أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 1 أغسطس 2022

في فقه الأولويات دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة د. يوسف عبد الله القرضاوي

في فقه الأولويات 

دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة

د. يوسف عبد الله القرضاوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

 

تمهيد/ لا بد في تقدير الأمور والأفكار والأعمال من موازين دقيقة، تعالج اختلال النسب واضطرابها، وذلك من خلال إدراك ما يُقدم من الأمور وما يؤخر، وما يتشدد فيه وما يتساهل به، وذلك بالنظر إلى المصالح والمفاسد، ذلك أن الأشياء -بطبيعتها وبما يطرأ عليها من عوامل -متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً.

فليست الأشياء كلها في رتبة واحدة؛ بل إن منها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأهم ومنها المهم، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها الأعلى ومنها الأدنى، ومنها الفاضل ومنها المفضول، وكل ذلك يندرج فيما يُعرف (بفقه الموازنات) أو (فقه الأولويات)، أو (فقه ترتيب الأعمال).

وهذا الكتاب النفيس، يحفل بهذا الفقه النبيل، الذي يحتاجه كل طالب علم وفقيه، وكل رئيس ومسؤول، لا سيما وأن مؤلفه ضليعٌ في هذا الفقه، وممن خاض غمار هذا الفن، وهو يلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع، وقامت عليها الأدلة، وظهرت فيها المصلحة.

وهذا الفقه النبيل -في الأساس -لا ينطلق من المفهوم الحدي للحلال والحرام، بل إنه ينطلق من المفهوم النسبي للمصلحة المعتبرة والمفسدة المعتبرة، والموازنات المرتبطة بكل منها، والتي تقدر حال البلاد والعباد والأزمات، وحالات الطوارئ، كذلك يراعي هذا الفقه جوهر الشريعة المرتبطة بالكليات الخمس، وفهم النص في ضوء المقاصد العامة والكلية.

وعموماً، فهذا الكتاب موفق في الطرح والأسلوب، والمادة العلمية الزاخرة، والتي تستحق منها أن نوليه الاهتمام ونوجزه في هذه الصفحات القلائل، غير أنه لا غنى عن الكتاب الأصل، وبالله التوفيق.

(أ)

حاجة أمتنا اليوم إلى فقه الأولويات

وحاجتنا إلى فقه الأولويات باتت ضرورية مع المفارقات الكثيرة، والموازين المختلة في أقطار أمتنا؛ فتجد أن الفن والترفيه مُقدمٌ أبداً على ما يتعلق بالعلم والتعليم، وتزداد هذه الحاجة عندما نعلم أن الإخلال بالأولويات اليوم ليست عند جماهير المسلمين فقط، وإنما أيضاً عند المنتسبين إلى التدين ذاته لفقدان الفقه الرشيد والعلم الصحيح.

(ب)

ومما وقع فيه المسلمون في عصر الانحطاط

ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط ولا زال قائماً، أنهم أهملوا – إلى حد كبير – فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي والصناعي والحربي والذي يجعل الأمة مالكة لأمر نفسها وسيادتها حقاً وفعلاً.

ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام، ومثل إقامة الحكم الشوري القائم على البيعة، والاختيار الحر، ومثل مقاومة السلطان الجائر والمنحرف عن الإسلام، ناهيك بالمعادي له!

(ج) 

إخلال بعض المتدينين بفقه الأولويات

وكذلك -أيضاً -أولوا الإهتمام لبعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات كما هو ملاحظ عند كثير من المتدينين الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد ولم يولوا هذا الإهتمام لكثير من الفرائض وخصوصاً الفرائض الإجتماعية، مثل: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، والرحمة بالضعفاء، ورعاية اليتامى والمساكين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي.

واهتموا بالعبادات الفردية كالصلاة والذكر أكثر من اهتمامهم بالعبادات الإجتماعية كالجهاد والفقه ورعاية حقوق الضعفاء والدعوة إلى العدل والشورى.

وأهملوا بعض الفرائض العينية أو أعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قدمها القرآن على الصلاة والزكاة في وصف مجتمع الإيمان.

واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا لم يكد يوجد مسلم مفطر في نهار رمضان ولا مسلمة، وخصوصاً في القرى والريف، ولكن وُجد من المسلمين -والمسلمات خاصة -من يتكاسل عن الصلاة، ووجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعاً أو ساجداً، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله تعالى قرن بينهما في كتابه الكريم في (28) موضعاً، حتى قال ابن مسعود: "أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزكّ فلا صلاة له".

وأخيراً اهتم كثيرٌ من الناس بفروع الأعمال، وأهملوا الأصول، مع قول الأقدمين: من ضيّع الأصول حُرم الوصول، وأغفلوا الأساس كله، وهو العقيدة والإيمان والتوحيد، وإخلاص الدين لله.

ومما وقع فيه الكثير من الخلل والاضطراب: اشتغال كثير من الناس بمحاربة المكروهات او الشبهات أو الخلافيات (كمسائل التصوير، والغناء، والنقاب، ولبس البنطال، والأكل على المنضدة، والجلوس على الكراسي)، وكأنما لا همَّ لهم إلا هذه القضايا الملتهبة، في حين هم غافلون عن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بوجود هذه الأمة.

(د) 

ارتباط فقه الأولويات بأنواع أخرى من الفقه

ويرتبط فقه الأولويات بفقه الموازنات ارتباطاً وثيقاً،  وأهم ما يقوم عليه فقه الموازنات، ما يلي:

-الموازنة بين المصالح أو المنافع، أو الخيرات المشروعة بعضها وبعض.

-الموازنة بين المفاسد أو المضار أو الشرور الممنوعة بعضها وبعض.

-الموازنة بين المصالح والمفاسد أو الخيرات والشرور إذا تصادمت بعضها ببعض.

والمصالح لست كلها في رتبة واحدة، وإنما لها مراتب أساسة قررها الأصوليون، وهي ثلاث مراتب من الأهم فما دونه: الضروريات -والحاجيات، والتحسينيات:

-الضروريات: ما لا حياة بغيره.

-الحاجيات: ما يمكن العيش بغيره، لكن مع المشقة والحرج.

-التحسينيات: ما يزين الحياة، ويُجملها، ونسميه عُرفاً بـ(الكماليات).

كما أن الضروريات في نفسها متفاوتة، فهي كما ذكر العلماء خمس ضروريات: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وبعضهم أضاف إليها العرض، وهي مرتبة من الأهم فالمهم.

(هـ) 

 ومن القواعد التطبيقية في فقه الموازنات بين المصالح

-تقدّم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المتقطعة.

- وتُقدّم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.

-تقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو المتوهمة.

-تقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.

-تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

-تقدم مصلحة الكثرة على مصلحة القلة,

-تقدم المصلحة الجوهرية والأساسية على المصلحة الشكلية والهامشية.

-تقدم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.

(هـ) 

 ومن القواعد التطبيقية في فقه الموازنات بين المفاسد

-المفسدة التي تعطل ضرورياً، غير التي تعطل حاجياً، غير التي تعطل تحسينياً.

