النعمان -مالك بن أنس -الشافعي -أحمد بن حنبل -البخاري -مسلم -أبو داود -الترمذي -النسائي -ابن ماجه -البيهقي -البغوي -ابن حبان -الدارقطني -الحاكم -القاضي عياض -البيضاوي -القزويني -القطب الرازي -ابن الحاجب -العضد الإيجي -التفتازاني -الجرجاني -الهمام بن الكمال -الكافيجي -الخافي -قاسم الحنفي -الكمال بن الشريف -الفناري.
* منهج المصنف في الرواية في هذا الثبت:
لم يَقْصِدِ المصنِّفُ في كتابه هذا استيعاب شيوخه، بل اقتصرَ في مُعْظمِه على الرّواية عن الثلاثة المذكورين أولاً، مبتدئاً بشيخ الإسلام زكريا، ثمّ بالإمام عبد الحقِّ السُّنباطي، ثمّ بالحافظ السيوطي غالباً، بل اقتصر في أواخر الكتاب على الرواية عن السيوطي.
وشَيْخاه الأولانِ اجتمعَ بهما المصنِّفُ وأخذ عنهما، بخلافِ الحافظ السيوطي لم يجتمع به؛ إذْ كان عمرُ المصنفِ يومَ وفاةِ السُّيوطي ثلاث سنين، والذي صحح له الرّوايةَ عنه أن السيوطي أجازَ قبل موته لكلِّ مَن أدرك حياته، فلَحِقَتِ المصنف إجازته.
أقول: وإن كان الاتصال بالحافظ السُّيوطي مما يُحرص عليه لإمامتِه وسَعةِ علومه وكثرة مصنفاته، لكن لا بهذه الوشيجة الضعيفة، سيّما أنّ المصنِّفَ مُستَغْنٍ عن مثلها بروايته عن شيخه شيخ الإسلام زكريا الأقدم مولداً من السُّيوطي بنحو الثلاثين سنةً، وحَسْبُ القاضي زكريا أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابنُ حَجَر؛ فإنه اجتمع به وقرأ عليه وأخذ وروى عنه، والسيوطي لم يجتمع به ولا قرأ عليه، بل ولا روى عنه بإجازة خاصة.
وعليه فللمصنفِ الاتصال بما شاءَ منَ الكُتُب والروايات التي حَوَتْها معاجِمُ الحافظ ابن حَجَر من طريق شيخ الإسلام بإجازة خاصة معتبرة.
أما بقية شيوخ المصنف فروى عنهم قليلاً جداً؛ فروى عن الشمس السَّمَنُودي والبَدْرِ المَشْهَدي والأمينِ الغَمْري سند شيخهم الحافظ الشمس السَّخاوي في لبس الخرقة، وروى عن شيخه محمّد الحَطَّابِ المالكي خِرقة الإمامين أحمد زروق وابن عِرَاق، كما روى خرقة الإمام أبي بكر العَيْدَروس عن جَمْعِ لم يصرح باسمهم فقال: «وهوَ [أي: أبو بكر العَيْدَرُوس] وإن لم أَلْقَهُ أيضاً لكنّي لَقِيتُ كثيراً من تلامذته، ووَقَعَ بيني وبينهم ما يُجَوِّزُ لي الرواية عنه». وكذلك روى عن بعض شيوخه من الحنفية ـ من غير أن يُسمِّيَ أحداً منهم - مُصنّفاتِ الإمام قاسم الحنفي. وقد علَّقتُ على هذين الموضعين الأخيرين بما يفيد تعيينَ مَن يروي عنه المصنِّفُ هنا.
وروى شرح الشمسية للقُطب الرّازي التَّحْتاني و«حاشية الجرجاني» عليه، وشرح الفناري على إيساغوجي»، كلُّها في المنطق، و«شرح عَضُد الدين الإيجي على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، قراءةً عن شيخه الإمام الناصر اللقاني.
وقد حوى هذا «الثبَتُ الرواية عن عددٍ كبير من الأئمة والأعلام في الحديث والفقه واللُّغةِ والأَدَبِ والشِّعْرِ والعَقْليّاتِ بمصنفاتهم ودواوين شعرهم، ومع ذلك فهو «ثبت» وَسَط - كما وصفه السَّيِّدُ عبد الحي الكتاني -إذ لا يقارن بالأثباتِ الكبيرة كـ «المعجم المفهرس» للحافظ ابن حَجَر، وقد صرَّحَ المصنِّفُ بعدم قصد الاستكثار فيه فقال: «فلنذكرْ أحْصَرَ مَسانيد مشايخنا الثلاثة المذكورة في بعض الكتب المشهورة؛ لعظيم احتياج الناس إليها كـ«مسانيد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رَضِيَ الله عنهم، والكُتُب الستة، وكتب أخرى» انتهى.
وكذلك اقتصر على رواية بعض المسَلْسَلات، غير أنه في المقابل استكثر من ذكرِ أسانيد خِرْقة التصوف من طرق مختلفة عن عدّة شيوخ، مع اعتنائه ببيان وتقرير اتصال الخرقةِ بينَ الحَسَنِ البَصْري وسيدنا علي رضي الله عنه.
هذا ولم يكتف المصنِّفُ بمجرَّدَ الرّواية ونقل الأسانيد والتراجم، بل كان متبصراً في ذلك، يُثني على ما حقه الثناء، وينتقد ما يراهُ مُستَحِقاً للنقد ولو خالف رأيَ شَيخ له، وقد اعتنيتُ بإبراز تلك المواطن في فهرس موضوعات الكتاب؛ ليَسْهُلَ على المطالع الوقوف عليها، والإفادة منها.
* مصادر المصنف في هذا الثَّبَت:
أهم المصنفات التي اعتمد عليها المصنف في ثبته هذا هي:
١- «ثبت شيخ الإسلام زكريا الأنصاري»، وهو مطبوع، نقل منه كثيراً من الأسانيد؛ كالمسلسل بالأولية وخِرْقة التصوّف، وكثيراً من كتب الحديث وغيرها. مشيخة الإمام زين الدين عبد الحق السنباطي لم أقف عليها.
٢- «ثبت الحافظ الجلال السيوطي المسمّى بـ زاد المسير في الفهرست الصغير»، وهو مطبوع نقل منه سندَ الخِرقة وسماع الحسَن البَصري من سيدنا علي رضيَ الله عنه.
٣- ورواية كثير من الكتب والاتصال بالأئمة المصنفين.
٤- إتحافُ الفِرْقة في رَفْوِ الخِرْقة للحافظ السُّيوطي، وهو مطبوع، ربَّحَ فيه سماع الحسن البصري من سيدنا علي رضي الله عنه، وقد أفاد منه المصنف كثيراً.
٥- «السفينة العراقية في لباس الخرقة الصوفية» للإمام العارف محمد بن عراق، لم أقف عليه، صرَّحَ المصنِّفُ بتلخيصه له، وأنه لم يقتصر على مجرد التلخيص، بل قام بإصلاح لفظه تارة ومعناه تارةً أخرى - كما قال؛ لئلا يتوهم من عباراته غير المراد، كما نبه على ما وقع في تلك الرسالة من موضوعات.
٦- «الجزء اللطيف في التحكيم الشّريف للإمام أبي بكر العيدروس»، أخذ منه أسانيد خرقته، وهو مطبوع طبعةً سقيمة مشحونة بالتصحيف والتحريف، مع ما فيها من الإسقاط.
٧ - «الجواهر المكللة في الأحاديث المسَلْسَلة» للحافظ السخاوي، وهو مطبوع، في تراجم المتأخرين. ونقل منه كلامه على المسلسل بالمصافحة، وسند المسلسل بأخذ السبحة.
٨ - «طبقات الشافعية الكبرى» للإمام تاج الدين السبكي، نقل منه كلامه على انتشار أصحابنا الشافعية في البلاد.
۹- «وفيات الأعيان» للإمام ابن خلكان، نقل منه سلسلة أصول الفقه.
۱۰ -«الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» للحافظ السخاوي، اعتمد عليه كثيراً.
١١ - مصدر لم يتعيَّن لي، أخذ منه المصنِّفُ أسانيد كل من؛ العارفِ الشيخ عمر النبتيتي - شيخ شيخ الإسلام زكريا -في لبس الخرقة، والإمام العارف أحمد زروق، والحافظ السخاوي.
* المسلسلات والكتب التي يرويها في هذا الثبت:
المسلسل بالأولية (وهو حديث الرحمة المشهور)، والمسلسل بالآخريّة (وهو سند آخر رجلٍ يروي عن شيخه)، ثم ذكر طريق القوم السالمين من المحذور واللوم في تلقين الذكر ولبس الخرقة جرياً على قاعدتهم في ذلك، ثم المسلسل بالمصافحة، والمسلسل بالمشابكة، ثم طرق عمر النبتيني في لبس الخرقة، ثم خاتمة يتعين الاعتناء بها، ثم المسلسل بأخذ السبحة، وسند السخاوي في لبس الخرقة، وسند الشيخ زيني دحلان، وسند الشيخ أبي بكر العيدروس، وسند أحمد زرُّوق في لبس الخرقة وتلقين الذكر، ثم سنده في الفقه وأصوله باختصار (ص ٢٢٤، ٢٤٥)، ثم أسانيد مشايخه الثلاثة الأول في المسانيد والكتب المشهورة، وتراجم الأئمة الأربعة ومناقبهم (ص ٢٤٩) إلخ.
* الأمور والقضايا التي ناقشها الهيتمي في هذا الثبت:
وناقش الهيتمي بعض القضايا الحديثية منها: قولهم إن سند القلقشندي في صحيح مسلم أعلى من سند الشيخ زكريا الأنصاري (ص ٩٣).
وقولهم إن (معمّر) و(رتن) الهندي وهما رجلان ظهرا في القرن السادس الهجري وزعما أنهما صحابيين واجتمعا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم (ص ١٢١).
واجتماع شيخه ابن أبي الحمائل بجنيٍّ تابعي وقراءة بعض القرآن عليه (ص ١٢٨).
وناقش سماع الحسن من علي بن أبي طالب (ص ١٤٣- ١٥٠)، ثم مشروعية لبس الخرقة (١٥٠)، وهذا قولٌ واهٍ، بيّنه الحافظ ابن حجر، وتلميذه الشمس السخاوي شيخ المصنف، بما جعله يسقط في يده.
وذكر لبس الحافظ السخاوي للخرقة، ونقل قوله (ص ١٦٩): وإنما أُثبت هذا هنا، تبركاً بذكر الصالحين، واقتفاءً للمكثرين من أئمة الحديث، لا لكوني معتمداً صحة اتصالها، بل منقطعة في غير ما موضع، ولذا قال شيخنا (يعني بذلك الحافظ ابن حجر): إنه ليس في شيءٍ من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحدٍ من الصحابة، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى من ذلك صريحاً فباطل. قال: ثم من الكذب المفترى قول من قال: إن علياً ألبس الحسن البصري؛ فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من عليّ سماعاً، فضلاً عن أن يلبسه الخرقة. ولم ينفرد شيخنا بهذا، بل سبقه إليه جماعةٌ ممن لبسها وألبسها.
ثم تعليق على المسلسل بالمصافحة وذكر مُعمّر (ص ١٥٦)، ورواية ابن أبي الحمائل القرآن عن جنيّ تابعي (ص ١٥٩)، و أسهب في الحديث عن الخرقة وما لها وما عليها، وآداب لبسها (ص ١٨٠ -٢٠٨)، وهذا بالطبع لا يُصحح اتصال هذه الطرق، فإنه منخرمة كلها ظاهراً وباطناً.
* الاتصال بثبت ابن حجر:
نروي هذا الثبت: أروي هذا الثبت وغيره: مُسندُ العَصْر السَّيِّدُ الشَّرِيفُ المعمَّرُ عبدُ الرّحمن ابنُ العلّامة الكبيرِ حُجّةِ أهل الإسناد السيد عبد الحي بنِ عبدِ الكبير الكتاني المالكي أمتع الله به، عن أبيه بأسانيده إلى المصنفِ على ما في كتابه «فهرس الفهارس».
[ قاعدة مهمة ]
وهذا ينبهك على القاعدة المقررة عند المحققين: أنْ كُلَّ ما وَرَدَ في الكتاب والسنة وجوزه العقل - بأن لم يلزم عليه مُحالٌ عقلي، ولا عبرة بالمحال العادي ، ولم يصح عن الشارع حديث آخرُ يُعارضه؛ تعيَّن حمله على ظاهره واعتقاده، ولم يُتبع تأويله؛ لأنه لا حاجة إليه، فإخراج ما هو كذلك عن ظاهره إلى مؤوّلِهِ تصرُّفٌ في السُّنة بما لم يَرْضَ فيه المتفضّلُ بها، فرُبَّما عُوقب أتم العقاب، أو حُرِمَ التوفيق والاحتساب، نسأل الله السلامة من ذلك وأمثاله، آمين.
[ انقطاع أسانيد أهل البدعة ]
ومن عجيب الاستقراء: أنه كُشِفَ لي أنّ ذوي البدع الاعتقادية فاتهم هذا الاتصال من أَصْله، فلا يَرُوُون حديثاً ولا يذكرون مسألة فقهية عن أحدٍ من أئمتهم إلا مجرَّدَ تقليد لواحد أو اثنين، وأما لو طلبت منه اتصالاً بسند معروف أو طريق موصوف لم يستطع لذلك سبيلاً، ولم يجد بُداً من أن يَكِلَ أَمَرَهُ إلى تقليد لا ثقة به ولا يُعَوَّلُ عليه تعويلاً.
[ في أهمية الإسناد ]
ينبغي لك أن لا تَملَّ من كثرة هذه الأسانيد وتكرير بعضها؛ فإنّ في ذلك من الفوائد الدينية والمعاني الإيقانية ما يظهَرُ لك بتأملها، ويتحقق عندك مُفَصَّلُها مُجْمَلِها، ولقد بالغ بعضُ أئمتنا المتأخرين كالتاج السُّبكي في الحطّ على أهل عصره؛ لكونهم أعرضوا عن الحديث ومتعلقاته، فقال ما حاصله: «رفضوا علم الحديث بالكلية فضلاً عن جَمْعِهِ بأسانيده الكثيرة المتباينة، ونَقَضُوا قواعد الأئمة الذين قال منهم سفيان الثَّوْرِي رَضِيَ الله عنه: «الإِسنادُ زَيْنُ الحديث، فمَنْ اعتَنَى به فهو السعيد». ودَحَضُوا قول عبد الله بن المبارك: الإسنادُ الدين كلُّه». وقول الثوري قبله: «الإسناد سلاح المؤمن». وقول أحمد بن حنبل بعده: «طَلَبُ علوّ الإسناد من الدين». فباءوا بإِثْم عظيم وعذاب شديد، ولم يدروا أن الكلام الحق والإخبار الصِّدْقَ والعِلْمَ الظاهر واللفظ المختَصَرَ الجامع لغُرَرِ المآثر هو قول ابن المبارك: «لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء»» انتهى
وسبُهُ أَنّ الوَضَاعين لما كَثُرُوا كثرةً لا نهاية لها، وتَقَوَّلُوا على الشريعة الغَرَّاء بما كاد أن يَهْدِمَ سورَها المنيع، وأن يتطرق المبتدعة والملحدون إلى تغيير رسومها، وإبطال حدودها، وإلحاقها ببقية الملل في تحريف علمائها لها ، حتى صارت لا يُوثَقُ بكلمة منها؛ قيضَ الله أئمة الحديث فبالغوا في تسفيه أحوالِهِم، وبَيانِ كَذِبِهم في أفعالهم وأقوالهم، وأنهم ممن اسْتَهْوَتْهم الشياطينُ فباءوا باللعنة الدائمة النزول إلى أسفل السافلين. فلهذا اتَّضَحَ أن معرفة الأسانيد، وسوقها في الكتب؛ من أعظم ما به حُفِظَتْ هذه الشريعةُ الغَرَّاءُ، الواضحة البيضاء، عن التغيير والتبديل، والتحريف والتعطيل.
فعليك بجمع الأسانيد على قواعد أهلها، واصْرِفْ بقيةَ عُمْرِك إلى ضَبْطِها وتَحْرِيرِها، ومعرفة سليمها من سَقِيمِها؛ لتأمَنَ كيد الحاسدين، وإضلال الوَضَّاعِين، وإلحاد الملحدين.
وما أَحْسَنَ قول بعض الأئمة الذين أَعْظَمَ الله بهم على هذه الأمة النعمة: «مَثَلُ الذي يَطْلُبُ دينَهُ بلا إسنادٍ مَثَلُ الذي يَرْتَقِي السطح بلا سُلَّم، فأَنَّى يَبْلُغُه». وقال الأَوْزَاعي: إذا ذَهَبَ الإِسنادُ ذهب العلم». وقال يزيد بن زُرَيْع: «لكل دينِ فُرْسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد». فرضي الله عنهم.
ومن العجيبِ الدَّالّ على سُوء الفهم وقِلَّةِ العقل؛ قوم أفضى بهم الجهل ومزيد التساهل والإعراض عن الأدلة الشرعية والقواعد الدينية إلى أنه ينبغي طيُّ بِساطِ الأسانيد رأساً ، وإلى أنّ الإكثار منها جهالةً ووُسْواس. تالله لقدِ افْتَرَوا على الدِّين وضَلُّوا، وحَسِبوا أنهم أَحْسَنوا صُنْعاً فَخَسروا فيها رَأَوْا وعملوا.
[ فائدة مهمة في أقاليم انتشار أصحابنا الشافعية ]
وهي: أنه ينبغي لك أَنْ تَعْلَمَ أن أصحاب الشافعي، والمراد بهم هنا أئمة أهل مذهبه تفرقوا فِرَقاً بسبب تَفَرُّق بلدانهم ومحالهم:
فمنهم أصحابنا بالعراق كبغداد وما والاها من البلاد التي حواليها ممن الغالب على مثلهم أنهم يدخلونها، وإنما كانت بغداد هي أجل مدن العراقيين؛ لأنها هي محل العلماء إذ ذاك ودارُ الدنيا وخلاصةُ الرَّبْعُ العامِرُ ومركز الخلافة، وقد ألف الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخها وتراجمِ مَن دَخَلها كتاباً حافلاً، وهو من أجل الكتب وأَعْوَدِها فائدة، ثم ذَيَّل عليه تاجُ الإسلام السَّمعاني، ثمّ ذيل بعضُ الحفاظ على ابن السَّمعاني، وذَيَّل الحافظ ابنُ النَّجار على الخطيب، فَجَمَعَ فَأَوْعَى.
ومنهم أصحابنا بنَيْسَابُور، وقد كانت -أعني نيسابور -من أجل البلاد وأعظمها لم يكن بعد بغداد مدينة تُدانيها فضلاً عن أن تُساوِيَها، وقد عمل لها الحافظ أبو عبد الله الحاكم «تاريخاً». قال التاجُ السُّبكي: «هو عندي سيد التواريخ؛ لأنّ بغداد وإن تأخَّرَتْ في الوجود عن نَيْسابور، إلّا أنّ علماءها أقدم؛ لأنها كانت دار العلم وبيت الرسالة». وذَيَّلَ على تاريخ الحاكم الإمام البليغ عبدُ الغَفَّار الفارسي
ومنهم أصحابنا الخراسانيون، وهم أعمُّ من النَّيْسابُورِيَّين؛ إذ كلُّ نَيْسابُوري خُراساني، ولا عكس. وليس الخراسانيون مع نيسابور كالعراقيين مع بغداد، فثَمَّ جمع يفوقون عددَ الحَصا من خُراسان لم يدخلوا نَيْسابور، بخلاف العراقيين؛ لاتساع بلاد خُراسان وكثرة المدن العامرة فيها والعلماء بنواحيها؛ إذ من جملة نواحيها بل خُلاصَتُها مَرُو، وهي المدينة الكبرى، والدار العظمى، ومَرْبع العلماء، ومَرْتَعُ الملوك والوزراء، وقد كانت دار الملك الجماعة من سلاطين السَّلْجُوقية ذوي الأيد والعظمة دهراً طويلاً.
وخُراسان عمدتها مدائن أربعة، كأنها هي قوائمها المبنية عليها، وهي: (مرو، ونَيْسابُور، وبَلْخ، وهَرَاة) هذه مُدُنُها العِظام، ولا ملامَ عليك لو قلت: هي مدن الإسلام؛ إذ هي كانت دِيارَ العِلْمِ على اختلاف فُنُونه، والملكِ والوزارة على عَظَمَتِها إذ ذاك. ومرو هي واسطة العقد، وخلاصة النقد، وكفاك قول أصحابنا تارةً: (قال الخراسانيون). وتارةً: (قال المَرَاوِزَة). وهما عبارتان عندهم عن شيء واحد، والخراسانيون نصفُ المذهَب، فكانت مَرْو في الحقيقة نصف المذهب، وإنما عبّروا بالمراوزة عن الخراسانيين جميعاً؛ لأنّ أكثرهم من مرو وما والاها، وكفاك بأبي زَيْد المَرْوَزِي وتلميذهِ القَفَّال الصَّغير، ومن نَبَعَ من شعابهما، وخرج من بابهما.
ومنهم أهل الشام ومصر: وهذان الإقليمان وما معهما من عَيْذَاب ـ وهي الصعيد - إلى العِراق مركز مُلك الشافعية منذ ظهر مذهب الشافعي، اليد العليا لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم.
[ اختصاص الشافعية بقضاء مصر والشام لدهور ]
ومنذ اشتهر مذهبه لم يُوَلَّ أحدٌ قضاء الديار المصرية إلا على مذهبه، إلا ما كان القاضي بكار المجمع على ولايته وإمامته.
ولم يُوَلَّ في الشام قاض إلا على مذهب الشافعي، إلّا رجلاً يُسمَّى البَلاساغُوني؛ فإنه ولي دمشق وأساء السيرة فيها جداً، ثم أراد أن يُوَلِّي في جامع بن أمية إماماً حنفياً مع أنه منذُ ظَهَر مذهب الشافعيّ رَضِيَ الله عنه لم يَؤُمَ فِيهِ إِلَّا شافعي، ولا رَقَى مِنبرَهُ إِلا شافعي، ولكون هذا الجامع لم تُعْهَد فيه إمامة حنفي لما أراد ذلك القاضي توليةَ حنفي إماماً أَغْلَقَ أهل دمشق الجامع ولم يمكنُوهُ إلى أن عُزل، واستمرت دمشق على عادتها لا يليها إلّا شافعي إلى زمان الظاهر بيبرس التركي في القرن السابع؛ فإنه ضم إلى القاضي الشافعي قُضاة ثلاثةً من المذاهب الثلاثة، وخَصَّ الشافعي بأمورٍ عِظام لم يجعل للبقية التكلم فيها.
وقبل ظهور مذهب الشافعي بدمشق كان لا يلي بها قضاءً ولا إمامةً ولا خطابةً إلَّا مَن مذهبه مذهب الإمام الكبير الأَوْزَاعي، وقبل ظهور مذهب الشافعي بالديار المصرية لم يكن يلي قضاء أو خطابةً إلّا مالكي.
وأما بلاد الحجاز فلم تَبْرَحْ أيضاً منذ ظهور مذهب الشافعي وإلى هذه الأزمنة المتأخرة في أيدي الشافعية القضاء والخطابة والإمامة بمكة والمدينة.
قال التاج السبكي بعد ذكره جميع ذلك: والناسُ منذُ خمسمئة وثلاثة وستين سنةً يخطبون في مسجد رسول الله ﷺ ويُصَلُّون على مذهب ابن عمه محمد بن إِدْرِيس، يَقْتُتُونَ في الفَجْر ، ويجهرون بالبسملة، ويُفردون الإقامة إلى غير ذلك، وهو ﷺ حاضر يُبْصِرُ ويَسْمَع، وفي ذلك أوضح دليل على أنّ هذا المذهب صوابٌ عند الله تعالى.
ومنهم أصحابنا أهلُ اليَمَن والغالب عليهم الشافعية، لا يوجد غير شافعي إلا أن يكون زَيْدِياً، لكنَّ الزَّيْدِيةَ قليلون جداً بالنسبة للشافعية.
وفي قوله: «الإيمان يمان، والحكمة يمانية». مع اقتصار أهل اليمن على مذهب الشافعي دليل واضح على حَقِّية هذا المذهب المُطَّلِبي. ويؤيد ذلك قوله: «إذا اجتمعت جماعات في بعضها قريش، فالحق مع قريش، وهي مع الحق». والشافعية جماعةٌ في بعضها قريش، وهو إمامهم المُطَّلِبِيُّ المشار إليه بقوله: «عالم قريش يملأُ الأرضَ عِلْماً».
ومنهم أصحابنا أهل فارس: قال الأستاذ أبو منصور من متقدمي الأصحاب: لم يَبْرَحوا، والغالب فيهم الشافعية، وخلافُ الغالب ظاهرية على مذهب داود الظاهري، وهي مدائن كثيرة، قاعدتها شيراز.
قال الأستاذ المذكورُ: ونحو مئة مدينة من بلاد أذربيجان ما وراءها يختصُّ بالشافعية لا يستطيع أحدٌ أن يَذْكُرَ فيها غير مذهب الشافعيٌّ رَضِيَ الله عنه. ومنهم خلائق من بلادٍ أُخَرَ من بلاد الشَّرْق على اختلاف أقاليمه واتساع مُدُنِهِ كسَمَرْ قَند و بخاری و شیراز وجُرْجان والرَّي وأَصْبَهان وطُوس وساوَة وهَمَذانِ ودَامِغَان وزَنْجان وبِسْطام وتبريز وبَيْهَق ومِيهَنَة، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر إلى أطراف الصين وعِراق العَجَم وخُراسان وأذربيجان وماران وخُوارِزْم وكرمان إلى بلاد الهند، وجميع ما وراء النهر إلى أطراف الصين وعراق العَجَم وعِراق العرب وغير ذلك.
[ ظهور چنگیز خان ]
ثم تلاه بَنُوهُ وذَوُوهُ، وأكَّدوا فعله القبيح وزادوا عليه، إلى أن وَصَلَ الحال إلى ما لا يقوم بشرحه المقال.
وكلُّ هذه كانت تحتوي على مَدَائِنَ فيها الشافعيةُ تَقَرُّ بها العَيْن، ويَنْشِرِحُ بها الصَّدْر، إلى أنْ قَدَّرَ الله تعالى - وله الحمد على ما قَضَاهُ - خروج جِنْكِزْخان فَأَهْلَكَ البلاد والعباد، ووضع السَّيف، واستباح الدماء والفروج، وخَرَّب العامر.
واسْتُبيحَ حَمَى الخلافة، وأُخِذَت بغداد على يَدِ هولاكو ابنِ ابنه، وقتل الخليفة، ورُفِعَ الصَّليب، وفعلوا ما ذكروا أنهم إنما خَرَجوا من بلادهم لهلاكة العالم حتى لا يُبقوا على ظهر الأرض غيرهم، فأبادوا من الناس والبلاد العامرة ما كادوا أن يصلوا به إلى ما قصدوه؛ ولذلك أَجْمَعَ الناسُ على أنه لم توجد فتنةٌ من يوم خلق الله السموات والأرض إلى قيامهما أعظم من فتنة التّتار (٥) هؤلاء وأتباعهم.
وكان ظهورهم سنةَ ستَ عشرة وستمئة، وما فعله بُخْت نَصَّرِ بِبَني إسرائيل وتخريبه لبيت المقدس يَقْصُرُ عن مثلها بمراتب، وكذلك الدَّجال؛ فإنه لم يقتلُ إِلَّا مَن خالفه، وأولئك يقتلون من وافقهم أيضاً والصغار، ويَشُقُون بطونَ الحوامل، ويَرُصُّون الأطفال ثم يَدُوسُونَهم بخيلهم إلى أن يذهبوا في حَوَافِرِ الخيل عَيْناً وأَثَراً، نعم يأجوج ومأجوج يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ في أي الفريقين أعظم.
تنبيه [ ترجمة الإمام أبي حنيفة ومناقبه ]
نذكر فيه ترجمةً مختصرة للإمام أبي حنيفة؛ لأن ذلك عَقِبَ ذِكْرِ كلِّ من الأئمة المشهورين متعين؛ لأنه يعزُّ معرفةُ تراجم كثيرين من المشهورين، ومن ثَمَّ قال شيخُنا الحافظ السيوطي في شَيْخه وشَيْخ المصريين كافةً وغيرهم الكافيجي: «ولا يَحْضُرُني اتصال سندِ شيخنا هذا بسند سلسلتِنا في النحو؛ فإنَّ أشياخه وأشياخهم من علماء الرُّوم والعجم، ولم نَقِفُ على سِلْسِلَتهم».
فأبو حنيفة هو النعمان بن ثابت الكوفي، قال حفيدُهُ عمرُ بن وَلَدِهِ حَمَّادٌ: وُلِدَ ثابت على الإسلام، واختلف في أبي أبيه ثابت؛ فقال عمر هذا: إنه كان مملوكاً لبني تميم فأَعْتَقُوه، وصار ولاؤُه لهم. وخالَفَهُ أخوه إسماعيل بن حَمَّادٍ فَحَلَفَ أن آباء أبي حنيفة كانوا أحراراً، وأنه لم يَمَسَّهم رِقٌ قط.
وُلِدَ أبو حنيفة سنة ثمانين، وذُهِبَ بثابِتِ أبيه إلى علي -كرم الله وجهه -وهو صغير فدعا له بالبركة وفي ذُرِّيته، فكان هذا الإمامُ من آثار تلك الدعوة، وناهيك بذلك شرفاً له رَضِيَ الله عنه، ومن ثَمَّ قدَّمه الله تعالى على أئمة عصره الذي هو عَصْرُ التابعين؛ فإنه من أوساطهم، ولم يُظهِر الله لأحدٍ منهم من الأتباع والشهرة والتقدم ما أظهر له.
أخذ الفقه عن حماد بن أبي سُليمان، وأدرك أربعة من الصحابة، بل ثمانية، منهم: أنس وعبد الله بن أَوْفَى وسهل بن سعد وأبو الطفيل، لكن قيل: أَدْرَكَهم ولم يَلْقَ أحداً منهم. وقد حَرَّرْتُ ما في ذلك في تأليفي المستقل في مناقبه، والحامل لي عليه.
[ ذِكْرُ شيوخ الإمام أبي حنيفة وكتابِ المُصَنِّف في مناقبه ]
أن شخصاً معتزلياً اسمُهُ محمود الغزالي أَفْرَطَ في الحط على أبي حنيفة وتنقيصه وسَبِّه وتَضليله وتجهيله، فاطَّلَعَ على ذلك بعضُ أئمة الحنفية وهو الشَّمسُ الكَرْدَريُّ -بفتح الكاف - فقابل هذا الذي فعله هذا المعتزلي في أبي حنيفة بفعل مثلِهِ في الشافعي، فبالَغَ في الحطّ على الشافعيّ رَضِيَ الله عنه، وأطال بما كان يتعين عليه أن لا يتفوه بكلمة منه، وأن يشَبَّتَ في محمود هذا؛ فإنه غفل غفلةً كبيرة؛ فإنَّ الغزالي الشافعي حجة الإسلام من أشهر الأئمة، واسمه محمد، ولم يقل أحدٌ قطُّ أنَّ اسمه محمود، لكنَّ محبةَ المبادرة إلى التعصب في الخوض في سب الأئمة بمجرَّد الوَهْم داءً عُضال عزَّ أَن يَسْلَمَ منه إِلَّا الموفّقون.
فلما رأيتُ ذلك الذي سَوَّدَ به هذا الحنفي صحيفته عند الله تعالى؛ بادرت إلى رده، وإلى بيان أن الغزالي بريء مما وقع فيه محمود هذا المعتزلي في حق أبي حنيفة، وأن الغزالي في «الإحياء» تَرْجَمَ أبا حنيفة ترجمة جليلة جداً.
نعم، وَقَعَ منه في بعض كتبه في الأصول الإنكار، وأجاب عنه بعضُ المحققين: بأن هذا الإنكار كان منه وهو مشغوفٌ بعلم الجدل وما يتعلق به، وأما ما في «الإحياء» فهو حين إذْ تاب من تلك العلوم، ورَجَعَ إلى كمال التحلّي بالمعارف والعلوم النافعة والأخلاق الكريمة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإقبال على إرشاد الحائرين وتسليك المريدين، فحينئذ تَرْجَمَ أبا حنيفة بما هو اللائق بما كان أبو حنيفة عليه، وما استقر أمرُ الغزالي إليه حال هذه الترجمة. وهذا كلام حقٌّ لا مزية في صدقه، ولاريب في ثبوته، فالغزالي حجةُ الإسلام من أكبر المعتقدين في دون أبي حنيفة، فكيف به رَضِيَ الله عنه ؟!
اعتراض الأئمة على بَعْضِهم لا يدلُّ على التَّنْقِيص على أنّ اعتراض بعض العلماء على بعضهم لا يدلُّ على تنقيص و غضّ من مَنْصِب المعترض عليه، وإنما قصدهم بذلك بيانُ وجه الصواب الله لا لعلَّة أصلاً، ومن ثَمَّ قال بعضُ أكابر أئمتنا كالإمام أبي القاسم الرافعي رحمه الله: من لُطْفِ الله بهذه الأمة وما خَصَّها الله به من الكمالات أن علماءها لا يسكُتُ بعضُهم على غلط غيره، ولا على بيان حاله وإن كان المعترَضُ عليه والداً فَضْلاً عن غيره، أَلا تَرَى إلى قول إمام الحرمين في حق والده الشيخ أبي محمد الجويني الذي قال الأئمة في ترجمته: «لو جاز أن يَبْعَثَ الله نبياً في زمن أبي محمد الجويني لكان أبو محمد الجويني هو ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم. فإنه كان على طريقة من الزهد والورع والاجتهاد في الطاعة والتخلّي عن الأغراض الدنيوية وغير ذلك من الكمالات التي لم يدركها أهل عصره، ومن جملة ما جاء عنه أنه كان يُحيي الليل كله فإذا طلع الفجرُ قال اللَّهمَّ) هذا بهذا، لا لي ولا عَلَيَّ؛ فتأمَّل هذا التَّبَرِّيَ من الحظوظ النَّفْسانية، والنظر إلى الأعمال وصُوَرِها وإن جَلَّت وكثرت.
وبهذا الذي أَتْحَفَ الله به هذه الأمة من عدم سكوت أحدٍ منهم على خَلَّةٍ رآها في غيره حَفِظَ الله هذه الشريعة من التغيير والتبديل، وكانت معصومةً عن الخطأ، وكان إجماعها حجةً قطيعة لا يتطرق إليه رِيبَةٌ ولا شَكٍّ بِوَجْهِ من الوجوه.
