أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 مارس 2022

فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام تأليف شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري الخزرجي (825 -925 هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام

تأليف شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري الخزرجي

(825 -925 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ كتاب (فتح العلام) هو شرح لكتاب الشيخ زكريا الأنصاري المسمى بـ(الإعلام بأحاديث الأحكام)، والذي ذكره كل من الكتاني في "فهرس الفهارس" (1/ 458)، والغزي في "الكواكب السائرة" (1/ 203) وغيرهما، وقد فرغ الإمام زكريا الأنصاري من تأليفه سنة (910 هـ)، وقد ذكره كل من البغدادي في "إيضاح المكنون" (2/ 167)، والزركلي في "الأعلام" (3/ 46)، وغيرهما.

ويعد البعض هذا الكتاب شرحاً لكتاب بلوغ المرام لابن حجر، ولكنه في الحقيقة شرحٌ لكتاب مختصر من بلوغ المرام، وقد جرى على طريقة ابن حجر في الترجمة وعرض الأحاديث، مع بعض التقديم والتأخير والحذف، وهو بالجملة يعد من كتب الأحكام المفيدة والمختصرة.

وقد طبع هذا الكتاب في مجلد واحد عدد صفحاته بالفهارس (768 صفحة)، وعدد أحاديثه (619 هـ) حديثاً نشرته دار الكتب العلمية بلبنان بتحقيق الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود وهذا الكتاب هو شرح للمؤلف على كتابه الإعلام بأحاديث الأحكام.


ترجمة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري

هو الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام وقاضي القضاة: زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي أصلاً، السَّنيكي مولداً، والقاهريّ إقامةً، الشَّافعي مذهباً.

ويعود نسبه إلى خبّاب بن المنذر بن الجموح الخزرجي، والسنيكي نسبةً إلى سُنَيكة، وهي قرية من إقليم الشرقية بمصر. ويرجح المؤرخون مولد في سنة (824 هـ)، وقد عاش مائة سنة وسنتان.

ولد شيخ الإسلام الأنصاري من أبوين فقيرين، وكانت أسرته من الطبقة الكادحة، وكان زكريا وحيد أبويه، فقد توفي والده وهو في سن السابعة عشر من عمره، وذلك سنة (841 هـ)، وتحول بعدها لدراسة العلم في الأزهر، وقد كان معدماً لا يجد من يعيله في تلك الفترة.

تزوج الشيخ زكريا ورزق ثلاثة أولاد، وهم: محيي الدين أبو السعيد يحيى (ت 897 هت)، ومحب الدين أبو الفتوح محمد، وجمال الدين يوسف (ت 987 هـ)، وقد أعقب لولده جمال الدين ذرية كثيرة داومت على طلب العلم، وكانت من أعيان عصرها.

عاش الإمام الأنصاري في الفترة الواقعة ما بين سنة (824 -926 هـ/ 1421 هـ-1520م)، أي في القرن التاسع الهجري، وبداية القرن العاشر الهجري، وهذا يعني أن شيخ الإسلام قد عاصر دولتين عظيمتين من دول الإسلام، هما: دولة المماليك التي أدرك أواخرها، أي القسم الثاني منها المسمى بدولة المماليك الجراكسة أو البرجيّة، وقد عاش جلّ عمره في ظل هذه الدولة، والدولة الثانية التي أدركها في سنوات عمره الأخيرة هي الدولة العلمانية، فقد أدرك بدايتها حين دخل العسكر العثماني الديار المصرية، وقد أدرك العثمانيين في أواخر أيامه، ولم يكن له أي أثر في الحكم العثماني.

ولم يكن لشيخ الإسلام في بداية حياته، أية علاقة بالسلاطين المماليك في تلك الفترة من حياته؛ لأنه كان منكباً على طلب العلم وحضور الدروس وملازمة العلماء. ولكن ما لبث شيخ الإسلام أن كبر وذاع صيته، وصار من العلماء المرموقين، وأصبح ذا منزلة رفيعة ومكانة عالية لم يبلغها غيره في أواخر عصره.

وقد تميز المجتمع المصري في تلك الحقبة بالطبقية الظاهرة، التي تجعل الطبقة المتنفذة في سلم الترف الاجتماعي، والطبقة الدنيا هي طبقة العمال والفلاحين، ومع ذلك فقد كانت مصر تدأب بالحياة والحركة، وكانت الحياة مستقرة نسبياً في ذلك العصر، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في اهتمام السلاطين بتعمير البلاد وإقامة المنشآت المختلفة، من المساجد والمستشفيات والحمامات والسبل وغير ذلك.