-المفسدة التي تضر بالمال دون التي تضر بالنفس، وهذه دون التي تضر بالدين.

-المفاسد متفاوتة في أحجامها، وفي أثرها، وخطرها.

-لا ضرر ولا ضرار.

-الضرر يزال بقدر الإمكان.

-الضرر لا يزال بضرر مثله، أو أكبر منه.

-يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.

-يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.

-يتحمل الضرر الخاص، لدفع الضرر العام.

(و) 

 ومن القواعد التطبيقية في فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد

  • أن درء المفسدة مُقدّم على جلب المصلحة.

  • المفسدة الصغيرة تُغتفر من أجل المصلحة الكبيرة.

  • تغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائم.

  • ولا ُتترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة 

(ز) 

أولوية الكيف على الكم

فليس المهم أن يكثر عدد الناس ولكن المهم أن يكثر عد المؤمنين الصالحين منهم، وقد يحتج البعض بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تناسلوا تكثروا .. فإني مكاثر بكم الأمم) ولكنه صلى الله عليه وسلم لن يباهي الأمم الأخرى بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، وإنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين.

 وقد بيّن القرآن أن الإنسان اذا اجتمع له الإيمان وقوة الإرادة المعبّر عنها بالصبر يمكن ان تتضاعف طاقته إلى عشرة أضعاف أعدائه ممن لا يملك إيمانه وإرادته وهذا في حال القوة. أما في حالة الضعف فيمكن أن تكون طاقته ضعف طاقة خصمه، كما أشارت إلى ذلك الآية اللاحقة في سورة الأنفال:  {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ …} (لأنفال:66) ).

فالرجال تُقاس بما في رؤوسهم من علم وما في قلوبهم من إيمان، وما يثمره هذا الإيمان من عمل، على أن العمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا بعدده، وإنما بإحسانه (علما أن الإحسان هو فريضة كالصيام وغيره)، بل إن القرآن لا يكتفي من المكلفين بعمل “الحسن”، بل يدعوهم إلى عمل “الأحسن” {أيهم أحسن عملا}. فكأن التسابق بينهم ليس بين الحسن والسيئ، بل بين الحسن والأحسن. 

وينبغي أن يكون هم الإنسان المؤمن التطلع أبدا إلى الأحسن والأرفع، وفي الحديث: “إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن”. 

ومعنى الإحسان في العبادة، يعني المراقبة والإخلاص لله تعالى، وقيل أحسن العمل : أخلصه وأصوبه وخلوصه: أن يكون لله، وصوابه: أن يكون على السنة. وهذا معنى أحسن العمل في أمر الدين والتعبد.

وأما الإحسان في أمر الدنيا، فهو الوصول به إلى درجة الجودة التي ينافس فيها غيره، بل يتفوق عليه، فلا مجال في الحياة إلا للمتقنين. وكما لا تقاس الأعمال بكمها وحجمها، كذلك لا تقاس أعمار الناس بطولها.

(ح) 

الأولويات في مجال العلم والفكر

أولاً-أولوية العلم على العمل:

ومما يستأنس به لتقديم العلم على العمل: أن أول ما نزل من القرآن: (إقرأ)، والقراءة مفتاح العلم، ثم نزل العمل في مثل: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر). 

وفقه الأولويات الذي نتحدث عنه مبناه ومداره على العلم، فبه نعرف ما حقه أن يقدم، وما شأنه أن يؤخر، وبدون هذا العلم نخبط خبط عشواء. 

ومن هنا كان العلم شرط في كل عمل قيادي (سياسي أو عسكري أو قضائي)، ومثال ذلك: يوسف عليه السلام، الذي قال له ملك مصر: (إنك اليوم لدينا مكين، قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم )، فأشار إلى مؤهلاته الخاصة التي ترشحه لهذا العمل الكبير الذي كان يشمل المالية والاقتصاد والتخطيط والزراعة والتموين في ذلك الحين، وقوام هذه المؤهلات أمران: الحفظ (وهو يعني الأمانة)، والعلم، ويراد بالعلم هنا: الخبرة به والكفاية فيه. 

وكذلك إذا كان العمل عسكرياً؛ فلا بد له من العلم: كما قال تعالى في تعليل اختيار طالوت ملكا على أولئك الملأ من بني إسرائيل: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم). 

وكذلك لو كان هذا العمل قضائياً، حتى إنهم اشترطوا في القاضي كما اشترطوا في الخليفة أن يكون مجتهداً، ومثل القضاء : الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناس إلا عالم متمكن في علمه، فقيه في دينه.

ومن هنا يعجب المرء غاية العجب من شبان من طلاب العلم الشرعي وكثيراً ما يكونون دخلاء عليه يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل، وأخطر القضايا، ويتطاولون على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام، والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور وانتفاخ: هم رجال، ونحن رجال!!

وأول ما يفتقرون إليه هو معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع، وفقه حقائق الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(ط) 

ضرورة العلم للداعية والمعلم

وإذا كان العلم مطلوبا للقضاء والفتوى، فهو مطلوب كذلك للدعوة والتربية. فقد قال الله تعالى لرسوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: 108).

ومما يوجبه العلم في مقام الدعوة والتعليم: أن يأخذ الداعية والمعلم الناس بالتيسير لا التعسير، وبالتبشير لا التنفير. كما في الحديث المتفق عليه: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”. 

ومن مقتضيات العلم: أن يجرعوا من المعارف الدينية ما يطيقونه ، وتسيغه معدتهم العقلية، ولا يحدثوا بما تنكره عقولهم، فيكون ذلك فتنة عليهم أو على بعضهم.

ثانياً: أولوية الفهم على مجرد الحفظ: 

وفي حديث أبى موسى في الصحيحين: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". 

لا أريد أن أقول: إن الحفظ ليس له أي قيمة مطلقاً، وإن الذاكرة في الإنسان لا جدوى لها، فهذا غير صحيح. 

ولكن أقول: إن الحفظ هو مجرد خزن للحقائق والمعلومات، ليستفاد منه بعد ذلك. فالحفظ ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو وسيلة لغيره. 

والخطأ الذي وقع فيه المسلمون هو اهتمامهم بالحفظ أكثر من الفهم، وإعطاؤه أكثر من حقه وقدره. ومما يعاب به التعليم العام في أوطاننا: أنه يعتمد على الحفظ والصم، لا على الفهم والهضم .

ثالثاً: أولوية المقاصد على الظواهر:

ومما يدخل في "الفقه" المراد: الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، ورد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.

 فإن للشارع أهدافاً في كل ما شرعه أمرا أو نهيا، أو إباحة، فلم يشرع تحكما ولا اعتباطا، بل شرعه لحكمة تليق بك ماله تعالى، وعلمه ورحمته وبره بخلقه.

رابعاً: أولوية الاجتهاد على التقليد: 

ومن هذا الباب: أولوية الاجتهاد والتجديد على التكرار والتقليد؛ فالعلم عندهم هو: العلم الاستقلالي، الذي يبتع فيه الحجة، ولا يبالي أوافق زيد أو عمر من الناس، فهو يسير مع الدليل حيثما سار، ويدور مع الحق الذي يقتنع به حيثما دار. 