بخلاف غيرها من الأُمم؛ فإنهم تمالؤوا وتطابقوا على أن بعض علمائهم لا يُنْكِرُ على بعض، وأن كلَّ مَن كَتَمَ شيئاً من الأمور الشرعية التي جاءت إليهم بها رُسُلُهم وأنبياؤُهم، أو غَيَّرَهُ وبَدَّلَه، أو أخذ عليه رشوةً من ضعفائهم وأتباعهم؛ لا يَتَعَرَّضُ أحدٌ من بقية علمائهم إليه، فلما تطابقوا على ذلك تغيَّرت مِلَلُهم وبُدِّلَتْ شرائعُهم، ومَسَخَهم الله قردة وخنازير، وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بأشد الغضب وأقبح المقت، لا سيّما اليهود، ولذا لم تقم لهم شوكةٌ قطُّ في زمن من الأزمان الماضية وإلى قيام الساعة.
فتأمل ذلك كله؛ فإنه نفيس مهم، وبهذا يسهل عندك ما يقع بين علماء هذه الأمة من الاعتراض والتغليطات والتجريحات كـ فلان) فاسق، فلان مبتدع، فلان كذَّاب) ونحو ذلك مما هو مُتَحَتُمُ (۱) الوجوب كما هو مقرر في محله.
[ زُهْدُ الإمام أبي حنيفةً ووَرَعُه ]
كان أبو حنيفة رَضِيَ الله عنه عظيمَ الزُّهدِ والوَرَع، عُرِضَتْ عليه الدنيا بحذافيرها؛ ولاية بيت المال والقضاء، قالوا له المرة بعد المرة: إما أن تَقْبَلَ، وإما أن نضربَكَ مئة سوط أو أكثر، فاختار عذابهم على عذاب الله تعالى، وسَخَطَهم على سَخَط الله تعالى؛ لأنهم ضربوه وكرّروا عليه الضرب ليقبل، وهو لا يزداد إلّا إعراضاً ويغلظ عليهم في الجواب، حتى أنه قال للخليفة المنصور وقد قال له اقبل مني ولاية القضاء): لا أصلح له. فقال له الخليفة: كذبت. فقال له: لقد قَضَيْتَ على نفسك؛ لأني إِن صَدَقْتُ فَأَنا كذَّاب، وإن كَذَبْتُ فكيف تُوليني؟! فسكت المنصور، لكنه كان في نفسه منه؛ لأنه رُميَ عنده بأنه أَفْتَى العَلَوِيَّين بجواز الخروج عليه لظُلْمِهِ، فَتَعَلَّل بما ذُكِر، ثم حَبَسَه وأَمَر بأن يُكَرَّرَ عليه الضرب إلى أن مات شهيداً في الحَبْس.
[ من كرامات الإمام أبي حنيفة ]
ومن كراماته: أنهم أَخْفَوْا موتَه لِعِلم الناسِ كلّهم بأنه مظلوم، فأَذِنَ الله تعالى لمن أذاع موته ممن لا يعرف، فَلَهَجَ الناسُ عقب موته به من غير أن يعلموا مخبراً به، فاجتمع أهل بغداد للصلاة عليه فجُهّز وصلوا عليه، فكان له مشهَدٌ مَهولٌ؛ كثرةً وحُزْناً وبكاء وأسفاً من الناس عليه.
ومنها: أنه قال لولده حماد قبيل موته: إذا مت فأَخْفِ قبري. فأظهر قبراً ودفنه فيه، ثم نَقَلَهُ عنه في تلك الليلة إلى قبر آخر لم يُعْرَف، فبعد مدةٍ أمرَ بعضُ الظلمة بنَبْش قبره، فنبشوه فلم يجدوه. قال بعضهم: والظاهر أن أبا حنيفة لم يقصد الاختراز عن أولئك فقط، بل أَطْلَعَهُ أيضاً على ما وَقَعَ في هذه الأزمنة المتأخرة أن المبتدعة نَبَشُوا قبرَهُ ليخرجوه ويحرقوا عظامه كما فعلوا ذلك بكثير من أئمة السُّنة، فلم يجدوه رَضِيَ الله عنه. وكان أحمد بن حنبل إذا ذَكَرَ محنة أبي حنيفة وضربه على القضاء وامتناعه منه بالَغَ فِي التَّرَحم والبكاء عليه.
[ مكانته في العلم والفقه ]
وقال له المنصور: عمَّن أخذْتَ العلم؟ فذَكَرَ له مشايخه من التابعين ومشايخه من الصحابة، فقال: بخ بخ استوفيت؛ أي: الكمال كله.
ويكفيه فخراً قولُ الفُضَيل بن عياض في حقه: «كان أبو حنيفة فقيهاً معروفاً بالفقه، مشهوراً بالورع واسع العلم، معروفاً بالإفضال ـ أي: الإنفاق لاسيما على طلبة العلم، صبوراً على تعليم العلم ليلاً ونهاراً، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد عليه مسألة في حلال أو حرام».
ولما جاء لسفيان التَّوْري ليُعَزّيَهُ بأخيه قام وأجلَسَه محله، وجلس بين يديه، فقيل لسفيان: لم هذا؟ فقال: لأنه من العِلْم بمكان، فقُمْتُ لِعِلْمِهِ وَسِنَّهُ وفِقْهه ووَرَعِه. وما أحسن قولَ النَّضْر بن شُمَيْل في حقه : كان الناس نياماً عن الفقه حتى أَيْقَظَهم أبو حنيفة بما فَتَقَهُ وبَيَّنه».
وهذا هو تفسير المنام الذي رآه، وهو أنه نَبش قبر النبي ﷺ وأخرج عَظْمَه، فهالَهُ ذلك، فأَرْسَلَ لابن سيرين مَن يسأله عن ذلك ولا يُعْلِمُه بالرَّائي، فامتنع، فكَرَّرَ عليه وهو يَمْتَنِع، حتى ذَهَب إليه وأخبَرَهُ أنه الرَّائي، فقال له : تَشُورُ علما لم يَسْبِقُك أحدٌ إليه.
وقال الشافعيٌّ رَضِيَ الله عنه: الناسُ عِيال على أبي حنيفة في الفقه». وفي رواية: مَن أراد أن يَتَبَجَّرَ في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة». انتهى.
[ عبادته ]
ولقد أحيى الليل كلَّه بِضْعاً وأربعين سنةً يصلي الصبح بوضوء العشاء، ويُحيي الليل كله بصلاة ركعة أو ركعتين يقرأُ فيها أو فيهما القرآن كله، وناهيك بهذا الاجتهاد الذي لم يُسْمَعْ مثله عن مثلِهِ رَضِيَ الله عنه.
ولقد قال له مُغَسْلُهُ: غَفَرَ الله لك لم تُفْطِر منذُ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة، ولقد أتعبت من بعدك. وربما كان يُحيي الليل كله بالآيه الواحدة يُكَرِّرُها إلى الفجر. وبالغ في زَجْرِ نفسِهِ عن الحلف بالله في لغو اليمين، حتى نَذَرَ أَنه إِن فَعَلَ ذلك تصدق بدينار، فكان إذا فعله تصدق بدينار.
[ بالغ كرمه ]
وكان إذا أَنْفَقَ على عياله نفقةً تصدق بمثلها، وإذا أَكْسى نفسَه ثوباً جعل مثله لكل من علماء بلده، وكان ثوبه نفيساً جداً بحيث يُساوي أربعمئة. وكان يرسل الأموال الكثيرة للتجارة فيها، ويجمع بربحها من الحول إلى الحول، ثم يَصْرِفُهُ في حاجات العلماء، لا سيّما المحدثين، ثم يُبقي دنانير كثيرةً فيُفَرِّقها عليهم، ويقول لهم: «لا تحمدوا إلّا الله؛ فإن ذلك ليس بحَوْلي ولا بقُوَّتي، وإنما هو رِزْقٌ أجراه الله لكم على يدي».
قال ابن المبارك: «ما سمعته يغتاب أحداً قط».
ولد سنة ثمانين من الهجرة، وتوفي ببغداد سنة خمسين على المشهور، وهي سَنةُ مولد الشافعي رَضِيَ الله عنهما.
ومن كراماته: أنه قال لأبي يوسف لما انْتَزَعَهُ مِن أُمِّهِ لِيُثْمِهِ وفَقْرِهِ: «كيف بِكَ وأنتَ تأكل الفالوذَجَ في صحون الفَيْرُوزج». فلما تُوُفِّي ووَصَلَ أبو يوسف عند الرشيد إلى منزلة لم يصل إليها نظراؤه، دعاه يوماً في خلوة وأخرج له كذلك، فضحك أبو يوسف، فعَجِبَ منه الرَّشيدُ فسأله ما سببُ ضَحِكِكَ؟ فَتَرَحْمَ على أبي حنيفة وقَصَّ له القصّة.
فائدة مهمة مالك.
في تحرير اسم يحيى بن يحيى راوي «الموطأ» روى الموطأ». عن مالك اثنان، كلُّ منهما يُسَمَّى يحيى بن يحيى؛ أحدهما هذا، وهو صاحب الرواية المشهورة الآن، وهو أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي، مات في رجب سنة أربع وثلاثين ومئتين، ولا رواية له في شيء من الكتب الستة «الصحيحين والأربعة، ويقع في بعض الكتب ما يوهم الاختلاف في بعض نَسَبِه، والذي في الكتب المعتمدة: أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى، ثلاثاً، أخبرنا به عم أبي، أبو مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى، حدثنا به أبي يحيى بن يحيى، حدثنا به مالك.
والآخر أبو زكريا يحيى بن يحيى التَّمِيمِيُّ الحَنْظَلَيُّ النَّيْسابوري، مات في صفر سنة ست وعشرين ومئتين، روى عنه البخاري ومسلم في صحيحهما».
ومَن لا خبرة له بفَنَّ الحديث ومعرفة رجاله يلتبس عليه أحد هذين بالآخر، فتَنَبَّة لذلك، واستفد الفرق بينهما نَسَباً ووفاةً وروايةً وغيرها.
تنبيهٌ [ترجمة الإمام مالك ومناقبه]
عن مالك رَضِيَ الله عنه هو ابنُ أنس الأَصْبَحيُّ، إمام دار الهجرة، أخذ خلائق من التابعين، وأخذ عنه خلائق لا يُحْصَوْن، وأجمع طوائف العلماء على إمامته وجلالته والإذعان له في حفظ الحديث والتثبت فيه، وتعظيمه وإجلاله وتوقيره لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البخاري وغيرُهُ: «أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر رَضِيَ الله عنهما». انتهى.
وأصح الأسانيد عنه الشافعي؛ إذ هو أجلُّ أصحابه على الإطلاق بإجماع أئمة الحديث، ومن ثَمَّ قال أحمد: «سمعتُ «الموطأ» من سبعةَ عَشَرَ رجلاً من حفاظ أصحاب مالك، ثم أعدته على الشافعيّ؛ لأني وجدته أقومهم به.
وأصح الأسانيد عن الشافعي أحمد، قال الشافعي: «خرجتُ من بغداد وما خَلَّفْتُ فيها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد. ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذه السلسلة قيل لها سلسلة الذهب.
ومن جُملة مَدْح الشافعي لمالك قوله: «إذا جاء الأثر فمالك النجم». وقال مرة: إذا جاء الحديث عن مالك فاشْدُدْ به يدَيْك؛ فإنه كان حجةَ الله على خلقه بعد التابعين». وما أحدٌ أَمَنْ عليَّ من مالك». وهو وابنُ عُيَنةَ القَرِينانِ ولولاهما لذهَبَ علمُ الحجاز». و«مالك مُعَلِّمي، وعنه أَخَذْنَا العِلْم».
قال حَرْمَلة: «لم يكن الشافعي يقدِّمُ على مالك أحداً في الحديث». وقال وَهْبُ ابن خالد: «ما بين المشرق والمغرب رجلٌ آمَن على حديث رسول الله ﷺ من مالك». ومن أعظم غُرَرِ فضائله قوله لا الله في الحديث الصحيح: «يُوشِكُ أَن تُضَرَبَ أكباد الإبل ـ وفي رواية آباط المطي - يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة». قال ابن عيينة وغيره: «هذا الرجل هو مالك».
قال بكر بن عبد الله: «أَكْثَرَ علينا مالك من حديث شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فسألناه عنه، فقال: ها هو نائم في ذلك الطاق. فأتيناهُ فَنَبَّهناه، فقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم. فقلنا له: كيف حَظِي بك مالك ولم تَحْظَ أنت بنفسك؟! قال: ما علمتُم أنّ حملاً من دولة خير من حمل علم».
وقال الشافعيُّ رَضِيَ الله عنه: رأيتُ على باب مالكِ كُراعاً (٤) من أفراس خُراسان وبغال مصر، ما رأيتُ أحسن منه، فقلت ما أحسنه! فقال: هدية مني إليك يا أبا عبد الله؛ فقلتُ: دَع لنفسك منها دابةً تركبها . فقال : أنا أَسْتَحْيِي من الله أن أَطَأَ تربةً فيها رسول الله ﷺ بحافِرِ دابة».
وسأله الرشيدُ أنْ يأتي ليقْرَأُ أولاده عليه الموطأ» فامتنع؛ تعظيماً للعلم، وأنه يُؤْتَى إليه ولا يأتي، فطاوعه وأمرهم أن يخرجوا إلى المسجد ويسمعوا مع الناس.
وحاوله على أن يخرج معه ويحمل الناس على «الموطأ» فامتنع وقال: لا سبيل لذلك؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ تفرّقوا بعده في الأمصار فحدَّثُوا، فعند أهل كلّ مضرِ عِلم، وقد قال : «اختلاف أمتي رحمة». ثمّ قال: «وأما مفارقة بلد رسول الله ﷺ فلا سبيل إليها؛ لقوله : والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وهذه دراهمكم - أي: وهي ثلاثة آلاف دينار أعطاها له ليشتري له بها داراً ـ فإن شئتُم فخذوها.
وصح عن الشافعي: «ما في الأرض من كتاب من كتب العلم أكثر صواباً من «الموطأ»». قال الأئمة: إنما قال الشافعي ذلك قبل وجود «الصحيحين»، وإلا فهما أصح منه، بل مما عدا القرآن اتفاقاً.
وأُرْسِلَ إليه من مسيرة سنة رجلٌ ليسأله عن مسألة، فقال: لا أُحْسِنُ فيها شيئاً. فقال: ما أقول لهم. قال: قُل لهم قال مالك: لا أُحْسِنُ فيها شيئاً. أَخَذَ من التابعين عن ثلاثمئة، ومن تابعي التابعين عن أربعمئة.
ورأى ابن كثير النبي ﷺ والناس يسألونه، فقال لهم: إني كَنَزْتُ تحت المنبر كَنزاً كبيراً، وقد أَمَرْتُ مالكاً أن يقسمه فيكم، فاذهبوا إليه. وراه رجل آخر فقال: يا رسول الله، مالِكٌ والليثُ مختلفان في مسألة؟ فقال: مالك مالك مالكٌ وَرِثَ جَدِّي ـ يعني: إبراهيم -توفي رَضِيَ الله عنه سنة تسع - بتقديم التاء - وقيل: ثمان وسبعين ومئة، في صفر أو شهر ربيع الأول. ووُلِدَ في شهر ربيع الأول سنةَ ثلاث ومائة على الأشهر، ومَكَثَ ببطن أمه ثلاث سنين، وقيل أكثر. ورَأَتْ عمةُ الشافعي ليلة موته قائلاً يقول: مات الليلة أعلمُ الأرض.
فائدتان في مسند الشافعي
أحداهما قال الحافظ ابن حجر: «هذا المسند» عبارة عن الأحاديث التي وقعت في مسموع الأصم . الأصم على الرّبيع من كتاب «الأم» و «المبسوط»، التقطها أبو عمرو ابن جعفر بن مَطَر من الأبواب.
ثانيتهما: قال الحافظ سراج الدين القَزْوِينيُّ في «فهرسته»: «جميع كتب الإمام الشافعي التي رواها الأَصَمُّ عن الربيع عنه؛ أرويها عن الفخر بن البخاري إجازة، عن أبي المكارم بن اللبان إجازة، عن أبي علي الحداد كذلك، عن الحافظ أبي نُعيم الأَصْبَهَانِي كذلك، عن الأَصم، عن الربيع، عن الشافعي.
قال شيخنا السيوطي: هكذا ذَكَر وهو القدوة في ذلك، وقد تقدم إسنادي إلى الفخر البخاري أيضاً، فنَرْوي به جميع الكتب المذكورة، ونُغلي به إسناد «المسند» السابق فيعلو درجةً أخرى»
تنبيه [ ترجمة الإمام الشافعي ومناقبه]
الشافعيُّ -رَضِيَ الله عنه -هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن شافع بن السائب بن عُبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قُصَي القُرَشِيُّ المطَّلِبِيُّ الشافعي الحِجازِيُّ المَكِّيّ ، ابنُ عَمَّ رسول الله ﷺ يَلْتقي معه في عبد مناف.
أَفْرَدَ الائمة ترجمته بالتأليف، فزادَت المؤلفات على أربعين تأليفاً، لكن في كثير منها شيء كثير من الموضوع المفتَرَى، لاسيما تأليفُ الفخر الرازي، بل في تأليف البيهقي مع جلالته في فَنِّ الحديث وتوابعه بعضُ الموضوع، فاحذر ذلك.
وحاصل شيء من ترجمته؛ لضيق المحلّ عن استيعاب مَقْصِد من مقاصدها الكثيرة الواسعة:
إنه قرشيّ مُطَّلِبي إجماعاً، وأمه أَزْدِية، وقد صح في فضائل قريش والأزد أحاديث كثيرة.
ووَرَدَ في حقه قوله: «عالم قريش يَمْلَى طَبَقَ الأرض علماً. طرقه كثيرة متماسكة، فليس بموضوع ولا قريب منه، خلافاً لمن وَهِمَ فيه كما بينه أئمةُ الحديث كأحمد والبيهقي والنووي وغيرهم، وممن حمله على الشافعي أحمد، وتبعه العلماء على ذلك. وَوَجَهوهُ: بأنه لم يظهرُ لِقُرَشِيٌّ من العلوم المدونة المحفوظة المضبوطة المشهورة المتبعة في أقطار الأرض، المكتوبة كما تُكتب المصاحفُ، المتحدث بها في مجالس الحكام والأمراء والفقراء وأهل الآثار؛ ما ظهر له من ذلك.
قال أبو نُعَيم بعد ذِكْرِه نحو هذا: «فهو عالم قريش الأفضلُ الذي دون العلم، وشرح الأصول والفروع، ومهد القواعد».
ومن الأخبار الواردة في الأَزْدِ الذين تقرّر أنّ أمَّه منهم، خبر الترمذي: «الأَزْدُ أُسد الله في الأرض، تريد الناسُ أن تصغرهم ويأبى الله إِلا أَنْ يَرْفَعَهُم، وَلَيَأْتِيَنَّ على الناس زمان يقول الرجل: يا لَيْتَني أَزْدِياً، ويا ليتَ أمِّي كانت أَزْدِية».
[نشأته وطلبه للعلم ورحلاته]
وُلِدَ بغَزَّةَ في سنة خمسين سنة وفاة أبي حنيفة كما مرَّ، بل قيل: يوم موته.
ونشأ يتيماً في حِجْر أمه في ضيق عيش ، بحيث كانت تترك تعليمه؛ لعجزها عن أجرة المعلم. لكنْ أَطْمَهُ الله أنّ ما تعلَّمَه علَّمَهُ بعد ذهاب المعلم لغيره، فرأى المعلم أن نفعه بذلك أكثر من أُجْرَة تعليمِهِ لو أَخَذَها منه، فَأَسْقَطَها عنه(۱)، فاستمرَّ حتى خَتَمَ القرآنَ لسَبْع.
ثمّ حُبِّبَ إليه مجالسة العلماء، فكان يكتُبُ ما استفاده منهم في نحو العظم؛ لعجزه عن الورق.
وآثَرَ الأدب والشعر فكَفَّه الله عن ذلك، فأَسْمَعَهُ صوتاً مِن خَلْفَه بِعَقَبَةِ مِنَى : «عليك بالفقه». وأُلْهِمَ كاتبُ أستاذه مُسلِم الزَّنْجي وقد سَمِعَهُ يتمثلُ ببيتٍ فَقَرعَهُ بسوط، ثمّ قال له: مثلك يُذْهِبُ مروءتَهُ في هذا، أين أنت عن الفقه؟».
وقال له أستاذه مسلِمُ المذكور - وسُمِّيَ زنجياً مع كونه كان في غاية البياض من باب أسماء الأضداد، وكان مسلم هذا شيخَ مكة ومفتيها نظير سفيان بن عيينة شيخ الشافعي أيضاً - : «لقد شَرَّفَكَ الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك فهمك هذا في الفقه فكان أحسن بك». فحينئذٍ جالس الشافعي مسلماً هذا، وأخذ عنه الفقه، وأجازه بالإفتاء وعمره نحو خمس عشرة سنة.
ولما مضى من عمره ثلاثَ عشرة سنةً وقد حفظ «الموطأ» رَحَلَ إلى مالك بالمدينة فلازمه، فبالغ في إكرامه؛ لِنَسَبِه، ولما رآه منه مما ازداد تعجبه منه من الفهم والعلم والأدب والعقل، ومن ثَمّ كان يستزيده من قراءة الموطأ؛ حتى خَتَمَهُ عليه في مدة يسيرة.
وقال له مرة: «اتَّقِ الله؛ فإنه سيكون لك شأن». ومرة: «إنّ الله تعالى قد ألقى عليك نوراً، فلا تُطْفِتْه بمعصية».
واستمرَّ عند مالك إلى أن تُوفّي، فرحل من المدينة وسنه نحو تسع وعشرين سنةً إلى اليمن، وتولى القضاء بها.
ثمّ رَحَلَ إلى العراق فناظر محمد بن الحسن وغيره، ونَشَرَ علم الحديث ومن ثُمَّ سموه ناصر السُّنة، وأصحابه أهل الحديث، وشاع فضله إلى أن ملأ البقاع والأسماع.
[ تصانيفه ]
ودون علم أصول الفقه، ولم يسبقه أحدٌ إلى ذلك، فصَنَّفَ فيه «الرسالة»، فأَجْمَعَ أهل عصره على أنه من الخوارق، ومن ثَمَّ قال المُزَيُّ: «قرآتُه خمسمئة مرة، ما من مرّةٍ إلا واستفدت منه فائدةً جديدة، وأنا أنظرُ فيه خمسين سنة، وما أعلم أني نظرتُ فيه مرةً إلا واستفدت منه شيئاً لم أكنْ عَرفْتُه».
ولَما أذعنَ لفَضْله أهلُ العراق حتى المخالفون؛ لأنه ظهر من فَضْلِه في مناظراته لهم ولغيرهم ما أبهرهم، ولأنه أظهَرَ من مهمات القواعد والأصول ما لم يُسْبَق به،
وامْتُحِنَ في مواطن كثيرة بما لا يُحْصَى فلم يُتَعَقَّبْ له جواب(۱)؛ عَكَفَ عليه للاستفادة أئمة الحديث والفقه وغيرهما، ورَجَع كثير منهم إلى مذهبه كأبي ثور وآخرين، وانقطعوا إليه حين رَأَوْا عنده ما ليس عند غيره.
وبارك الله الكريم له ولهم، بحيث أنه ألف كتبه الجديدة كلها بمصر في أربع سنين، وهذا شيء يُحيّرُ الفكر ؛ فإن سعةَ مذهبه وما اشتمل عليه مما تحيل العادة وجوده في هذه المدة اليسيرة.
وصَنَّفَ في العراق كتابه القديم المسمَّى بـ «الحُجَّة»، ورواه عنه أربعة من أكابر أصحابه العراقيين؛ أحمد بن حنبل وأبو ثور الزَّعْفَرانِيُّ والكَرابِيسي. ثم رَحَلَ منها إلى مكة، ثم عاد إليها في آخر القَرْن، فَامْتُحِنَ مع مَنِ امْتُحِنَ بالقول بخَلْق القرآن، فأَحْسَنَ التخلص منهم بمزيد ذكائه وفهمه.
بادر إلى الرحلة إلى مصر سنة تسع وتسعين ومئة، وصَنَّف كتبه الجديدة بها، ورَجَعَ عن تلك الكتب القديمة، فالإفتاء على الجديد إلّا في قريب من ثلاثين مسألة، فالفتوى فيها على القديم، وهي معروفة في محالها من كتب الفقه.
ومجموع مؤلفاته مئة وثلاثة عشر، وسار ذِكْرُ مؤلفاته الجديدة في شاسع الأقطار فقصده الناس لأجلها، ثمّ قصدوا بعده راويها كما أخبر بذلك قبل موته من جملة ما كوشف به حينئذ، وهو الرَّبيع بن سليمان المُرَادي، حتى اجتمع يوماً على بابه من أهالي الأقاليم الشاسعة تسعمئة راحلة لأخذ مذهب الشافعي وكتبه.
وسبق أنفاً أنه ابتكَرَ أصول الفقه فكان أول من دونه وألف فيه. وهذا لا خلاف فيه.
وابتكر أيضاً من كتب الفقه كتابَ القَسَامة وكتاب الجزية وقتال أهل البَغْي.
[ طرف من أحواله في العِلْمِ والعَمَل ]
ومع رجوعه عن تعلُّم الشِّعْر كما مَرَّ الموافق لقوله:
ولولا الشُّعرُ بالعلماء يُزْرِي .. . لكُنْتُ اليومَ أَشْعَرَ من لَبِيد
كان يَحْفَظُ منه ما يُبْهِرُ العقل من ذلك قوله: «أروى لثلاثمئة شاعر مجنون». أي: فكم العقلاء، وقوله: «أحفظ خمسمئة قصيدة لخمسمئة امرأة».
وكان حُجةٌ في النحو واللغة كما صرح به الأئمة، حتى ابنُ الحاجب في «شافيته»، ومن جملة ثناء محمد بن الحسن عليه: «إنْ تَكَلَّمَ أصحاب الشافعي يوماً فلسان الشافعي». يعني: لما أَوْدَعَهُ في كُتُبه. ومن ثَمّ قال الزَّعْفَرانِي: «كانوا رُقوداً فأَيْقَظَهم». وقال أحمد: «ما مَسَّ أحدٌ محبَرَةٌ إِلَّا وللشافعي في رقبته مِنَّة».
ورُبَّما أُوقدَ له المصباحُ في الليلة ثلاثين مرة؛ ليكتب ما يستنبطه من الأحكام الكثيرة كما يدلُّ عليه قوله: «استظهرتُ الليلةَ القرآن أربعين مرَّة، فاستَنْبَطتُ منه في كل مرة أحكاماً كثيرة». وإنما لم يُبْقِ السِّراجَ دائمَ الوقود قال ابنُ أخته لأُمِّه: «لأنّ الظُّلْمةَ أجلى للقلب».
ومن كمال إخلاصه لله وبَرَاءَتِهِ من نفسه وحَوْله وقُوَّته: أنه كان كما أخبر إذا ناظر أحداً ودَّ أَنَّ الله يُظهِرُ الحَقَّ على يديه، وكان كما أخبر أيضاً: يَوَدُّ أَنَّ الناسَ يأخذون جميع علومه فينتفعون بها ولا يَنْسِبونَ إليه شيئاً منها. وكان يكتب ثلث الليل، ثمّ يُصلي ثلثه، ثم ينام ثلثه. ولعل المراد أن هذا غالب أحواله، حتى لا ينافي ما مرَّ أنه كان يُحيي الليل كله في الاستنباط من القرآن. وكان يختم كلَّ يوم ختمةً. وجَمَعَ الله فيه كل خير كما قاله أحمد.
وقال: ما كذبتُ قط، ولا حَلَفْتُ بالله صادقاً ولا كاذباً، ولي منذ عشرين سنةً ما شبعت.
وله في السَّخاءِ اليدُ الطُّولى قَدِمَ من صَنْعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فما برح من مجلس سلام الناس عليه حتى فَرَّقها كلَّها، وأعطى مَن أصلح له شِسْعَ نَعْلِهِ سبعةَ دنانير، واعْتَذَرَ إِليه بأنه لم يَجِدْ غيرها.
وأقواله في الحكم المتعلقة بالعلم والأخلاق العلية والأحوال السنية، وثناء الأئمة ولا سيّما مشايخه عليه، وتعداد مَن كانوا يَدعون له في صلواتهم، وتواضعه، وتبريه من حظوظ نفسه، ومن نسبة ما يُؤْخَذُ عنه من العلوم إليه؛ أمور كثيرة جداً لا يَسَعُها ما نحن بصدده في هذه الأوراق من الاختصار.
وقد أثنى عليه أحمد وأوجز بما فاقَ ثناءَ الناس كلهم حيث قال: «كان الشافعي كالشمس في النهار، وكالعافية للناس». فانظر لهذين من خَلَفٍ أو عنهما عوض. ويَقْرُبُ من ذلك قول ابن هشام صاحب السيرة»: «ما ظننتُ أنّ الله خلق مثله». أي: من نظرائه.
وله في الفصاحة والشجاعة والفروسية الأمر الباهر، ومن ثَمَّ قال الربيع: «لو رأيتموه ما قلتم إنّ هذه كُتبه، كان والله لسانه أكثر من كُتُبه، وكان إذا أخرجه وَصَلَ أَنْفَه». انتهى.
وما لَقِيَ أحدٌ من الأمراض ما لَقِيَه. وكان يرمي العشرة فلا يخطئ في واحدٍ منها، وكان يأخذُ أُذنَهُ وأُذُنَ الفَرَس فِي شدة عدوه.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم قبل حلمه؛ فقال: يا غلام. قال: لبيك يا رسول الله. قال: ممن أنت؟ قال: مِن رَهْطِكَ. قال: أُدْنُ مني. فَدَنَا منه، ففتح فَمَهُ وأَمَرَّ رِيقَه على لسانه وفَمِه وشَفَتَيْه، وقال: امْضِ بارك الله فيك. فما لَحَنَ في حديثٍ بَعْدُ ولا شِعْر، وما مَرَّ على شيءٍ إِلا حَفِظَه.
ورأى مَن بَثَّ كتبَهُ في الهواء فعُبّرَتْ له بأنه لا يَبْقَى بلد من بلاد الإسلام إلا وَصَلَ علمُهُ إليه. وقال أيضاً: رأيتُ بمكة في زمن الصّبا في النوم رجلاً ذا هيئة يَؤُمُّ الناس في المسجد الحرام، فلما فرغ من صلاته أقبل على الناس يُعَلِّمُهم، فَدَنَوْتُ منه، فأخرجَ مِيزاناً من كُمِّه فأعطاني، وقال: هذا لك. قال الشافعي: فسألتُ المعبر، فقال: وأما الميزانُ؛ فإنك تَعْلَمُ حقيقة الشيء على ما هو عليه. قال الربيع: ورأيتُ أنا قُبَيْلَ موتِهِ أنّ آدمَ صلى الله على نبينا وعليه وسلم مات ويريدون أن يخرجوا بجنازته، فلما أصبحتُ سألتُ بعض أهل العِلْم عنه؛ فقال: هذا موتُ أَعْلَم أهل الأرض؛ لأنَّ الله تعالى عَلَّم آدمَ الأسماء كلها. فما كان يسيراً حتى مات الشافعيُّ رَضِيَ الله عنه آخر رجب سنة أربع ومئتين عن أربع وخمسين سنة.
إنك تصير إماماً في العلم وتكون على السُّنة؛ لأنّ إمام المسجد الحرام أفضل الأئمة كلّهم.
ومن كراماته الباهرة: أنهم أرادوا تحويله إلى بغداد فدافع المصريون فلم يقدروا، وشُرِعَ في الحفر فلما وصلوا قربَ اللَّحْد فاحت منه رائحةٌ طيبةٌ ما شَمُّوا مثلَها بحيث سَكِرُوا من طيب رائحته، وما تَمَكَّنُوا من الوصول إليه، فكفُّوا، وصار ذلك معدوداً في أعظم مناقبه.
وقد اتفق العلماء قاطبةً من سائر الفِرَق من أهل الفقه والأصول والحديث وغيرها على ثقته وعدالته وإمامته ووَرَعِه وتقواه وجُودِه وحُسْنِ سيرتِهِ وعلوِّ قَدْره، فاللُطْنِبُ في وصفه مقصر، والمسهب في مدحه مُقْتَصِر
تنبيهٌ [ترجمة الإمام أحمد ومناقبه]
أبو عبد الله أحمدُ بنُ حنبل بن هلال الشَّيْبَانِيُّ المَرْوَزِيُّ ثمّ البغدادي، هو الإمام البارعُ المجمع على إمامته وجلالته وورعه وزهادته وحفظه ووُفُور علمه وسيادته.
رَحَل الحجاز والشام واليمن وغيرها، سمع من سُفيان ابن عُيَيْنة وأقرانه، ورَوَى عنه جماعة من شيوخه وخلائق آخرون لا يُخصون، منهم البخاري ومسلم.
وكَثُر ثناء الأئمة عليه حتى قال بعضُهم: «رأيتُ ثلاثة لم يُرَ مثلُهم أبداً». وذَكَرَهُ منهم، وبعضُهم: «ما أعلَمُ أحداً يحفظ على هذه الأمة أمرَ دِينها إلا هو». قال أبو زرعة: «كانت كتبُهُ اثني عَشَرَ حِمْلاً، وكان يَحْفَظُها عن ظهر قلبه». وقال مرةً أخرى: «كان يحفظ ألف ألفِ حديث، فقيل له: ما يُدْرِيك؟ قال: ذاكَرْتُه فأخذتُ عليه الأبواب». وقال إبراهيمُ الحَرْبيّ: كأَنَّ الله جَمَعَ له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويُمْسِكُ ما شاء». وقال الشافعي: «ما رأيتُ أعقل من أحمد وسليمان بن داود الهاشمي».
وجاءه إنسان بثلاثة آلاف دينار وقال: وَرِثْتُها من أبي، وماله حلال. فأبى أن يقبلها، وقال: «لا حاجة لي فيها، أنا في كفاية». ومن دعائه: «اللهم كما صُنْتَ وَجْهِي عن السجود لغيرك، صُنْهُ عن سؤال غيرك». قال الشافعي: «خرجتُ من بغداد وما خَلَّفْتُ بها أتقى ولا أزهد ولا أَوْرَعَ ولا أعلم منه».