وكانت مصر في عهد المماليك منارة للعلم والعلماء في العالم الإسلامي، وذلك بعد سقوط الخلافة العباسية على يد المغول في تلك الحقبة، فكانت الوريث الطبيعي لبغداد في العلم والحضارة، بعد رحيل عدد كبير من العلماء إليها، بالإضافة إلى تنافس الأمراء المماليك في بناء وتشييد المكاتب والمدارس ورعايتها والإنفاق عليها، كما كان لظهور عدد من العلماء النوابغ أثر كبير في نشاط الحركة العلمية بمصر، وعلى رأسهم: الساج البُلقيني (ت 805 هـ)، والزين العراقي (ت 806 هـ)، وابن الملقن (ت 804 هـ)، والشهاب ابن حجر العسقلاني (ت 852 هت)، والشمس السخاوي (ت 902 هـ)، والسيوطي (ت 911 هـ)، وغيرهم.

وقد جد الشيخ زكريا في طلب العلم، وحصَّل الكثير من الإجازات في الفنون المختلفة، وممن كتب له إجازة شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، ونصّ كتابته كما في الضوء اللامع (3/ 236): (أذنت لَهُ أَن يقرىء الْقُرْآن على الْوَجْه الَّذِي تَلقاهُ ويقرر الْفِقْه على النمط الَّذِي نَص عَلَيْهِ الإِمَام وارتضاه قَالَ وَالله المسؤل أَن يَجْعَلنِي وإياه مِمَّن يرجوه ويخشاه إِلَى أَن نَلْقَاهُ).

وبقي شيخ الإسلام على حاله هذه في طلب العلم والعبادة والنصح لدين الله إلى أن لقي الله -عز وجل-، وفيما يلي ذكر لبعض مقر وآته والمعارف التي تلقاها في كل الفنون على مشايخه:

أولاً: في علوم القرآن الكريم والتفسير: 

بداية حفظ شيخ الإسلام القرآن الكريم، ثم قراء القراءات العشر على عدد من الشيوخ، وقرأ العديد من المصنفات فى هذا العلم منها على سبيل  المثال: (النشر، والتقريب، والتيسير للداني، والتبيان في آداب حملة القرآن).

ثانيا: في علوم الحديث: 

يعد شيخ الإسلام من المتبحرين في علم الحديث، بل كان يعد مرجعاً في عصره، كيف لا وقد أخذ عن جهابذة ذلك العسر كشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني وغيره. قرأ شيخ الإسلام كتبا كثيرة جداً في الحديث على عدو كبير من الشيوخ، وكان يأخذ الكتاب الواحد عن عدد كبير من الشيوخ قراءة وسماعا، ومنها على سبيل المثال (صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجميع كتب السنن، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام الشافعي، ومسند الإمام أبي حنيفة، ومسند الإمام أحمد).

ثالثاً: في الفقه: 

أما في الفقه فقد غاص شيخ الإسلام في أعماق هذا الفن خاصة في الفقه الشافعي، حتى صار مرجعا فيه، وانتهت إليه رئاسة المذهب، ومن الكتب الفقهية التي قرأها (المنهاج الفرعي، والتنبيه، وشرح البهجة للعراقي، ومختصر الروضة، ومختصر القاضي أبي شجاع).

رابعاً: في علم أصول الفقه: 

قرأ شيخ الإسلام على جماعة كبيرة من فرسان هذا الفن، وقرأ كتباً كثيرة في أصول الفقه منها: المنهاج الأصلي في بداية رحلته العلمية، و مختصر ابن الحاجب، والورقات للجويني، وجمع الجوامع للتاج السبكي، وقرأ العضد وغيرها.

خامساً: في علوم اللغة: 

أخذ شيخ الإسلام علوم اللغة عن عدد من الأعلام، وقرأ فيها المصنفات الكثيرة، ومنها الألفية في النحو، والتسهيل لابن مالك، وقرأ كتب ابن هشام كشذور الذهب، ومصنفات الزمخشري، والآجرومية وغيرها.