ومن المذموم الجمود على ما قاله السابقون، دون مراعاة لتغير زماننا عن زمانهم، وحاجاتنا عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم.

خامساً: أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا:

وإذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في شؤون الدنيا أيضاً.

فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة. فلابد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولابد من الإقناع بجدواه قبل البدء فيه، ولابد من التخطيط قبل التنفيذ، ولابد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل.

وأولى الناس بالتخطيط لغدهم: رجال الحركة الإسلامية، فلا يدعون الأمور تجري في أعنتها، من غير انتفاع بتجارب الأمس، ولا رصد لوقائع اليوم، ولا تقويم للصواب والخطأ في الاجتهادات، ولا مقدار المكاسب والخسائر في المسيرة بين الأمس واليوم.

(ي) 

الأولويات في الآراء الفقهية

الآراء الفقهية إذا اختلفت وتباينت، فكيف نرجح بينها، ونقدم بعضها على بعض؟ إن في كتب الأصول باب طويل الذيول، كبير الأهمية، حول التعادل والترجيح، وقد يعبر عنه باسم “التعارض والترجيح”. كما تعرض له أئمة الحديث في علوم الحديث فيما يتعلق بالسنة بعضها وبعض.

ولكني هنا أريد أن أنبه على أشياء معينة لها أهمية خاصة بالنظر إلى واقعنا المعاصر، وما يمور به من أفكار:

-ما الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط، ولا يقبل فيها رأي آخر، ولا مجال فيها للتسامح؟

-وما الآراء التي تقبل نسبة ولو ضئيلة من التسامح؟

-والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح؟

أولاً: التفريق بين القطعي والظني:

فمن المقرر لدى أهل العلم: أن ما ثبت بالاجتهاد غير ما ثبت بالنص، وأن ما ثبت بالنص وأيده بالإجماع المتيقن غير ما ثبت بالنص واختلف فيه، والاختلاف فيه دليل على أنه أمر اجتهادي، والأمور الاجتهادية لا ينكر فيها عالم على آخر، لكن يناقش بعضهم بعضاً فيها بالاحترام المتبادل . كما أن  ما ثبت بالنص يختلف كثيرا من حيث قطعيته وطنيته.  

و القطعية والظنية تتعلق بثبوت النص ودلالته: 

-فمن النصوص ما هو ظني الثبوت، ظني الدلالة معاً.  

-ومنها: ما هو ظني الثبوت، قطعي الدلالة.  

ومنها: ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة.  

ومنها: ما هو قطعى الثبوت، قطعى الدلالة معاً.  

وظنية الثبوت تختص  بالسنة غير المتواترة أي الآحاد، والمتواتر: ما رواه جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، ومن العلماء من قال: إن التواتر فى السنة عزيز، ولا يكاد يوجد، ومنهم من توسع فى ذلك، حتى ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، التي رفضها مثل الشيخين، فليحذر من دعوى التواتر بغير برهان.  

ومنهم من ألحق بالمتواتر أحاديث احتفت بها القرائن مثل تلفى الأمة لها بالقبول. مثل أحاديث الصحيحين التي لم تعقبها أحد من العلماء المعتبرين.  

وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعاً: فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة والمجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وتحتمل الدلالة المطابقية، والدلالة التضمنية، والدلالة الالتزامية.

 

إن المعركة الكبرى للدعاة هي مع العَلمانيين الذين يخرجون عن القطعيات، وأن النقاشات الساخنة في الظنيات أمر مذموم إذا أصبح شغلنا الشاغل ومن الخطر أن نعرض القضايا المختلف عليها على أنها قضايا مسلمة لا نزاع فيها أمام الناس.

وكثيراً ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية. فالمُشدّد يفهم من النص غير ما يفهمه المُيسّر. ولذا عرف تراثنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس. وذوو الأفق الواسع يفهم منه غير ما يفهمه ذو الأفق الضيق. والمقاصدي الذي يعنى بفحوى النص روحه يفهم منه غير ما يفهمه الظاهري الحرفي ، الذي يجمد على ظاهره لا يحيد عنه.

 وفى قضية الأمر بصلاة العصر في بني قريظة أبلغ دليل على ذلك، ولله حكمة فى أن جعل النصوص قابلة لمثل هذا التعدد، لتسع الناس جميعاً، باتجاهاتهم المتباينة. ولهذا أنزل كتابه الخالد، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.  

ولو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد، ورأى واحد، لأنزل كتابه كله آيات محكمات، وجعل النصوص كلها قاطعات.  

والقرآن كله قطعى الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته - فى جزئياتها - ظنية الدلالة ، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها .  

ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق ( فضائل ورذائل )، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحو ذلك قد بينتها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء .  

واكدت هذه القضايا: السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا، كما اكدها الإجماع اليقينى من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملى من الأمة . 

ومن هنا: لا يجوز الخلط - جهلا أو قصدا - بين النصوص بعضها وبعض، فقد يعذر من يرد نصا ظنياً فى ثبوته، إذا قام لديه دليل على عدم ثبوته.

وقد يعذر من يرد رأياً فى نص ظني فى دلالته، أو يفره تفسيراً جديداً غير ما فسره به الأولون، ولكنه محتمل وقد لا يعذر هذا ولا ذاك، في ردهما النص الظني، إذا كان ظاهر التمحل، أو التلفيق. ولكنه لا يكفر ويُخرج من الملة بسبب موقفه هذا.

أقصى ما فيه أن يُبدّع، أى يرمى بالبدعة، والخروج عن النهج المعتاد لأهل السنة ، وحسابه على الله تعالى. وليس هذا لكل من هب ودب، بل للمحققين من أهل العلم الثقات.  

إنما الذي يرفض حقاً، ونيبذ قائله: هو رد الصوم القطعية الثبوت والدلالة جميعاً، فهذه - وإن كانت قليلة - تعتبر فى غاية الأهمية فى الدين، لأنها هى التى تجسد الوحدة العقيدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة، وهى التى يحتكم إليها عند النزاع، ويرجع إليها عند الاختلاف، فإذا غدت هى الأخرى مثار نزاع واختلاف، فإلى أى شئ يرجع الناس ؟!  

ومن هنا حذرنا في كتبنا من تلك المؤامرة الفكرية التى تعمل على تحويل القطعيات إلى ظنيات ، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون فى آية تحريم الخمر: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}، والتشكيك في دلالة كلمة فاجتنبوه على التحريم.  

ومثل الذين يجادلون فى تحريم الربا، ومثل الذين يجادلون فى تحريم لحم الخنزير، ومثل الذين يجادلون فى ميراث المرأة، أو فى قوامية الرجل على المرأة، أو فى وجوب الحجاب ( معنى لبس الخمار والملابس المحتشمة ) أو غير ذلك مما ثبت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وانعقد عليها إجماع الأمة، واستقرت عليه فقها وعملا، نظرا وتطبيقا، أربعة عشر قرنا من الزمان .  