قال التاج الشبكي: «مُسنده أصل من أصول هذه الأمة». وقال: «أَلَّفْتُهُ إماماً، إذا اختلف الناسُ في سُنةٍ عن رسول الله ﷺ رجع إليه»
[محنة الإمام أحمد]
وامْتُحِنَ المحنة المشهورة التي كانت سبباً لمزيد رفعته في الدنيا والآخرة. وذلك: أن القاضي أحمد بن أبي داود (۳) لما سَرَت إليه بدعة الاعتزال ومن جملتها القولُ بخَلْق القرآن، أراد أن يَدُسّها إلى المأمون؛ لأنه كان معظماً عنده جداً، وأن المأمونَ يحمِلُ العلماء أهلَ السُّنة على القول بها بحضرة الملأ؛ ليعتقدها العامة.
ولا زال يُحسنُ ذلك للمأمون إلى أن أجمع رأيه عليه في سنة ثماني عشرة ومئتين، فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي يَحُتُه على امتحان علماء السُّنة بذلك ودعائهم إليه، وبالغ في الحَطّ في كتابه عليهم، وفي تسفيه ما هم عليه، وأكثر من وَصْفِهِم بالكذب والضلال والجهل، وبأنهم شَرُّ الأمة، وتوعدهم إن لم يقولوا: بأن القرآن مخلوق؛ بأنواع العذاب، وأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ له سبعةً، فأُشْخِصُوا إليه، فدعاهم إلى القول بخلق القرآن، فتَوَقَّفُوا، ثمّ أجابوا به تَقِيةٌ، فَرَدَّهم.
ثمّ كَتَبَ إليه يأمره بإحضار البقية، فأجابَ جماعةٌ وامتنع آخرون، فكتب إليه يأمره بإحضار من امتنع، فأُحْضروا ومنهم أحمد بن حنبل، فَسَأَلَ كلاً منهم، ثم كَتَبَ بأجوبتهم إلى المأمون، فكَتَبَ إليهم يَسُبُّهم أيضاً، ثمّ قال له: مَنْ لَمْ يُحِبْ بأن القرآن مخلوق؛ امنعه من الفتيا والرواية وأمر بضرب أعناق أناس عَيَّنهم إن لم يُجيبُوا بأنه مخلوق. وقال في حق أحمد أَعْلِمْهُ أنَّ أمير المؤمنين قد عَرَفَ فَحْوى مقالته، واستدلَّ بها على جهله، وهي أنه لما قيل له: ما تقولُ في خلق القرآن؟ قال: أقول: كلام الله. فقيل له: أهو مخلوق ؟ قال : هو كلام الله، لا أزيد على هذا.
والعَجَبُ من المأمون أنه ذُكِرَ لأكثرِ المُمْتَنِعِين جرائم خفية أحاط علمه بها، وهي في باطن الأمر تحتمل الصدق، وكل منها يقتضى القتل فضلاً عن تلك البدعة، فلما رَأَوْا ذلك رَجَعُوا كلُّهم إلى القول بخلق القرآن، إلا أربعة منهم أحمد، فقيدوا، ثمّ رَجَعَ منهم اثنان، وصَمَّمَ اثنان أحمد ومحمَّدُ بنُ نوح (۱)، فحملوا إلى طرسوس، ثمَّ بَلَغَ المأمونَ أَنَّ أولئك إنما أجابوا مُكْرَهين فغَضِبَ وأَمَرَ بإحضارهم إليه، فمات وهم في الطريق، ودُفِنَ بِطُوس.
ومن جملة وصيَّتِهِ التأكيد البليغ على الخليفة بعدَهُ: أَنْ يَحْمِلَ الناس على القول بخَلْق القرآن.
ثم بويع المعتصِمُ وأحمد محبوس في الرّقة، وكان معه ابنُ نوح فتُوُفِّيَ ودَفَنَهُ أحمد، وأُحْضِرَ إلى بغداد مقيّداً، ثم حُبس بحبس العامة نحواً من ثلاثين شهراً، والناسُ يَقْرَؤونَ عليه، ولم يزالوا يناظِرُونَهُ ويَظْفَرُ عليهم فيزيدون في قيوده إلى أن بلغت أربعةَ عشر قيداً.
وكان من هو محبوس عنده يبالغ في تخويفه من المعتصم، وأنه حلف أن لا يقتله بالسَّيْف بالضَّرْب إلى أن يموت، وهو لا يلتفت إلى ذلك التهديد.
ولقد قال له غير واحد وهم ذاهبون به : يا إمامُ اثْبُتْ؛ فإِنكَ إِن تَوَقَفْتَ كُنْتَ السبب في إضلال جميع الأمة، وإظهار تلك البدعة وهو يقول: بالله المستعان.
ثم ذُهِبَ به إلى المعتصم وهو في تلك القيود، فوصل ليلاً، ثم أُدْخِلَ إليه وعنده ابن أبي داود وخَلْقُ كثيرون، فأَمَرَ بإدنائه منه حتى قَرُبَ منه، ثم أَذِنَ له في الجلوس فجَلَس، ثم قال له : أَتَأْذَنُ لي في الكلام. ثم أَذِنَ له فتكَلَّم يسيراً، فَأَمَرَهُ أَن يَتَشَهَّد، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ، ثم ذَكَرَ له حديثَ وَفْدِ عبد القيس الذي رواه جده ابن عباس، فقال له: لولا أني وجدتك في يد مَن كان قبلي ما تَعَرَّضْتُ، ثمّ أَمَرَ جماعته أن يناظروه ، فقَطَعَ جميعهم، وكان ابن أبي داود كلَّما قَطَعَ واحداً منهم قال: يا أمير المؤمنين، ألم أقل لك: إنه ضال مضل مبتدع. فيقول: كلّموه، ناظروه فيناظرونه، فيقطعهم، فيقول له المعتصم وَيْحَكَ يا أحمد، ما تقول؟ فيقول: أَعْطُوني شيئاً من الكتاب أو السنة.
ثمّ رُدَّ، ثم أُعِيدَ إليه مرتين في مجلسين آخرين يطول شَرْحُهما، ثم عَلِمَ أنه واقع به أَمْرُ ، فأعاد تكتهُ التي ربط بها قيوده ليرفعها بها إذا مشى إلى محلها فشدَّ بها سراويله حتى لا تنكشف عورته عند الضرب.
فدُعِيَ في الغَدِ والدارُ غاصة بأهلها، مع جماعة سيوف وجماعة سياط، فمرَّ به عليهم، ثمّ أُدْخِلَ إلى محلّ آخَرَ فَأُرِيَ مثل ذلك، وهكذا مما لَمْ يَرَهُ قبل ذلك، فلما انتهى للمعتصم قال: ناظروه كَلَّموه فناظروه، فَرَدَّ عليهم، وطال الأمر فاختلى بهم، ثمّ به، فقال: وَيْحَكَ أَجِبْني حتى أَحَلَّ قيودك بيدي. فأَغْلَظَ في الجواب عليه، فسبّ ولَعَن، ثمّ أَمَرَ بسَحْبِهِ وضَرْبِهِ بعد أن كان أَلانَ له القول، فأَغْراهُ ابنُ أبي داود على ضربه، وقال له: إن لم تفعل، وإلا قال الناسُ : إنك تركْتَ مذهب المأمون.
فأَمَرَ فمُدَّتْ يداهُ وجِيىَ بسياط عظيمة، فأمر أن تُبَدَّلَ فَبُدِّلت، ثمّ أَمَرَ الجلادين فقال: تقدَّموا، فجعل يتقدَّمُ إليه الرجلُ منهم فيضر به سوطين، فيأمره بالمبالغة ويقول: شُدَّ قَطَع الله يدك. ولا زالَ كذلك، فلما ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قال: يا أحمد، عَلامَ تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق. ثمّ لا زالوا يُغْرُونَه بنَيل، وبعضهم يقول له: انظر إلى الخليفة وهو قائم على رأسك في الشمس. فقال: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ قال أحمد: فأقول: أَعْطُوني شيئاً من كتاب الله وسُنَّة رسولِهِ ﷺ.
فرَجَعَ وجَلَس، وقال للجلاد: تقدَّم وأوجع. ثم قام الثانية وجعل يقول: وَيُحك يا أحمد، أجبني. فجعلوا يُقبلون عليّ، ويقولون يا أحمد، إمامك على رأسك قائم. ويقول المعتصم وَيْحَكَ أَجِبْني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فَرَج؛ حتى أطلق يمينك بيدي. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله. فرجع وقال للجلادين: تقدموا.
فجعل الجلاد يتقدَّمُ ويَضْرِبُني سَوْطين، فذَهَبَ عقلي، ثم أَفَقْتُ، فإذا القيود قد أُطلِقَتْ عنِّي، فَأَخْبَرَنِي بعضُهم : بأنهم كبوني على وَجْهِي ثم ظهري وداسُوني. كلُّ ذلك ولم أَشْعُر به، ثم أتوني بسَوِيق لأَشْرَبَهُ وأَتَقَيّاه. فقلتُ: إني صائم ولا أفطر. ثم خُلّي عنه. وكان مكنه في السجن منذُ أُخِذَ وحُمِلَ إلى أن ضُرِبَ وخُلِّيَ عنه ثمانية وعشرين شهراً.
قال بعضُ مَن كان مرسماً عليه : ولقد اشتدَّ عليه العطش يوماً، فسأل صاحب الشراب فناوَلَه قدحاً فيه بَلَح وماء، فنَظَرَ إليه هُنَيْهَة ثم رَدَّهُ ولم يَشْرَبُه، فجعلتُ أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول. قال ولده صالح: عَجَزَتْ حيلتي أن أُوصِلَ إليه في تلك الأيام رَغِيفاً.
ورُوِيَ: أنه لما ضُرِبَ سَوْطاً قال بسم الله. فلما ضُرِبَ الثاني قال: لا حول ولا قوة إلى بالله. فلما ضُرِبَ الثالثَ قال: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق. فلما ضُرِبَ الرابع قال: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: ٥١] وجملة ما ضُرِبَهُ تسعة وعشرون سوطاً.
ومن كراماته الباهرة حينئذ أنّ تِكَّةَ لباسِه انقطعت فتَحَرَّك لباسُهُ إلى النزول إلى عانته فحرَّك شَفَتَيْهِ فَارْتَفَع وثَبَتَ ولم يظهَرْ شيءٌ من عورته، وكان ما حَرَّك به شفتيه: اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأ العرش إن كنتَ تَعْلَم أني على الصواب فلا تَهْتِكُ لي ستراً».
ورُوِيَ: أنه كان كلَّما ضُرِب سوطاً أبرأ ذمةَ المعتصم. وأنه سُئِلَ فقال: كرهتُ أن يُقال يوم القيامة: هذا غَرِيم ابن عم النبي ورمي بعضُ ضاربيه بالبَرَص الشديد جداً، وذَكَرَ هذا الأبرصُ : إن جملة ضاربيه مئة وخمسون رجلاً.
وذَكَرَ الرَّبيعُ : أَنَّ الشافعيّ رَضِيَ الله عنه دَفَعَ إليه كتاباً وهو بمصر، وأَمَرَهُ أن يذهب به إلى أحمد ببغداد ويأتيه بالجواب فذهب إليه، فصادَفَهُ عقب صلاة الصبح، فذكَرْتُ له القصة، ودفعت له الكتاب، فلما رَآهُ تَغَرْغَرَتْ عيناه، فقلتُ: ما فيه؟ قال: فيه أنه رأى النبي الله في النوم، فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله، فاقْرَأْ عليه السلام. وقُلْ له: إنك سَتَمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلى خلق القرآن فلا تُجبهم، فيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة.
قال الربيع : فقلتُ له: البشارة يا أبا عبد الله فخَلَعَ أحمد قميصَهُ الذي على جِلْدِهِ فأعطانيه. فأخذتُ الجواب، ورَجَعتُ إلى مصر وسَلَّمْتُهُ إلى الشافعي رَضِيَ الله عنهما. فقال: ما الذي أعطاك ؟ قلتُ: قميصه . قال : لا تُفْجِعُكَ فيه، ولكن بُلَّهُ وارْفَعْ إِليَّ الماءَ لأتبرك به
قال الكندي: رأيتُهُ في النوم ، فقلتُ : ما صَنَعَ الله بك؟ قال: غَفَر لي. ثم قال لي: يا أحمد، ضُرِبْتَ فيَّ؟ قلتُ: نعم يا ربّ. قال يا أحمد، هذا وَجْهي فانْظُرْ إِليه فَقَدْ أَبَحْتُكَ النظر إليه.
واختلفوا في عدد المصلين عليه، ومن جملة ذلك ما قيل: إن الأرضَ المبسوطة التي وقف الناسُ للصلاة عليها مُسِحَتْ فوَسِعَتْ بقدر ستمئة ألف وأكثر، سوى ما كان في الأطراف والسُّفُن. وقيل: كانوا ألف ألف وثلاثمئة ألف. وقال أبو زرعة: بَلَغَني أنَّ المتوكَّلَ أَمَرَ أَن يُمْسَحَ الموضِعُ الذي وَقَفَ عليه الناسُ للصلاة على أحمد فبَلَغَ مقامَ أَلْفَي ألف وخمسمئة ألف.
وعن بعض جيران أحمد أنه أسلم يوم موته من اليهود والنصارى عشرون ألفاً. وأطال الذَّهَبِيُّ في استبعاد ذلك، لا سيّما تفرد واحد بحكايته مع عدم تَفَوُّه أحدٍ من أولاده وأخصائه بشيء من ذلك، ومثل ذلك تَتَوَفَّر الدواعي على نقله. ومناقبُهُ رَضِيَ الله عنه أكثر من أن تُحصَر، وقد صَنَّف فيها جماعة. ولِدَ رَضِيَ الله عنه في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة، وتوفّي سنة إحدى وأربعين ومئتين على الأصح المشهور. وكان قبره ظاهراً ببغداد يُتبَرَّكُ به، فطَمَسَتْه الروافض لما استولوا عليها قريب زماننا، ثم أعاده سلطاننا خليفة الخلفاء الراشدين - عزَّ نَصْرُه وكُبِتَ أعداؤُه - بهيبة وافرة، وأبهة ظاهرة، فهو بها الآن يُزارُ ويُتَبَرَّكُ به، وكُشِفَ لأمرٍ فرئي حتى كفنه لم يتغيَّر فيه شيء.
فائدة مهمة
يتعيَّن عليك حفظها؛ لِعِظَمِ جَدُواها وعِزَّةِ ما فيها
وحاصلها: أنّ ابن الصلاح شذَّ ففَضَّلَ كتب «السُّنن» على «مسند أحمد»(۱)، واعترضوه، وردُّوا عليه: بأنّ الأمر ليس كما زَعَم، كيف وهو أكبر المسانيد وأحسنها وَضْعاً وانتقاء؛ فإنه لم يُدْخِلْ فيه إلا ما يُحْتَجُ به مع كونه انتقاه من أكثر من سبعمئة ألفِ حديث وخمسين ألف حديث. وقال: «ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله ﷺ فارجعوا فيه إلى «المسند»؛ فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة». ومن ثَمَّ بالغ بعضُهم فأطلق الصحة على كل ما فيه.
والحق أنّ فيه أحاديثَ كثيرةً ضعيفة، وبعضُها أشدُّ في الضعف من بعض، حتى إن ابن الجوزي قد أدخل كثيراً منها في موضوعاته»، لكن تعقبه بعضُهم في بعضها، وفي سائرها شيخُ الإسلام والحفاظ ابنُ حَجَر، وحَقَّق نفيَ الوَضْع عن جميع أحاديثه.
وأنه أحسن انتقاء وتحريراً من الكتب التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها كـ «الموطأ» والسنن الأربعة.
قال: وليست الأحاديثُ الزائدة على ما في «الصحيحين» بأكثر ضعفاً من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي عليهما.
وبالجملة فالسبيل واحد لمن أراد الاحتجاج بحديث من «السنن» الأربعة لا سيما «سنن ابن ماجه» و «مصنف ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق مما الأمر فيها أشد، أو بحديث من المسانيد؛ لأنَّ هذه كلها لم يشترط جامعوها الصحة ولا الحسن، وذلك السبيل : أن المحتج إن كان أهلاً للنَّقْد والتصحيح؛ فليس له أن يحتج بشيء من القِسْمين حتى يُحيط به، وإن لم يكن أهلاً لذلك؛ فإن وجد أهلاً صحح أو حسن قلده، وإلا فلا يُقْدِمْ على الاحتجاج به فيكون كحاطِبِ لَيْل ، فلعله يحتج بالباطل وهو لا يَشْعُر.
فإن قيل : لِمَ أَكْثَرَ أحمد في مسنده» من الرواية عن ابن مهدي ويحيى بن سعيد حيثُ أورد حديث مالك، ولم يَرْوِ عن الشافعي عنه، مع أن الشافعي أجل أصحاب مالك، وكذلك البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الأصول أوردوا ما أوردوه من حديث مالك من غير طريق الشافعي رَضِيَ الله عنهما ؟ فالجواب: أما عن أحمد؛ فلعل سماعَهُ «المسند» كان قبل سماعه من الشافعي رَضِيَ الله عنهما. وأما عمَّن عداه؛ فلِطَلَبِهم العلوّ في الإسناد المقدَّمَ عند المحدثين على جلالة الشيوخ.
تنبيهٌ [ترجمة الإمام البخاري ومناقبه]
البخاري، هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة - بضمّ فكسر - بن بَرْدِزُبَه - بموحدةٍ مفتوحة فراء ساكنة فمهملة مكسورة فزاي ساكنة فموحدة مفتوحة على المشهور، وهو بالفارسية الزراع - الجعفي مَوْلاهم البخاري ولاء إسلام على مذهب مَن يَرَى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له، وذلك؛ لأن جده المغيرة كان مجوسياً، ثم أسلم على يد اليَمان الجعفي والي بخارى، نسبةً لجعفي بن سعد العشيرة، أبي قبيلة من اليمن من مَذْحِج ، ووَهِمَ مَن قال: إنه اسم لبلد، وكأَنَّه توهمه من قول ياقوت في «مُعْجَمه»: «إنه خلافٌ باليمن نسبة لقبيلة من مَذْحِج، بينه وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخاً». انتهى، ومراده أن المحل إنما وُصِفَ بذلك من باب تجاز المجاورة؛ تسمية للمحل باسم الحال.
وجده إبراهيم، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على شيء من أخباره. وأبوه إسماعيل كان من العلماء العاملين، رَوَى عن حماد بن زيد ومالك، وصَحِبَ ابن المبارك. وروى عنه العراقيون. قال: لا أعلَمُ في جميع مالي درهماً من شُبهة.
توفي أبو البخاري صغيراً فنشأ في حِجْر والدته، ثم عَمِي، فَرَأَتْ إبراهيم الخليل على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام قائلاً لها: «قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له». فأصبح وقد ردَّ الله عليه بَصَرَه. وكانت نشأته وتربيته في حِجْر العلم، مرتضعاً ثدي الفضل، ثمّ أُهِمَ طلب الحديث وله نحو عشر سنين بعد خروجه من المكتب. ولما بَلَغَ إحدى عشر سنةً ردَّ على بعض مشايخه غَلَطاً وَقَعَ له في سندِ حتى أَصْلَحَ كتابَهُ من حِفْظ البخاري، ولما بلغ ست عشرة سنةً حَفِظَ كثيراً من كتب الحديث، وثماني عشرةَ صَنَّفَ «التاريخ الكبير» وغيره عند قبر النبي ، وكتبوا عنه الحديث.
ثمّ رَحَل واتَّسع في الرّحْلة، فاجتمع بأكثر مشايخ الحديث بعد أن سَمِعَ الكثير ببلده بخارى، أعظم مدن ما وراء النهر.
قال النووي والتاجُ السُّبكي وغيرهما: ذَكَرَهُ أبو عاصم العبادي في «طبقات» أصحابنا الشافعيين، وقال: سَمِعَ من أصحاب الشافعي كالزَّعْفَرَاني وأَبي ثَوْر.
ولم يَرْوِ في صحيحه عن الشافعي؛ لأنه أدرك أقرانه، على أنه رَوَى عن أبي ثَورٍ عن الشافعي، وذَكَرَهُ في موضعين من «صحيحه».
قال: والحامل لي على تأليف «الصحيح» أنني رأيتني واقفاً بين يدي رسول الله ﷺ وبيدي مَرْوَحة أذب عنه، فعُبّرَ لي بأنني أذب عنه الكَذِب. وما وَضَعْتُ فيه حديثاً إلا بعد الغسل وصلاة ركعتين للاستخارة، وأخرجتُه من زُهاء ستمئة ألف حديث، وألفته بمكة في ستّ عشرة سنة، وجعلته حُجةٌ بيني وبين الله تعالى، وما أدخلتُ فيه إلا صحيحاً.
وأَحْفَظُ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف غير صحيح؛ أي: باعتبار طرقها الكثيرة مع عد المكرّر والموقوفِ وآثار الصحابة والتابعين وغيرهم وفتاويهم، مما كان السلف يُطلقون عليه حديثاً، ولولا هذا التأويل المتعيّنُ لما صَحَ ذلك؛ إِذْ مجموع ما في كتب الحديث الموجودة بأَيدي الناس اليوم لا يساوي ثلث هذا العدد.
والحاصل: أنّ حفظه بلغ الغايةَ في خَرْق العادة، ومن ثَمَّ كانت أئمة الحديث يُصححون كتبهم من حفظه وهو شاب.
وسأله أهل بلخ في الإملاء عليهم، فأملى عليهم ألف حديث عن ألف شيخ. وكان مسلم بن الحجاج يقول له: «دَعْنِي أُقَبلُ رجليك يا أُستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين».
وكان بِسَمَرْ قَند أربعمائة محدّث اجتمعوا سبعة أيام لمغالطته، فخَلطوا الأسانيد بعضها في بعض، وعَرَضُوها عليه، فما استطاعوا مع ذلك أن يغلطوه لا في لفظه ولا في إسناد ولا في متن.
ولما قَدِمَ بغداد فعلوا معه نظير ذلك فعمدوا إلى مئة حديث قلبوا متونها وأسانيدها ودَفَعُوا لكلّ واحد عشرةً ليُلْقِيَها عليه في مجلسه الغاص بالناس امتحاناً، فقام أحدهم وسأله عن حديث من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه. فقام آخر فسأله عن الثاني، فقال: لا أعرفه. ولا زالوا وزالَ كذلك إلى أن فَرَغَتْ الملةُ، ثمّ الْتَفَتَ إلى الأول
فقال له: أمّا صَوابُ حديثها فهو كذا وكذا، وإلى الثاني وقال ذلك، وهكذا إلى أن أتى على المئة فَبَهَرَ الناسَ وأَذْعَنوا له.
ولما قَدِمَ البصرة نادى منادٍ يُعْلِمُهم بقدومه، فأَحْدَقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم، فنادى المنادي يعلمهم بأنه أجاب، فلما كان الغد اجتمع ألوف المحدثين والفقهاء، فأول ما جلس قال يا أهل البصرة، أنا شاب، وقد سألتموني أن أحدثكم، وسأحدثكم أحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها ـ يعني: ليست عندكم ـ ، وأملى عليهم من أحاديث أهل بلدهم ما ليس عندهم حتى أبهرهم.
ورَوَى عنه الصحيح» تسعون ألف رجل. وكان وِرْدُهُ ختمةٌ كلَّ يوم، وثلثها سَحَرَ كلّ ليلة. وكان يقول: «أرجو أن لا يُحاسِبَني الله أني اغتبتُ أحداً». و«صحيحه» أصحُ الكُتُبِ بعد القرآن، وتفضيل قليلين لـ«صحيح مسلم»
[مخنة الإمام البخاري مع شيخه الدُّهْلي]
وامتحِنَ رحمه الله بِمِحَنٍ كثيرة؛ لكثرة حَسَد جماعة من أهل عصره له، من جملتها الواقعة المشهورة لمحمد بن يحيى الدُّهْليَّ معه، وحاصلها: أن أهل بُخارى سمعوا بقدومه إليهم من نَيْسابُور، فقال لهم رئيسُهم عِلْماً وغيره محمد المذكور: إني مستقبله فمن أراد فليستقبله. فاستقبله هو وعامة علمائها. ثم قال الذهلي لأصحابه: لا تسألوه عن شيء من الكلام؛ فَلَعَلَّهُ يُجيبُ بما نخالفه فيه فتقع الفتنةُ بيننا وبينه، فيشمت بنا كل مبتدع.
فلم يكن بأسرع من أن سُئِلَ عن اللفظ بالقرآن أمخلوق هو؟ فقال: «أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا». وهو جواب حقٌّ قويمٌ ماشي على ما عليه المحققون كما هو مقرَّر في الكلام: أن القرآنَ يُطْلَقُ ويُراد به الملفوظ، وهذا حادث، وعليه قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم تُحْدَثٍ} (الأنبياء: ٢). ويُطلَقُ ويُراد به الكلامُ النفسي الأزلي المنزه عن الحرف والصوت، وهذا غير مخلوق.
والعَجَبُ أنّ المعتزلة يوافقون على هذا التفصيل، وإنما تحط الخلاف بيننا وبينهم في أن هذا الثاني له وجود أو لا؟ فهم ينفونَه؛ بناءً على نَفْيهم صفات الذات القديمة؛ فراراً من تعدد القدماء. ونحن نثبته، بل هو الإطلاق الحقيقي للكلام.
حيثُ جَمْعُ إنما هو بالنظر لحيثية سهلة هي: كونُه أنسب بصناعة الحديث من الطرق كلها في موضع واحد، وسياقها على نَمَطٍ حَسَنٍ جداً، ولم يلتفت البخاري إلى هذا؛ لاشتغاله عنه بما هو أهمُّ بمراتب، وهو استنباط الفروع الفقهية والفوائد والعلوم التي لا غاية لها، والرَّدُّ على المخالفين فيها، ووضع تراجم الأبواب على غايات من الإحكام، والإشارة فيها إلى غرائب الأحكام، فتأمل ذلك؛ فإنه الحق الواقع، والصدقُ النافع، وأَعْرِضْ عما أطال به جماعة من غير تحرير لمحل النزاع، ولا لما يجتمع به الأقوال.
وللأئمة عليه من الثناء ما يَضيقُ عنه هذا المحل، ومنه ما صَحَّ عن أحمد بن حنبل: ما أَخْرَجَتْ خُراسان مثله». وقال غير واحد: «هو فقيه هذه الأمة». بل بالَغَ بعضُهم فَفَضَّلَهُ في الفقه والحديث على أحمد وإسحاق.
وجَمَعَ رَضِيَ الله عنه من الحياء والسَّخاء ـ لا سيّما للطلبة ـ والشجاعة والوَرَع والزهد ما لم يجمعه غيره، وورث من أبيه مالاً كثيراً فتَصَدَّق به؛ لإفراطه في الكرم. وأُعْطِيَ في بضاعة خمسة آلاف درهم فأَخَّر، فأُعْطِيَ عشرة آلاف ثم باعها للأول، وقال: «كنتُ مِلْتُ إلى بيعه فلم أُغَيّر نيَّتي». وبَنَى رباطاً كبيراً مما يلي بخارى، فاجتمع إليه كثيرون يعينونه وهو يشتغل معهم، فيقال له: «كيف كُفيت». فيقول: «هو الذي ينفعني».
ونفيهم للصفات مردود عليهم بأنَّ المحذور إنما هو تعدد ذواتٍ قدماء، وأما ذات واحدة قديمة ولها صفات قديمة؛ فهذا لا استحالة فيه بوَجْهِ كما هو مبين موضح مع ما يُناسبه.
والعجب أن جوابَ البُخاري هذا مع كونه في غاية الصحة والقوة والوضوح والجريان على ما عليه أهلُ السُّنة كما علمتَ ثم لم يَتْرُكْهُ حَسَدَتُه، بل غيَّروا في وجهه الحسن وأَتَوْا فيه من الاحتمالات البعيدة والتجويزات الغريبة بما ينبيء عن حسدهم وتجاهلهم؛ ليَرُوج ما قالوه على العامة، ويوقعوه في المحن والفتن.
ولما غَلَبَ الحسد على الذهلي وسُئِلَ البخاريُّ عن ذلك في حضرته، وأجاب بنحو ما أجاب به أولاً؛ مَوَّهَ في كلامه وقال: القرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، ومَن زَعَمَ: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو مبتدع، لا يَجْلِسُ إلينا ولا نُكَلِّمُ بعد هذا مَن ذَهَبَ إِلى محمد ابن إسماعيل.
فانقطع الناس عنه إلا مسلماً؛ فإنه أرسل إلى الدُّهْلي جَميعَ ما كتبه عنه؛ لأنه ظَهَر له أن الحق مع البخاري، وأن الدُّهْلي إنما هو حاسد متعصب بما لا يَرُوجُ إلا على جَهَلة العوام والحكام الطغام، ومن ثَمَّ اتَّسَعَ حسده فقال: «لا يُساكِنني محمد بن إسماعيل في البلد». فخرج البخاري منها؛ خوفاً على نفسه. وكان هذا الفعل من البخاري والدُّهْلي سَبباً لغاية رفعة البخاري، وامتلاء أقطار الأرض بذكره وإجلاله وتعظيمه البالغ لنهايات التعظيم حتى من العامة، ولغاية نُزُول الذهلي وانخفاضه وانطماس ذِكْرِهِ وعدم معرفة الناس كلهم له إلّا أفراداً من أئمة الحديث.
[ نصيحة في إتقان المعاملة مع الله تعالى وخَلْقه ]
فتأمل معاملتك مع الله تعالى ومع الخلق، وتمسُّكَكَ بالله وإعراضَك عنه؛ لتعلم ما يترتب على كل من هاتين المرتبتين من رفع الذكر وانتشار العلم وتتابع الناس في الثناء على أهل المرتبة الأولى، ومن أضداد ذلك على أهل المرتبة الثانية، وكم وقع للعلماء مع حاسديهم نظائر لهذه القصة، وتَرَتَّبَ على كل من الفريقين نظائر ما ذكرناه كما هو جلي عند مَن سَبَرَ أحوالهم وعَرَفَ أخبارهم.
فإِيَّاكَ إِيَّاكَ أَن تَزِلَّ عن هذه الطريقة المثلى، وأنْ تَضِلَّ عما أوضحه لك نبيك محمد من الكمالات التي لا يزال صاحبُها يَتَرَقَّى إلى أن يكون وارثَ الخلافة العظمى. وفَوَّض أمورَك كلَّها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإنك إن صَدَقْتَ في ذلك زالَ عنك كلُّ حَسَد، لا سيّما للعلماء العاملين والأئمة العارفين والخلفاء الوارثين.
[ حرب الله تعالى لمن يؤذي أولياءه ]
وتأمل ما صح في الحديث القدسي: «مَن آذى لي ولياً فقد حاربته». ومن المعلوم أن مَن حاربه الله لا يُفْلِحُ أبداً.
وأَخَذَ العلماء من هذا الحديث مع قوله عَزَّ قائلاً: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ (البقرة: ۲۷۹)، بأنَّ آكل الربا ومُعادِيَ أحدٍ من أولياء الله تعالى لا يموتُ مسلماً، بل يختم له بخاتمة السُّوء، والعياذُ بالله؛ فإنَّ وصف الإسلام لا يجتمع مع محاربة الله مطلقاً.
فأَفْرِغْ وُسعَك في تأمل هذا المقام وإن كان الكلام إنما وقع لنا فيه بطريق الاستطراد، لكنك قد علمت تمام مناسبته لما نحن فيه.
[ محنةٌ أخرى جَرَت للبخاري ]
وجَرَت له -رَضِيَ الله عنه- محنةٌ أخرى، وهي: أن البخارى لما رجع زادت شهرته وتعظيمُ الناس له أكثر مما كان بمراتب، وذلك أنهم لما سمعوا بقدومه نُصِبَتْ له القباب على فرسخ منها واستقبله عامة أهلها ونُثر عليه الدراهم والدنانير.
فبقي مدةً يُحَدِّثُهم، ثم تحرك له أمير البلد خالد بن محمد الدهلي - نائب الخلافة العباسية - فأرسل إليه من يتلطف به أن يأتيهم بـ«الصحيح» ويحدِّثَهم به في قضره، فقال لرسوله: «إني لا أذلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن احتاج إلى شيء فليَحْضُرْ في مسجدي أو داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من الجلوس على الناس؛ ليكون ذلك لي عذراً يوم القيامة عند الله تعالى أن لا أكتم العلم». فراسله أن يعقد مجلساً لأولاده ولا يحضر غيرهم، فأبى عن ذلك أيضاً، وقال: «لا يَسَعُني أن أخص بالسماع منه قوماً دون قوم».
فاشتد غيظه واستعان الأميرُ عليه ببعض حَسَدَته من علماء بخارى، ثم أمره بالخروج من بلده فدعا عليه -وكان مجاب الدعوة -فلم يأتِ شهر حتى وصل أمرُ الخلافة بأن يُنادى على الأمير ، فأُرْكِبَ حماراً ونُودِيَ عليه في البلد، ثم حُبسَ إلى أن مات ذليلاً حقيراً، وكذلك لم يَبْقَ أحد ممن ساعدَهُ إلا وابتلي ببلاء شديد.
ولما خرج من بُخارى كتب إليه أهلُ سَمَرْقَند يخطبونه لبلدهم فسار إليهم، فلما كان بـ (خرتَنك) ـ بمعجمة مفتوحة في الأشهر أو مكسورة فراء ساكنة ففوقية مفتوحة فنون ساكنة، مكان، وهي على فَرْسخين من سَمَرْقَند، وجزم بعضُهم بأن بينهما نحو ثلاثة أيام، وسألتُ أهلها عن ذلك فقالوا: هذا خطأ، والصواب الأول. وسألتهم عن معنى (خرتَنك)؟ فقالوا: معناه الضيف؛ لكثرة الزائرين. فقلتُ لهم: حدوث هذه التسمية بعد موت البخاري فقالوا: هو كذلك؛ لأنها كانت قبل موته تُسَمَّى بغير ذلك ـ بَلَغَهُ أنه وقع بينهم - أي: أهل سمرقند - فتنة؛ فقَوْمُ يريدونه وقَوْمٌ يكرهونه، وكان له أقرباء بها، فنزل بها حتى تجَلَّى الأمر.