سادساً: في العقائد والكلام والمنطق والجدل: 

تبحر الشيخ زكريا في علم الكلام والعقائد، وقرأ في هذا المجال مصنفات كثيرة، منها: (شرح العقائد» بكامله ما  بين سماع وقراءة، وقرأ شرح المواقف، وقرأ شرح الطوالع للبيضاوي، وغير ذلك، وكان اعتقاده أشعرياً على ما جرى عليه الأزهر في ذلك الزمان، ولم يتسنَّ له النظر في أصول عقائد أهل السنة، متأثراً في ذلك بمن قبله في هذه المؤسسة..

سابعاً: في التصوف: 

قرأ الشيخ زكريا الكثير من الكتب في هذا المجال، وقرأ كتاب «قواعد الصوفية» كاملا وغبره من الكتب، وأخذ المشيخة عن عدد من مشايخ المتصوفة.

ثامناً: في علوم الهندسة والطب والحساب وغيرها:

 لم يكتف شيخ الإسلام بالعلوم الشرعية، بل شرع يستزيد من المعارف المختلفة كعلم الهيئة والهندسة والطب والميقات والحساب والجبر والمقابلة وغيرها الكثير، وقرأ التصانيف الكثيرة في هذه الفنون.

* شيوخه:  

أخذ شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن علماء كثيرين من مختلف الجهات، فقد كان غزير المعرفة، متنوع الثقافة، وهم أكثر من مائة وخمسين شيخاً، منهم نحو عشرين امرأة، كما ذكر شيخ الإسلام في كتابه (ثبت زكريا الأنصاري). والإحاطة بجميع شيوخه في هذا المقام عسير جداً، لذا نذكر بعض الشيوخ الأجلاء الذين أخذ عنهم، مع التعريف بهم:

1- الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه): هو شيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري الأصل. يعد حافظ عصره على الإطلاق، وكان شيخ الإسلام من تلاميذه ، وقد صنف المصنفات الكثيرة والعظيمة، والتي تربو على الثلاثمائة مؤلف.

2- العلم البُلقيني (ت 848 هـ): هو صالح بن عمر الكناني البلقيني القاهري، كان ذكياً جداً سريع الحفظ، سهل التعامل، تفقه به خلائق لا يحصون منهم شيخ الإسلام وأخذ عنه الفقه والأصول، له تصانيف كثيرة منها: تفسير القرآن، وشرح للبخاري»، والتعليق على الروضة وغيرها.

3 - الكمال ابن الهمام (ت 861هـ): هو محمد بن عبد الواحد الكمال ابن الهمام السيواسي الأصل ثم القاهري الحنفي، اشتهر بعلوم كثيرة منها الأصول والتفسير والفقه والفرائض والحساب والتصوف وعلوم اللغة كلها، أخذ عنه شيخ الإسلام الأصول والمعقولات وغيرها من العلوم، وصنف مصنفات عديدة من أهمها: «شرح الهداية»، والتحرير. 

4- جلال الدين المحلي (ت 864 هـ): هو جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي، تفتازاني العرب. برع في الفقه وعلم الكلام والأصول والمنطق واللغة، قرأ عليه شيخ الإسلام زكريا علوم الأصول والمعقول والفقه وغيرها، ألف كتبا عظيمة من أجلها: (شرح جمع الجوامع في الأصول، وشرح المنهاج في الفقه.

5- ابن المجدي (ت 850 هـ): هو شهاب الدين أحمد بن رجب الشهير بابن المجدي الشافعي الفرضي العلامة. برع في الفقه والفرائض والحساب والعربية، وأخذ تختلف المعارف التي كانت تدرس في عصره، أخذ عنه شيخ الإسلام علم الهيئة والهندسة والميقات والفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغيرها. صنف تصانيف كثيرة مشهورة منها: (شرح الجعبرية، والمنهل العذب الزلال، واستخراج التواريخ، والربع الميسر، وغيرها الكثير.

6- الزين رضوان (ت 852 هـ): هو الإمام زين الدين أبو النعيم رضوان بن محمد بن يوسف بن سلامة بن البهاء بن سعيد الصغير الشافعي المستملي الحافظ المصري. محدث فقيه  نحوي مقرئ، وقد  صحبه شيخ الإسلام مدة طويلة، وأخذ عنه كما من المعارف.  

7- المناوي (ت 871ه): هو شرف الدين يحيى بن محمد المناوي المصري الشافعي، أخذ  العلم عن أعلام العصر كالكمال بن الهمام وغيره، وبرع في الفقه خاصة واشتهر به، وأفتى  ودرس وولي القضاء، وكان شيخ الإسلام يحضر دروسه في الفقه وغيره، له مصنفات كثيرة منها: (مختصر ما رواه الواعون في أخبار الطاعون).