(ك) 

الأولويات في مجال الفقه والدعوة

أولاً: أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير:

أي التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوى، يقول الله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). يقول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) يقول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). 

ويُقدّم كذلك الأيسر على الأحوط في المسألة الواحدة – وهذا مذهب الشيخ كما ذكر – ثم قال وعصرنا أكثر من غيره حاجة إلى إشاعة التيسير على الناس بدل التعسير، والتبشير بدل التنفير، ولا سيما من كان حديث عهد بإسلام، أو كان حديث عهد بتوبة.

 ومن جملة ذلك التخفيف في صلاة الجماعة يقول صلى الله عليه وسلم “إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء”.

ثانياً: الاعتراف بالضرورات الطارئة:

ومن التيسير المطلوب هنا : الاعتراف بالضرورات التي تطرأ في حياة الناس، سواء أكانت ضرورات فردية أم جماعية، فقد جعلت الشريعة لهذه الضرورات أحكامها الخاصة.

ثالثاً: تغيير الفتوى بتغير الزمان والمكان:

ومن التيسير المطلوب هنا أيضا : ضرورة الاعترا ف بالتغير الذي يطرأ على الناس ومن ثَمَّ أجاز فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال، وهذا ما يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت، وآراء اتخذت في أعصار سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع، ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال . والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته. 

ومن ذلك: تقسيم العالم إلى دار إسلام، ودار حرب واعتبار أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وأن الجهاد فرض كفاية على الأمة إلى آخر تلك الأقوال.

والواقع أن هذه الأقوال لم تعد تصلح لزماننا، ولا يوجد من نصوص الإسلام المحكمة مايؤيدها، بل في هذه النصوص ما يناقضها. 

فالإسلام ينشد التعارف بين البشر جميعا: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). ويعتبر صلح الحديبية فتحا مبينا يمتن به على رسوله، وينزل فيه سورة الفتح: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا). 

والجهاد الذي شرعه الإسلام في الأزمان الماضية، كان له هدف واضح، وهو إزالة العوائق المادية من طريق الدعوة. وقد كان الأباطرة والملوك في تلك الأزمنة يقفون حائلا دون وصول دعوة الإسلام إلى شعوبهم أما اليوم، فلا عوائق أمام الدعوة، وخصوصا في البلاد المفتوحة التي تقبل التعددية، ويستطيع المسلمون أن يبلغوا دعوتهم بالكلمة المقروءة، والكلمة المسموعة، والكلمة المشاهدة. ويستطيعون بالإذاعات الموجهة أن يبلغوا العالم كله بلغاته المختلفة، وأن يتكلموا مع كل قوم بلسانهم ليبينوا لهم.

رابعاً: مراعاة سنة التدرج:

ومن التيسير المطلوب هنا: مراعاة سنة التدرج، جرياً على سنة الله تعالى في عالم الخلق، وعالم الأمر، واتباعا لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المحرمات كذلك. ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، لا يجهلها دارس.

ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته يبقى على “نظام الرق” الذي كان نظاما سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج.

فالتدرج في التدين وفي تطبيق شرع الله في حياة الناس والمجتمع ينبغي أن يكون متدرجا بحكمة.

خامساً: تصحيح ثقافة المسلم:

من المهم واللازم اليوم في تثقيف المسلمين وتفقيههم في دينهم: أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يحذف من ثقافة المسلم. ويرى الشيخ أهمية متابعة فلسفات العصر والرد عليها ردا علميا موضوعياً، أو في متابعة مصادر الإسلام الأساسية وشروح الأئمة الكبار عليها، أو في النبش عن الأفكار والمفاهيم الأصيلة في المدارس التجديدية في الإسلام، لعاد ذلك علينا بالخير الكثير، والنفع الغزير.

ولازال “علم الكلام” يدرس على الطريقة القديمة نفسها، وهو في حاجة إلى أن يتجدد ليتحدث بلغة القرآن التي تخاطب الفطرة، وتخاطب العقل والقلب معا، وليس بأسلوب الفلسفة اليونانية، وقد ألف الإمام ابن الوزير كتابه القيم “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان”. 

وعلم الفقه في حاجة إلى أن ييسر للناس، وأن يعرض عرضا جديدا، وإلى جوار ذلك لابد من العناية بالثقافة التي تقدم إلى الجمهور المسلم، وضرورة تنويعها وتلوينها، فمنها ما يقدم إلى المثقفين ثقافات مدنية مختلفة

سادساً: معيار لا يخطئ، الاهتمام بما اهتم به القرآن:

ومن المعايير التي ينبغي الرجوع إليها في بيان ما هو أحق وأولى بالرعاية والتقديم على غيره: أن نعنى بالأمر على قدر ما عني به القرآن الكريم.

فما اهتم به القرآن كل الاهتمام، وكرره في سوره وآياته، وأكده في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، يجب أن تكون له الأولوية والتقديم والعناية في تفكيرنا وفي سلوكنا، وفي تقويمنا وتقديرنا. كأصول الإيمان وأصول العبادات وأصول الفضائل ومثل “الإسراء” بالنبي عليه الصلاة والسلام، الذي أعطاه القرآن آية واحدة، وليس كالغزوات التي أخذت سورا كاملة.

(ك) 

الأولويات في مجال العمل

أولاً: أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع:

 وفي هذا جاء الحديث الصحيح: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”. 

وعن سهيل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات”.

ثانياً: أولوية العمل المتعدي النفع على القاصر:

من فقه الأولويات في ترجيح العمل: أن يكون أكثر نفعا من غيره. وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله. 

ولهذا كان جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج، لأن نفع الحج لصاحبه، ونفع الجهاد للأمة من هنا جاء تفضيل العلم على العبادة في جملة أحاديث، لأن منفعة العبادة للعابد، ومنفعة العلم للناس ومن هذه الأحاديث: “فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع”. 

وفي الصحيح: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”. وهكذا يكون العمل الأفضل ما كان أكثر نفعا للآخرين. وجاء في الحديث: “أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا”.

ثالثاً: أولوية العمل الأطول نفعاً والأبقى أثراً: 

من هنا كان فضل “الصدقة الجارية” التي يستمر نفعها وأثرها بعد وفاة المتصدق بها، مثل الأوقاف الخيرية، التي عرفها المسلمون منذ عصر النبوة 

وقد جاء في الحديث الصحيح: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

رابعاً: أولوية العمل في زمن الفتن:

لأن العمل هنا دليل القوة في الدين والصلابة في اليقين والثبات على الحق وعن معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (عبادة في الهرج كهجرة إليّ).

خامساً: أولوية عمل القلب على عمل الجوارح: 

لأن عمل الباطن أساس قبول العمل الظاهر، ولأن القلب هو حقيقة الإنسان ومدار صلاحه، والنجاة في الآخرة لا تتحق إلا لمن جاء الله بقلب سليم.