فأقام أياماً فمَرِضَ حتى وُجّهَ إليه رسول من أهل سَمَرْقَند يتلمسون خروجَهُ إليهم، فأجاب وتَهَيَّاً للركوب، ولَبِسَ خُفَّيْهِ وتَعَمَّم، فلما مَشَى قَدْرَ عشرين خطوة تقريباً إلى الدابة ليركبها قال أرسلوني قد ضعفت، فأرسلوه، فدعا بدعوات، ثم اضطجع
فسال منه عرق كثير لا يوصف، وما سكن منه العَرَقُ حتى أُدْرِجَ فِي أَكْفانه. وقيل : ضَجِرَ ليلةٌ فدعا بعد أن فزع من صلاة الليل: «اللَّهم قد ضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، فاقبضني إليك». فمات في ذلك الشهر وقت العشاء ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومئتين، عن اثنين وستين سنةً إلا ثلاثةَ عَشر يوماً؛ لأنه وُلِدَ يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة خَلَتْ من شوال سنة أربع وتسعين ومئة.
ومن الغريب ما نُقِلَ أن قَبْرَهُ بمصر، وهذا قول شاذ جداً لا يُحكى إلا لِرَدِّه وفاح عَقِبَ دفنِهِ من قبره رائحةٌ عظيمة جداً كالمسك أو أقوى ودامت أياماً. وانثال الناس على قبره يأخذونَ من ترابه؛ لشدة رائحته التي لا يجدون مثلها عندهم.
قال بعضُهم: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقفٌ، فَسَلَّمْتُ عليه، فرَدَّ عليَّ السلام، فقلتُ: ما وقوفُكَ هنا يا رسول الله. فقال: أنتظرُ محمد بن إسماعيل. قال: فلما كان بعد أيام بَلَغَنِي موتُهُ، فنظرتُ فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيتُ النبي ﷺ فيها.
وأَجْدَبَتْ سَمَرْقَند، فكرّروا الاستسقاءَ فلم يُسْقَوا فأرشد القاضي إلى قبره بـ (خَرْتَنك) لِيَسْتَسْقُوا عنده ويتشفعوا به، ففعلوا فأُمْطِروا نحو سبعة أيام لم يستطعْ أحد التوجه إلى سَمَرْقَند من شدَّة المطر.
[ تنبيه ]
مات البخاريُّ رَضِيَ الله عنه -عن غير وَلَد ذَكَر، وقد رَزَقه الله من شهرة «صحيحه» ودعاء الناس له بسببه ما يُغنيه عن مئات من الأولاد الذكور؛ إذ لم يَشْتَهر كتاب من كتب العلم كما اشتهر صحيح البخاري»، ولا وقعَ لكتاب من الجلالة له ولمؤلّفه ما وقع لـ«صحيح البخاري».
ولهذا يعلم أنه ينبغي لمن أَيسَ من الولد ورَزَقَهُ الله مَيْسرةً: أن يتسبب في وَقْفِ شيء يبقى له ثوابه الدائم بعد موته؛ فإنه ينبغي للإنسان أن لا يُحِبَّ أَنَّ له ولداً بعده إلا من حيث إنه يدوم له دعاؤه، وأنه يُكتب له مثل جميع أعمال ولده الصالحة؛ فإنه كان السبب فيه، و«الدال على الخير كفاعله. كما في الحديث الصحيح، وكلُّ مُتَسَبِّب إلى خير له مثل أجر فاعله، وضده، كما نَطَقَ به الصادق بقوله في الحديث الصحيح: «مَن نَّ سُنةٌ حَسَنةً فله أجرُها وأجرُ مَن عَمِل بها إلى يوم القيامة، ومَن سَنَّ سُنةٌ سيئةً فعليه وِزُرُها وَوِزْرُ مَن عمل بها إلى يوم القيامة».
فالتَسبُّبُ إلى الخير بوَقْفٍ، وهو المراد بالصدقة الجارية في حديث: ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: ولد صالح - أي: مسلم - يَدعو له، وعِلْمُ يَنتَفِعُ به من بعده، وصدقة جارية». قال العلماء: المراد بالصدقة الجارية الوقفُ؛ لأنَّ ثوابَهُ يدوم للواقف، ومَن دَلَّه ومَن أَعانَهُ وأَرْشَدَه إلى بناء عَيْن ذلك الموقوف.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام مُسْلِم ]
هو مسلم بن الحجاج هو القُشَيْرِيُّ من بني قُشَيْر، قبيلةٌ من العَرَب معروفة، أحد أئمة أعلام هذا الشأن، وكبار المبرزين فيه، والرَّحْالين في طلبه إلى أئمة الأقطار، والمجمع على تقدمه فيه على أهل عصره كما شهد له بذلك إماماً وقتهما حفظاً وحديثاً ومعرفة أبو زرعة وأبو حاتم.
سَمِعَ من مشايخ شيخه البخاري وغيرهم كأحمد ، وروى عنه جماعات من كبار أئمة عصره وحفاظه، ومنهم مساويه درجةً كأبي حاتم الرازي والترمذي وإمامِ الأئمة ابن خُزَيْمة.
وله المؤلفات الكثيرة الجليلة، لاسيّما «صحيحه» الذي امْتَنَّ الله به على المسلمين، وأبقى له به الثناء الحسنَ الجميل إلى يوم الدين؛ فإنَّ مَن اطَّلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحُسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق، وأنواع الورع التام، والاحتياط والتحري في الرواية، وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه، واتساع روايته؛ عَلِمَ أنه إمامٌ لا يُلْحَق، وفارس لا يُسْبَق. قال: «صنفتُ المسند الصحيح من ثلاثمائة حديث مسموعة».
ولما قدم البخاريُّ نَيْسابُور آخِرَ مرةٍ لازمه مسلم وأكثر التردُّد إليه، ومن ثَمَّ حذا حَذْوَهُ في «صحيحه»، وكأنَّ هذا هو مرادُ الدَّارَقُطني بقوله: «لولا البخاري لما ذَهَب مسلم ولا جاء».
وُلِد سنة أربع ومئتين، وتوفّي رَضِيَ الله عنه عشية يوم الأحد لأربع بَقِينَ من شهر رجب سنة إحدى وستين ومئتين، ودفن يوم الاثنين بنيسابور، وقبره بها مشهور يُزَارُ ويُتَبَرَّكُ به.
قيل: سبب موته أنه عُقِدَ له مجلس للمذاكرة فذُكِرَ له حديث فلم يَعْرِفُهُ فانْصَرَف إلى منزله، فقُدِّمت له سَلَةُ تمر فكان يطلب الحديث ويأخذُ تمرةً تمرة، فأصبح وقد فَنِيَ التمرُ ووَجَدَ الحديث، وكان ذلك سبب موته. ولذا قال ابن الصلاح: «وكانت وفاته بسبب غريب نشأ من غَمْرَةِ فِكْرَةٍ عِلْمية».
تنبيه [ترجمة الإمام أبي داود]
هو أبو داود هو سليمانُ بنُ الأَشْعَث بن إسحاق بن بشير بن شَدَّاد بن عمر بن عمران السِّجستاني -بفتح الجيم وكسرها، قيل: هذه التي يُنسب إليها هي زَرَنْج، وأما سجستان فاسمٌ للولاية التي زَرَنْج قَصَبَتُها، وهي قريب كرْمَان إلى ناحية الهند على حدّ غَزّنة ـ الأزدي، صاحب «السُّنن».
ولد سنة ثنتين ومئتين، وهو أحد أئمة المسلمين والحفاظ والجهابذة المكثرين الذين يُعْتَمَدُ عليهم ويُرْجَعُ إليهم، قال بعضُهم : هو تالي الشيخين في علمهما وفضلها. سَكَنَ البصرة، وروى «سُننه» ببغداد، فأخَذَها أهلها عنه، وعَرَضَهُ على أحمد فاسْتَجادَهُ واسْتَحْسَنَه.
وقال الجلال: لم يَسْبِقْهُ أحدٌ في زمنه إلى معرفته بتخريج العلوم. وقال غيره: هو أحد حفاظ الحديث سنداً وعِلْماً وعِلَلاً. ومن ثم قال جمع: أُلِينَ له الحديث كما ألين الحديد لداود على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام. سَمِعَ من خلائق كأحمدَ والعُقبي وسُليمان بن حَرْب وقتيبة.
وروى عنه خلائق كالتَّرْمذي والنَّسَائيّ.
قال: «كتبتُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم -خمسمئة ألف حديث، انتخبْتُ منها ما ضَمَّنتُه كتابَ السُّنَن»، وأحاديثه أربعة آلاف وثمانمئة، ليس فيها حديثُ أَجْمَعَ الناسُ على تركه».
قال الباجي: كتاب الله تعالى أصل الإسلام، وكتاب أبي داود عبد الإسلام».
قال الخطابي شارحه: هو أحسنُ وَضْعاً، وأكثر فقهاً من «الصحيحين».
قال ابنُ الأَعْرَابِيُّ: مَن عنده كتابُ الله وسنن أبي داود لم يَحْتَج معهما إلى شيء من العلم».
ومن ثَمَّ صرَّح حجة الإسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في أحاديث الأحكام، وتبعه أئمة الشافعية على ذلك.
وقال النووي: «ينبغي للمشتغل بالفقه وبغيره الاعتناء به وبمعرفته المعرفة التامة؛ فإن معظم أحاديث الأحكام التي يُحتج بها فيه، مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه». انتهى.
وكان لأبي داود كُمّ واسِعٌ وكُمْ ضَيّق، فقيل له ما هذا؟ قال: الواسع للكتب، والضَّيق للاحتياج إليه.
توفي سنة خمس وخمسين ومئتين.
وذَكَرَ جماعةٌ من الشافعية في كتبهم أنه شافعي. وكأنَّ سبب ذلك كثرة أخذِهِ عن أصحاب الشافعي. وفيه نظر ظاهر، بل الظاهر أنه حَنْبَلي.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام الترمذي]
الترمذي هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة بن موسى بن الضَّحَّاك السلمي. والترمذي - بتثليث الفوقية وكسر الميم أو ضمها، كلُّها مع إعجام الدال ـ نسبة لمدينة قديمةٍ على طَرَف جَيْحُون نهر بَلْخ.
وهو الإمامُ الحُجَّةُ الأوحد الثقة الحافظ المتقن، أَخَذَ عن البخاري وغيره. وقولُ ابن حزم: إنه مجهول؛ كَذِبٌ وافتراء منه على عادته القبيحةِ المستمرة في أنه يحطُّ من أقدار العلماء وجلالتهم بالكَذِب والبهتان والسَّفاهة والعِصْيان، عُومِلَ بالعَدْل.
روى الترمذي عن شيوخ البخاري، وتَخَرَّج به، ورَوَى عنه حديثاً ذَكَرَهُ فِي «جامعه» وهو: «يا علي، لا يَحِلُّ لَأَحَدٍ يُجنب في هذا المسجد غيري وغيرُك».
وقد حَسَّنَهُ ـ أعني : الترمذي - واستغرَبَه، والذي استَقَرَّ الأمر عليه فيه أنه حديث ضعيف، فلا تَنْبُتُ به خصوصية لعليّ كرَّم الله وجهَه؛ لأن الخصائص لا تثبتُ بالضعيف، بخلاف الفضائل.
قال: «عَرَضْتُ كتابي - أي: كتاب «السُّنَن المسمى بـ«الجامع» ـ على علماء الحجاز والعراق وخُراسان فرضوا به، ومَن كان في بَيْتِهِ فكأنها في بَيْتِه نَبِيٌّ يتكلم».
فإن قلت: صرَّحوا بأن عندَهُ نوع تساهل في التصحيح؛ فقد حَكَمَ بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث من سننه»، وحَسَّنَ فيها بعضَ ما انفرد راویه به كما صرح هو بذلك؛ فإنه يُورِدُ الحديث ثم يقول عقبَهُ: إنه حَسَنٌ غَرِيبٌ أَو حَسَنٌ صحيحٌ غريب، لا نَعْرِفُهُ إلا من هذا الوجه.
قلت: هذا كلُّهُ لا يضره؛ لأن ذلك اصطلاح جديد له، ومَن بَلَغَ النهاية في الإمامة والحفظ لا يُنْكَرُ عليه ابتداعُ اصطلاح يختص بكتابه، وحينئذ فلا مشاحة في الاصطلاح. وبهذا يجاب عما استشكلوه من جمعه بين الصحة والحسن على متن واحد، مع ما هو معلوم من تغايرهما!
ووَجْهُ الجواب: أن هذا - أعني ما أفهمه كلامه من ترادف الحسن والصحيح -اصطلاح لم ينفرد به، بل سبقه إليه البخاري إمام هذه الصنعة وطبيبُ عِللها ومرجع الناس كلهم فيها، على أنهم أجابوا عن الترمذي بغير ذلك، وهو: أنه أراد أنه حَسَنٌ من طريق وصحيح من طريق أخرى، وغريب من طريق أخرى.
وغايةُ ما يَرِدُ عليه أنه حذف الواو والتقدير: «حسن وصحيح وغريب».
أو أنه شك هل بَلَغَ مرتبة الصحة أو اقتصر على مرتبة الحسن؟
وهل له طريق واحد أو أكثر؟ وبهذا يُعلم أن الجواب الأول أحسن؛ لأنه لا يَرِدُّ عليه شيءٌ مما ذُكِر . فإن قلت: يَرِدُ على هذا أنه قد يقول : ( حسن صحيح) فيما ليس له إلا طريق واحد!
قلتُ: يحتمل أنه حينئذ شكٍّ في بعض أوصاف رجل من رجال هذا الطريق، هل بلغ شرط الصحة أو اقتصر على الحسن فقط؟ فساغ له حينئذ أن يقول: (حسن صحيح) بهذا الاعتبار وإن لم يكن له إلا طريق واحد.
والحاصل أن تردُّده أو تردُّدَ غيره من أئمة الحديث في حالِ بعض نَقَلَتِهِ اقتضى للمجتهد أن لا يعقبه بأحد الوَصْفَين، وأن يقول فيه : حسن؛ باعتبار وصفه عند قوم صحيح؛ باعتبار وصفه عند آخرين وقرائِنُ النظر في اصطلاحه تُهَوِّنَ حذفَهُ لحرف العطف، أو الترديد، وهذا فيما ليس له إلا طريق واحد، وأما ما له طرق فوصفه بالحسن والصحة معاً ظاهر كما قررناه أولا.
مات الترمذي بـ(ترمذ) أواخر رجب سنة تسع وتسعين ومئتين، كذا قاله جمع مؤرخون.
[ فائدة مهمة عزيزةُ النقل كثيرةُ الجدوى والنَّفْع ]
وهي من المقرر عندهم: أن لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ إذ قد يصح السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط، دون المتن؛ لشذوذ أو علة. وقد لا يصح السَّندُ ويصح المتنُ من طريق آخر.
ولا ينافي عدم التلازم قولهم: «هذا حديث صحيح؛ لأنَّ مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعاً؛ لعدم استلزامه الحكم بالصحة لكلِّ فَرْدِ فَرْدِ من أسانيد ذلك الحديث.
فعلِمَ أنّ التقييد بصحة السند ليس صريحاً في صحة المتن ولا ضعفه، بل هو على الاحتمال؛ فهو دون الحكم بالصحة أو الحسن للمتن؛ إذْ لا احتمال حينئذ. نعم من عُرِفَ مِن عادته عدم التفرقة يكونان منه على حد سواء، لا سيما مَن يَذْكُرُ ذلك في مقام الاحتجاج به.
[ فائدة أخرى ]
اتفق الفقهاء كلُّهم على الاحتجاج بالحسن، وعليه جمهور المحدثين والأصوليين، بل قال البَغَوِيُّ: «أكثر الأحكام إنما يثبت بالحسن». ووافقه الخطابي. وهو قسمان: أحدهما: حسن لذاته، وهو أن يَشتَهِرَ رواتُه بالصدق، لكنهم لم يصلوا في الحفظ والضبط والإتقان إلى رتبة رواة الصحيح.
وثانيهما: حسن لغيره، وهو أن يكون في الإسناد مستورٌ لم تُتَحَقَّقُ أهليتُه غيرُ مُغَفّل، ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم بتعمد الكذب، ولا يُنسب إلى مُفَسِّق آخر، واعتُضِدَ بمتابع أو شاهد.
وقد قال النووي إمامُ زَمَنِهِ في هذه الصناعة في بعض أحاديث ذَكَرَها: «وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفةٌ، فمجموعها يُقَوِّي بعضه بعضاً، ويصير الحديث حسناً، ويُحتج به». وسَبَقَهُ لذلك البيهقي وغيره.
ومحل ذلك فيما ضَعْفُه ناشئ عن سُوء حفظ أو اختلاط أو تدليس مع كون راويه من أهل الصدق والديانة، أما الضعيفُ لنحو كَذِبٍ أو شُذوذ، فلا يَخبُرُه شيء.
والحاصل أن ما حُسْنُهُ لذاته يُحْتَجُ به مطلقاً، وما حُسْنُهُ لغيره؛ إن كثرت طرقه احتج به وإلا فلا.
وقد نَقَل النووي اتفاق الحفاظ على أنَّ حديث: «مَنْ حَفِظَ على أُمَّتِي أربيعن حديثاً». ضعيفٌ مع كثرة طرُقِهِ. نعم كثرة الطرق القاصرة عن جَيْرِ بعضها لبعض تُرَقِّيه عن درجة المردود المنكر الذي لا يعمل به في الفضائل ولا غيرها، إلى رتبة الضَّعيف الذي يجوزُ العمل به في الفضائل إجماعاً.
[ فائدة أخرى تتعلق بالترمذي وأبي داود يتعيَّنُ حفظها؛ لكثرةِ نَفْعِها وَعِزَّةٍ نَقْلِها ]
وهي: أن أبا داود قال في خُطبة «سُنَنه»: «ذكرتُ الصحيحَ وما يُشْبِهُهُ وما يُقاربه».
واختلف الناسُ في معنى هذه العبارة، والذي يَتَّجِهُ عندي: أن المراد بـ (ما يُشبِهُ الصحيحَ) الحسن لذاته، وبـ ( ما يُقاربه) الحسنُ لغيره. وقد تقرر أن كلاً من هذين معتمد.
وإنما حَمَلْتُهُما على ذلك؛ لما عُلِمَ مما تقرر: أن الحَسَنَ لذاته يُشبه الصحيح في الاحتجاج به مثله ،اتفاقاً، بخلاف الحَسَن لغيره؛ فإنه بعيد عن الصحيح؛ لأنه باعتبار ذاته وَحْدَه ضعيفٌ كما مرَّ، لكنه لما انْجَبَرَ بما سبق صار فيه قوةٌ عَرَضية، وصار بسبب ما حدث له من تلك القوة فيه مقاربة للصحيح، ومن ثَمَّ كان حجةً على ما تقرر فيه.
[ الأحاديث التي سكت عليها أبو داود ]
واعلم أن أبا داود قد يَسْكُتُ على حديث وقد يُبَيِّنُه؛ فإن بيَّنه فلا إشكال، لكنَّ نُسَخَهُ ونُسَخَ التَّرمذي مختلفةٌ جداً، فقد يكون في بعضها زيادة كلام على الحديث أو زيادة حديث، وفي بعضها نقصُ الكلام على الحديث أو حذف الحديث بالكلية، فَلْيُحْتَط لذلك بِجَمْع النسخ الصحيحة المعتمدة، وليُراجع «جامع الأصول» لابن الأثير، ونحوه ممن اعتنى بجمع الكتب الستة.
وأما ما لم يُبينه أبو داود فهو أقسام؛ منه ما هو في «الصحيحين»، أو هو على شرط الصحة، أو حَسَنُ لذاته، أو مع الاعتضاد، وهما كثير في كتابه جداً، ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يُجْمَع على تركه.
وقد قال النَّوَوِيُّ: «الحقُّ أنّ ما لم يبينه ولم ينص على صحته أو حُسْنه إمامٌ معتَمَدٌ فهو حَسَنٌ ، وإن نصَّ على ضَعْفِه معتمد أو رأى عارف في سَنَده ما يقتضي الضَّعْفَ ولا جابر له حُكِمَ بضعفه، ولم يُلْتَفَتْ إلى شکوته». انتهى.
وقال غيره: التحقيقُ أَنَّ مَن له تمييز يَرُدُّ المسكوت عليه إلى ما يقتضيه حاله من صحة أو حُسْن أو ضعف، ومَن لا تمييز له الأحوط كما سَلَكَهُ جماعةٌ أن يقول في المسكوت عليه: (هو صالح) كما هو عبارة أبي داود.
وادعاء: أن سكوتَ أبي داود كسكوت مسلم، غلط فاحش؛ فإنَّ مسلماً عُلِمَ شرطه في كتابه، وهو الصحيحُ لا غير، فهو لم يُخَرِّج الحسن في الأصول، بل في المتابعات والشواهد وأبو داود خَرَّجَهُ في الأصول مُحْتَجاً به، بل هو أكثر كتابه كما مر، ولذا تخلَّفَ كتابه عن شرط الصحة.
تبيهٌ [ ترجمة الإمام النسائي ]
النَّسَائِيُّ هو أحمد بن شُعَيْب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الخراساني، أحد الأئمة الحفَّاظ العلماء الفقهاء، بل أحد أئمة الدنيا في الحديث، والمشهور فيه اسمه وكتابه.
سمع من كثيرين من مشايخ الشَّيخَين البخاري ومسلم، ومن أبي داود وآخرين ببلاد كثيرة وأقاليم مختلفة، واتَّسع أخذه ورحلته. قال الدَّارَ قُطْني: «هو مُقَدَّم على كلِّ مَن يُذْكَرُ بهذا العلم من أهل عصره». وأخذ عنه كثيرون، قال الحاكم: «كلامه على الحديث أكثر من أن يذكرَ ، ومَن نَظَرَ في كتابه تحيّر في حُسْن كلامه».
ودَخَلَ دمشقَ فسُئِلَ عن معاويةَ ففَضَّلَ علياً عليه رَضِيَ الله عنهما، ولما ذكروا له فضائل معاوية مُريدين بذلك تفضيله على علي -قال لهم منكراً عليهم: أَلَا يَرْضَى معاوية أن يكون رأساً برأس حتى يُفضّل !
وقوله: «رأساً برأس» إنما هو من باب التّنزل مع الخصم؛ لإجماع أهل السنة على أن علياً أفضل - فأُخْرِجَ من المسجد وداسُوهُ بالأَرْجُل حتى أشرف على الموت، فحُمِلَ إلى الرَّمْلة، ومات بها، ودُفِنَ ببيت المقدس. وقيل: أوصى بأنْ يُحْمَلَ إلى مكة فحُمِلَ إليها فتوفّي بها ودُفِنَ بين الصَّفا والمَرْوَة عن ثمانية وثمانين سنةً، كما قاله الذهبي وغيره، وكأنه بناه على قول النسائي عن نفسه: «يُشْبِهُ أن يكون مولدي سنةَ خمس عشرة ومئتين».
ونقل التاجُ السُّبكي عن شَيْخه الحافظ الذَّهَبي ووالده الإمام المجتهد الشبكي: أنّ النَّسَائي كان أحفظ من مسلم صاحب «الصحيح».
[ مكانة سنن النسائي ]
وسننه أقل «السُّنَن» بعد «الصحيحين» حديثاً ضعيفاً؛ ولذلك قال ابنُ رُشَيْد: «إنه أَبْدَعُ الكتب المصنفة في السُّنَن تصنيفاً، وأحسنُها تَرْصيفاً، وهو جامع بين طريقتي البخاري ومسلم، مع حَظِّ كثير من بيان العلل». ومن ثَمَّ ذهب جماعةٌ كثيرون من أكابر الحفاظ إلى أن كل ما فيه صحيح، بل شدَّ بعضُ المغاربة ففَضَّله على «صحيح البخاري». وكلُّ ذلك تساهل قبيح، غاية الأمر: أنه لم يُخرج لجماعة خرج لهم الشيخان وأبو داود والترمذي؛ لأنه مع ذلك لم يقتصر في التخريج على المتفق على قبولهم، بل يُخَرِّجُ لمن لم يُجمع أئمة الحديث على تركه، حتى إنه يُخَرِّج للمجهولين عَيْناً وأوصافاً؛ محتجاً: بأنه اختلف في قبولهم، ومن ثَمَّ قال: «لا يُتْرَكُ الرَّجلُ عندي حتى يُجمِعَ الكل على تركه، فأما إذا وَثَّقه ابنُ مَهْدي، وضَعَفه يحيى بنُ القَطَّان؛ فإنه لا يُترك». لما عُرِفَ من تشديد يحيى ومَن هو مثله في النقد. قال ابنُ مَنْدَه: «وأبو داود يأخذُ مأخذَ النَّسائي». يعني: في عدم التقيد بثقة أو التخريج لمن ضعف في الجملة وإن اختلف صنيعهما.
ونَسَا - بفتح النون والسين المهملة -من كور نيسابور. وقيل: من أرض فارس. والنسبة إليها نَسَائي - بهمزة بعد الألف ـ ، وقد يُقال: نَسَوي. قيل: وهو القياس وما اشتهر الآن من حذف الألف بعد الهمزة لا أصل له، إلا أن يُدعَى أنه للتخفيف.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام ابن ماجه ]
ابن ماجه هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله ابن ماجه القَزْوِيني مولى ربيعة أبي عبد الله الإمام الحافظ أحد الأعلام صاحب «السُّنَن» التي يكفيها شَرَفاً أنها جُعِلَتْ من الكتب الستة والسُّنَنِ الأربعة بعد «الصَّحيحَين»، بعد أن كان المكمل لذلك هو «موطأ» الإمام مالك، مع كونها ساذجة عمَّا حَرِصَ عليه أصحاب الكتب الخمسة من المقاصد التي يتَدَبَّرُها المحدث، كثرة أحاديثها الضعيفة، بل فيها أحاديث منكرة، بل نُقِلَ عن الحافظ المزي: أنّ الغالب فيها انفرَدَ به الضعيفُ. ولذا جَرَى كثيرون من القدماء على إضافة «الموطأ» أو غيره إلى الخمسة.
قال الحفّاظُ: وأوَّلُ مَن أضاف ابن ماجه إلى الخمسة أبو الفضل بن طاهر، حيثُ أدرَجَهُ معها في «الأطراف» وكذا في «شروط الأئمة الستة»، ثم الحافظ عبد الغني في كتاب «الإكمال في أسماء الرجال» ـ الذي هَذَّبَهُ الحافظ المزّيّ: وسبب تقديم هؤلاء له على الموطأ كثرة زوائده على الخمسة بخلاف «الموطأ».
و ممن اعتنى بأطرافها الحافظ ابن عساكر، ثمّ المزي مع رجالها. وهو كما قال الحافظ ابن كثير: «كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه». رَحَلَ وطاف البلاد حتى سَمِع أصحاب مالك والليث، وروى عنه خَلْقُ كثيرون، منهم: أبو الحسن القطَّان وغيره.
توفي يوم الثلاثاء لثَمان بقين من رمضان سنة ثلاث أو خمس وسبعين ومئتين، ومولده سنة تسع ومئتين.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام البيهقي ]
اكد مع البيهقي هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى.
والبيهقي نسبة لـ (بيهق) قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها، كانت قَصَبَتُها خُسْرَوجِرْد، الإمام الجليل ناصر السنة الحافظ المتقن الفائقُ كثيراً من مشايخه الفقيه الأصولي الزاهد الورعُ القائمُ بنُضرة مذهب الشافعي -وإن كان هذا المذهب لا يحتاج الله إلى نصير ومعين ـ والذاب عنه ـ وما ذَبَّ إلّا عن بَيْضَةِ الدين وهو أصحاب الحاكم أبي عبد الله.
تفقه على ناصر العُمَريّ، وسمع من خلائقَ ورحل إلى الحجاز والعراق والجبال، ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار واحد زمانه وفارس ميدانه.
وألف من الكتب ما لم يُسْبَق إلى مثله، ولا رقى غيرُهُ إلى رفعة محلّه ، ككتاب السنن الكبير» وكتاب «المبسوط في نصوص الشافعي»، وكتاب «معرفة السنن والآثار» وهو الذي يضطر إليه كلُّ فقيه شافعي؛ إذ لا استغناء له عنه؛ لأنه في معرفة السنن والآثارِ المؤيدة لمذهبه، والذَّابة عن مطلبه، ومن ثَمَّ اسْتُدْعِيَ من بَيْهَق إلى أن يُقْرَأَ عليه هذا الكتاب بنيسابور، فقُرئ عليه بحضرة علمائها، فأثنوا عليه الثناء الكثير البليغ الجزيل، وهؤلاء إذ ذاك هم علماء العصر، وأهل الفضل والتحقيق والتضلُّع من العلوم بما لا يدخل تحت الحصر. وكان رحمه الله على سيرة العلماء، قانعاً من الدنيا باليسير جداً، متجملاً في زُهده وورعه، ومَكَثَ ثلاثين سنةً صائمَ الدَّهْرِ.
ومن أجل ما خصه الله به من أنّ له اليد الطولى في معرفة نصوص الشافعي والإحاطة بها، ثم في معرفة أدلتها والذَّب عنها بما لم يستطع أحدٌ من المخالفِينَ أن يَنْقُضَ ما أحكمه، ولا أن يحومَ حَمَى ما حَقَّقَهُ وبَيَّنَهُ ورَسَمَه؛ قال إمامُ الحَرَمين في حقه ـ وناهيك بها شهادةً من هذا الإمام -: «ما من شافعيّ إِلَّا وللشافعي في عُنُقِهِ المنةُ العُظْمَى، إِلَّا البَيْهَقي؛ فإنَّ له على الشافعي منةٌ؛ لأنه أَكْثَرَ من التصانيف في نُصْرَة مذهبه وأقاويله». انتهى.
وفي كلام الإمام هذا ما يتعيَّنُ معرفةُ المَرَام منه؛ لإيهامه أنّ البيهقي أوجَدَ للشافعي أدلة لأحكام قالها من غير دليل؛ لأن ذلك ليس مراداً قطعاً؛ لأنك خبير بأن الشافعي رَضِيَ الله عنه لما ألف مذهبَهُ الجديد بمصر كانت مدة اجتهاده واستنباطه لأحكام هذا المذهب التي لا تكاد أن تُحصى نحو أربع سنين، فاضطَرَّهُ ما أَطْلَعَه الله عليه من قرب الأجل إلى أن يُبْرِزَ تلك الأحكامَ عَرِيّاً كثير منها عن بيان تحقيق دلائلها وتحرير أصولها، فأبرزها وَوَكَل أمرَ إظهار أدلتها ومداركها ومَآخِذِها إلى مَن يُوَفِّقُهُ الله لذلك من أصحابه وأتباعهم أو أتباع أتباعهم ،وهكذا، فكان الأمر كذلك، وأظهر أصحابه ومن بعدهم كثيراً من أدلتها، إلى أن جاء هذا الإمام ـ أعني البيهقي ـ فأفرغ وُسْعَهُ أولاً في جمع نصوص الشافعي من كتبه المتفرقة في البلدان والأقطار، مع اختلاف أصحابه في حكايتها، واختلافهم في كثير منها: أهو قول الشافعي أو وجه لأصحابه؟
ولما تم له جمع هذا المذهب كذلك، انتقل إلى البرهان على كلِّ حكم قالَهُ الشافعي ولم يذكر له دليلاً أو ذكر له دليلاً يقبل المشاحة والاعتراض، فَبَرْهَنَ وذَكَرَ أدلة المخالفين واعتراضاتهم، ثم بَيَّنَ رَدَّ ذلك كلّه أحسنَ ردّ، ونَقَدَهُ أَحسَنَ نَقْد، ولم يَزَلْ يُمْعِنُ النظر في ذلك، ويُفرغ وُسعَه فيه، ويبذل جهده في تحريره وتحقيقه ورَدُّ ما يَرِدُ عليه في تصنيف بعد تصنيف، إلى أن صار هو المنفرد في الحقيقة بنُضرة المذهب، والمتَحَلِّي بطراز تَشْريفه المذهب.
فهذا الذي أبداه مما كان كامناً هو الذي استحق أن يَمْدَحَهُ إمام الحرمين به ويقول: «إنَّ له به مِنَّةً على الشافعي». أي: في كونه أدرك دلائله وقواعده وأصوله التي طواها لضيق وَقْتِهِ عن إظهارها كما قَدَّمتُه ، وليس مُرادُ الإمام أنه أَبْرَزَ دليلاً لم يَلْمَحْه الشافعي؛ لأن من البعيد الذي لا يجوزُ فَرْضُهُ أن الشافعي يُبْرِزُ حُكْماً في مذهبه بلا دليل، بل الذي يَقْطَعُ به كلُّ مَن في قلبه أدنى مسكة من دين أنه لا يُبْرِزُ حُكْماً إلا بعد الوقوف على دليله وانتفاء جميع القوادح عنه في اعتقاده بحسب قواعده وأصوله، وحينئذ فغاية البيهقي رحمه الله تعالى: أنه أدرك ذلك المطوي فأظهره، وأنه أكثر من ذلك، ومن الكلام مع المخالفين والمباحثةِ لهم فيما أَوْرَدُوهُ فِي كُتُبهم من الاعتراض على الشافعي وأدلته ، فبَيَّنَ رَدَّ ذلك وبَرْهَنَ عليه بما انفرد به من بين الشافعية، حتى استَحَقَّ أن يُمْدَحَ بما سَبَق.
فتأمل ذلك وافهمه حقَّ فهمه، ولا تظنَّ من كلام الإمام المذكور في حق البيهقي؛ أن البيهقي أوجد للشافعي أدلة لم يُدركها الشافعي؛ لأنك إن تَوَهَّمْتَ ذلك وقعت في ورطة نسبة الشافعي إلى أنه يقول في الدين برأيه ـ أعاده الله من ذلك ـ ، بل الذي يَجِبُ على كل أحدٍ أن يعتقد فيه، بل وفي كلّ مجتهد: أنه لم يَقُلْ حُكْماً إلا وقد قام عنده دليله الواضح عنده، بحيثُ لم يَبْقَ له شبهةٌ تُوقِفُه عن القَوْل به.
وأخْبَرَ البيهقي عن بعض صُلحاء أصحابه: أنه لما فَرَغَ من كتابه المسمى بـ «معرفة السنن والآثار ـ السابق ذكره آنفاً - رأى الشافعيَّ رَضِيَ الله عنه في النوم وبِيَدَه جُزْءاً منه، وهو يقول: كتبتُ اليومَ من كتاب الفقيه أحمد سبعة أجزاء وقد قَرَأْتُها. قال البيهقي: وفي صباح ذلك اليوم رأى فقيه آخرُ من إخواني الشافعي جالساً على سرير في مسجد الجامع، وهو يقول : اسْتَقَدتُ اليومَ من كتاب الفقيه أحمد كذا وكذا.