** تلاميذه:  

كان شيخ الإسلام في عصره منارة يقتدى بها، وكان نبعاً يرتوى منه، فلقد كان ذا شهرة واسعة، وبلعت شهرته جميع نواحي أمصار الإسلام، فجاءه طلبة العلم من كل حدب وصوب، يتتلمذون عليه، وينتفعون بعلومه الغزيرة المختلفة، ووصل في عسره إلى مرحلة أن انفرد بعلو الإسناد فما من أحد في ذلك الوقت إلا وأخذ عنه مشافهة أو بواسطة، وقد انتفع به خلق كثيرون سأذكر أشهرهم:

1- الشهاب الرملي (ت  957 هـ): هو شهاب الدين أحمد الرملي المنوفي المصري الأنصاري الشافعي الإمام العلامة شيخ الإسلام. لازم شيخ الإسلام وانتفع به، وكان شيخ الإسلام يجله وأذن له بالإفتاء والتدريس، وأن يصلح في كتبه في حياته وبعد مماته ولم يأذن لأحد  سواه في ذلك، من  مصنفاته العظيمة (شرح الزبد)، و(فتاويه). انتهت إليه الرياسة في العلوم الشرعية بمصر حتى صارت علماء الشافعية كلهم تلامذته.  

2-ابن حجر (ت 974 هـ): هو الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجر  الهيتمي السعدي الأنصاري، برع في علوم الشرع وآلاته، وقرأ الكثير من الكتب وحفظها، ومن ذلك منهاج النووي، وكرس عمره للتدريس والتصنيف والإفتاء، وبلغت مصنفاته عدداً كبيراً جداً، من أهمها: التحفة المحتاج». أخذ عن شيخ الإسلام وكان كلما يلتقي به يدعو له أن يفقهه الله في الدين. اشتهر وذاع صيته حتى أصبح إمام الحرمين، ومفتي الحجاز.  

3- الخطيب الشربيني (ت 977 هـ): هو شمس الدين محمد الشربيني القاهري الشافعي الخطيب الإمام العلامة. أخذ عن شيخ الإسلام زكريا، والشهاب الرملي وغيرهما، وأجازوه بالإفتاء والتدريس فدرس وأفتى في حياة شيوخه، وانتفع به خلائق لا يحصون، ويعد من أئمة الشافعية المتأخرين الذين يعول عليهم في تحقيق المذهب وخرير مسائله، وصنف المصنفات التي انتفع بها الطلبة إلى يومنا هذا، ومن أهمها: شرح كتاب «المنهاج» والتنبيه» .

4- الشمس الرملي (ت 1004 هـ): هو شمس الدين محمد الرملي بن شيخ الإسلام شهاب الدين الرملي الشافعي، الملقب بالشافعي الصغير. أخذ عن شيخ الإسلام، علا شأنه حتى غدا رافع لواء المذهب الشافعي في مصر، وأصبح من أئمة الشافعية، له مصنفات جليلة منها: (شرح المنهاج، وشرح الزبد»، و حاشية على التحرير) لشيخ الإسلام الأنصاري.

5- الطبلاوي (ت 966 هـ): هو ناصر الدين محمد بن سالم الطبلاوي الشافعي الإمام العلامة المتبحر. أخذ عن شيخ الإسلام، انتهت إليه الرياسة في سائر العلوم بعد موت أقرانه، وكان يلقي الدروس حفظا، من مصنفاته: (شرحان على البهجة).

6- الشماع (ت 936 ه): هو زين الدين أبي حفص عمر بن أحمد الشماع الحلبي الشافعي الإمام العلامة المسند المحدث. أخذ عن شيخ الإسلام زكريا، له مؤلفات كثيرة منها: (موارد الظمآن في شعب الإيمان، ومغنى الراغب في روض الطالب).

7- البرلسي (ت 957 هـ): هو شهاب الدين أحمد المصري الشافعي، الملقب بعميرة الإمام العلامة المحقق. أخذ العلم عن أعلام عصره، وعلى رأسهم شيخ الإسلام، انتهت إليه الرياسة في تحقيق المذهب، من أهم مصنفاته حاشيته على شرح المنهاج للمحلي المعروفة بحاشية عميرة، وكذا حاشيته على جمع الجوامع وغيرهما.