ولهذا نعجب من تركيز بعض المتدينين عامة، والدعاة خاصة، على بعض الأعمال والآداب التي تتعلق بالظاهر أكثر من الباطن، وبالشكل أكثر من الجوهر، مثل تقصير الثوب، وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، وصورة حجاب المرأة، وعدد درجات المنبر، وطريقة وضع اليدين أو القدمين أثناء القيام في الصلاة، إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بالصورة والشكل أكثر مما تتعلق بالجوهر والروح، فهذه ـ مهما يكن وضعها ـ لا تأخذ الأولوية في الدين.

سادساً: إختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان والحال:

وهنا نقطة ينبغي توضيحها، وهي: أن الأولوية والأفضلية في كثير من الأمور لا تكون أولوية مطلقة في الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإن تفاوتت. بل الغالب أنها تتفاوت بتفاوت المؤثرات الزمانية والبيئية والشخصية، ولهذا أمثلة كثيرة.

سابعاً: أفضل الأعمال الدنيوية:

فالزراعة والصناعة والتجارة يكون التفضيل بينها بحسب حاجة المجتمع إليها وأحوج ما تحتاج إليه أمتنا في عصرنا، هو التكنولوجيا المتطورة، أن تدخل الأمة هذا العصر، وهي مسلحة بعلمه، غير غائبة ولا متخلفة، فلا تستطيع الأمة أن تنهض برسالة الإسلام الذي أكرمها الله به، وأتم عليها به النعمة، وأن تحمل دعوته إلى العالمين، وهي عالة على غيرها في أدوات العصر، وأسلحة العصر إن تحصيل هذه التكنولوجيا المتقدمة والتفوق فيها، وفي العلوم الموصلة إليها، أصبح فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع. وهي في مقدمة الأولويات للأمة اليوم.

ثامناً: أفضل العبادات:

ونقل الشيخ هنا كلاما مفيداً للإمام ابن القيم ، جاء فيه:

إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.

-فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار. بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.

-والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

-والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.

-والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.

-والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.

-والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع. وإن بعد كان أفضل.

-والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.

-والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.

-والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.

-والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

-والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقراء القرآن، عند كثير من العلماء.

-والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.

-والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاه الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.

-والأفضل خلطتهم في الخير. فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

(ل) 

الأولويات في مجال المأمورات

أولاً: أولوية الأصول على الفروع: 

ولا ما ينبغي الاهتمام به في مجال المأمورات الشرعية، هو: تقديم الأصول على الفروع. ونعني بتقديم الأصول: تقديم ما يتصل بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي أركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم.

والإيمان الحق لابد أن يثمر عملا، وعلى قدر تمكن الإيمان ورسوخه تكون الأعمال، من فعل المأمور، واجتناب المحظور. والعلم الذي لم يؤسس على إيمان صحيح لا وزن له عند الله، وهو كما صوره القرآن: (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب).

لهذا كان الأمر الأحق بالتقديم والأولى بالعناية من غيره، هو تصحيح العقيدة، وتجريد التوحيد، ومطاردة الشرك والخرافة، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، وحتى تغدو كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله” حقيقة في النفس، ونورا في الحياة، يبدد ظلمات الفكر، وظلمات السلوك.

ثانياً: أولوية الفرائض على السنن والنوافل:

وفقه الأولويات يقتضي أن نقدم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وأن نتساهل في السنن والمستحبات ما لا نتساهل في الفرائض والواجبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة، الفريضتان الأساسيتان، والرائد في ذلك الحديث المشهور (بني الإسلام على خمس ..) فان المنهج النبوي في التعليم: التركيز على الأركان والأساسيات، لا على الجزئيات والتفصيلات التي لا تتناهى.

فنرى من المنتسبين إلى الدين من يقوم الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي يتقاضى عليه أجرا متعبا كليل القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي. 

ولو علم أن إحسان العمل فريضة: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”، وأن التفريط فيه خيانة للأمانة، وأكل للمال ـ آخر الشهر ـ بالباطل، لوفر على نفسه قيام ليله، لأنه ليس أكثر من نفل، لم يلزمه الله به ولا رسوله.

ومثله من يصوم الاثنين والخميس، فيجهده الصيام، وخصوصا في أيام الصيف، فيمضي إلى عمله مكدودا مهدودا، وكثيراً ما يؤخر مصالح الناس بتأثير الصوم عليه. والصوم نفل غير واجب ولا لازم. وإنجاز مصالح الخلق واجب ولازم.

ومثل ذلك حج التطوع، وعمرة التطوع، فمن المتدينين من يحج الحجة الخامسة أو العاشرة أو العشرين وربما الأربعين. ويعتمر كل عام في شهر رمضان، وينفق ألوف الجنيهات أو الدنانير أو الريالات، وهناك مسلمون يموتون من الجوع ـ حقيقة لا مجازاً ـ في بعض الأقطار و آخرون يتعرضون للإبادة الجماعية، والتصفية الجسدية وآخرون يتعرضون للغزو التنصيري، ولقد قرر فقهاء الإسلام: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.

ثالثاً: أولوية فرض العين على فرض الكفاية:

وأظهر مثال لذلك: ما جاء في شأن بر الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية، وهو جهاد الطلب لا جهاد الدفاع. وجهاد الطلب: أن يكون العدو في أرضه، ونحن الذين نطلبه، من باب الحرب الوقائية، ومبادرته بالهجوم إذا ظهرت منه بوادر التربص بنا والطمع فينا. فهنا يغني البعض عن الكل، إلا إذا طلب الإمام النفير من الجميع.

وأحب أن أوضح هنا: أن فروض الكفاية تتفاوت أيضا. 

فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض. وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كاف، أو لم يقم بها أحد قط.

وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرو من الناس، لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه.

كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده الذي تعلم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.

ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة، يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره.

رابعاً: أولوية حقوق العباد على حق الله المجر:

وإذا كان فرض العين مقدما على فرض الكفاية، فإن فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضا. ولذا رأينا الشرع يؤكد في كثير من أحكامه تعظيم ما يتعلق بحقوق العباد.

ففرض العين، المتعلق بحق الله تعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة.

ولهذا إذا كان الحج مثلا واجباً، وأداء الدين واجبا، فإن أداء الدين مقدم ولأهمية حقوق العباد هنا ـ وبخاصة الحقوق المالية ـ صح الحديث أن الشهادة في سبيل الله ـ وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه ـ لا تسقط عنه الدين ففي الصحيح: “يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين”. 

وهذا يدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصا أم عاما، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافها، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

خامساً: أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد:

ومما يذكر هنا أيضا في فقه الأولويات: أن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة أوكد من الواجب المتعلق بحق الفرد. 

ولهذا قرر العلماء في التعارض بين الجهاد ـ إذا كان فرض كفاية ـ وبين بر الوالدين، أن بر الوالدين مقدم ولكن إذا كان الجهاد فرض عين، كما إذا غزا الأعداء الكفار بلدا من بلاد الإسلام، ففرض على أهله كافة أن يهبوا للدفاع عن بلدهم. 