ورَأَى بعضُهم شيئاً يَعْلو في السَّماء، فقال: ما هذا؟ قيل: تصانيف البيهقي توفي -رحمه الله -بنَيْسابور في عاشر جُمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمئة، وحُمِلَ تابوته إلى قرية من نواحي (بيهق)، ومولده قيل: في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام البغوي ]
البَغَوِيُّ هو أبو محمد رُكْنُ الدين الحسينُ بن مَسْعود، نسبةً إلى (بَعْ) من بلاد خُراسان بين مَرُو وهَراة. وقيل: اسمُها (بَغْشُور) ففي النسبة إليها تغيير خارج عن القياس.
تفقه رحمه الله على أستاذه إمام أصحابنا الخراسانيين القاضي الحسين المَرْوَزي فقيه خراسان. قال الرافعي: وكان يُقال له حَبْرُ الأمة. ثمّ حَكَى عنه أن رجلاً جاءه؛ فقال له: حَلَفْتُ بالطلاق إنه ليس أحدٌ في الفقه والعِلْم مثلَك أَيَحْنَتْ؟ فَأَطْرَقَ ساعةً وبَكَى، ثمّ قال: هكذا يَفْعَلُ موتُ الرّجال، لا يقعُ طلاقك.
توفّي -رحمه الله تعالى -بـ(مَرْوَرُّوذْ) سنةَ ستَّ عشرة وخمسمئة، قال بعضهم: وقد أشرف على التسعين ظناً. ودُفِنَ عند شيخه القاضي حُسَيْن المذكور. وهو من أكابر أصحاب الوجوه في مَذْهَبِنا. ومما أَكْرَمَهُ النبي ﷺ به: أنه لما فَرَغَ من كتابه «شرح السنة» رأى رسول الله ﷺ في النوم فقال: أَحْياك الله كما أَحْيَيْتَ سُنَّتي
[ فائدة مهمة تتعلق بـ«مصابيحه» ]
اعلم أنه رحمه الله جَمَعَ في كتابه هذا مع اختصاره وصِغَرِ حَجْمِهِ ما في الكتب الستة وزيادات عليها، وذلك أمر بديع، وجمع منيع، كيف وقد أتى بجميع مقاصد نحو اثني عشر مجلداً في مجلد صغير، لكنه اضطره هذا الأمر الذي جَنَحَ إليه من تسهيل هذه الكتب -التي هي كتب الإسلام -وتلخيصها للناس حتى يحيطوا بها بأطرافها في أسهل مدة، وحتى يكونَ مَن قَرَأَ كتابه الذي هو «المصابيح» بمنزلة من قرأ تلك الستة وما زاد عليها؛ إلى أنْ اصْطَلَح فيه باصطلاح غريب من عنده لم يَسْبِقه أحدٌ الحفاظ إليه، بل خالف فيه كثيراً من اصطلاح مَن تَقَدَّمه مما استقر عليه أمرُ الحفاظ، ومضى عليه عِلمهم في كتبهم المؤلّفة في الفَنِّ من حين تدوينه إلى زمن البَغَويّ، فحينئذ وَقَعَ له ذلك بادر جماعةٌ من كبار الحفَّاظ إلى الاعتراض عليه، وبيان ما ترتب على اصطلاحه هذا الذي اخترعَهُ من مخالفة أهلِ الفَنِّ، وإيهام غيرهم أموراً غير صحيحة. فمن أولئك المعترضين عليه الإمام النووي وابنُ الصَّلاح وآخرون، وحاصل من ما ذكروه:
أنّ ما جَنَحَ إليه في مصابيحه من تقسيمه أحاديثَهُ إلى صحاح وحِسان، ثمّ تخصيصه الصحاحَ بما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما» أو أحدهما، والحسان بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والإمامُ الدَّارِمي؛ اصطلاح لا يُعْرَف، بل هو خلافُ الصواب؛ إذ الحَسَنُ عند أهل الحديث ليس عبارةً عن هذا الذي ذَكَرَه؛ لما أنه وقع في كتب «السُّنَن» المذكورة غير الحسن كالصحيح، وهو كثير، وكالضعيف، وهو كثير أيضاً. انتهى حاصل ما ذَكَروه في الاعتراض عليه.
لكنْ انْتَصَرَ له الإمامُ التاجُ التَّبْرِيزيُّ فقال: هذا الاعتراض عجيب، كيف ومن المقرر المشهور عند أرباب العلوم النقلية والعقلية: أنه لا مشاحة في الاصطلاح. وحينئذ فتخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب، والبغوي قد صرح في ابتداء كتابه بقوله: «أعني بالصحاح كذا ، وبالحسان كذا». وما قال: أراد المحدثون بهما كذا أو كذا. فلا يَرِدُ عليه شيء مما ذَكَرَه المعترضون، خصوصاً وقد قال: «ما كان فيها من ضعيف أو غريبٍ أُشير إليه، أو أعرضتُ عما كان مُنْكَراً أو موضوعاً.
وأيد ذلك شيخُ الإسلام والحفاظ العَسْقَلانيُّ: بأنَّ البغوي حَكَمَ في قسم الحسان بصحة بعض أحاديثه تارة، إما نقلاً عن الترمذيّ أو غيره، وضَعْفِهِ أخرى بحسب ما يَظْهَرُ له في ذلك؛ إذ لو أراد بالحسان الاصطلاح العام ما نَوَّعَ الحَسَنَ إلى أنه قد يكون منه صحيح، وقد يكون منه ضعيف
وأما كونُه يَذْكُرُ المنكَرَ في بعض المواضع مع كونه التزم الإعراض عنه كقوله في باب السلام: ويُرْوَى عن جابر عن النبي : «السَّلامُ قبل الكلام. انتهى وهذا مُنْكَر . وكونه صرح بالصحة والنكارة في بعض ما أطلق عليه الحسان، وكونه ترك حكاية تنصيص الترمذي في بعضها بالصحة أحياناً، وكونه أدخل في القسم الأول المسمّى بالصحاح عدة روايات ليستْ في الصَّحيحَين» ولا في أحدهما، مع التزامه الاقتصار فيه عليها؛ فذلك كلُّه وإن كان يُعْتَرَضُ عليه به في بادئ الرأي، لكنه عند التحقيق لا اعتراض عليه في ذلك؛ لأنه إنما صَدَرَ عنه لأغراض خارجةٍ أَلْجَأَتْهُ إلى ذلك، هذا فيما تعمَّدَهُ من ذلك، وأما ما ذَهِل عنه مما الْتَزَمَهُ فَصَرَّح بخلافه؛ فَعُذْرُه فيه أوضح وأظهر.
و مما ألجأه إلى كونه أدخل في قسم «الصَّحيحَين» غيرهما: أنه يذكر أصل الحديث منهما أو من أحدهما ثم يُتبعُ ذلك بضم ما يليقُ به من بعض كتب «السنن» أو غيرها؛ لإفادة حُكم في ذلك الحديث ليس فيهما، أو لرد اعتراض على ما فيها؛ إيثاراً لكمال الفائدة، وإفادة لهذه العائدة.
ومما يؤيده في اختراعه اصطلاحاً لم يُسْبَق إليه أنه لم يَنْفَرِدْ بهذا الاصطلاح، بل اخترع غيره له اصطلاحاً كذلك، كالحاكم والخطيب؛ فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة على جميع ما في سُنن التّرمذي، وكابن مَنْدَه وابن السكن؛ فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة على جميع ما في سنن أبي داود وسنن النَّسَائيّ»، ووافقهما في أبي داود الحاكم، وفي النسائي» جماعةٌ؛ منهم أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عَدِيّ والدَّارَ قُطني والخطيب.
فهؤلاء الحفَّاظُ كلَّ منهم اصْطَلَحَ على ما ذُكِرَ عنه، بل شَدَّ بعضُ المغاربة ففَضَّل سنن النسائي» على «صحيح البخاري»، بل ذَكَرَ الحافظ أبو طاهر السلفي اتفاق علماء المشرق والمغرب على صحة الكتب الخمسة «الصحيحين» و«سُنن أبي داود» و «الترمذي» و«النسائي».
وقد قدَّمْتُ أنّ هذه الإطلاقاتِ كلَّها فيها تساهل صريح، واسترواح غيرُ صحيح، كيف وقد صرّح أئمةُ هذا الشأنِ: بأنَّ في الثلاثة الأخيرة الضعيف والمنكر وغيرهما. بل صرَّح أبو داود نفسه بانقسام ما في كتابه إلى وغيره، والترمذي صحيح مصرح بانقسام ما في «سُننه» إلى صحيح وحَسَن.
ومما هو غيرُ سَدِيد أيضاً قولُ مَن قال: «ما في هذه الثلاثة «سُنن أبي داود والترمذي والنسائي» مما سَكَتَ عنه مُخَرِّجُوها ولم يُصَرِّحوا فيه بضَعْفٍ ولا غيره؛ صالح للاحتجاج به». انتهى. وليس كما زَعَمَ هذا القائل، بل فيها أحاديثُ لم يَتَكَلَّمْ فيها الترمذي وأبو داود، وليس لغيرهم فيها كلام، ومع ذلك فهي ضعيفة. والحق في ذلك قول النووي رحمه الله: «مُعْظَمُ هذه الثلاثةِ يُحتج به». أي: صالح لأَنْ يُحتج به؛ لئلا يَرِدَ المنسوخ أو المرجوح عند المعارضة.
ومرَّ أنَّ كتابَ النَّسائي أقلُّ هذه الثلاثة حديثاً ضعيفاً، ومن ثم قيل: ما وُضِعَ في الإسلام مثله. ويقاربه «سنن أبي داود»، بل قال الخَطَّابِي: «لم يُصَنَّفَ فِي عِلْمِ الدين مثله». ويقاربه كتاب الترمذي، بل قال أبو إسماعيل الهروي: «وهو عندي أنفع من «الصَّحيحَين»؛ لأن كلَّ أحدٍ يَصِلُ للفائدة منه، وهما لا يَصِلُ إليها منهما إلا العالم المتبحر».
وأما سُنن ابن ماجه»؛ فقد مرَّ أيضاً أنه تَفَرَّد بأحاديث عن رجال مُتهمين بالكَذِب، وساق أحاديثُ حَكَمَ غيرُه عليها بالبطلان أو السقوط والنكارة، ومن ثَمَّ قال العلائي: «ينبغي أن يجعل «مسند الدَّارِمي سادساً للخمسة بدل «ابن ماجه»؛ فإنه قليل الرجال الضعفاء، نادِرُ الأحاديث المنكَرَة والشَّاذة، وإن كان فيه أحاديثُ مُرْسلةٌ وموقوفة فهو مع ذلك أولى من سُنن ابن ماجه. وهذا هو السَّببُ فِي جَعَلِ جَمْعِ كَرَزِين والمجد بن الأثير صاحب «جامع الأصول» «الموطأ» هو السادس لأولئك «السنن» الخمسة. وهذا كله استطراد، وقد تَقَدَّم كثير منه.
والحاصل مما مرَّ في الانتقادِ على البَغَويّ بتلك الأمور الكثيرة والجواب عنها بما مر إيضاحُهُ: أَنَّ البَغَوِيَّ وإِن اصْطَلَحَ على ما سَبَق ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن محل ذلك حيثُ لم يكن ذلك الاصطلاح موهما، وقد تقرر أن اصطلاحه موهم إيهاماً كثيراً، فلهذا انْتَقَدُوه عليه.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام ابن حبّان ]
ابنُ حِبَّان هو أبو حاتم محمد بن حِبَّان التَّمِيمِيُّ البُسْتيُّ الشافعي الثقة الثَّبْتُ الفقيه الواعظ القاضي. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ.
وأما مَنْ نَسَبُوهُ إلى التساهل؛ لأنه ربما يُخَرِّجُ عن المجهولين، لا سيّما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح؛ فتُعقبوا بأن غاية ما وقع فيه أنه أَدْرَجَ الحسن كتابه الموضوع للصحيح، وأنه خَفَّفَ في شروط الصحيح؛ فإنه خَرَّج فيه ما كان راويه ثقةً غيرَ مُدَلِّس سَمِعَ من فوقه وسمع منه الآخذُ عنه، ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع.
وإذا لم يكن في الراوي جَرْح ولا تعديل، وكان كلِّ من شَيْخِهِ والراوي ثقةً لم يأتِ بحديث منكر ؛ فهو عنده ثقة. وهذا وما قبله اصطلاح له، ولا مشاحة في الاصطلاح، وقد قال العماد بن كثير: إن ابن حبان وابنَ خُزَيْمة التزما الصحة، وهما خير من «المستدرك» بكثير، وأنظف أسانيد ومتوناً».
وعلى كل حال فلا بُدَّ للمتأهل من الاجتهاد والنظر، ولا يقلد هؤلاء ومَن نَحا نحوهم، فكم حَكَمَ ابنُ خُزَيْمَة بالصحة لما لا يَرْتَقي عن رُتبة الحُسْن، بل فيما صَحَّحَهُ الترمذي من ذلك جُملة، مع أنه ممن يُفَرِّقُ بين الصحيح والحَسَن.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام الدارقطني ]
الدارقطني هو الإمام الحافظ إمام عصره صاحبُ «السُّنن» و«العِلَل»، وناهيك بهما وغيرهما.
انتهى إليه علم الأثر والمعرفةُ بعِلَل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع كونه كان من أهل الصدق والأمانة والعدالة والديانة وصحة الاعتقاد والتضلع بعلوم شَتّى كالقراءات، وله فيها كتاب - قالوا: لم يُسْبَقُ إلى مثله، وكالمعرفة بمذاهب الفقهاء، وبالأدب والشعر.
درس الفقة على إمام الفقهاء في عَصْره أبي سعيد الإِصْطَخْريّ، وسمع أبا القاسم البغوي وخَلْقاً يطول عدُّهم، وأخذ عنه الأئمة كأبي نُعيم والحاكم أبي عبد الله والبرقاني والشيخ أبي حامد الإسْفَراييني شيخ طريقة العراقيين والخراسانيين والقاضي أبي الطيب شيخ العراقيين وآخرين.
قال الحاكم أبو عبد الله: ما رأى الدارَقُطني مثل نفسه». وقال القاضي أبو الطيب المذكور: «كان الدارَقُطني أمير المؤمنين في الحديث». وقال الحافظ عبد الغني: «أحسنُ الناس كلاماً على حديث رسول الله له ثلاثة : علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، والدارقطني في وقته». وقال الخطيب: «سألت البَرْقاني، هل كان الدارَ قُطْنيُّ يُمْلي عليك كتابَ «العِلَل» من حِفْظه؟ قال: نعم».
توفي ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، ودفن قريباً من قَبْرِ معروف الكَرْخي، ومولده في ذي القعدة أيضاً سنة ست وثلاثمائة، فعاش سبعاً وسبعين سنة.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام الحاكم ]
الحاكم هذا هو أبو عبد الله الضَّبِّيُّ النَّيسابوري الحافظ الثقة، لكنه معروفٌ عند أهل العلم بالتساهل في التصحيح، حتى قال الماليني: «إنه لم يَرْوِ في «مستدركه» حديثاً على شرط الشيخين» (۳). لكن ما قاله مردود ، وإنما الحق أنه أدخل فيه عدةَ موضوعات فضلاً عن الضعيف وغيره، حَمَلَهُ على تصحيح ذلك؛ إما التعصب لما رُمي به من التشيع، وإما أنه صَنَّفَهُ في أواخر عمره، وقد حصلت له غفلةٌ وتَغَيُّر، أو أنه لم يَتَيَسَّر له تحريره وتنقيحه، ويدلُّ له أن تساهلَهُ في قَدْر خُمسه الأول المكتوب عنده: «إلى هنا انتهى إملاء الحاكم قليل جداً بالنسبة إلى باقيه.
قال ابنُ الصَّلاح وتَبِعَهُ النَّوويُّ والبَدْرُ بن جَمَاعة وغيرهما: ما وُجد في «مستدركه» مما ليس فيه علةٌ ظاهرةٌ تقتضي ردَّه دائر بين الصحة والحسن، وكلاهما حُجَّة. وهذا في غير المتأهل للحُكم على الحديث بما تقتضيه القواعد فيه، أما هو فيجتهد ويَحْكُمُ بما يُفضي إليه اجتهاده.
تنبيهٌ [ ترجمة القاضي عياض ]
القاضي عياض هو أبو الفضل اليَحْصُبيُّ المَغْرِيُّ السَّبْيُّ المالكي، وُلِدَ سنة ست وسبعين وأربعمئة، ولي قضاءَ (سَبْتَه) ثم (غَرْنَاطَه)، ومات بـ (مَرَّاكُش) سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام البيضاوي ]
البيضاوي المذكور هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن علي بن أبي الخير ناصر الدين، كان إماماً مُبرِّزاً نظاراً خَيْراً ديناً صالحاً متعبداً، ولي القضاء بشيراز فعُزِلَ، وصنَّفَ كثيراً كـ «الطوالع أجل مختصر في علم الكلام، و«تفسيره» الذي سارَتْ به الرُّكْبان إلى كلّ جهة وعمّ نفعُه، على ما فيه من معضلات لا تخفى على من خبر زواياه واطلع على خباياه، لا سيّما ما وافق فيه أصله وهو «كَشَّاف» الزَّخَشَرِيِّ من الأماكن الصعبة.
ووقع للتَّقي المجتهد الإمام النُّور السُّبكي: أنه طالع مواضِعَ من «الكشاف» فَأَعْجَبَتْهُ كثيراً واغتبط بالكتاب إلى أن اطلع على ما فيه من القبائح ـ لا سيما ما يتعلق بنبينا في آخر سورة التكوير وغيره -، فحَلَفَ السُّبكي حينئذ: أنه لا يَنْظُرُ فيه بعد اليوم، وأنه لا يُبقيه في منزله، وفعل ذلك.
فوَقَعَ للبيضاوي سهواً أو غيره موافقته في كثير من تلك المعضلات، لكن أيْقَظَ الله مَن بالَغَ في ردها عليه، كما أيقظ جمعاً جماً إلى رَدّ جميع سخائم «الكشاف»، وبيان وزَلَلِه وخطله وغلطه وخلطه وبالغ في التشنيع عليه بما يستحقه وزيادات، ومن هؤلاء الذين أغلظوا عليه إلى الغاية الإمام المجتهد شيخ مشايخنا إمام المتأخرين السِّراجُ البُلْقِيني؛ فإنه أَلَّفَ على «الكشاف كتاباً حافلاً، وأطلق في تسفيهه وتخسيره وتجهيله في الاعتقادات عنان القلم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
ومما يُعاب به على البيضاوي أيضاً ما أكثرَهُ في «تفسيره» من علومِ الحِكْمةِ الواجب حَذْفُها من مثله، لا سيّما والبيضاوي في كثير من الأحيان يُقَدِّمُها ويَخْتارُها على ما يضادها من القواعد الشرعية.
وله عفا الله عنه من المؤلفات شرحُ التنبيه في الفقه في أربع مجلدات.
وله في الفقه أيضاً «الغاية القُصْوى»، ولما فَرَغَها عَرَضَها على والده ـ وكان إماماً في الفقه كغيره ـ فلما اطَّلَعَ عليها وتأملها قال لولده مؤلّفها: يا ولدي إنكَ لَسْتَ بفَقيه. قال: لِمَ؟ قال: لأنَّك إنها جَمَعْتَ فيه فروعاً معلومةً أحكامها مقرّرةً عند الأصحاب، فحِفْظُها وجَمْعُها ليس فيه كثيرُ أَمْر، ولا يَدلُّ على فِقْهِ نَفِيس. وإنما الذي يدلُّ على ذلك التخريج على القواعد والمدارك، والاستنباط لأحكام الحوادث من ذلك، وسَبْرُ كلام الأئمة أصحاب الوُجُوه، وأخذُ المنقول منه، وتَرْكُ المردود، وما يناسب ذلك مما لا يخفى على الفقيه.
توفّي البيضاوي رحمه الله بتبريز سنة إحدى وتسعين وستمائة.
تنبیهٌ [ ترجمة الإمام القزويني ]
الجلال المذكور هو أبو المعالي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الكريم الشافعي، ولد سنة ست وستين وستمئة، وسكن الروم واشتغل بها، وولي قضاء ناحية منها وله دون عشرين سنة، ثم قَدِمَ دمشق وأتقن فنون الأدب وغيرها، وناب في القضاء عن أخيه وغيره بها، ثم وليها استقلالاً، ثم وَلي مصر كذلك، ثمّ أُعيد إلى الشام، ثم فُلِجَ فمات سنة سبع وثلاثين وسبعمئة بعد أن بلغ من الرئاسة والعز والتقدم على أهل عصره ما لا يوصف، ومن ثَمَّ قال بعضُ المتأخرين: إن سيرته تحتمل مجلداً.
تنبيهٌ [ ترجمة القطب الرازي ]
كان القُطْبُ المذكورُ شافعياً، وكان أحد أئمة المعقول، أخذ عن العَضُد وغيره، وشَرَحَ «الحاوي الصغير» في مذهب الشافعي ، وشَرَحَ «المطالع» و «الإشارات» وحَشَّى على «الكشاف».
سأل الإمامَ المجتَهِدَ التقيَّ السُّبكي عن حديث: «كل مولود يولد على الفطرة». فأجابه، فتَعَرَّضَ القُطْبُ لنَقْدِ جواب السبكي، فأَطلَقَ السُّبْكي لسانَهُ فيه، ونَسَبَهُ إلى عدم فهم مقاصدِ الشَّرع، وإلى الوقوف على ظواهر قواعد علم المنطق وغيره. ومن غرائب الإمام الكافيجي الحنفي شيخ مشايخنا قوله: «القُطْبُ الرَّازي والسَّيدُ لم يَذُوقا علم العربية، بل كانا حَكيمين». انتهى وفيما قاله نَظَر، لا سيّما بالنسبة للسَّيِّد، على أنَّ الحق في تحرير العبارة في ذلك أن يقول : لم يَتَبَحرا في علم العربية كما تبحرا في علوم الحكمة ومتعلقاتها.
مات القُطْبُ سنة ست وستين وسبعمائة.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام ابن الحاجب ]
الجمال بن الحاجِبِ هو عثمان أبو عَمْرو الكُرْديُّ الأصل، ثمّ الأسنائيُّ المولد، ثمّ القاهري بقية عمره المالكي، إمامُ أهل عصره في علم أصول الفقه وفي علوم العربية وفي فقه المالكية، ومع ذلك فقد رَزَقَهُ الله القبول الوافر والسعد الباهر، فعمَّتْ مؤلفاته الشرق والغرب، وانْتَفَعَ الناسُ بها حتى في الأقاليم الشاسعة، والأقطار الواسعة، وتزاحَمَ أكابر الفضلاء ومحققو العلماء على شروحها وإقرائها والتدريس منها، ولم يزالوا على ذلك من عهده جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، إلى زماننا هذا.
[ المدار على انتفاع الآخذين لا على كثرتهم ]
ومع ذلك قيل: لم يُرزق في زمنه طلبةً كثيرين، بل كان أهلُ دَرْسِهِ جماعةً قليلين جداً، بحيث إن بعض التلامذة قال لبعض المشايخ المعاصرين لابن الحاجب: يا مولانا، من منة الله عليك أن جَعَلَ طلبتكَ الذين يحضرون درسك فوق السبعين، وجعل طلبة نظيرك ابن الحاجب أربعة. فقال له: اسكت، وَدِدتُ أن واحداً من أولئك الأربعة يأتي إليَّ، ويذهب عني إليه السَّبعون الذين ذَكَرْتَ أنهم يحضرون دَرْسِي. انتهى.
وحينئذ فينبغي لك أن تتأمل هذه القضية؛ لتعلم أن المدار ليس على كثرة الآخذين، وإنما المدار على انتفاعهم، ويَشْهَدُ لذلك الحديث الصحيح، وهو أنه ﷺ قال لعلي كرَّم الله وجهه: «لأَنْ يَهْدِيَ الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمُرِ النَّعَم. فجعل هداية الواحد تعادِلُ تلك الناقاتِ الحُمر التي هي أشرفُ أموال العرب عندهم، ولم يبال بكون المهدي واحداً؛ لما تقرر أنّ المدار على حصولِ غاية التعليم، وهي الوصول للمقصود من الهداية إلى ما الإنسانُ بصَدَدِه، لا كثرة الطلبة من غير وصول أحدٍ منهم لذلك؛ فإنّ هذا لا يَنْظُرُ الله إليه، ولا يعدَّهُ فَخْراً إِلَّا مَن كان علمُهُ غير خالص لوجه الله تعالى، وإنما القصد به الرياء والسُّمْعةُ والتوصل إلى الأعراض الكاسدة، والأغراض الفاسدة، وجمع الحطام من غير نَظَرِ إلى أنه يُحاسَبُ عليه والناسُ في ذلك الموقف المهول قيام.
وُلِدَ ابن الحاجب بـ (أَسْنَا) من صعيد مصر سنة سبعين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة عن خمس وسبعين سنة.
تنبيهٌ [ ترجمة القاضي عَضُد الدين الإيجي ]
العَضُدي المذكورُ :هو القاضي عبد الرحمن عَضُد الدين الإيجي كان إماماً في المعقول والمنقول، وله مؤلفات فائقةٌ في فنونها معظم كتب ذلك الفن، ومن ثَمَّ انتشرت انتشاراً باهراً وظهرت ظهوراً، وصار ذِكْرُها في الأقطار سائراً، وتزاحَمَ على شروح بعضها كـ«المواقف» وتحشية بعضها كـ شرح مختصر ابن الحاجب» أكابر العلماء شرقاً وغرباً، وعجماً وعرباً، ولم يُعْتَدَّ بِعِلْمٍ مَنْ لم يَعْتَنِ بها قراءةً وإقراء، ولا عَكَفَ عليها إلى أن تَأَمَّلَ لأَنْ يُمْلِيها إملاء.
ولما قرأتُ من شَرحه» لـ«مختصر ابن الحاجب على شيخنا المحقق ناصر الدين اللقاني، وكان يحضُرُ ذلك الدرس من الفضلاء كثيرون تَقَرُّ بهم العيون، كان الشيخ يميل إلى مساعدة الماتِن الذي هو ابن الحاجب؛ لأنه مالكي مثله، وكذلك المالكية من الحاضرين فيتكلَّفون لِرَدُّ ما يُورِدُه العَضُد عليه، وكنت أسعى في توجيه إيرادِ العَضُد وتوضيحه، وأنه - أعني : العَضُد - غير متعصب ولا مُتَحامِلٍ على ابن الحاجب، وأما بقية أهل الدرس من الحنفية والحنابلة فتارة يكونون مع المالكية، وتارة يكونون مع الشافعية.
[ بيانُ التعصب المذموم من غيره ]
والحاصل؛ أنَّ الجبلة المطبوعة على الأخلاق الأولية، والخصائص المركوزة في البدايات، التي لم تُشب بالأغراض المثنوية؛ تُثارُ على نُصرة مذهبها ما أمكنها، ولا محذور في ذلك حيثُ كانت الأدلة محتملة متقاربة، وإنما المحذور في العناد؛ فإنَّ كثيراً من المتعصبين لمذاهبهم لا يرجعون الضروري فضلاً عن يقيني نَظَري، وهذا هو عينُ العِناد؛ لما هو مقرر عند الأصوليين: أنَّ الفقه من باب الظنون، وأنَّ المسائل اليقينية التي تُذكر فيه دخيلة فيه، خارجة عن موضوعه، وإنما ذُكِرَتْ توطئةً واستطراداً، وإذا كان الفقه ظنِّياً لظنيَّة أدِلَّته، وجب أن يُقبل أقوى الظَّنَّيْن، وأن يُرجع إليه.
فإذا تعارَضَ دليلان وأحدهما أقوى؛ لكونه مثبتاً، وغيره نافٍ، أو لكون حديثه أصح من حديث مقابله، أو لكون القوادح التي تطرقُهُ أَدونَ أو أقل من القوادح التي تطرُقُ مقابله، أو غير ذلك من وجوه المرجّحات المقرَّرة في علم أصول الفقه؛ وجب الأخذ بالأقوى، هذا في حق المجتهدين.
وأما المقلدانِ فلا فائدة لتنازُعِهما في ذلك من حيثُ رجوع أحدهما إلى الآخر؛ إذ المقلد هو الذي لا يتأهل للنظر في الدَّليل على وجهه المُنتج للحكم المطلوب منه، وإنما فائدتهما في ذلك إحاطة الظن بأنَّ مذهب فلان أقرب إلى إصابة الحقِّ من مذهب فلان؛ إذ المصيب في الظنيات واحدٌ لا غير، وقد قيل: ينبغي للمقلد أن يكون مركوزاً في اعتقاده أنَّ إمامَهُ يحتمل أنه مخطئ وأنه مصيب، وأنَّ الظَّنَّ القوي إنه المصيب دون غيره، فإمامه مصيب عنده ظنّاً، مخطئ احتمالاً، وغيرُ إمامه مخطئ عنده ظناً مصيب احتمالاً فاحفظ هذا الاستطراد؛ فإنه نافع جداً، وبه يخرجُ الموفّق عن التعصب والعنادِ وغوائلهما التي ربما أدت إلى استباحة قتل النفوس.
ألا ترى إلى ما وقع للشافعيّ رَضِيَ الله عنه أنه لما دخل مصر كان بها أصحابُ مالك فانثالَ الناسُ على الشافعي وتركوا أصحاب مالك كابن القاسم وأَشْهَب وفتيان وغيرهم، فلما رأوا أن الناس كادوا أن يطبقوا على تركِ مذهب مالك والأخذ بمذهب الشافعي فرّ بعضُ أكابرهم إلى الدعاء على الشافعي في سجوده فكان يقول: (اللهم اقْبِضْ عبدك محمد بن إدريس الشافعي، وإلا ذهب علم مالك). وفرَّ بعضُ حمقائهم إلى الانتصار بمذهبه بما كان سبباً في تحمله نفس الشافعي، ولقي ربَّه بذلك.
وذلك لأنه تكلَّم مع الشافعيّ رَضِيَ الله عنه في مسألة فظفر عليه الشافعي فيها، فأخرج كيلوبا من كمِّهِ وضرب به ركبة الشافعي من شدة حَنَقِهِ منه، فأصابت فيه مَقْتَلاً، فنُقِلَ إلى بيته واستمرَّ شاكياً من ذلك إلى أن توفاه الله شهيداً، كذا أثبته بعضُ المؤرّخين، ونفاه بعضهم.
[ واقعة للمصنّف بمكة حول حكم القهوة ]
ولقد وقع لي بمكة المشرفة في قريب الخمسين وتسعمئة: أننا حضرنا وليمةَ عُرس فأُتِيَ بالشراب المسمّى الآن بالقهوة؛ ليشربه الناسُ على العادة، فقال بعضُ أكابر المفتين من أعيان بيوتها: القهوة حرام مسكرة نجسة أثر من الخمر.
فقلتُ له: حمى الله القاضي من هذا التعصب الذي لا يقول بمثله سوقي، فضلاً عن فاضل، فضلاً عن مدرس، فضلاً عن مُفْةٍ، فضلاً عن مسن مضى عليه وهو يدرس ويفتي نحو الخمسين سنة بمكة المشرفة بحضرة مَن يَرِدُها من أكابر العلماء من سائر المذاهب، وكيف يَصْدُرُ منك مثل ذلك وهو ضروري البطلان.
فصمَّمَ على هذا العناد الضروري البطلان، وقال: هذا اعتقادي فيها. فَصَمَّمْتُ على الإنكار والإغلاظ عليه، وقلتُ له: هذا أدلُّ دليل على عدم الاهتداء بنُور العِلْم، وعلى أسوء الحرمان والقطيعة؛ إذ مَن وَصَلَ عنادُهُ إلى إنكار الضروريات كيف يتأهل للكلام معه في حالة من الحالات.
فقال: لستُ مُبْتَدِعاً لهذه المقالة، وإنما سَبَقَني إليها جماعة من علماء المذاهب لما عُقِدَ لها مجلس بالمسجد الحرام.
قلتُ: نبحث معك في هذه الواقعة ونبيّنُ لك أنه لا دليل لك فيها بوجه من الوجوه.
فقال: ما بيان ذلك؟
قلتُ: أما أولاً؛ فأهل ذلك المجلس اختلفوا اختلافاً كثيراً ولم ينفصلوا على كلمة واحدة، وإنما كان بعضُهم يقول بالحل ، وبعضُهم بالحرمة، وانفصلوا على ذلك، لكنَّ الأمير الذي جَمعَهم لحضور ذلك المجلس - وهو أمين عمارة باب إبراهيم المسمى بـ (خايربك المعمار) من أمراء الجراكسة الذي أرسله السلطانُ الغُوري لعمارة باب إبراهيم - كان له تَعَصُّبٌ عليها في الباطن ، فأَعْجَبَهُ مبادرة أولئك البعض إلى القول بالحرمة، فبالغ في تعزير بعض شربتها، وفي زَجْرِ الناس عنها، ولم يَنْفَعُهُ ذلك؛ فإن الناس كان أكثرهم خُلُواً عنها ، فلمَّا وَقَعَ هذا المجلس وما ترتب عليه مما ذكرناه كان ذلك سَبَباً لتزاحم كثيرين على شُربها، ولم تَزْدَدْ إلا ظهوراً.
ثم لا زال المنكرون وذلك الأمير يتعرضون للإنكار على أهلها وإهانتهم، وهي مع ذلك لا تزداد إلا ظهوراً، ولا تَزْدادُ شَرَبَتُها إلا كثرة، وهكذا في كلّ زمانٍ إلى قريب من هذه الأزمنة.