** ثناء العلماء عليه:  

كان شيخ الإسلام ذا مكانة رفيعة، ومنزلة عالية بين علماء عصره؛ فقد مدحه وأثنى عليه كل من عرفه، ومن هؤلاء:

1-قال معاصره السخاوي فيه: (وَلم يَنْفَكّ عَن الِاشْتِغَال على طَريقَة جميلَة من التَّوَاضُع وَحسن الْعشْرَة وَالْأَدب والعفة والانجماع عَن بني الدُّنْيَا مَعَ التقلل وَشرف النَّفس ومزيد الْعقل وسعة الْبَاطِن وَالِاحْتِمَال والمداراة إِلَى أَن أذن لَهُ غير وَاحِد من شُيُوخه فِي الافتاء والاقراء).

2-وقال فيه تلميذه مفتي الحجاز الإمام ابن حجر الهيتمي في معجم مشايخه: (وقدمت شيخنا زكريا لأنه أجلّ من وقع عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين وأعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المهندسين، فهو عمدة العلماء الأعلام وحجّة الله على الأنام، حامل لواء المذهب الشافعي على كاهله، ومحرّر مشكلاته، وكاشف عويصاته، في بكره وأصائله، ملحق الأحفاد بالأجداد، المتفرد في زمنه بعلو الإسناد كيف ولم يوجد في عصره إلّا من أخذ عنه مشافهة أبو بواسطة أو بوسائط متعددة، بل وقع لبعضهم أنه أخذ عنه مشافهة تارة وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى، وهذا لا نظير له في أحد من أهل عصره، فنعم هذا التمييز الذي هو عند الأئمة أولى به وأحرى لأنه حاز به سعة التلامذة والأتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام الانتفاع). انتهى

3- وقال عنه الجلال السيوطي: (زكريا شيخ الإسلام، برع وتفنن، وسلك طريق التصوف، ولزم الجد والاجتهاد مع القلم والعلم والعمل، وأقبل على نفع الناس إقراء، وإفتاء، وتصنيفاً مع الدين المتين، وترك ما لا يعنيه، وشدة تواضع، ولين جانب، وضبط اللسان والسكوت).  

4- وقال عنه تلميذه الشماع: اهذا الشيخ الإمام هو من مشايخي الأعلام، بل هو علم الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، وهو ممن أروي عنهم بغير واسطة، أعاد الله علي من بركته، وجمعني به في الدار الآخرة، وقد أثنى عليه غير واحد من الأعيان، منهم: شيخي الحافظ عز الدين، ومحدث البلد الأمين عبد العزيز بن فهد، عين المحدثين بمكة المشرفة بل طرازهم المعلم، وذكره في معجمه وأثنى عليه الحافظ العلامة جلال الدين السيوطي بنحو ما تقدم. ومنهم صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان).

5- قال الغزي فيه: «كان مهما كان عليه من الاجتهاد في العلم اشتغالاً، واستعمالاً،  وإفتاء، وتصنيفاً، وكان عليه من مباشرة القضاء، ومهمات الأمور، وكثرة إقبال الدنيا لا  يكاد يفتر عن الطاعة ونهاراً، ولا يشتغل بما لا يعنيه، وقوراً، مهيباً مؤانساً، ملاطفاً).

6- وقال العيدروس عنه: (لم يزل -رحمه الله -ملازم التدريس والإفتاء والتصنيف، وانتفع به خلائق، ودرس تلامذته في حياته، وأفتوا وتولوا المناصب الرفيعة ببركته، وبركة الانتساب إليه، ولم يزل كذلك في نشر العلم، وكثرة الخير والبر والإحسان إلى أن توفي رحمه الله تعالى).

7- وقال عنه مراد بن يوسف الحنفي الأزهري: (الشيخ الإمام، المفيد المطلق، العالم العلامة، القدوة الفهامة، المحقق المدقق، الكنز المفيد المطلق، الورع الزاهد العابد، الذي صرف سائر عمره في اشتعال العلم والعمل، الفقيه الحافظ المحدث المفسر، الولي الصالح الصوفي، الحبر التحرير البحر الراسخ، العارف بالله تعالى- الكبير، قاضي القضاة أبو يحيى، الشيخ زكريا الشافعى الأنصاري، طيب الله مضجعه، وفي أعلى الغرف انزله).