فإذا عارض بعض الآباء أو الأمهات ـ بمقتضى عواطفهم ـ في اشتراك أبنائهم في هذا الجهاد الدفاعي، فلا عبرة بمعارضتهم شرعاً. فالجهاد هنا حق الله، والبر حق الوالدين، وحق الله تعالى مقدم على حق خلقه.

سادساً: أولوية الولاء للجماعة والأمة على القبيلة والفرد:

يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). وفي الحديث “من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية”. “الجماعة بركة والفرقة عذاب”.

والإسلام شرع الكثير من مظاهر تعميق الأخوة كصلاة الجماعة وحضور المساجد والجمع والصيام يوم يصوم الناس والوقوف بعرفة يوم يقف الناس وغير ذلك كثير مما يطول بيانه ..

(م) 

الأولويات في مجال المنهيات

أولاً: كفر الإلحاد والجحود:

 وهو الذي لا يؤمن صاحبه بأن للكون ربا، ولا أن له ملائكة أو كتبا أو رسلا مبشرين ومنذرين، ولا أن هناك آخرة يجزى الناس فيها بما عملوا، خيرا أو شرا. فهؤلاء لا يعترفون بألوهية ولا نبوة ولا رسالة ولا جزاء أخروي فهذا أشد أنواع الكفر.

ثانياً: كفر الشرك: 

مثل شرك عرب الجاهلية، فقد كانوا يؤمنون بوجود الإله، وبخالقيته للسموات والأرض والناس، وبتدبيره لأمر الرزق والحياة والموت، ولكنهم ـ مع هذا النوع من الإقرار الذي سمى “توحيد الربوية” ـ أشركوا بالله فيما سمى “توحيد الإلهية”، وعبدوا معه ـ أو من دونه ـ آلهة أخرى، في الأرض أو في السماء.

ثالثاً: كفر أهل الكتاب:

وكفرهم من جهة تكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب الخالد، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل من جهة، ومصححاً لها من جهة أخرى.

 وهذا يضع أمام أعيننا قاعدة مهمة للموازنة والترجيح في التعامل مع غير المسلمين، واعتبار أهل الكتاب ـ في الجملة ـ أقرب من الملاحدة والوثنيين، ما لم تكن هناك عوامل خاصة تجعل أهل الكتاب أشد عداوة أو حقدا للمسلمين: كما نرى حديثا عند الصرب وعند اليهود. 

ومن المؤكد أن الكفار منهم مسالمون، فلهم منا المسالمة، ومنهم معادون محاربون. فنحن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به.

رابعاً: كفر أهل الردة:

 ومن المقرر لدى علماء المسلمين: أن شر أنواع الكفر هو: الردة، وهو: أن يخرج المرء من الإسلام بعد أن هداه الله إليه.

فالكفر بعد الإسلام أشد من الكفر الأصلي، وهو ما لا يزال أعداء الإسلام يسعون إليه بكل ما يستطيعون ، وقد صحت الأحاديث الكثيرة في قتل المرتد عن عدد من الصحابة، وهو قول جمهور الأمة. وقد روى عن عمر ما يدل على جواز سجن المرتد واستبقائه حتى يراجع نفسه، ويتوب إلى ربه. وبه أخذ النخعي والثوري.

خامساً: كفر النفاق:

من أغلظ أنواع الكفر وأشدها خطرا على الحياة الإسلامية والوجود الإسلامي: كفر النفاق، لأن أصحابه يعيشون بين ظهراني المسلمين، باعتبارهم منهم، يشاركونهم في أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقامة الشعائر، وهم مع ذلك أعداء لهم في باطن الأمر، يكيدون لهم، ويمكرون بهم، ويوالون أعداءهم.

سادساً: التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق:

 ومن المهم هنا جدا: التفريق بين مراتب ما ذكرناه من الكفر والشرك والنفاق. فكل منها فيه أكبر وأصغر، والأكبر هو المراد عند الإطلاق: [الكفر أكبر وأصغر] فمن المعلوم أن:

1-  الكفر الأكبر هو: الكفر بالله تعالى، وبرسالاته، كما ذكرنا في كفر الشيوعيين، أو الكفر برسالة محمد، كما في كفر اليهود والنصارى به، فهؤلاء يعتبرون كفارا برسالة محمد في أحكام الدنيا. 

2- والكفر الأصغر هو المعاصي مهما يكن مقدارها في الدين ومثل ذلك تارك الصلاة كسلاً ومن الكفر الأصغر الحديث “من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد”.

وفي قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. 

فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه ـ مع تيقنه أنه حكم الله ـ فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهو مخطئ، له حكم المخطئين.

[الشرك أكبر وأصغر]:

1- فالأكبر معروف وهو كما قال ابن القيم: أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين وهذا الشرك لا يقبل المغفرة إلا بالتوبة منه.

2-وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من حلف بغير الله فقد أشرك” وأمثال هذه الجمل مثل “ما شاء الله وشئت” و سجود المريد للشيخ وحلق الرأس للشيخ والتوبة للشيخ والأخيرة شرك عظيم ومن أنواعه النذر لغير الله وكذا الخوف لغير الله والعمل لغير الله.

[النفاق أكبر وأصغر]:

1-فالنفاق الأكبر هو نفاق العقيدة، وهو الذي يوجب الخلود في الدرك الأسفل من النار، وهو: أن يبطن الكفر ويظهر الإسلام. 

2- وأما النفاق الأصغر، فهو نفاق العمل والسلوك، وهو الذي يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسلك سلوكهم، وإن كانت عقيدته سليمة وفي الحديث “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”.

[الكبائر]: 

فبعض الكفر (بدرجاته) تأتي المعاصي كبيرها وصغيرها. 

والكبائر: هي الذنوب الجسيمة الخطر، التي توجب لفاعلها غضب الله ولعنته، واستحقاق نار جهنم، وقد توجب على صاحبها حدا في الدنيا. 

كحديث الموبقات السبع وقطع الرحم وعقوق الوالدين وشهادة الزور وترك الصلاة والزكاة، وكذا حديث “إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ..” فلقد اعتبر الحديث الشريف التسبب في جلب السب إلى الوالدين من أكبر الكبائر، ليس مجرد حرام، ولا مجرد كبيرة، فكيف بمن باشر والديه بالسب؟ وكيف بمن باشرهما بالإيذاء والضرب؟ وكيف بمن جعل حياتهما جحيما لا يطاق بسبب الجفاء والعقوق؟

وفرّق الشرع بين المعاصي التي يقود إليها الضعف (كالزنى) وتلك التي يقود إليها البغي (كالربى) وفي الحديث “درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية”.

[كبائر معاصي القلوب]: 

وليست الكبائر مقصورة على الأعمال الظاهرة، كما قد يتوهم، بل كبائر معاصي القلوب أشد أثما، وأعظم خطرا.

فكما أن أعمال القلوب أعظم وأفضل من أعمال الجوارح في الطاعات، نجد أعمال القلوب في جانب المعاصي أعظم وأبعد أثرا، وأكبر خطرا. 