ومما زاد به تشنيع المنكرين: أنهم كتبوا أسئلةً إلى علماء مصر، وذكروا في تلك الأسئلة إنها مُسْكِرَةٌ؛ فما وَسِعَ العلماء إلا أن يُجيبوا على ما في الأسئلة، فكتبوا بالحرمة والنجاسة والحد، وبالغوا في الزَّجْر عنها، وكلُّ ذلك؛ لكونهم معذورين بعدم معرفتها، فإنها إذ ذاك لم تكن ظهَرَتْ بمصر، فكانوا جاهلين بحقيقتها، فقَلَّدُوا مُرْسِلَ الأسئلة، وكتبوا على ما فيها كما هو القاعدة: «أنّ المفتي أسير السؤال». هذا مع علمه بأنَّ ما في السؤال خلافُ الواقع، فكيف وهم لا يعلمون القهوة ولا يُحيطون بشيء من أوصافها. وقد قال الأئمة: لو رُفِعَ لِفْتِ سؤالٌ وهو يعلَمُ أنَّ باطن الأمر خلافُ ما في السؤال، كَتَبَ على ما في السؤال، لا على ما يَعْرِفُهُ من باطن الأمر؛ لما تقرر : أنه أسير لما في السؤال، مُتَقَيّد به لا يَخْرُجُ عنه وإن عَلِمَ أن الواقع خلافه.
فلما جاءت تلك الأسئلة من مصر وعليها خطوط علمائها؛ ازداد إنكار الأمير ومن أنكروا؛ موافقةً له. ثم خمدت تلك النيرانُ وانطفت، وظَهَرَ الحَقُّ إلى أنْ لم يَبْقَ معانِدٌ ولا مُنْكِرُ يُعْتَد به.
وأما ثانياً: فالحامل للمنكرين على إنكارهم وتَصْمِيمِهم على القول بالحرمة: أنَّ جماعةً من السُّفَهاء المعروفين بالمجون والخلاعة والاستهتار بأمور الدين والمجازفة والرّقاعة أُحْضِرُوا في ذلك المجلس الذي عَقَدَهُ الأمير بالمسجد الحرام، ثم قالوا: إننا كنا نَشْرَبُها وقد تُبْنا وحَسُنَتْ أحوالنا، ونحنُ نشهَدُ الآن أنها مُسْكرةٌ كالخمر.
فأَخَذَ المنكرون بشهادة هؤلاء، ورَتَّبوا على شُرْبِ القهوة ما رَتَّبَهُ العلماء على شُرْب الخمر، وجعلوا ذلك عمدتهم في كتابتهم في أسئلتهم السابقة: أنها مسكرة.
[ ما وَقَعَ للشهاب السنباطي في شأن القهوة بمصر ]
واستمر كثير من الناس على تصديق هذه الشهادة الباطلة التي لا تُساوي عند الله جناح بعوضة، حتى ظهر الشيخ الإمام العالم الحجةُ الشهاب بن شيخنا الثاني ـ وهو الزَّيْني عبد الحق السَّابق ذِكْرُه - فشَهِدَ عنده جماعةٌ من أولئك السُّفَهَاء -كما ذُكِرَ - فمال الشيخ إلى شهادتهم وعَمِلَ بمقتضاها، فحَضَّ الناسَ وهو في مجلس وَعْظِهِ بالجامع الأزهر -وكان يحضُرُ مجلسَ وَعْظِه ألوفٌ مؤلّفةٌ من العوام على اختلاف طبقاتهم وجَهْلِهم وغَبَاوَتِهم -على أن يَذْهَبُوا إلى بيوت شَرَبَتِها ويبالغوا في الإنكار عليهم.
فخرجوا كالأسد الضَّارية، فدخلوا بيوتها، وضربوا أهلها، ونَهَبُوا أموالهم، وكسروا أوانيهم، وكان يوماً مشهوداً، بحيثُ إنّ الباشا نائب السلطان بمصر لما بَلَغَهُ ذلك الأمر انزعج له انزعاجاً كبيراً، فقال له بعض أعداء الشيخ الشهاب المذكور: يا مولانا، اخْشَ على نفسك من هذا الشيخ الواعظ ؛ فإنه لو أَمَرَ العوام بك لهدموا قلعتَكَ حَجَراً حَجَراً، ولم يَمْنَعُهم حصانتها العجيبة ولا كثرة عساكر مولانا السلطان ـ عزّ نصره ـ عما يريدونه بك؛ فإنَّ عوام مصر إذا أطبقوا على شيء لم يقدِرُ عسكر مصر على منعهم.
فأرسل الباشا لِوَقْتِهِ إلى الشيخ مَن قال له: الْزَمْ بيتك، فلا تَعِظُ بعد اليوم، ولا تَرْتَقِ المنبر للخطابة، ولا تُفْتِ، ولا تُدَرِّسُ، ولا تؤم بالناس.
وكان الشيخ إذ ذاك مُتَلَبّساً بخَمْس وظائف دينية علية جداً؛ لأنه انتهت إليه رئاسة العلم والحفظ وحسن الوعظ وسُرعة الاستحضار وانتفاع أكثر العامة به انتفاعاً ظاهراً، وتلك الوظائف التي كان متلبساً بها هي: الوعظ والخطابة والإفتاء والتدريس والإمامة.
كل ذلك بالجامع الأزهر الذي ليس على وَجْهِ الأَرض بقعةُ جَمَعَتْ من علماء الأمة وصلحائهم والجهد في طلب العلم وتعلمه وتعليمِهِ والدَّابِ في ذلك الليل والنهار مثله؛ بحيثُ أجمعوا على أنه لم يقع منذُ أزمان وإلى الآن: أنه خَليَ عن علمٍ أو ذِكْرٍ ساعةً من ليل أو نهار. وفيه من عدة الدروس والمصنفين والمفتين والعلماء العاملين ما يَعْجَزُ الوصف عن الإحاطة بهم، ومن تأمل «الضَّوء اللامع» للحافظ السخاوي أحاطَ ببعض ما ذَكَرْتُه.
ولما وقع لأهل القهوة ما وقع وعلموا أنّ الباشا تَغَيَّرَ على الشيخ، ومَنَعَهُ تلك الوظائف العلية وأمره بملازمة بيته؛ اجتمع جماعة من أهل اليمن والحجاز وغيرهما، وخَرَجُوا في أَزِقَّة مصر ينشدون ويبالغون في التَّضَرُّع والدعاء على من أفتى بحرمة القهوة، وأمر أن يُفعل بأهلها ما فُعل، وصار لهم تخشع وأصواتُ مطربة، ومن جملة إنشادهم: «الغارة يا سيد الكونين».
وداموا على ذلك مدةً، وعَظُمَ سرورهم بمنع الشيخ من وظائفه الخمس السابقة، وصاروا يَتَبَجَّحُونَ ويقولون: هذا من بركة القهوة.
[ ما قيل في سبب اشتهار القهوة ]
قيل: سبب اشتهارها، وأنه ما رام أحد إخمادها إلا عُوجِلَ بالعقاب، وازدادت ظهوراً وانتشاراً: أن بعض أولياء اليَمَن لما رأى فيها إعانةً عظيمةً على السَّهَر، وتنشيطاً للفقراء على السَّماع والذِّكْر، وإدامة ذلك الليالي المتعددة، وهم لا يزدادون إلا اجتهاداً في الأذكار والقراءة وغيرهما مما هو معروف من طرائقهم، دعا الله تعالى في حال مناجاته أن يُظْهِرَها ويَمْنَعُ معانديها، فتقبل منه بشهادة الواقع فإنه وَرَدَ إلى مكة مراسيم سُلْطانية بمنع شُربها وغَلْقِ محالها ومَنْع طَبْخِها وشَدَّدوا في ذلك، وتكرر مراتٍ، فيُمثل ذلك مدةً قصيرة، ثم تنطفئ تارةً وتظهرُ نارها، ويعود الناس إليها أكثر ما كانوا، حتى إنه بَلَغَني أن حاملي المراسيم إذا خَلَوْا طلبوها وشَرِبوها، وقالوا: لأهلها إذا ذَهَبْنا افعلوا ما شئتم.
بل بلغنا أنها ظهرت ببلاد مولانا السلطان - عزّ نصره - ظهوراً تاماً، وأنه وَرَدَ الأمرُ من حضرته بمنعها ورَمْي مادَّتِها التي تُطبخ منه في البحر، فمَنَعَ الناس منها، وأرمي من ذلك في البَحْر ما يُساوي مالاً كثيراً، ثم بعد ذلك بَرَزَ الأمرُ: بأنَّ ما رُمِيَ به في البحر يُغرم ثمنه من خزانة السُّلطان، وبأنه لا يُتَعَرَّضُ لأهلها.
[ أجوبة المصنّف عن القول بتحريم القهوة ]
والحاصل: أنها لا تزدادُ إلّا ظهوراً، وأن المنكرين لها اعتَمَدُوا على شهادة من لا يجوز الاعتماد على شهادته، وقد صرّح جماعة من متأخري أئمتنا؛ منهم الإمام المجتهد التقيُّ السُّبكي: «بأنَّ شرط قبولِ الشهادةِ أنْ لا تُخالِفَ أمراً قطعياً». وشهادة أولئك خالَفَتْ أمراً قطعياً، بل ضرورياً؛ لأن الأمة الآن أجمعت على أنه ليس فيها إسكار ولا تخدير ولا تنويم ولا إفساد للعقل. وكل عاقل قاض بذلك باعتبار ما يشاهده من شربتها.
وأما باعتبار ما سبق فكان للعلماء المنكرين لها نوع عذر؛ لأنه لم يثبت عندهم أحوال شاربيها عقب شُربها، وأما الآن فقد انكشف الغطاء وزال الشلُّ، ولم يَبْقَ أدنى ريبة أنها سالمة عن جميع أسباب التحريم؛ من الإسكار والتخدير والتنويم والإفساد. وأما تَضَرُّرُ بعض الناس بشُرْبِها، وهم أصحاب السوداء؛ فذلك لا يقتضي حرمتها، بل ولا ذمها؛ لأنّ العَسَلَ شفاء بالنص، وقد صرح الغزالي وغيرُه: بأنه يَحْرُمُ على المحرور استعماله؛ لأنه يضره باعتبار طَبْعِهِ، وإن كان هو في نفسه شفاءً ودواء لسائر الأمراض، لكن بشرط صدق النية، ومن ثمَّ لما وَصَفَهُ ﷺ لمن اشتكى بَطْنَ أخيه، فاستعمله فلم يَنْجَعْ، فشكى فأَخْبَرَ النبي ﷺ فقال: «صَدَقَ الله وكَذَبَ بطنُ أخيك». فاسْتَعْمَلَهُ فشفاه (۱) ، فهو شفاء لكل الأمراض بالشرط المذكور.
وبهذا رَدَّ بعض المحققين استشكال الآية: بأَنَّا نجدُهُ مُضِراً لكثير من الناس، فقال: سبب ذلك عدمُ الصِّدْق في استعماله ، وأمَّا مَن صَدَقَتْ نِيتُهُ واطْمَأَنَّتْ نفسه فهو شفاء مطلقاً.
وإذا علمت ذلك التحريم في العسل فهو في القهوة بالنسبة لذوي نحو الأمزجة السَّوْداوِيَّة كذلك، فهو إضرارٌ عَرَضيّ، فلا يَقْتَضي تحريم ذاتِها . وأما ما يُقال: إنه يحدثُ منها نَشْأة؛ فإن أراد قائل ذلك أنها كنَشْأَة الخمر فهو ضروري البطلان؛ لأَنا نجدُ شُرَّابَ الخمرِ تَحْمِلُهُم نشأتهم على أحوالٍ قطُّ لا يوجَدُ نظيرها في شَرَبَةِ القهوة، وهذا ضروري لا يَحتاجُ للبرهان عليه. وإن أراد أن فيها نوع تنشيط وإزالة فتورٍ وكَسَلِ عن النفس؛ فهذا من محاسنها لا من مَذامها؛ إذ كثير من الأطعمة والأشربة المجمع على حِلّها فيها ذلك، ولم يذهب أحد إلى حُرْمَتها بسببه؛ لأنه لا يترتب عليه فساد أصلاً، والخمرُ إنما حُرِّمت؛ لأن فيها شدةٌ مُطْرِبةٌ تَسْلُب العقل وتَغْمُره وتَسْتُرُه، فينعدم التمييز أو كماله، فيتعاطى المفسدات والإضرارات للغير بلسانه ويده.
وأما ما يُقال: إن تركها يؤدّي إلى ضَرَر مُدْمِنيها فهي كالخمر والأفْيُون! فجوابه: أنا سَبَرْنا كلام العلماء فلم نَرَ أحداً منهم عَلَّل الحرمة بأنّ التركَ يؤدي إلى الضَّرَر، بل هذا مؤكد للفعل،. وإنما المحرَّمُ أحد الأربعة السابقة؛ السكر أو التخدير أو التنويم (۳) أو الإفساد، على أن هذا أعني ضررَ التّرك ـ غيرُ خاص بالقهوة؛ لأنّ كلَّ مَن أَلِفَ مأكولاً أو مشروباً ثم تَرَكَهُ فلا بُدَّ أنه يتأثر له في مزاجه وبَدَنه، ولذلك قال بعض المحققين: غايتُها أنها في ذلك كالأرز بالنسبة للعجمي المدمن لأكله، فإنه إذا تَرَكَهُ تَضَرَّرَ وحَصَلَ له الصُّداع وغيره. فعُلِمَ أن الاستدلال بذلك يُنْبِئُ عن الجهل والغباوة والعناد.
[ يقينُ المصنف وكرامة الله له ]
وهذا خلاصة ما أشرتُ إليه في ذلك المجلس، وذلك الرجلُ المَنْكِرُ لا يَزْدادُ إلا إنكاراً، وكان عنده ابن أخيه قاضي القضاة الحنفي بمكة، فقلتُ له: ما تقول فيما يقول عمك ؟ فقال لي: أنا معكم فيما تقولونَه. فالْتَفَتَ إليه من شدة حَنَقِهِ وسَبَّهُ، فَضَحِكَ وقال لي: أنا معكم. فلم يَزْدَدْ ذلك إلا نكاية، لا سيّما والحاضرون كلُّهم قاموا عليه ونَقَمُوا تَصْمِيمَهُ على هذا الباطل الصراح.
ثم انفضَّ ذلك المجلس وهو مملوءٌ غَيْظاً، فزَيَّنَتْ له نفسُهُ أَنْ يَذْهَبَ إلى مَن نتَصِرُ له، وكان بمكةَ ممسوح من مماليك السَّلْطَنة العُثمانية، فَذَهَب إِليه وقال له: مثلُكَ يكون في هذا البلد وأبو حنيفة يُسَبُّ في المجالس فلا يجدُ مَن يَنتَصِرُ له، وذَكَر له ذلك المجلس، ودَسَّ فيه له هذه الكذبة التي يَهْوِي بها في النار إلى ما شاء الله.
فحين سَمِعَ ذلك الممسوح هذا الذي ذَكَرَهُ له ذلك الشيخُ الضالُ تَنَمَّرَ وتَجَبَّرَ وأَخَذَ سيفه وقال : لأَجْلِسَنَّ لفلان - يريدُني - في طريق ذهابه إلى درسه بالمسجد الحرام عند طلوع الشمس، وأقتله بسيفي هذا، ولا يؤخذ له بثأر.
فجاءَ في الخبرُ أنَّ فلاناً الممسوح جاء إليه الشيخ فلانٌ وذَكَرَ له المجلس، فَذَكَرَ الممسوحُ أنه يقتلك، وها هو جالس لك على الطريق ومعه سيفه.
فلمَّا ذُكِرَ لي هذا الكلامُ علمتُ أنه اقترَنَ بالكذب الصرف؛ فإن أبا حنيفة رَضِيَ الله عنه لم يَجْرِ له ذِكْرٌ في ذلك المجلس، وإنما قال بعض الحاضرين: يا شيخُ فلان، أنتم مذهبكم المسامحة في النبيذ، فكيف هذا التشديد في القهوة؟ فجَعَلَ هذا الكلامَ وصلةٌ إلى كَذِبِهِ عليَّ بقوله: إنه سَبَّ أبا حنيفة.
فحين علمتُ أنه كَذَبَ عليَّ عند ذلك الممسوح - وأنه إنما خَصَّ الممسوح بذلك؛ لما هو مُقَرَّر في عقول الممسوحين - اطمأننتُ وعلمتُ أنه لا يُصيبني من ذلك الممسوح شيء، فسَلَكْتُ الطريق الذي هو جالس فيه، فحين مررتُ عليه قام وقبل يدي على العادة، ولم أرَ منه سوءاً قط منه، وهذا كلُّه جرَّ إليه ذم التعصب للأقوال والمذاهب بالباطل، وبه عُلم أنه لا يفلح متعصب قط، وأن الله يُحْمِلُهُ ويَمْنَعُ انتفاعه بالعلم، ويُسَلِّطُ عليه مَن يَنتَقِمُ . الله فاحْذَرُ التعصب ما أمكنك؛ لتظفر بالعلم وغاياته، وتحيط ببداياته ونهاياته، وفقنا الله وإياك لمرضاته، وأجْزَلَ علينا عظائِمَ هباته، إنه أكرم كريم، وأرحم رحيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام التفتازاني ]
التفتازاني هو الإمامُ سَعْدُ الدين أبو الفضائل أحمد بن علي بن مسعود، وقال شيخنا الثالث: اسمه مسعودُ بنُ عمر بن عبد الله التفتازاني، الإمام المشهور بالكمال التام، والتحقيق الباهر في الأصلين والعلوم العربية والعلوم العقلية والحكمة. قال شيخنا الجلال السيوطي: وهو شافعي المذهب. انتهى.
وقد يَرِدُ عليه كلامُهُ في «التلويح»؛ فإنه في كثير من المواضع يَقْتَضي أنه حَنَفي، وقد يُجاب: بأنّ مَن تَكَلَّم على طريق البَحْث مع أصحاب الأقوال؛ لا يُقْضَى عليه بأنّ بعض تلك الأقوال التي يَتَكَلَّمُ بها في الترجيح بينها مَذْهَبُه، وإن بالَغَ في الانتصار له؛ لأنّ شأن المتكلّم في ذلك إنما يتكلَّمُ في الدليل وما يَقْتَضِيهِ من غير نظر إلى اعتقاده وما عليه عَمَلُهُ واعتماده.
ويُؤيد ذلك قولهم: إنَّ الخلافي لا مذهبَ له، ولا تُسَمَّى معلوماته فِقْها؛ أي: في حال تكلمه على أقوال العلماء، وما يُثبتها وما يَنْفِيها. شَرَحَهُ شِيخُهُ القُطْبُ الرَّازي.
وكأنَّ الجلال اعتمد فيما ذَكَرَهُ أنه شافعي على مواضع من «تلويحه» تَقْتَضي أنه شافعي، إلا أنْ يُراعى ما تقرر في الخلافي.
ويحتمل أنه اعتمد ما حُكي أنه شَرَح الحاوي الصغير»كما في فقه الشافعية، فإن قلت: شَرْحُ كتاب في مذهب من المذاهب الأربعة لا يستلْزِمُ أن شارحَهُ مقلد لذلك المذهب الذي هو فيه، ومن ثمَّ شَرَحَ بعضُ الشافعية بعض مختصرات الحنفية.
قلتُ: هو وإنْ لم يَسْتَلْزِمْ ذلك، لكنه يَقْتَضِيهِ باعتبار أن الغالب من أحوال علماء المذاهب الأربعة أنّ الواحِدَ منهم لا يَشْرَحُ إلا ما في مَذْهَبِه، وأما ما في مَذْهَبِ غيره فشَرْحُه له ليس مما ينبغي؛ لأن وظيفة الشارح ليست مجرَّدَ فَهم العبارة وتقريرها، وإنما وظيفته بيانُ معتمد المذهب، وأن ذلك المتن هل يطابقه أو لا، وذلك يَسْتَدْعي معرفة قواعد ذلك المذهب، وما لشيوخِهِ في تلك المسألة من نَقْدِ ورَدُّ وموافقة للقواعد ومخالفة لها، وهذا لا يَتَأَنَّى من دَخِيل في ذلك المذهب عَمِدَ إِلى مَتْنِ من متونه، ثُمَّ نَظَرَ كلامَ شُرَّاحِهِ واخْتَصَرَهُ مقلّداً لهم فيما يقولونه من غير تَعَلُّبِ منه له؛ إِذْ لا يَصْلُحُ التَّعَقُبُ إلا لمن امْتَزَجَ لحمُهُ ودَمُهُ بذلك المذهب ، وأَخَذَ عن أهله، ورَدَّ عليهم وردُّوا عليه، ولازمهم في إقرائه وتقريره المُدَدَ المتطاولة، حتى يَعْرِفَ خباياه، ويَقِفَ على زواياه، ويحيط بمقدماته ومقاصدِهِ وأصوله ومعاقه.
وأما الدخيل فيه الذي نَظَرَ في كلام بعض أئمتِهِ حالةَ شَرْحِهِ لبعض مُتُونِهِ لا غير؛ فهذا لا ينبغي له أَنْ يَتَصَدَّى لشرح شيءٍ من كتبه، فإِنْ فَعَلَ فهو مُضَيِّعٌ لتَعَبِهِ فيما لا يعود عليه بكثير نَفْع ومَدْح؛ لأنك لا تَجِدُ أحداً من علماء ذلك المذهب يحمده على ذلك الصنيع؛ لأنه مجرَّدُ ناسخ أو ماسخ، وما أغنى العاقل عنْ أَنْ يُعَرِّضَ نفسَهُ لذلك. وهذا كلُّه فيه التعريضُ بذلك الشافعي الذي ذَكَرَهُ السائل، على أنه لم يَكْمُلْ لِفَهْمِ مَذْهَبِهِ على ما هو عليه كما دَلَّ عليه صنيعه في كثير من كتبه، ومَن هو كذلك كيفَ يَتَعَرَّضُ لمذهب الغير ويتكلم فيه.
وُلِدَ ـ أعني السَّعد - سنة ثنتي عشر وسبعمئة، وأخذ عن القُطْبِ وطار صِيتُهُ، وعَمَّ النفع بمؤلفاته شرقاً وغرباً، وهي حقيقة بذلك؛ لما اشتمَلَتْ من بدائع التحقيق والتحرير والتدقيق والتقرير والاستدراك على مَن قَبْلَهُ من معاصريه وغيرهم بما لا يُمْكِنُ في كثير من المواضع رَدُّه.
ومات بسَمَرْ قَند سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. قال شيخ الإسلام ابن حجر في درَرِهِ»: ولم يَتَحَرَّرْ لي اسمه؛ لأني لم أرَ أحداً من المؤرخين - أي: المعتمدين ـ ذَكَرَهُ». وكان في لسانه لكنة.
تنبيهٌ [ ترجمة السيد الشريف الجرجاني ]
أخذ السيد المذكور عن جماعة من أهل بلاده، منهم شارح «المفتاح النور الطاوسي قرأ عليه «شرح المفتاح» وبعض الزهراوين من الكشاف»، وأخذ «شرح المفتاح» للقطب العلّامة عن وَلَدِ مؤلّفه، واجتمع بالقُطب الرّازي وهو شيخ كبير، فسأله في قراءة شرحه لـ «المطالع عليه، فقرأ عليه ديباجته، فرأى منه ذكاءً مُفْرِطاً، فأَمَرَهُ أن يقرَأَ على تلميذه مبارك شاه - وكان بالقاهرة - فسافَرَ إليه، وقرأ عليه جميع الكتاب.
وأَخَذَ أيضاً عن جماعة من غير أهل بلاده، منهم جمع من أهل القاهرة؛ فإنه أقام بها بالمدرسة المسماة (سعيد السعداء) أربع سنين، وقرأ في هذه المدة على الشيخ أَكْمَل الدِّينِ الفقه وغيرَه.
ثم خرج إلى الرُّوم، ثم عاد إلى العَجَم وزادت رئاسته هناك، ولما وَصَلَ فارس قَدِمَ على السلطان شاه شجاع ووَقَفَ على أبوابه، فرآهُ وَزِيرُه فقال له: أيُّ شيء تريدُ؟ قال: أنا غريبٌ أُتَّقِنُ علمَ الرَّمْي، وقد قَدِمْتُ من مازندران، وقصدي أرمي ثلاثةَ أسهم بحضرة السلطان؛ ليعلَمَ قوةَ يَدِي في الرَّمْي. فقال له: قفْ مكانك حتى أستأذِنَ لك، فدَخَلَ إلى السُّلطان واستأذنه، فأمر بإحضاره، فلما حَضَرَ قال له السلطان: أين سهامُكَ؟ فَأَخْرَجَ من كُمِّه كُرَّاسةً ووَضَعَها بين يديه، فنَظَرَ فيها، فإذا هي مشتمِلَةٌ على اعتراضاتٍ وأسئلة مُحكَمَة، فعَلِمَ رُتْبَتَهُ وعِظَمَهُ، واسْتَصْحَبَهُ إلى شيراز، وولاه تدريس دار الشَّفاء، فانْتَصَبَ لنشر العلم ، وتَصَدَّى للإقراء والإفتاء والتأليف، وكثرت أتباعه جداً، وطار صيته شرقاً وغرباً، وتخرّجت به أئمة علماء، وبالغوا في تعظيمه كما هو الواجب لحقه، قيل : كان غالب فضلاء الأقطار من تلامذته.
وعَمَّ النفع بمؤلفاته، وهي خمسون مؤلفاً بَيَّنَها السَّخاوي في الضوء». وسبب عموم النَّفْع بها إخلاصه ، مع ما اشْتَمَلَتْ عليه من بَدائع التحقيقات، وغرائب التدقيقات.
وأقام هناك عشرة أعوام، فلما قَدِمَ تِمُر لَنْك إلى شيراز وافتَحَها عَنْوةً سنةَ تسع وثمانين وسبعمئة، أخذه معه إلى سَمَرْقَند، فاجْتَمَعَ هناك بالسَّعْد التَّفْتازاني، ووقعت بينهما الأبحاث المشهورة ، المذكورُ بعضُها في حواشيه» على «المطوّل»، وكان السَّيِّدُ في أكثر المباحث ظافراً.
ثم توفي تِمُر لَنك، فانْتَقَلَ لشيراز وأقام بها إلى أن مات بها.
والدلالة على أنه كان من أوعية العلم الجامعين بين معقوله ومنقوله على الوجه الأكمل، والمستدركين على معاصريهم ومَن تَقَدَّمَهم بما هو أولى مما ذهبوا إليه وأفضل، ومع كون مؤلفاته بهذا الفخر الأعظم والقَدْر الأفخم؛ هي في غاية الوضوح لخلوها عن التعقيد المنافي للفصاحة، ولذا ازْدَحَمَت الفضلاء عليها، وألْقَتْ مقاليد علومهم وفضائلهم إليها، مُسَلّمين لها، ومُذْعِنِينَ ومُثْنينَ على مؤلّفها، ولفضائله وفَوَاضِلِه شاكرين.
قال العيني: كان عالم الشرق، وعلامةَ دَهْرِه، وكان بينه وبين التفتازاني مباحثات ومحاورات في مجلس تمرلنك ، تَكَرَّرَ استظهارُ السَّيِّد فيها على السَّعْد. ومؤلفاته تزيدُ على السبعين.
ولد سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وتوفّي في شهر ربيع الآخر سنة أربع أو ست عشرة وثمانمئة بشيراز، قيل : وهو الذي حَرَّرَ الرَّضي شرح الكافية بكثرة ما كان فيه من السقم.
تنبیهٌ [ ترجمة الإمام ابن الهمام ]
هو كمال الدين محمد بن همام السيواسي الأصل ثمّ القاهري (٢)، من بيت عِلْم وقضاء ورئاسة بسيواس، قَدِمَ أبوه إلى القاهرة ، فوَليَ قضاء الإسكندرية، فاستَمَرَّ قاضياً بها إلى أن مات، ووُلِدَ له بها قبل موته بعشر سنين ولده المذكور سنة ثمان أو تسع وثمانين وسبعمئة، ونشأ في كفالة جَدَّتِهِ لأمه المغربية المعروفة بالولاية والكرامات الظاهرة.
قَدِمَتْ به القاهرة فحَفِظَ عدة كتب وعَرَضها على العلماء، ثم رَجَعَتْ للإسكندرية فاشتغل بها، ثم رجع إلى القاهرة فظهر فضله.
وأخذ المنطق والحكمة عن عبد السلام البغدادي والبساطي والكمال الشُّمُنِّي وغيرهم.
واجتمع بابن الفناري وابن مَرْزُوق حين رجوعهما من الحج، وبحث مع كل منهما بما أَبْهَره، ورُبَّما ضَيَّق على البَدْر الأَقْصَرائي في البحث فلم يجد فيه مخلصاً، وكذا غيره. ومن ثم قيل : لم يكن في شيوخه أَذْكَى منه.
وأخذ «إقليدس» عن ابن المجدي، و«ألفية الحديث» على ابن ناظمها الولي أبي زرعة، ورام التدقيق معه في البَحْثِ حتى في الاصطلاح، فلم يُحبه للقاعدة المشهورة: أنه لا مشاحة في الاصطلاح.
والفقة عن السراج قارئ «الهداية» في سنتين، وبه انتفع، وكان يُضايقه ويَخْرِجُ معه إلى كلِّ فنّ، ومن ثَمَّ كَتَبَ له أنه أفاد أكثر مما استفاد.
ولَزِمَ الزِّينَ التَّفَهْنِيَّ فأَلح عليه أن ينوبَ في القضاء نيابة عامة لا كالنواب، فامْتَنَع.
وكان عظيم التواضع، جلس يوماً في حَشْوِ حلقة العلاء البخاري، فقام إليه وأَجْلَسَه بجانبه، وقال له: محلك وإجلالك معلوم لي وللطلبة.
ولَزِمَ الوليد بن الشحنة لما قدم إلى القاهرة، ثم سافر معه إلى حلب، وأقام يَقْرَأُ عليه إلى أن مات، فَرَجَعَ مُثْنياً عليه.
وسَلَكَ في طريق القوم بالإذكاوي والخوافي، وسافر معه إلى القدس، ودعا له أن يكون مع العلماء العاملين والعُباد الصالحين.
وسَمِعَ على جماعة منهم حافظ العَصْر ابن حَجَر، وذَكَرَهُ في بعض تصانيفه، فقال: (شيخنا). وأجاز له كثيرون مسانيدهم عالية، وخَرَّجَ له السخاوي «أربعين» من مروياته بالسَّماع والإجازة، فحَدَّثَ بها، وسمع منه الفضلاء.
وأَدْمَنَ الاشتغالَ بُرْهةً ففاق أقرانه فضلاً تاماً، وفكراً مُسْتقيماً، وذكاء مُفرطاً، بحيثُ قال البُرهانُ الإبناسي: لو طلبتُ حُجَجَ الدِّين ما كان في بَلَدِنا مصرَ مَن يقوم بها غيره). مع وجود أكابر مشايخه كالبساطي.
ولما رام البساطي المناظرة مع العلاء بن البخاري بسبب ابن الفارض وأهل طريقته، قيل له: مَن يَحْكُمُ بينكما إذا تناظَرْ تُما ؟ فقال : ابن الهمام؛ لأنه الذي يصلح لذلك. وسُئِلَ البساطي عن أجلاء تلامذته بعد القاياتي والعرباني وآخرين ثم ابن الهمام. وقال: هو يَصْلُحُ شَيْخاً لهؤلاء.
وعكف الناسُ عليه؛ لأنه صار من أجلاء أقرانه، وطار صيتُهُ، وعَظُمَ ذِكْرُه. وأول ما ولي تدريس الفقه في القبة المنصورية، فحَضَرَ أجلاء مشايخه كالبساطي
وابن حَجَر وقارئ «الهداية» والبَدْرِ الأَقْصَرائي وكثيرين، فجَلَسَ في محل القارئ أدباً مع مشايخه بعد تَمَنعِ عظيم منهم في جلوسه، ثم تكلم على قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾ (البقرة: ٢٦٩) بفصاحة وطلاقة على نَفَسِ واحدٍ إلى أن أَبْهَرَهم، فَأَذْعَنُوا له كلُّهم، وشَرَعَ ابنُ حجر يتكلم. معه، فقال البساطي: دَعُوهُ يتكلَّمُ ونَتَلَذَّذُ بمقالته؛ فإنه يقول ما لا نظير له.
ووَلي مشيخة الشَّيْخُونية، فباشرها بعِفَّةٍ تامة، وحُرمة وافرة، ولم يُصْغِ لشفاعة كبير ولا صغير مخالف الشرع.
وقرَّرَهُ الأشرفُ بَرسباي شيخاً بمدرسته من غير علمه، ثم سأله عن سنه؛ لكون بعضهم قال للسلطان إنه شاب، فأخبر الكمالُ أنَّ سنّه دون الأربعين، فَأَلْبَسَهُ الخلعة، ثم قرّر تلميذه الأمشاطي في وظيفة تصوُّف شَغَرَت، فعارضه الخزندار فغَضِبَ وخَلَعَ طيلسانه، وقال: عزلتُ نَفْسي من هذه المشيخة وخَلَعْتُها كما خَلَعْتُ طيلساني هذا. فبلغ ذلك السلطانَ فَأَسِفَ عليه واسْتَعْطَفَهُ جهده، وأرسل إليه أكابر مملكته، فأبى وانتقل لـ ( طرا) قرية قريبة من مصر، فَسَكَنَها وانْجَمع عن الناس، فخشي ذلك الذي عارضه أنَّ السلطانَ يَسْفِكُ دمَهُ فجاء إليه حاسراً متأسفاً، فقَبَّلَ قَدَمَيْه معتذراً مستغفراً، فقال : إنما تركتها الله، لا بسَبَبك.
ثمّ لم يَلْبَثْ أن أعرض أيضاً عن تدريس المنصورية، واستمر تارةً بمصر وتارةً بطرا، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعلاظ على السلطان فمن دونه.
تنبیهٌ [ ترجمة الإمام الكافيجي ]
هو محمد بن سليمان بن سعيد بن مسعود المُحْيويّ أبو عبد الله الرومي، ويُعْرَفُ بالكافيجي.
ولد ببلاد الروم قبل التسعين وسبعمائة، وأَخَذَ عن جماعة منهم: الخافي الآتي، وأكثر من قراءة «كافية» ابن الحاجب وإقرائها، فنُسِبَ إليها بزيادةِ جيم كما هو قاعدة اللسان التركي، وكثيراً ما يقال: الكافياجي.
ودَخَلَ القاهرة بُعَيْدَ الثلاثين وثمانمئة، فظهرت له فضائل جَمةٌ جداً، فأقبل عليه الطلبة، وأعطي الوظائف السَّنية، وتَصَدَّى للإفادة تدريساً وإفتاء وتأليفاً، وعَظُمَ صيته، وطار ذكره، وكثرت تلامذته من سائر المذاهب طبقةً بعد أخرى، وتقدموا في حياته. وله في مؤلَّفاته التحقيق البالغ والمتانَةُ المتقنة، وشَرَحَ كلمتي الشهادة، وتَوَسَّع في الأسئلة والأجوبة التي استنتجها فيه توسعاً يُحَيرُ الفكر.
[ فائدة جليلة في منهج التصنيف ]
معاصر وشَرَعَ في مُحاكمات بين المتكلمين على الكشاف»، ولَيْتَه أتمه، بل لَيْتَهُ بَلَغَ فيه المحتاج إليه، وهو نصفه أو ربعه الأول؛ لأنّ هذا المبحث عظيم الجدوى جداً؛ لأنك تجد المحسين على «الكشاف» و «البيضاوي» يختلفون الاختلاف الكثير، وتجد أنفاسهم متباعدة جداً في كثير من المواضع، وتجدُ فيهم مَن يَغْلِبُ عليه التعصب على أو مخالف في مذهبه أو نحو ذلك، فإذا حَكَمَ بينهم منصف مملوء من العلوم النقلية؛ التفسير والحديث والفقه والآلية والعقلية خال عن الهوى والتعصب بسائر الاعتبارات، مبتغياً بذلك وجه ربّه وإظهار الحقِّ وعدم محاباة لموافق أو مناوأة لغيره؛ اتضح الحقُّ وزال العناد، وعُرِفَ مَن يَسْتَحِقُّ المدحَ ومَن يَسْتَحِقُ القدح، ومَن قَدَمُهُ راسخة، ومَن علومه في نجوم التحقيق راسخة، ومن أحكامه في سماء التدقيق باذخة. ولقد زادَ تَعَجُّبي المراتِ المتعدّدة من شيخنا الثالث؛ فإنه كان من العلوم التي النقلية والعقلية بمحلّ رفيع جداً كما يُنبئ عن ذلك مؤلفاته في تلك العلوم؛ فإنها تدلُّ على مزيد حفظ واسع، ومع ذلك لما أَلَّفَ «حاشيته» على «البيضاوي»
جعلها مجرَّدَ جمع لحواش اطلع عليها، فيحكي تلك الحواشي في كلّ محلّ تخالفت أو توافقت فيه برُمَّتها من غير أن يَتَعَقَّبَ واحدةً منها بأدنى رَدُّ أو نَقْدِ أو تقييد أو إطلاق أو نحو ذلك، حتى إن مُطالع «حاشيته» يعتقد أنه ناقل لحواش فيها لا غير، وليس هذا مقصدَ مَن يُعْتَدُّ به من المؤلفين.
[ إشارة إلى منهج المصنف في تأليفه الفقهية ]
ولقد وقع لبعض مؤلّفي فقه مذهبنا نظير ذلك، وكذا لبعض مؤلّفي النحو واللغة أو غيرهما؛ فتَجِدُ هؤلاء كلهم ينقلون عباراتِ مَن تقدَّمَهم بحروفها أو تغيير قليل منها لنحو اختصار لا لإصلاح حتى طالت كتبهم، فصار كتابُ الأول في أزيد من نحو خمس وعشرين مجلداً، خُلاصَتُها مع النقد والرَّدِّ والاستدراك والتقييد.
وإنما الذي طوّل عليه حكايته للآراء الضعيفة، وتحقيق تخريجها على قواعد المذهب، واختلاف الأصحاب في حكايتها، ونحو ذلك مما كان المتقدمون يُؤْثِرُونَه؛ لأنهم مجتهدون، وهذا هو اللائق بهم، وأما المتأخرون فأَعْرَضوا عن هذه التوسعات، واقتصروا على ما لا بد منه في الإفتاء والتدريس والعَوِيصات التي تَحْدُثُ لهم على اختلاف أنظارهم وطبقاتهم. وهذا هو الذي بَنَيْنا عليه كُتبنا الفقهية، فجاء «شرح الإرشاد» في مجلدين مُشْتَمِلَيْن على ما يليق بما ذَكَرْناهُ ما لم يشتمل عليه تلك الخمسة والعشرون مجلداً.
[ تصانيف الكافيجي وأحواله ]
وله ـ أعني الكافيجي - (حاشية» مستقلةً على «الكشاف» لم نَرَها، وعلى متون للحنفية كـ«الهداية» و«المَجْمَع» و «تلخيص الجامع الكبير»، وكَتَبَ على «تفسير البيضاوي» و«المطوَّلِ» و«شرح المواقف». لكنه يَسْلُكُ في مؤلّفاته نحوَ ما ذَكَرْتُهُ عن بعض الشافعية والنحاة، كالشيخ أبي النجا شَرَحَ (توضيح) ابن هشام في أربع مجلدات، لو حُقِّقَتْ لم تأتِ مجلداً، وذلك أنه يَسْلُكُ فيها البسط بما ليس له كثيرُ جَدوى من التَّوَسُّع في الاحتمالات العقلية والتشكيكات الادعائية، حتى يَتَعَمَّى على الناظر فيها مُراده ولم يَظْفَرُ بالمطلوب، أو يَظْفَر به لكن بعد مَزِيد تَعْبِ وتكلُّف.
وكان متين الدين والحِلْم والكرم، وكثير البكاء لا سيّما عند تلاوة القرآن؛ ممتثلاً ما أَمَرَ به نبينا و من البكاء عند سماع القرآن، فإن عَزَّ فالتباكي.
وكان عظيم الاعتقاد في الصُّوفية، حتى العارف ابن عَرَبيّ وأتباعه، يُنَاضِلُ عنهم، فأنتج له ذلك أنه صار نادرة وقته في العلوم النقلية والعقلية، بل رُبَّما اخْتَرَعَ بعض العلوم.
وكانت الملوك تعظمُهُ لا سيّما ملوك آل عثمان؛ فإنهم كانوا يكاتِبُونَهُ ويهدون إليه ما يليق بهم. توفي سنة تسع و وسبعين وثمانمئة شهيداً بالزَّحِير والإسهال، رحمه الله تعالى وإيانا.
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام الخافي ]
الخافي هذا هو محمد بن شهاب بن محمود بن محمد بن يوسف بن الحسن الحسني، نسبة لجده الحسن المذكور، نزيل سَمَرْقَند.
ولد سنة . سبع وسبعين وسبعمئة بخاف، وأخذ الفقة عن عبد الرحمن البخاري خال العلاء البخاري، وعن السراج البرهاني ببخارى، و«الجامع الكبير» عن أبي الوَقْت الأول البرهاني بسَمَرْقَند ، ولازَمَ النورَ السَّيِّدَ الجُرْجاني بحيثُ قرأ عليه جميع مؤلفاته، وكان من أجل تلامذته، وأخَذَ العربية عن رُكن الدين الطوسي الخوافي، و«الموجَزَ»، و«شرحَهُ» على فضل الله التبريزي، والهندسة على نصر الله الخاقاني الخوارزمي.
وسَمِعَ الحديث عن ابن الجزري وغيره. واشتهر بالفضل التام والذكاء الوافر، وأُجيز بالإفتاء والتدريس. وأَلَّفَ في ليلة كتاباً في العربية(۳)، وفي يوم أو أقل كتاباً في المنطق، لم يُر واحد منهما كتاباً، وكَتَبَ على شرح المفتاح للتفتازاني «حاشية» ينتصر فيها كثيراً لشيخه السيّد الجرجاني، وكذا على «العَضُد»، وشَرَح «المنهاج الأَصْلِيَّ» و«الطوالع».
وقدم حاجاً فاستدعاه السلطانُ الظاهِرُ جَقْمَق، فوَفَدَ عليه ولَقِيَهُ الفضلاء، فرَأَوْا عنده من المعقولات ما كادوا أن يُجمعوا بسَبَبه على أنهم لم يَرَوْا أحفظ منه لتلك العلوم، كيف وهو يكادُ يَسْتَحْضِرُ «الكشاف» بالحرف، مع حسن التَّصَرُّف، ودَماثة الأخلاق، والفصاحة، وجودة الفكر.
وأَضافَهُ ابنُ جَقْمَقٍ وجَمَعَ العلماء، وكان من إنصافه أنه لم يَتَكَلَّمْ مع أحدٍ منهم إِلَّا في الفَنِّ الذي يُذْكَرُ به، وجارى السَّعد بن الدَّيْريّ (۷) في التفسير ولم ينقله لغيره، فقَضَى منه العَجَب.
ويُقال: إنه لِتَمَوُّلِه بَنَى مدرسةً بسَمَرْقَند بسوق البَردَاعِيين، فاجتاز بها محمد ميرز بن شاه رخ بالغ بيك ومعه نَدِيمُهُ، فقال له: ما اسم هذه المدرسة؟ فقال: مدرسة بسوق البرادعيين لا يَصْلُحُ أن تُسَمَّى إِلّا بالحِمارية. فشاعَتْ هذه الكلمة بحيث اشتهرت
المدرسة بها، وصارت سبباً لهجر الطلبة لها مع كثرة معاليمها. مات بسمرقند سنة اثنتين وخمسين وثمانمئة
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام قاسم الحنفي ]
الشيخ قاسم هذا المشهور بما ذُكِر هو ابنُ قُطُلُوبُغا بن عبد الله العلامة شرفُ أبو العَدْل. وُلِدَ بالقاهرة سنةَ اثنين وثمانمئة ، ونَشَأ يتياً، فحفظ القرآن وعدةَ كتب، وعَرَضَها على العزّ بن جَماعة وغيره، وأقبل على الاشتغال بالدین.
فسَمِعَ الحديث على ابن حَجَر وغيره كابن الجزري والشهاب الواسطي والزَّيْن الزَّرْكَشي وعائشة الحنبلية، وتلك الطبقة. والفقة على العلاء البخاري وقارئ «الهداية» والمجد الرومي والنظام السيرامي والعِزَّ عبدِ السَّلام البغدادي وعبد اللطيف الكرماني. والأصولين وغيرهما عن جمع من هؤلاء وغيرهم كالبساطي وابن الديري والشرف سبكي.
واشتدَّت عنايته بملازمة ابن الهمام ، فسَمِعَ عليه، وقرأ غالب تأليفه وما يُقرأُ عليه من الفنون.
وعُرف بقوة الحافظة والذكاء، وأُشير إليه بالتقدم في الفنون، ووَصَفَهُ ابنُ حجر وغيره بالمحدث الحافظ الفقيه، وأخذ عنه الفضلاء فنوناً كثيرة، وأَسْمَعَ من لفظه «جامع مسانيد أبي حنيفة بمجلس الناصر بن السلطان الظاهر جَقْمَق؛ لاختصاصه بصحبته. وأَقْبَلَ على التأليف من سنة عشرين، وكان عمره حينئذٍ ثمانيةَ عَشَر سنة، فأكثرَ منه بحيث قارَبَتْ تصانيفه مئة، كثير منها لم يَكْمُل.
وكان مُغْرَماً بالانتقاد ولو على مشايخه، ومع ذلك كان متواضعاً طارح التكلُّف، صافي الخاطر، حسن المحاضرة لا سيما في الأدب، مبالغاً في محبة الصوفية، ومناضلاً عن ابن عربي وأتباعه بما انْفَرَدَ به عن أهل عصره، فلذلك اشتهر علمُهُ وانْتَشَرَ وبَعْدَ صِيتُه.
وكان لا يَرْغَبُ في الوظائف، ولا يُمْسِكُ على شيء من الدنيا مع كثرة عياله، ومن ثَمَّ أعانة صديقه الشمسُ الأمشاطي بمبلغ معلوم ثمانمئة درهم من معاليمه في كلّ شهر.
وكذا رَتَّبَ له يشبك الدويدار ألفي درهم في كلِّ شهر، ومع ذلك كان كثير التزوج، بل أخبرني بعضُ الحنفية بأنه كان لا يَخْرُجُ إلى حوائجه إلا ومعه مهر زوجة، فرُبَّما عَرَضَتْ له امرأةٌ فَنَكَحَها، ثم أسرع في الدخول عليها فوراً. تعلل مدة طويلة بحبس الإراقة والحصاة وغير ذلك، إلى أن توفّي تاسع ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وثمانمئة، وكان له مشهد حافل.
تنبيهٌ [ ترجمة الكمال بن أبي شريف ]
الكمال المذكور هو: أبو الهنا كمال الدين محمد بن أبي بكر بن علي بن مسعود ابن رضوان المقدسي، ويُعرف -كأبيه البرهان شيخ مشايخنا أيضاً ـ بابن أبي شريف، بوَزْن (لطيف).
ولد ـ أعني الكمال ـ خامسَ ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وثمانمئة ببيت المقدس، ونشأ به في كنف أبيه، وحفظ كتباً، ثم أخذ عن أئمة عَصْره كأبي القاسم النُّوَيْري والسراج الرُّومي، ولزم الكمال بن الهمام وشيخ الإسلام ابن حجر وعبد [السلام] القُدْستي، حتى تميّز وأذنوا له بالإفتاء والتدريس، فدرس وأفتى وصنف ونظم ونثر.
ومن تأليفه: «شرحُ الإرشاد» في الفقه، ونِعْمَ الكتاب هو كما أشرتُ إليه في خُطبة «شرحي على الإرشاد»، و«حاشية شرح جمع الجوامع» للمحلّي في الأصول، اسْتَمَدَّ فيها من الكَوْراني)، و«حاشية شرح العقائد» للتفتازاني، اسْتَمَدَّ فيها من الخيالي وغيره، و«شرحُ المسايرة»، ومختصر «عقيدة الغزالي» الشيخه الكمال بن الهمام و«حاشية على تفسير البيضاوي» لم تكمل؛ لأنه أطال فيها النفس جداً فلم يَصِل فيها إلى الحزب إِلَّا في نحو مُجَلد، وشَرَحَ «فُصُولَ ابن الهائم» و«الزُّبَدَ» و«مُخْتَصَرَ التنبيه» لابن النقيب، و«الشفا» لعياض.
توفّي بالقدس في جمادى الأول سنة ست وتسعمائة.
[ عجيبة وقعَتْ للرَّيْمي ]
ووقع لهذا مع النووي غريبةٌ عجيبة، سبب حكايتي لها هنا ـ مع أنها ليس لها بما هنا تمام المناسبة: أنَّ فيها تحذيراً عظيماً من معاداة العلماء، والتَّعَرُّض لإذايتهم بوجه من الوجوه، وسَبَقَ أَنَّ إذا يتهم ربما أدت إلى خاتمة السوء والعياذ بالله.
وتلك القضيةُ الغريبةُ هي: أنَّ النووي له كتابات متعددة على «التنبيه» للإمام أبي إسحاق الشيرازي المشهور بأمير المؤمنين بالفقه، والذي سماه النبي ﷺ بـ (الشيخ)؛ لفرط وَرَعِه وزُهْده.
وسبب كثرة كتابة النووي على هذا الكتاب أنه أوّل ما اشتغل بالعلم حَفِظَ «التنبيه» في نحو أربعة أشهر، ثم لما تأهل للتصنيف جَعَلَ التصنيف على هذا الكتاب من أوائل تصنيفه؛ لأنه محفوظهُ، وتَبَرُّكاً بصاحبه، واستمداداً من مَدَدِه، فكَتَبَ عليه شرحاً لم يَكْمُلْ، و«تصحيحاً» كَمُل، و«إشارات» و «لُغات» وغير ذلك، وانتَفَعَ الناسُ بعده بتصانيفه المتعلقة بـ «التنبيه» انتفاعاً كثيراً، ومع ذلك هي دون مصنفاته في آخر عمره؛ لأن العالم كلما ازداد علمُهُ ازداد تحقيقه وتدقيقه واطلاعه على الخفيات ومبالغته في دفع المشتبهات.
ولم يَزَل الناسُ على هذا الانتفاع بكتابات النووي رحمه الله -على «التنبيه» إلى أنْ جاء الرَّيْمي هذا فشَرَحَ «التنبيه» شَرْحاً واسعاً جداً، أطال النَّفَسَ فيه، وجَمَعَ فأوعى، لكنْ أَعْجَبَتْهُ نفسُهُ فجَرَّتْ إليه كل سوء.
وذلك أنه لما أُعْجِبَ بنفسه أداه ذلك إلى انتقاص النووي انتقاصاً كبيراً، وبالَغَ في الحط عليه وتخطئته.
ولقد أُرِيدَ أنْ يُقْراً عليَّ بعضُ مباحثه مع النووي فسَمِعْتُ منه في حق النووي السفاهة والحماقة التي لا تتعلَّق بالمباحثة العلمية، وإنما تُنبئ عن باطنٍ حَبيثٍ رَسخ فيه انتقاص النووي وعدم علمه، فأَتَى من الألفاظ الدالة على ذلك بما تمجه الأسماع، ولما سَمِعْتُ ذلك قلتُ للقارئ: أَمْسِكْ عن قراءة هذه المهملات، التي هي مجرَّدُ سَبِّ للعلماء من غير موجب له البتة، ولا حامل عليه إلا مجرد سَخافة العقل المؤدية إلى غاية الشقاوة.
ولما حَصَلَ منه ذلك في «شرحه» وغيره استَمَرَّ عليه إلى أن مات، فسُجِّيَ بثوب إلى أن يُشْتَرَى له مُؤَنُ التجهيز، فبينما الناسُ محتاطون به وقد كثر أسفهم عليه؛ لأنه كان له في الفقه اليد الطولى، وإذا بهرٌ كبير جداً يشق صفوف الناس إلى أن وصل إليه، وإذا فمه مفتوح فَأَدْخَلَ رأسَهُ في فَمِهِ وتناوَلَ لسانَهُ فاقْتَلَعُهُ من أصله، ثم عاد مُنْقَلباً واللسانُ في فَمِهِ، فَخَرَقَ تلك الصفوفَ كما خَرَقَها أولاً، والناس ينظرون إليه أولاً وثانياً، فلم يستطع أحدٌ منهم زَجْرَهُ بكلمة، ولا التعرض ليَأْخُذَ باللسان، وإنما حصل لهم نحو رقودِ حواس، وشخوص البَصَر، وتعطيل القوى الباطنة والظاهرة، فأشاعوا هذه (۲) القضية، فعَلِمَ الفقهاء الذين اطَّلَعُوا على «شرحه» أن هذا من بَرَكة النَّوَوِيّ، وأنَّ الله سبحانه انتقم له من هذا الرجل، واستمر شيوع ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: «وقد نُقِلَ إلينا ذلك من غير رَيْبٍ ولا شكّ». أي: وكيف لا يَقَعُ مثل ذلك ولحوم العلماء مسمومة، وعادةُ الله فيهم معلومة، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾ (النور: ٦٣).
تنبيهٌ [ ترجمة الإمام الفناري ]
الفناري المذكورُ هو الإمام العالم العامل المحقق المطَّلِعُ النَّفَّارُ أبو الفضائل والكرامات شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد الفناري، نسبة إلى عَمَل الفنار، أو إلى قريةٍ تُسَمَّى فَنار.
ترجمه شيخ الإسلام الشهابُ ابنُ حَجَر: بأنه كان عالماً عارفاً بالعلوم العربية وعلمي المعاني والبيان وعلم القراءات، كثير المشاركة في الفنون.
ولد سنة إحدى وخمسين وسبعمئة ، ولازَمَ الاشتغال، ورَحَلَ إلى مصر لأجل الاشتغال؛ فأَخَذَ عن الشَّيخ أكمل الدين وغيره، ثم رَجَعَ إلى الرُّومِ فَوَلِيَ قضاءَ بروسا، وارتفع قدره عند السُّلْطانِ أبي يزيد بن السلطان مراد بن عثمان، إلى أن صار في معنى الوزير عنده، فظهر اسمه، وطار صيته، واشتهر بالفضل والإفضال.
ثم دخل إلى مصر ثانياً مريداً للحَجّ ، فشَهِدَ له علماؤُها بالفضيلة التامة، وأَكْرَمَهُ المؤَيَّد، ثم حج سنة ثلاث وثلاثين شكراً لرَدِّ بَصَرِهِ عليه، ثم رَجَعَ فمات ببلادِهِ سنةَ أربع وثلاثين وثمانمئة.
وله كتابٌ حافل في أصول الفقه مَكَثَ في تأليفه ثلاثين سنة.
وله أو لابنه محمد شاه رسالة أتى فيها بمئة فنّ، ومن ثمَّ سماها «أنموذج العلوم»، وغَيَّر أسماء تلك العلوم بطريق الألغاز؛ امتحاناً لفضلاء عصره، فلم يقدروا على تعيين فنونها، فضلاً عن حل ألغازها، على أنه قال في خطبتها: «فذلك عُجالة يومٍ». وشَرَحَها ابنه محمد شاه المذكور، فَعَيَّنَ أسامي تلك الفنون، وبيَّن المناسبة فيما ذكره من الألغازات وحل مشكلات مسائلها، ونَظَم عَقِبَ كلّ قطعة منها قطعةً أخرى. قال في بعضها (قلتُ مؤكّداً)، وفي بعضها: (قلتُ مُجيباً)، وأتى بأحسن الأجوبة.
وشَرَحَ صاحبُ الترجمة «الرسالة الأثيرية» في الميزان، وقال في خُطْبَتِهِ شرعتُ فيه غدوة يوم من أقصر الأيام، وخَتَمْتُهُ أذانَ مَغْرِبِهِ بعون الملك «العَلام» -لكن قال شيخنا المحقق ناصر الدين اللَّقَاتِ لَمَّا قَرَأْناهُ كلَّه عليه: «العلَّ هذا منه إنما أراد به أنه تصوَّرَ مقاصِدَها في ذِهْنِهِ تصوراً مجرَّداً، وأما كتابتها على طريقة التأليف المتضمن لإبرازها في الوجود كما هي اليوم؛ فهذا كالمحال أو محالٌ فلا يسمع». أي: إلا إن ادعى أنه كرامة له، وقد قال أبو حنيفةَ رَضِيَ الله عنه: إذا لم تكن العلماء أولياء فليس الله ولي.
:
وله تعليق لطيف على شرح المواقف للسيّد، ورسائل وحواش مسودات، منعه الإفتاء والتدريس والقضاء عن تبييضها ، وكذا مَنَعَهُ اتساع ثروته وجاهه وشوكته. كان له من العبيد ما لا يُخصون كثرة ، وكان إذا خرج للجمعة ازْدَحَمَ الناسُ عليه من بَيْته إلى الجامع، وكان لباسه وعمامته ليسا على قدر سعةِ ماله وجاهه، لكنه اعتذر عن ذلك بأنها من كسب يده، وهو لا يفي بأكثر من ذلك. خلف اثني عشر مجلداً. شَهِدَ السلطان عنده مرةً فردَّه، فسأله فقال: لأنك تارك الجماعة. فأَنْشَأَ أمامَ داره جامعاً، وعَيَّنَ لنفسه فيه مَوْضعاً يلازِمُ الجماعة فيه، فلم يَتْرُكْها بعد ذلك. ثمّ وَقَعَ بينهما شَتَان فَرَحَلَ إلى قِرْمان فرتَّب له سلطانها كل يوم ألف درهم، ولطلبته ألف درهم، فنَدِمَ السلطانُ بنُ عثمان على ما صَدَرَ منه، فَاسْتَدْعَى سلطانَ قِرْمان لِرَده فرَدَّهُ وأعاد له جميع مناصبه.
قال شيخُ الإسلام: وكتب لي بخطه بالإجازة لَمَّا قَدِمَ القاهرة». وصحب الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ حميد شيخ الحاج بيرام، وأَخَذَ منه التصوف.
وأَشْهَرَ في زمنه تصانيف العلامة التفتازاني، فرَغِبَ الطلبة في كتابتها ولم توجد منها نسخ تُباع، فزادَ لهم في البطالة يوماً؛ ليكتبوها أيام البطالة، وكان الناس يبطلون الجمعة والثلاثاء، فبطل الاثنين أيضاً لأجل ذلك.
ولما كان عَمِيَ سمعَ الوزيرَ يَتَشَفَّى فيه، ويقول: أرجو الله أن أُصَلِّي على قبر هذا الشيخ الأعمى. فقال الشيخ: بل أنا أرجو ذلك. فغَضِبَ السُّلْطَانُ على الوَزِيرِ، وَكَحَلَه فعمي، ومات وصلى عليه الشيخ.
قيل: سبب عماهُ أنه لما سَمِعَ أن الأرضَ لا تأكل لحوم العلماء، فحَفَرَ عن قبرِ أكابر مشايخه فرآه وقد مَضَتْ له مدة طويلةٌ كيوم دفن ، ثم سمع . هاتفاً يقول: (هل صَدَّقتَ، أَعْمَى الله بَصَرَك ) - لكنْ رُدَّ عليه بصَرُهُ بعد ذلك، فعَلِمَ به: أن ذلك ـ إنْ صح - إنما فُعِلَ تأديباً له لا غير.
وحَضَرَ هو وآخران من أقرانه عند بعض أولياء الله وهم في زَمَن الطَّلَب، فقال لأحدهما: ستُضيع وقتك في الشعر ، ولآخر: ستُضيع وقتك في الطب، وللفناري: سَتَجْمَعْ بين رئاسةِ الدُّنيا والدين والعِلْم والفتوى. فكانوا كما قال؛ لأنَّ أحدَهم صَحِبَ أميراً يُحِبُّ النظم فاشتغل لأجلِه به، والآخرُ أَصابَهُ مرضٌ فَتَعَلَّم الطبّ لأجله، والفناري استمرَّ مشتغلاً بالعلم والتَّقوى إلى أن توفاه الله إليه.
[ فائدة ]
مَرَّ ذِكْرُ صاحب القاموس» ولم يَتَيَسَّر رؤية ترجمته، ثم تيسرت الآن، لكن لم تَتَيَسَّر رؤيةُ ما مَرَّ مما فيه ذِكْرُ اسمه فنذكرها هنا هو: مجد الدين أبو طاهر محمدُ بنُ يَعقوب بن محمد الشَّيرَازي الفيروز أبادي. كان يَنْسِبُ نفسَهُ إلى الشيخ أبي إسحاق الشَّيرازي صاحب «التنبيه»، فاعْتُرِضَ: بأنه لم يُعْقِب ! وربما يَرْفَعُ نسبه إلى أبي بكر الصديق، وكان يكتُبُ بِخَطه الصِّدِّيقي.
دَخَلَ بلاد الروم، واجتمع بسلطانها أبي يزيد، ونال منه مرتبةً عظيمةً وجاهاً واسعاً، وأعطاه مالاً جزيلاً، وكذلك اجتمع بتيمور وأعطاه خمسة آلاف دينار.
ثم جال البلاد شرقاً وغرباً وأَخَذَ عن علمائها حتى بَرَعَ في العلوم لا سيما الحديث والتفسير واللغة.
وتصانيفه تنيفُ على الأربعين، وأجلُّها كتابه الذي جَمَعَ فيه بين «المحكم» و«العباب»؛ إذ هو ستون مجلداً، ثم لَــخَصَه في «قاموسه». ولم يدخل بلدة إلا أكرمه واليها، وكان سريع الحفظ جداً، بحيث لا ينام كل ليلة حتى يحفظ مائتي سطر. وبالجملة فهو آيةٌ بالحفظ والاطلاع على العلوم.
ولد سنة تسع وعشرين وسبعمئة بـ (كازرون)، وتوفي وهو قاض بـ(زبيد) سنة ست أو ۸۱۷(۲)، وهو ممتع بحواسه، ودُفِنَ بتربة الشيخ الولي بل القطب إسماعيل الجبرتي.
وهو آخِرُ مَن مات من العلماء الذين انْفَرَدَ كُلُّ منهم بفَنَّ فاق فيه أقرانه على رأس القرن الثامن، وأجلُّهم شيخ الإسلام الإمام المجتهد أبو حفص السراج البلقيني في الفقه، وإمام الحفاظ بل خاتِمِتُهم الزَّيْنُ العراقي في الحديث، وشيخ الإسلام السراج ابن الملقن في كثرة التصانيف وحُسْنِها في الفقه والحديث، والشمسُ الفَناري في الاطلاع على العلوم العقلية والنقلية، والإمام أبو عبد الله بنُ عَرَفة في فقه المالكية، بل وفي سائر العلوم بالمغرب، والمجد صاحب الترجمة في اللغة.
هذا وفيما ذكرتُه كفاية، سيّما وقد اضطَرَّنا إلى اختصاره توجه مولانا عناية الله أحمد أفندي ـ الذي كُتِبَ ذلك بسببه - إلى بلاده إثر فراغه من حَجَّته الثانية، وفي حجّة الجمعة سنة … تقبلها الله منه بمنه وكرمه
والحاصل أني أجزتُ لمولانا شيخ الإسلام المنوَّه باسمِهِ أول الكتاب، ولوَلَدِهِ درويش محمد الهاشمي - متعه الله به، وأَوْصَلَ إليه ما لا يُخصى من الخيرات والمسرات بسببه -ولسائر جماعته وأقاربه وأحبابه وذويه وتلامذته، ولأهل بلده، بل وأقليمه، بل ومَنْ أَدْرَكَ حياتي من المسلمين على مذهب مَن يَرَى ذلك من أئمة الحديث المتقدمين والمتأخرين، المشهورُ ذلك والعمل به فيما بينهم في القديم والحديث؛ لينفع الله به تلك الأقطار والعباد، وتظهر به خصائصُ السُّنَّةِ الغراء في كلِّ مُجْتَمَعِ ونادٍ، فتصير كما كانت في الزَّمَنِ القديم، من كونها مَحَطَّ علماء السُّنة والحديث القائمين بحقوقه وما يجب له من التعظيم والتفخيم
أن يروي مولانا ومَن ذُكِرَ معه جميع ما ذكرته في هذه الأوراق، وكذا غيره مما تجوز لي وعني روايتُهُ، وأُثِرَتْ لي وعني درايته، بشَرْطِهِ المعتبَر عند أئمة الحديث والنقل والسُّنَّة والأثر ، من مَقْرُوءٍ ومَسْموع ومُجاز إجازةً خاصةً أو عامة ومناولة ومكاتبة ووجادةً ومراسلة، ومن معقول ومنقول من فروع وأصول، ومن تأليف وتخريج وتصنيف وسائر كتب القراءات والتفسير والحديث والفقه للأئمة الأربعة رضوان الله عليه أجمعين، وأصولهم، وكلامٍ ونَحْو وتصريف ومعانٍ وبيان وبديع، ومن معاجيم ومسانيد ومُسْتَخْرَجاتٍ ومُسَلسلات، ومن كُتُبِ السِّير والتواريخ مما أَخَذْتُهُ ودَرَيْتُه، أو وَجَدتُّهُ أَو رَوَيْتُه. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي بنعمتِهِ تَتِمُّ الصالحات، والشكر له بجيمع الآلات في جميع الحالات.
ترجمة موجزة لابن حجر الهيتمي
عن كتاب آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية
محمد عبد العزيز الشايع
(ص ٢٨ -٥٩)
حياته الشخصية:
أولاً: اسمه، ولقبه، وكنيته :
أ -اسمه:
هو أحمد هو بن محمد بن محمد بن علي بن حجر، السلمنتي، الهيتمي الوائلي السعدي المصري، ثم المكي. وبهذا السياق ذكر ابن حجر الله نفسه في معجم شيوخه، والمتأمل له يجده قد نسب نفسه فيه إلى:
١-ابن حجر وهي - بفتح الحاء المهملة والجيم المعجمة بعدها -نسبة لأحد أجداده؛ لقب بحجر لملازمته الصمت.
۲ - السلمنتي: وهي -بالسين المهملة المفتوحة المشددة، بعدها لام ساكنة، وميم مضمومة، ونون ساكنة -نسبة إلى سلمنت، وهي موطن أهله قبل انتقالهم إلى محلة أبي الهيتم.
٣- الهيتمي: وهي نسبة إلى محلة أبي الهيتم أو الهياتم بمصر الغربية، واختلف في ضبطها هل هو بالمثناة أم المثلثة؟ قال العلامة الغزي ضبطها عبد القادر الفاكهي في ترجمته بالمثناة الفوقية، وأما ما يقع لبعض المتشدقين من قراءته بالمثلثة فلم أقف عليه في كلام أئمة المنقول. وقال العلامة الزبيدي: يقال هي محلة أبي الهيثم بالمثلثة،فغيرتها العامة. وعلى هذا فمن ذكره بالمثلثة؛ على القول الأول: ضبطهم له خاطئ وعلى القول الثاني: ضبطهم له محتمل.
٤-الوائلي: وهي نسبة لوائل، وهو بطن من بني سعد الأنصار. قال تلميذه الفاكهي في مقدمة فتاويه: المستفاض أنهم من الأنصار، ولكن امتنع شيخنا من كتابة الأنصاري تورعاً.
٥-السعدي: وهي نسبة لبني سعد الذين كانوا في مصر، وموطنهم إقليم الشرقية.
٦-المصري وهي نسبة إلى مصر التي ولد بها وقضى فيها أوائل -عمره.
٧-المكي وهي نسبة لمكة المكرمة التي استوطنها باقي حياته بعد انتقاله من مصر.
ب - لقبه
يلقب المترجم بشهاب الدين وقد أثبت ذلك الله في معجمه وذكره عنه من ترجم له.
ج - كنيته: يكنى بكنيتين:
١-أبو العباس، وبها اشتهر.
٢- أبو عبد الله، ووجدت على طرة إحدى مخطوطات كتبه ولم أجد فيما اطلعت عليه من مصادر ترجمته من ذكر له ولداً بهذا الاسم.
ثانياً: مولده، ونشأته، ورحلاته:
أ -مولده:
ذكر تلميذه السيفي أنه وجد بخطه أنه ولد في محلة أبي الهيتم أواخر سنة (٩٠٩هـ).
وهناك قولان آخران في سنة ولادته:
الأول: أنها سنة (٩١١ هـ) وهو قول الغزي، وعمدته في ذلك إخبار حفيده عبد العزيز الزمزمي بذلك. والثاني: أنها سنة (٨٩٩ هـ) وهو قول الزبيدي والكتاني ولم يذكرا عمدتهما في ذلك. والراجح أنه ولد أواخر سنة (٩٠٩ هـ)؛ وذلك لما يلي :
١ - أنه ذكر في معجم شيوخه أنه ولد قبل وفاة السيوطي بنحو ثلاث سنين والسيوطي توفي في جمادى الأولى سنة (٩١١ هـ)؛ ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالقول بمولده سنة (٩٠٩هـ).
٢- أنه ذكر في معجم شيوخه أن شيوخه أجازوا له بالإفتاء والتدريس وسنه دون العشرين، وذكر تلميذه السيفي أنهم أجازوه أواخر سنة (۹۲۹ هـ)؛ وبالجمع بين هذين النصين يظهر صواب القول بمولده سنة (۹۰۹هـ) وبعد القول بما عداه.