ولا غرو أن جاء التحذير الشديد، والترهيب المتكرر، من معاصي القلوب، التي تعد من كبائر الذنوب، وموبقات الآثام، وكثيرا ما تكون هي الدافعة الأصلية لارتكاب كبائر المعاصي الظاهرة، من ترك الأمور، أو اقتراف المحظور.

[موبقة الكبر]:

كما رأينا في قصة إبليس مع آدم، كيف دفعه “الكبر” إلى رفض أمر الله تعالى، وقال: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون)، (أنا خير منه).

ومن هنا جاء الترهيب الشديد من الكبر والتكبر واحتقار الغير، حتى قال صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”. 

وقد ذم القرآن الكبر والمستكبرين في آيات شتى. وبين أن الكبر هو الذي منع الكثيرين من الإيمان بالرسل، وانتهى بهم إلى جهنم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).

[الحسد والبغضاء]: 

وفي قصة ابني آدم التي قصها القرآن علينا بالحق، نجد “الحسد” هو الدافع إلى قتل الأخ الخبيث لأخيه الطيب.وقد أمر القرآن بالاستعاذة من شر الحاسد: (ومن شر حاسد إذا حسد).وجعل الحسد من موانع الإيمان بالإسلام، وأسباب الكيد له: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق). وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا”.

[الشح المطاع]: 

ومن كبائر معاصي القلوب: المهلكات الثلاث، التي حذر منها الحديث الشريف: “ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه”.

وقد ورد في ذم الشح جملة أحاديث منها: “لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا”.قال العلماء: الشح بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل.

[الإعجاب بالنفس]:

فإن المعجب بنفسه لا يرى عيوبها وإن كبرت، وينظر إلى مزاياها ومحاسنها من وراء “ميكروسكوب”، فيضخمها وقال علي كرم الله وجهه: سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك.

[الهوى المتّبع]: 

وبين القرآن أن اتباع الهوى يعمي ويصم، ويضل المرء على علم، ويطمس على بصيرته، فلا يرى ولا يسمع ولا يعي: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله).

ولذا قال ابن عباس: شر إله عبد في الأرض: الهوى!

وجعل القرآن في طليعة أسباب دخول الجنة: نهى النفس عن الهوى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى).

[حب الدنيا وإرادتها]: 

ومن كبائر معاصي القلوب: حب الدنيا وإرادتها وإيثاره على الآخرة، وهو رأس كل خطيئة. والخطر هنا ليس في امتلاك الدنيا، بل في إرادتها والحرص عليها وعلى متاعها وزخرفتها وزينتها. 

وإذا اجتمعت الدنيا والآخرة آثر الأولى على الآخرة. وهذا هو سبب الهلاك والدمار في الدارين.وفي الدنيا بين الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: سر الوهن الذي يحيق بالأمة برغم كثرة أعدادها، فقال: “حب الدنيا وكراهية الموت”.

[حب المال والجاه والمنصب]: 

وحب الدنيا يتمثل في حب المال والثروة، وحب الجاه والمنزلة والشرف، والحرص عليهما حرصا يجعل صاحبه يتنازل عن قيمه ومبادئه في سبيل الحصول عليهما، وفي هذا ضياع الدين والإيمان. وفي هذا ورد الحديث: “ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف ـ لدينه”. 

ومن مظاهر حب الدنيا وإرادتها: الحرص على المناصب، والتكالب على الإمارة، والرغبة في الظهور، التي طالما قصمت الظهور. 

[اليأس والقنوط من رحمة الله]:

ومن كبائر معاصي القلوب: اليأس والقنوط من رحمة الله، فقد قال تعالى على لسان نبيه يعقوب: (ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). 

[الأمن من مكر الله]

ومن هذه الكبائر: الأمن من مكر الله سبحانه، فقد قال تعالى: (أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).ومنها: محبة أن تشيع الفاحشة في مجتمع المؤمنين، فقد قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).

[الرياء الممقوت]: 

ومن كبائر معاصي القلوب: الرياء، الذي يحبط العمل، ويسلبه القبول عند الله، وإن يكن ظاهره مزوقا مزينا للناس.وقد ذكرت الأحاديث أن الرياء ضرب من الشرك، فالمرائي لا يقصد بعمله وجه الله تعالى، بل وجوه الخلق ومحمدتهم ومرضاتهم.

[صغائر المحرّمات]: 

وهذه لا يكاد أحد يسلم من الإلمام بها حينا من الزمن، ولهذا تفترق عن الكبائر بأنها لها الكثير من الكفرات وفي الحديث “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر”.

على أن الشرع وإن سامح وخفف في اللمم أو الصغائر، فقد حذر من الاستهانة بها، والإصرار والمواظبة عليها، فإن الصغير إذا أضيف إلى الصغير كبر، ثم إن الصغائر تجر إلى الكبائر، والكبائر تجر إلى الكفر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

وقد قال ابن القيم: وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة ـ من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ـ ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.

[البدع الاعتقادية والعملية]: 

وهي ما أحدثه الناس واخترعوه في أمر الدين. سواء أكانت بدعا اعتقادية، وهي التي تسمى “بدع الأقوال”، أم بدعا عملية، وهي التي تسمى “بدع الأفعال”.

وهي نوع من المحرمات يختلف عن المعاصي العادية، فإن فاعلها يتقرب بها إلى الله تعالى، ويعتقد أنه ببدعته يطيع الله ويتعبد له، وهذا هو خطرها. على أن البدع ليست كلها في مرتبة واحدة، فهناك بدع مغلظة، وبدع مخففة، وبدع متفق عليها، وبدع مختلف فيها.

[الشبهات]: 

وبعد صغائر المحرمات تأتي الشبهات، وهي ما لا يعلم حكمه كثير من الناس، ويشتبهون في حله وتحريمه، فهذه ليست كالمحرمات المقطوع بها.

وفي الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا. قال: “سموا الله عليه وكلوا”.أخذ الإمام ابن حزم من هذا الحديث قاعدة: أن ما غاب عنا لا نسأل عنه.

وقد روى أن عمر رضي الله عنه مر في طريق فوقع عليه ماء من ميزاب، وكان معه رفيق، فقال هذا الرفيق: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا فقد نهينا عن التكلف.وروى في مثل ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه ويدعوه إلى طعام، قال : أجيبوه.

[المكروهات]: 

وهو قسمان المكروه التحريمي هو: ما كان إلى الحرام أقرب، والمكروه التنزيهي هو: ما كان إلى الحلال أقرب، وهو المراد بكلمة المكروه عند الإطلاق. وله أمثلة كثيرة معروفة.

(ن) 

الأولويات في مجال الإصلاح

أولاً: تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة: 

ومن الأولويات المهمة في مجال الإصلاح: العناية ببناء الفرد قبل بناء المجتمع، أو بتغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات، والأفضل أن نستخدم التعبير القرآني وهو تغيير ما بالأنفس: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهذا أساس كل إصلاح أو تغيير أو بناء اجتماعي.

إن أهم ما ينبغي أن نشغل به اليوم إذا أردنا إصلاح حالنا: أن نبدأ البداية الصحيحة، وذلك ببناء الإنسان، بناءا حقيقيا لا صوريا، نبني عقله وروحه وجسمه وخلقه، بناء متوازنا لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان.

نبنيه عقليا بالثقافة وروحيا بالعبادة، وجسميا بالرياضة، وخلقيا بالفضيلة، وعسكريا بالخشونة، واجتماعيا بالمشاركة، وسياسيا بالتوعية، ونعده للدين وللدنيا معا، وليكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره، حتى ينجو من خسر الدنيا والآخرة، الذي ذكره الله في سورة العصر: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

ثانياً: التربية قبل الجهاد:

ونعني بالتربية والتكوين: بناء الإنسان المؤمن، الذي يستطيع أن ينهض بعبء الدعوة، وتكاليف الرسالة، لا يبخل بمال، ولا يضن بنفس، ولا يبالي بما يصيبه في سبيل الله. وهو في الوقت نفسه نموذج عملي، تتجسد فيه قيم دينه، وأخلاق دعوته. 

ففيه يرى الناس الإسلام حيا ملموسا.هذا البناء والتكوين للإنسان، في صورة جيل مؤمن حقا، مؤهل لحمل راية الإصلاح والبعث، لابد أن يسبق كل دعوة إلى الجهاد المسلح لتغيير المجتمع، وإقامة الدولة.

ولهذا كانت مهمة القرآن المكي ـ طيلة ثلاثة عشر عاما ـ العمل على بناء هذا الإنسان، وتربية جيل الطلائع، تربية إيمانية أخلاقية عقلية متكاملة. وكان المثل الكامل لهذا الجيل هو الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

ثالثاً: أولوية المعركة الفكرية: 

ومما يجب لفت الأنظار إليه في مجال الإصلاح: تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر، وتصحيح التصور، وتصويب منهج النظر والعمل. فهذا بلا ريب هو الأساس المكين لكل إصلاح يرتجى. إذ من غير المعقول أن يستقيم العمل على منهج سليم، والفكر غير مستقيم.

رابعاً: التطبيق القانوني للشريعة:

ومما وقع فيه الخلل هنا: أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي ـ وبخاصة المتحمسون منهم ـ أعطوا عناية كبرى لقضية ما أسموه “تطبيق الشريعة الإسلامية” يعنون الجانب القانوني من الشريعة، ولا سيما في العقوبات: أي الحدود والقصاص والتعازير.

وهذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، ولا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه. وطالما قلت: إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبنى الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم: التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجا وحماية.

(ن) 

الأولويات في تراثنا

أولاً: السائلون عن قتل المحرم الذباب!:

ولعل من أوائل ما نرى فيه هذا الاهتمام، ما صح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فيما رواه عنه ابن أبي نعيم، قال: جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض! وفي رواية: “فسأله عن المحرم يقتل الذباب”! فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ها، انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “هما ـ يعني الحسن والحسين ـ ريحانتي من الدنيا”. وفي الرواية الأخرى: “أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله..” الحديث.

فليس المقصود الإنكار على شخص السائل بعينه، إنما المقصود الإنكار على اتجاه سائد لدى فئة من الناس، يدققون في الأمور الصغيرة، ويشغلون أنفسهم والناس معهم بالتوافه، على حين يضيعون الأمور الكبار!!

ثانياً: الإختلاط عند الفساد أم العزلة؟:

 ومن ذلك بحثهم: أيهما أولى بالمسلم في أزمان الفتن وانتشار المعاصي والفساد: الاختلاط بالمجتمع ومحاولة إصلاحه أم العزلة والنجاة بالنفس؟ 

وطريق الأنبياء هو الإختلاط ومحاولة الإصلاح… ومنها: بحثهم حول الدنيا ومتاعها أيهما أولى بالنسبة لها: الدخول في معمعتها، والمشي في مناكبها ومزاحمة أهلها والاستمتاع بطيباتها مع الالتزام بحدود الله، أم الانصراف عنها والزهد فيها وفي أهلها وزينتها وأموالها؟ و الذي مضى عليه الأنبياء هو الإختيار الأول.

ثالثاً: ترك المنهيات أم فعل الطاعات؟:

ومن ذلك بحثهم: أيهما أولى وأفضل عند الله: ترك المناهي والمحرمات أم فعل الأوامر والطاعات؟ قال بعضهم: ترك المناهي أهم وأشد خطرا من فعل الأوامر.

واستدلوا بالحديث الصحيح المتفق عليه، الذي ذكره النووي في أربعينه، وشرحه ابن رجب في جامعه، وهو: “إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم” .. قالوا: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر، لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب الاستطاعة، وروى هذا عن الإمام أحمد.

ثالثاً: الغنى مع الشكر أم الفقر مع الصبر؟:

 ولا شك أن الفقير لا يملك أمام فقره إلا الصبر، أما الغني فإن غناه يدعوه لأنواع المحرمات والنفس تطلب والشيطان يزين فإذا شكر الله تعالى على نعمه وصرفها بطاعته كان أعلى درجة من الفقير الصابر.

رابعاً: الإمام الغزالي وفقه الأولويات:

وضرب المؤلف هنا – حفظه الله ورعاه – أمثلة عدة تدل على عبقرية الإمام الغزالي ودقة فهمه وعمق فقهه، أخذ بعضها من إحياءه العظيم ثم ذكر نموذجين من فقه الأولويات عند الإمام ابن تيمية رحمه الله.

(س) 

فقه الأولويات في دعوات الصالحين في العصر الحديث

من نظر إلى سير الدعاة والمصلحين في العصر الحديث، يجد ـ من الناحية العلمية ـ أن كلا منهم عنى بجانب معين في مجال الدعوة والإصلاح، وقدمه على غيره، ووجه إليه جل فكره وجهده، بناء على ما فهمه من حقائق الإسلام من ناحية، وعلى ما يراه من نقص وقصور في هذا الجانب في الحياة الإسلامية، وحاجة الأمة إلى إحيائه وإعلائه وتبنيه.

ثم يبدأ العلاّمة حفظه الله بالإمام محمد بن عبد الوهاب فالأولوية عنده للعقيدة والتوحيد وتصفية الشرك على ما كان من وضع الجزيرة آنذاك. 

والزعيم محمد أحمد المهدي كانت الأولوية عنده للجهاد والسيد جمال الدين الأفغاني كانت الأولوية عنده لإيقاظ الأمة، وتهييجها على الاستعمار والإمام محمد عبده، اهتم بتحرير العقل المسلم من أسر التقليد والإمام الشهيد حسن البنا عنى ـ أول ما عنى ـ بتصحيح فهم الإسلام لدى المسلمين، وإعادة ما حذف منه على أيدي المتغربين والعلمانيين ويسترسل في ذكر بعض المصلحين والدعاة المعاصرين؛ كالمودودي، وسيد قطب، ومحمد مبارك، والشيخ الغزالي، ويقتبس شيئاً من كلامهم.