٣- أن تلميذه السيفي - كما سبق - قد نص على ذلك، وصرح أنه وجد ذلك بخطه.
ب- نشأته
نشأ ابن حجر الله في محلة أبي الهياتم يتيم الأب حيث توفي والده، فكفله جده وهو صغير وكان برعايته وتدريسه فحفظ القرآن وكثيراً من المنهاج في الفقه الشافعي، ثم توفي جده فكفله شيخا أبيه:
۱ - شمس الدين بن أبي الحمائل. ۲ - شمس الدين الشناوي.
وانتقل به الثاني إلى طنطا حيث المسجد الأحمدي، ثم إلى القاهرة حيث الجامع الأزهر، وفيهما تلقى تعليمه ، واستجاز شيوخه بإقراء العلوم والتصدر للإفتاء على المذهب الشافعي، فأجازوه وأذنوا له بذلك وهو دون العشرين.
وقد نقلت بعض مصادر ترجمته بعض ما عاناه في صباه وأوائل شبابه، ومنها قوله عن نفسه: قاسيت في الجامع الأزهر من الجوع ما لا تحتمله الجبلة البشرية لولا معونة الله وتوفيقه بحيث إني جلست فيه نحو أربع سنين ما ذقت اللحم إلا في ليلة دعينا لنأكل؛ فإذا هو لحم يوقد عليه، فانتظرناه إلى انبهار الليل -أي منتصفه -ثم جيء به فإذا هو يابس كما هو نيء فلم أستطع منه لقمة.
ج - رحلاته:
في أثناء إقامته بمصر كان يتردد على مكة حاجاً ومعتمراً ويجاور بها، وفي سنة (٩٤٠هـ) قرر سكنى مكة المكرمة فقدم إليها بأهله واستوطنها إلى أن توفي سنة (٩٧٤ هـ).
وقد ذكرت بعض مصادر ترجمته سبب انتقاله من مصر إلى مكة، وعزت ذلك إلى ما وقع له بالقاهرة من تسلط بعض حساده عليه.
حيث كان مشتغلاً باختصار (متن الروض) في فقه الشافعية وشرحه، وقد ألحق به كثيراً مما في كتب أهل اليمن وغيرهم، فلما رآه بعض العلماء طلبوا استنساخه فعمل أحد حاسديه على إتلافه، فحزن ابن حجر لذلك حزناً شديداً اعتل به ومرض بسببه مدة من الزمن؛ فقرر حينها ترك مصر والمجاورة بمكة.
قال السيفي: سمعت شيخنا الله وهو يعفو عن فاعل ذلك، ويقول: حلله الله وعفا عنه.
وفي أثناء مقامه بمكة تكررت زيارته المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وفي إحداها ألف كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرّم.
ولم تذكر المصادر رحلات أخرى لـه الله غير رحلته إلى مكة المكرمة والمدينة النبوية.
ثالثاً: وفاته:
وذكرت أكثر المصادر أن وفاته رحمه الله كانت بمكة سنة (٩٧٤هـ)، ونص بعضها على أنه توفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من رجب منها. يقول تلميذه السيفي: كان ابتداء مرضه الذي انتقل فيه في شهر رجب، فترك التدريس نيفاً وعشرين يوماً، ووصى يوم السبت الحادي والعشرين من رجب المذكور، وتوفي ضحوة الاثنين الثالث والعشرين من الشهر المذكور سنة أربع وسبعين وتسعمائة». وقد شذت بعض المصادر، فذكرت أنه توفي سنة (٩٧٣هـ)، والصحيح الأول؛ وذلك لأمرين:
أحدهما: أن القائلين بالقول الأول أخص بابن حجر، ومنهم تلميذه السيفي.
ثانيهما: أن تلميذه السيفي ذكر تاريخ وفاته مفصلاً ـ كما سبق ـ مما يدل على عنايته به وضبطه.
ومن طريف ما ذكر مترجموه أنه أشيع في حياته بدمشق سنة (۹۷۱هـ) أنه توفي، فصلي عليه صلاة الغائب، ثم تبين بعد ذلك أنه حي لم يمت
حياته العلمية:
أولاً : شيوخه:
تتلمذ ابن حجر الله على جماعة من علماء عصره، وتلقى عنهم فنوناً عدة كل حسب اختصاصه وما شُهر به. وقد ذكرت المصادر منهم نحواً من أربعين شيخاً، وسأقتصر على ذكر أشهرهم، وأكثرهم أثراً عليه، وهم:
۱ - زكريا الأنصاري: هو زكريا بن محمد بن زكريا بن أحمد الأنصاري، السنيكي القاهري، الأزهري، الشافعي. ولد سنة (٨٢٦هـ)، وتوفي سنة (٩٢٦هـ).
من مؤلفاته: حاشية على تفسير البيضاوي وشرح ألفية العراقي، وشرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، تتلمذ عليه ابن حجر ولم يتجاوز عمره الثالثة عشر، وأجازه بمروياته.
قال عنه ابن حجر: ما اجتمعت به إلا قال: أسأل الله أن يفقهك في الدين.
وقد ذكر ابن حجر في معجمه والفاداني في أسانيده الكتب التي قرأها على شيخه زكريا وأجازه بها.
٢ - الزيني السنباطي : هو عبد الحق بن محمد بن عبد الحق السنباطي القاهري الشافعي، ولد سنة (٨٤٢هـ)، وتوفي سنة (٩٣١هـ). جلس للإقراء بالجامع الأزهر، ودرس عليه خلق كثير، منهم ابن حجر، وأجازه بمروياته.
وقد ذكر ابن حجر في معجمه والفاداني في أسانيده الكتب التي قرأها عليه وأجازه بها.
٣ - شمس الدين الدلجي: هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الدلجي العثماني الشافعي، ولد سنة (٨٦٠هـ) وتوفي سنة (٩٤٧هـ). من مؤلفاته: شرح على الأربعين النووية، وشرح على الشفا، ومقاصد المقاصد اختصر به مقاصد التفتازاني.
تتلمذ عليه ابن حجر وعمره ثماني عشرة سنة، وقرأ عليه علوماً عدة، هي: علم المعاني والبيان وعلم الأصلين، وعلم المنطق.
٤ - أبو الحسن البكري: هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد البكري، الصديقي المصري الشافعي، المتوفى سنة (٩٥٢هـ).
من مؤلفاته: الكنز في شرح المنهاج للنووي، وشرح الروض، وشرح العباب، تتلمذ عليه ابن حجر، وقرأ عليه في الأصلين وغيرهما، وقد أجازه بالإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين.
٥ - الشمس الحطابي: هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، الرعيني، الأندلسي، المكي. ولد سنة (٩٠٢هـ)، وتوفي سنة (٩٥٤هـ) .
من مؤلفاته: قرة العين بشرح الورقات لإمام الحرمين، ومتممة الآجرومية في علم العربية وتفريج القلوب بالخصال المكفرة لما تقدم وما تأخر من الذنوب. تتلمذ عليه ابن حجر، وأخذ عنه النحو والصرف
٦- الشهاب الرملي: هو أحمد بن حمزة الرملي المنوفي، الأنصاري الشافعي المتوفى سنة (٩٥٧هـ). تولى التدريس بعد وفاة شيخه زكريا وتتلمذ عليه أغلب طلاب العلم بمصر. جمع ابنه فتاويه، وقد طبعت طبعات عدة منسوبة للابن. تتلمذ عليه ابن حجر وأجاز له بالإفتاء والتدريس وهو دون العشرين.
۷ - ناصر الدين اللقاني: هو محمد بن حسن اللقاني المالكي، الشهير بناصر الدين. ولد بمصر سنة (٨٧٣هـ)، وتوفي بها سنة (٩٥٨هـ). من مؤلفاته: شرح جمع الجوامع، حاشية على السعد التفتازاني في العقائد، شرح التصريف للزنجاني تتلمذ عليه ابن حجر، وأخذ عنه علوماً عديدة، منها المنطق
٨ - محمد الشنشوري: هو محمد بن عبد الله بن علي الشنشوري المصري الشافعي. ولد سنة (۸۸۸هـ)، توفي سنة (٩٨٣هـ). تتلمذ عليه ابن حجر، وقرأ عليه المنطق.
ثانياً: تلاميذه:
تتلمذ على ابن حجر الله وأخذ عنه جماعة ذكرت المصادر منهم نحواً من خمسين تلميذاً.
وفيما يلي ذكر أشهرهم:
۱ - الفاكهي: هو عبد القادر أحمد بن علي بن عبد القادر الفاكهي المكي. ولد سنة (٩٢٠هـ)، وتوفي سنة (٩٨٢هـ).
له مؤلفات كثيرة لا تحصى حتى شبه بالجلال السيوطي، منها: شرحان على البداية للغزالي وشرح لمنهج القاضي زكريا، ومناهج الأخلاق السنية في مباهج الأخلاق السنية وغيرها . تتلمذ على ابن حجر ولازمه وأكثر عنه في الفقه، وألف رسالة في مناقبه سماها : فضائل ابن حجر الهيتمي.
٢ - عبد الرؤوف الواعظ: هو عبد الرؤوف بن يحيى بن عبد الرؤوف المكي الشافعي، عرف جده بالواعظ. ولد سنة (٩٣٠هـ)، وتوفي سنة (٩٨٤هـ). تتلمذ على ابن حجر واختص به وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية، وأجازه بمروياته.
٣- محمد طاهر الهندي هو جمال الدين محمد طاهر الملقب بملك المحدثين، الهندي. ولد سنة (٩١٣هـ)، وتوفي مقتولاً على يد الرافضة سنة (٩٨٦هـ). من مؤلفاته : مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار . تتلمذ على ابن حجر في رحلة حجه إلى مكة
٤- محمد الفاكهي: هو محمد بن أحمد بن علي الفاكهي المكي الحنبلي. ولد سنة (٩٢٣هـ)، وتوفي سنة (٩٩٢هـ). من مؤلفاته: شرح مختصر الأنوار المسمى نور الأبصار في فقه الشافعية ورسالة في اللغة. تتلمذ على ابن حجر في آخرين.
٥ ـ أحمد بن قاسم العبادي: هو أحمد بن قاسم العبادي، القاهري، الشافعي، المتوفى سنة (٩٩٤هـ). من مؤلفاته: الآيات البينات على جمع الجوامع، وحاشية على شرح الورقات، وحاشية على تحفة المحتاج لابن حجر. تتلمذ على ابن حجر، وقرأ عليه عوارف المعارف للشهاب السهروردي ، والورقات للجويني وسائر تصانيفهما. توفي سنة (٩٩٤هـ).
٦ ـ عبد الكريم القطبي: هو عبد الكريم بن محب الدين بن أبي عيسى علاء الدين أحمد بن محمد النهرواني الحنفي المكي، الشهير بالقطبي. ولد سنة (٩٦١هـ)، وتوفي سنة (١٠١٤هـ). له مؤلفات منها اختصار تاريخ قطب الدين النهروالي، وشرح على صحيح البخاري لم يتمه. تولى الإفتاء بمكة سنة (۹۸۲هـ)، وأمَّ بالمقام الحنفي سنة (٩٩٠هـ).
٧- الملا علي القاري : هو الملا علي بن سلطان محمد الهروي القاري المكي، المتوفى سنة (١٠١٤هـ). تتلمذ على ابن حجر في آخرين، وبرع في علوم عديدة وأكثر من التصنيف، وصار علامة زمانه. من مؤلفاته: رسالة في بيان الحج المبرور وضعها في تحقيق الخلاف بين شيخه ابن حجر وبعض علماء الحنفية في أن الحج هل يكفر الكبائر أم لا ؟ سماها: (الذخيرة الكثيرة في رجاء المغفرة للكبيرة)، وتعليق على قول ابن حجر في شرح المشكاة بجواز خلف الوعيد في رسالة سماها: القول السديد في خلف الوعيد ورسالة في العمامة والعذبة تعقب فيها شيخه ابن حجر سماها المقالة العذبة في العمامة والعذبة، وغيرها.
٨- أبو بكر الشنواني: هو أبو بكر بن إسماعيل بن شهاب الدين عمر بن علي الشنواني التونسي، المصري، الشافعي. ولد سنة (٩٥٩هـ)، وتوفي سنة (١٠١٩هـ). تتلمذ على ابن حجر، وأكثر النقل عنه في كتبه، وتعقبه في مواضع منها، ومن مؤلفاته: حاشية على المقدمة الأزهرية في علم العربية، وحاشية على شرح قطر الندى وحاشية على شرح الآجرومية وغيرها . تتلمذ على ابن حجر، وأخذ عنه الحديث والتفسير.
ثالثاً: مؤلفاته:
بدأ ابن حجر الله التأليف في سن مبكرة بمصر قبل انتقاله إلى مكة واستيطانه بها، ومن أوائل مؤلفاته شرحه على ألفية ابن مالك حيث ألفها سنة (٩٣٠هـ).
وابن حجر معدود في جملة المكثرين من التصنيف حيث أربت مؤلفاته على سبعة عشر ومائة مؤلف ما بين كتاب في مجلدات ورسالة صغيرة في أوراق.
وقد ذكر تلميذه السيفي منها اثنين وتسعين، والباقي جاء ذكره مفرقاً مصادر ترجمته.
وهذه المؤلفات تناولت العديد من العلوم كالحديث والفقه، والعقيدة، والنحو، والأخلاق والأدب والسيرة، والتاريخ والتراجم.
وقد بلغت مصنفات الحافظ الهيتمي زهاء المائة مصنف، أشهرها: (تحفة المحتاج بشرح المنهاج)، و(الإيعاب شرح العباب)، وشرحان على الإرشاد لابن المقري، أحدهما كبير سماه (الإمداد)، والآخر صغير سماه (فتح الجواد)، وله حاشية (الإيضاح في المناسك)، و(الزواجر عن اقتراف الكبائر)، و(الإعلام بقواطع الإسلام)، و(المنح المكية بشرح الهمزية)، (شرح الشمائل)، و(شرح الأربعين حديثاً النووية)، و(الفتاوى الحديثية)، وجزء فيما ورد في المهدي، وجزء في العمامة النبوية، وترجمة الإمام أبي حنيفة المسماة "بالخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان"، والصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، وترجمة معاوية بن أبي سفيان، والمولد النبوي، وجمر الغضا ممن تولى القضاء، والأربعون حديثاً في العدل، والأربعون في الجهاد، والإيضاح عن أحاديث النكاح، وغير ذلك.
وسأقتصر هنا على سياق كتبه العقدية وذكر نبذة مختصرة عن كل واحد منها:
١ - إتمام النعمة على العالم بمولد سيد ولد آدم:
أ - نسبته إليه: ذكره ابن حجر في كتابه مولد النبي ﷺ ونسبه له تلميذه السيفي.
ب - موضوعه: ذكر ابن حجر الله فيه مولد النبي ﷺ وأصل الاحتفال به وحكمه، وإنكار بعض القبائح التي تصدر من بعض الناس فيه، ومختصر سيرته.
وقد رتبه على مقدمة وبابين وثلاثة تنبيهات، وخاتمة.
المقدمة بين فيها سبب تأليف الكتاب.
والباب الأول: جعله في المقدمات وذكر فيه ثلاثة فصول:
الأول: في أصل عمل المولد.
والثاني: في قبائح صدرت من الناس مقترنة بعمل المولد، لا سيما بمكة المشرفة.
والثالث: في ذكر اختلاف العلماء في تفضيل ليلة المولد على ليلة القدر.
والباب الثاني : جعله في المقاصد وذكر فيه سبعة فصول:
الأول: في ذكر نسبه الشريف.
والثاني: في ذكر نبذ من أصل خلقه.
والثالث: في ذكر شيء من شرف هذا النسب.
والرابع: في تزويج عبد الله بآمنة.
والخامس: في حمله.
والسادس: في ولادته .
والسابع: في رضاعه.
ثم التنبيهات الثلاثة ذكر فيها ما يتعلق بشق صدره، وخاتم النبوة، ثم الخاتمة وضمنها اختصار ما سبق واختلاف الناس في أبويه .
ج - طبعاته: طبع الكتاب طبعات عدة.
وقد اختصره ابن حجر نفسه في كتاب له سماه مولد النبي ﷺ وسيأتي الكلام عليه.
٢-الإعلام بقواطع الإسلام
أ - نسبته إليه: ذكره ابن حجر نفسه في فتح المبين والزواجر، ونسبه له السيفي، والعيدروسي والغزي، وابن العماد
ب - موضوعه: ذكر ابن حجر الله فيه الألفاظ التي يكفر بها قائلها، ونقل عن أئمة المذاهب الفقهية ما أوردوه في كتبهم من الكلام عليها فبدأ بالألفاظ التي عدها الشافعية كفراً، ثم الحنفية، ثم المالكية، ثم الحنابلة.
جـ ـ طبعاته: طبع الكتاب طبعات عدة.
٣ - بيان حقية خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب
أ ـ نسبته إليه: ذكره ابن حجر نفسه في مقدمة الصواعق المحرقة.
ب - موضوعه: بيان أحقية الصديق والفاروق بالخلافة، والرد على الرافضة في ذلك. ثم زاد عليه أضعاف ما فيه، وأطلق عليه الصواعق المحرقة ـ كما سيأتي.
ج- نسخه : توجد منه نسخ خطية عدة، منها:
۱ - بمكتبة الحرم المكي رقم: [٣٤٧٢] عام.
٢ - بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية برقم: [٨٦٦٩].
٣ - بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية برقم: [٧/ ٤٥٤].
٤ - تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار:
أ ـ نسبته إليه: انفرد بنسبته إليه البغدادي.
ب - موضوعه: ذكر فيه ابن حجر رحم الله مشروعية الزيارة، واستحباب شد الرحال إليها وتوسل الزائر وتشفعه بالنبي ﷺ، وآداب المجاورة بالمدينة، والمساجد والآثار التي ينبغي زيارتها
وقد رتبه على مقدمة وأربعة أبواب، وخاتمة.
فالمقدمة: في ذكر آداب السفر والزيارة. وأما الأبواب:
فالأول: في ذكر الأحاديث الواردة في الزيارة.
والثاني: في تأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب.
والثالث: في توسل الزائر وتشفعه به.
والرابع: في آداب المجاورة بالمدينة.
وأما الخاتمة: فذكر فيها المنبر الشريف وحدود المسجد النبوي،وما زيد فيه .
ج - طبعاته: طبع الكتاب بتحقيق السيد أبو عمة.
٥- تطهير الجنان واللسان عن الخوض والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان، مع المدح الجلي وإثبات الحق العلي لمولانا أمير المؤمنين علي:
أ ـ نسبته إليه نسبه له الكتاني والبغدادي له، الرافضة في سبهم.
ب - موضوعه بيّن فيه ابن حجر رحم الله فضل معاوية والرد على مع إثبات الحق لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورتبه على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
اشتملت المقدمة على وجوب محبة جميع أصحاب رسول الله ﷺ ومن أكابرهم معاوية رضي الله عنه.
الفصل الأول: في إسلام معاوية.
الفصل الثاني: في فضائله ومناقبه وخصوصياته وعلومه واجتهاده.
الفصل الثالث: في الجواب عن أمور طعن عليه بعضُهم بها.
الخاتمة في ذكر أمور وفوائد مجموعة.
جـ- طبعاته طبع الكتاب طبعات عدة، وحققته الباحثة مديحة السدحان لنيل درجة الماجستير في الرئاسة العامة لتعليم البنات كلية الآداب سنة ١٤٠٨هـ.
٦ - التعرف في الأصلين والتصوف:
أ ـ نسبته إليه نسبه له السيفي والعيدروسي ومرداد.
موضوعه: هو متن مختصر ذكر فيه ابن حجر الله مسائل: أصول الفقه وأصول الدين والتصوف بإيجاز شديد.
ج - طبعاته طبع الكتاب بحاشية شرحه التلطف في الوصول إلى التعرف لابن علان الصديقي ) بمطبعة الترقي الماجدية العثمانية بمكة سنة ١٣٣٠هـ، ولم أقف على طبعة سواها.
وقد شرح الكتاب شروحاً عدة لم يطبع منها إلا الشرح المذكور.
٧- الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم
أ ـ نسبته إليه نسبه له السيفي والغزي والبغدادي.
ب -موضوعه ذكر فيه ابن حجر -رحمه الله -مشروعية الزيارة، واستحباب شد الرحال إليها، وبين آدابها. وقد رتبه على مقدمة وثمانية فصول وخاتمة.
فالمقدمة: في آداب السفر. وأما الفصول:
فالأول في مشروعية زيارة قبر النبي ﷺ.
والثاني في فضائل الزيارة وفوائدها.
والثالث: في التحذير من ترك زيارته.
والرابع: في بيان الأفضل للحاج هل هو تقديم الزيارة أو الحج؟
والخامس: فيما يتأكد على الزائر في طريقه فعله.
والسادس: فيما يسن له فعله من حين دخوله المدينة الشريفة.
وأما الخاتمة: فهي في آداب الزائر عند رجوعه.
جـ ـ طبعاته: طبع الكتاب طبعات عدة.
٨- الدرر الزاهرة في كشف بيان الآخرة:
أ ـ نسبته إليه: انفرد بنسبته إليه الزركلي، وذكر أنه مخطوط ضمن مجموع.
ب - نسخه: لم أقف على نسخة منه.
۹ - الزواجر عن اقتراف الكبائر:
أ ـ نسبته إليه نسبه له معظم مترجميه، منهم: السيفي والعيدروسي وابن العماد، ومرداد.
ب ـ موضوعه ذكر ابن حجر فيه تعريف الكبيرة وأنواعها وأحكامها، ثم عرض مجموعة من الكبائر وأورد تحت كل منها أدلة تحريمها، وبين أقوال العلماء فيها، وبلغ عدد ما أورده من الكبائر (٤٦٧) كبيرة. وقد رتب كتابه هذا على مقدمة، وبابين، وخاتمة.
ذكر في المقدمة: تعريف الكبيرة وأقوال أهل العلم فيها .
وفي الباب الأول: الكبائر الباطنة.
وفي الباب الثاني: الكبائر الظاهرة.
والخاتمة : اشتملت على الكلام في أربعة أمور:
١ - فضائل التوبة وما يتعلق بها .
۲ - وصف يوم الحشر والحساب والشفاعة.
٣- ذكر النار وما يتعلق بها .
٤- ذكر الجنة وما يتعلق بها .
جـ ـ طبعاته طبع الكتاب طبعات عدة وهو يحتاج إلى خدمة وتحقيق ؛ إذ لم يحظ - حسب اطلاعي - بتحقيق علمي يليق به. ولأهل العلم - رحمهم الله -عناية فائقة بالكتاب تمثلت في نظمهم إياه، وشرحهم عليه، واختصارهم لـه.
وقد ترجم الكتاب إلى الأردية وطبع بعنوان تزكية الخواطر في ترجمة الزواجر سنة ١٣٢٨هـ.
۱۰ - شرح عقيدة ابن عراق:
أ - نسبته إليه نسبه له السيفى، وقال عنه: لم يتمه
ب ـ نسخه: لم أقف له على نسخة ـ بعد البحث.
۱۱ - شرح العوارف:
أ ـ نسبته إليه: انفرد بنسبته له تلميذه السيفي.
ب - موضوعه: الذي يظهر لي - والله أعلم -أنه شرح لعوارف المعارف لأبي حفص السهروردي البغدادي الشافعي، ويؤيد ذلك أن ابن حجر قرأه على شيوخه، وأقرانه لتلاميذه.
وإذا تحقق ذلك فإن موضوع الكتاب التصوف وما يتعلق به.
ج ـ نسخه : لم أجد له نسخة ـ بعد البحث.
۱۲ - شرح كتاب عين العلم:
أ ـ نسبته إليه: نقل عنه ابن حجر في الخيرات الحسان، وأكثر النقل عنه القاري في شرحه، ونسبه له السيفي، والعيدروسي و مرداد.
ب - موضوعه: شرح کتاب عين العلم وهو كتاب ألفه أحد علماء الهند اختصر فيه إحياء علوم الدين للغزالي نسخه: لم أجد له نسخة ـ بعد البحث ـ.
۱۳ - شرح منظومته في أصول الدين:
أ ـ نسبته إليه نسبه له السيفي ومرداد. قال السيفي عنه: لم يجاوز فيه الخطبة .
ب - موضوعه: شرح فيه منظومته في أصول الدين ـ وسيأتي الكلام عليها.
جـ - نسخه : لم أقف على نسخة منه ـ بعد البحث.
١٤ - الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الضلال والبدع والزندقة:
أ ـ نسبته إليه : ذكره ابن حجر في فتح المبين في فتح المبين، والزواجر، ونسبه لـه الـسـيـفـي، ومرداد، وحاجي خليفة والعيدروسي، والبغدادي.
ب -موضوعه: ذکر فـيـه ابـن حـجـر الله الكلام عن الإمامة والصحابة، وما يتعلق بالخلافة الراشدة وآل بيت النبوة، والرد على المخالفين في ذلك.
وقد رتبه على ثلاث مقدمات، وأحد عشر باباً (١١)، وخاتمة.
أما المقدمات؛ فثلاثة، وهي:
فالأولى في الداعي لتأليف الكتاب.
والثانية: في الإجماع على وجوب تنصيب الإمام.
والثالثة: في طريق ثبوت الخلافة.
وأما الأبواب :
فالأول: في بيان كيفية خلافة الصديق والاستدلال على حقيقتها بالأدلة النقلية والعقلية.
والثاني: فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين.
والثالث: في بيان أفضلية أبي بكر على سائر هذه الأمة ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
والرابع: في خلافة عمر والخامس: في فضائله وخصوصياته.
والسادس: في خلافة عثمان رضي الله عنه.
والسابع: في فضائله ومآثره.
والثامن: في خلافة علي الله ومقتل عثمان رضي الله عنه.
والتاسع في مآثر علي وفضائله وأحواله.
والعاشر: في خلافة الحسن وفضائله وكراماته رضي الله عنه.
والحادي عشر: في فضائل أهل البيت النبوي.
وأما الخاتمة: ففي بيان اعتقاد أهل السنة في الصحابة، وقتال معاوية وعلي وحقيقة خلافة معاوية بعد نزول الحسن له عنها والاختلاف في كفر ولده يزيد ولعنه.
جـ ـ طبعاته: طبع الكتاب طبعات عدة، وحققه كل من صالح الحميدي، ومها آل عبد اللطيف، وصباح الأهدل في ثلاث رسائل تقدموا بها لنيل درجة الماجستير بجامعة أم القرى كلية الدعوة وأصول الدين سنة ١٤٢٠هـ. وقد ترجم الكتاب في القرن الحادي عشر الهجري وطبع باللغة الفارسية.
ومنذ تأليف ابن حجر الله لهذا الكتاب توالت ردود الرافضة عليه وانتصار أهل السنة لـه.
١٥- القول المختصر في علامات المهدي المنتظر
أ ـ نسبته إليه ذكره ابن حجر في الزواجر ونسبه له السيفي والكتاني، والبغدادي.
ب - موضوعه ذكر ابن حجر فيه الكلام على المهدي المنتظر، ورتبه على مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
ذكر في الباب الأول : ما جاء عن النبي ﷺ في علامات المهدي وخصوصياته.
وفي الباب الثاني: ما جاء عن الصحابة.
وفي الباب الثالث: ما جاء عن التابعين - رحمهم الله -والكتاب في جملته تلخيص لكتاب الحافظ السيوطي المسمى: «العرف الوردي في أخبار المهدي، وكتاب القناعة فيما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة للحافظ السخاوي)
جـ - طبعاته طبع الكتاب طبعات عدة.
١٦ - كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع
أ ـ نسبته إليه نسبه له السيفي وابن العماد، والعيدروسي وغيرهم .
ب - موضوعه الرد على كتاب فرح الأسماع برخص السماع لمؤلفه محمد بن أحمد بن محمد التونسي المالكي الشاذلي القاهري المشهور بأبي المواهب
وقد رتبه على مقدمة وبابين :
المقدمة: ذكر فيها ثلاثة وعشرين حديثاً في ذم المزامير . والباب الأول : وضح فيه أنواع الغناء وأحكامه وآلاته.
والباب الثاني: بيّن فيه أنواع اللهو واللعب وأحكامها .
ج- طبعاته: طبع الكتاب قديماً بذيل الزواجر سنة ١٣٩٨هـ، واستقلالاً مرات عدة.
١٧- منظومة في أصول الدين:
أ ـ نسبتها إليه نسبها له السيفي والعيدروسي كما تقدم.
ب - شروحها: شرحها ابن حجر نفسه - كما
ج ـ نسخها: لم أقف على نسخة منها ـ بعد البحث
١٨- مولد النبي ﷺ:
أ ـ نسبته إليه: نسبه له السيفي، الكتاني، البغدادي، ومرداد.
ب - موضوعه: اختصر فيه كتابه إتمام النعمة الكبرى على العالم بمولد سيد ولد آدم.
جـ ـ طبعاته: طبع الكتاب طبعات عدة، وكتب عليه شروح كثيرة.
١٩ - النفحات المكية:
أ ـ نسبته إليه: نسبه له السيفي، وقال عنه: لم يتمه.
ب - موضوعه بيان جملة من الفوائد والكلام في الميزان والكلام والرد على الرافضة.
وقد رتبه على مقدمة وقسمين، وخاتمة.
فالمقدمة في بيان فوائد تعرف بها القواعد.
والقسم الأول: في الميزان.
والقسم الثاني : في الكلام.
والخاتمة في الرد على الرافضة والشيعة.
جـ ـ نسخه: لم أقف على نسخة منه بعد البحث.
رابعاً: ثناء العلماء عليه:
قال فيه الشهاب الخفاجي في "الريحانة" لما ترجمه: "علامة الدهر خصوصاً الحجاز فكم حجت وفود الفضلاء لكعبته، وتوجهت وجوه الطلب إلى قبلته، ان حدث عن الفقه والحديث، لم تتقرط الآذان بمثل أخباره في القديم والحديث، فهو العلياء والسند.
خامساً: مذهبه العقدي:
يعد ابن حجر ـ غفر الله له وتجاوز عنا وعنه - من متأخري الأشاعرة الذين يجمعون بين الأشعرية والتصوف. بذلك في معجم شيوخه فقال في آخره وكتبه الفقير إلى عفو ربه وكرمه... أحمد بن محمد بن علي السلمنتي أصلاً، والهيتمي مولداً، والأزهري مربى ومنشأ، والصوفي إرشاداً، والجنيدي اتباعاً وانقياداً، والأشعري اعتقاداً، والوائلي السعدي نسباً، والشافعي مذهباً». وذكر في غير موضع من كتبه أن أهل السنة عند الإطلاق المراد بهم الأشعرية والماتريدية، منها قوله: «المراد بأهل السنة حيث أطلقوا أتباع: أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي»، وقوله: «اتفق أهل الحق، وهم فريقان الأشاعرة، والحنفية».
ونظرة عجلى في معجم شيوخه، وأسانيده للفاداني، ومصادر ترجمته، تؤكد هذه الحقيقة وتجليها، فهو يروي الكتب الأشعرية والصوفية، ويدرسها لتلاميذه، وله سند بخرقة التصوف، كما أنه شديد التعظيم لابن عربي والتلمساني وأضرابهما، شديد الخصومة لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم كما سيأتي ..
ولجمع ابن حجر بين كل ذلك من جهة، وشهرته العلمية في عصره وما بعده من جهة أخرى؛ أصبح مقدماً عند القوم، وكتبه مصدراً لتقرير آرائهم وبخاصة في المسائل التي حمل لواءها كالقول باستحباب التوسل بالنبي ﷺ بإطلاق وشد الرحال إلى قبره، والاحتفال بمولده والقول بحياته حياة حقيقية لا برزخية، وإسلام أبويه . .. إلخ.
وكتب القوم تنطق بهذا، وتفصح عنه أيما إفصاح، واعتبر ذلك في كتب خصوم الدعوة السلفية.
ولهذا كان لأئمة الدعوة السلفية - رحمهم الله ـ كلام شديد في ابن حجر - غفر الله له - وردود قوية عليه في المسائل التي زل فيها مما نقله عنه المتصوفة القبورية في كتبهم، بينوا بها ضعف أدلته، وزيف أقواله.
سادساً: مذهبه الفقهي:
يعد ابن حجر الله من محققي الشافعية المتأخرين الذين يرجع إليهم في تحقيق المذهب، ويعمل بترجيحهم في الفتوى؛ ولهذا أصبحت كتبه محل حفاوة الشافعية بعده حيث كثرت العناية بها وتعددت أوجه خدمتها اختصاراً وشرحاً وتحشية واستدراكاً خصوصاً كتبه الفقهية كتحفة المحتاج بشرح المنهاج وفتح الجواد بشرح الإرشاد وحاشيته، وشرح العباب، والمنهاج القويم شرح مسائل التعليم وغيرها.
وقد قرر جمع من متأخري فقهاء الشافعية أن من كان من أهل الترجيح في المذهب والقدرة على التصحيح يختار في فتواه ما يظهر ترجيحه من كلام الشيخين الرافعي والنووي وأما من لم يكن أهلاً لذلك فهو بالخيار بين أن يأخذ بترجيح ابن حجر أو الرملي.
والعمل بترجيح ابن حجر هو قول شافعية حضرموت، والشام، والأكراد ،وداغستان وأكثر أهل الحرمين واليمن. والعمل بترجيح الرملي هو قول شافعية مصر، وبعض أهل الحرمين واليمن، ولهذا عني متأخرو الشافعية بعد ابن حجر والرملي ـ رحمهما الله ـ بالمحاكمة بينهما، والترجيح بين أقوالهما وأفردوا لذلك كتباً ورسائل.
سابعاً: الكتب التي عنيت بترجمة ابن حجر على وجه الإفراد:
ومن الكتب والدراسات التي عنيت بترجمة ابن حجر الهيتمي:
١-نفائس الدرر في ترجمة ابن حجر؛ لتلميذه السيفي.
٢-ومختصره جواهر الدرر في مناقب ابن حجر.
٣-مقدمة فتاواه الفقهية الكبرى لتلميذه الفاكهي.
٤-ابن حجر الهيتمي حياته وآثاره للدكتور إبراهيم السكجي.
٥-ابن حجر المكي وجهوده في الكتابة التاريخية للدكتورة لمياء شافعي.
٦-ابن حجر الهيتمي لعبد المعز عبد الحميد الجزار.