** المناصب التي تولاها شيخ الإسلام زكريا:  

تولى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عدداً من المناصب التدريسية، وقد درس في القاهرة مدة ثمانين سنة، تنقل فيها بين المدارس المختلفة خلال مشواره الطويل في حقل العلم والتعليم، وأيضا تولى شيخ الإسلام عددا من المناصب الإدارية في الدولة المملوكية، وتوج جهد شيخ الإسلام أخيرا بمنصب قاضي القضاة، مع أنه لم يطلبه ولكن الله اختاره لهذه المسؤولية، وما هذا إلا نتيجة لعمله المتواصل، ومكانته المرموقة، وعلامة واضحة على إخلاصه لله -تعالى .  

أولاً: المناصب التدريسية:  

1- تولى مشيخة جامع الظاهر.

2- تولى مشيخة التصوف بجامع العلم بن الجيعان. 

3-  تول " التصوف بمسجد الطواشي علم دار أول ما فتحت.

4- تولى التدريس في التربة التي أنشأها الظاهر خشقدم بالصحراء أول ما فتحت. 

5- تولى التدريس الفقه بالمدرسة السابقية بعد موت ابن الملقن منه الظاهر خشقدم على غيره.

6- تولى مشيخة الدرس بالمدرسة الصلاحية المجاورة للمسجد الشافعي (مقام الإمام  الشافعي)، عقب موت التقي الحصني (سنة 881 هـ)، وقد قرره الأشرف قايتباي في هذا المنصب دون أن يطلب هذا المنصب الرفيع، وكان جل العلماء في ذلك العصر قد سعى للحصول على هذا المنصب، ولكن دون فائدة، وقد كان أرفع منصب في مصر في ذلك العصر. فباشر التدريس بجد واجتهد في عمارة الأوقاف.

7 - تولى مشيخة مدرسة الجمالية،  

ثانيا: المناصب الإدارية:  

8- تولى نظر القرافة وأوقافها بكاملها، بالإضافة لمشيخة التدريس.

9- تولى نظر أوقاف المدرسة الصلاحية بجوار المقام الشافعي، واجتهد في عمارة الأوقاف، ودفع المال إلى المستحقين.

ثالثاً: منصب القضاء:  

10- تولى منصب قاضي القضاة الشافعية في عهد الأشرف قايتباي (سنة 886هـ)، بعد  أن أصر عليه في طلب ذلك، وجاءه أكابر الدولة يرومون موافقته، وجاءه أكابر الدولة يرومون موافقته، وكان قد رفض  هذا المنصب قطعياً في الظاهر خُشقَدَم، فلم يجد بدا من الموافقة على هذا بعد كل هذا الإصرار والإلحاح حتى أن الأشرف قايتباي قال له: إن أردت نزلت ماشياً بين يديك إلى أن أوصلك إلى بيتك، فوافق واشترط أمورا لذلك وافق على بعضها الأشرف قايتباي.  

وكان يوجد في مصر حينها أربعة قضاة على المذاهب الأربعة المعروفة، والرئاسة للشافعية، فتولى شيخ الإسلام كقاضي القضاة الشافعي، وباشر عمله بنزاهة تامة، وعفة ظاهرة، وكان لا يخشى في الله خشية لائم، وكثيرا ما كان يثقل النصيحة للأشرف قايتباي، واستمر شيخ الإسلام في هذا المنصب مدة عشرين عاما طوال فترة حكم الأشرف قايتباي، وهي ظاهرة جديرة بالملاحظة في عصره، حيث تعد مدة طويلة جدا بالنسبة لغيره من القضاة، فلم يستمر غيره من القضاء هذه المدة.

وفي (عام 906هـ) عزل شيخ الإسلام عن القضاء، وكان هذا في زمن السلطان قانصوه الغوري؛ لأن شيخ الإسلام كان يزجر الغوري عن الظلم كثيرا، ويثقل القول عليه، ولكن لم تمض مدة طويلة حتى عاد شيخ الاسلام للقضاء بعد إلحاح شديد من الأمراء، واستمر فيه مدة خمسة أشهر، ثم عزل نفسه لما أحس أنه غير قادر على القيام بأعباء القضاء، لكبر سنه، وضعف بصره، وضمور جسده، وكان هذا في نفس العام المذكور (906 ه). 

وقد نظم محمد بن دانيال الموصلي "أرجوزة فيمن ولي قضاء مصر، فكان مما قاله:

ثم ولي السيوطي ولي الدين ثم … للشيخ أعني زكريا الحكم عم.  

وتوفي الشيخ زكريا الأنصاري على الراجح يوم الأربعاء، ثالث ذي الحجة، سنة ست وعشرين وتسعمائة، عن عمر يناهز المائة والستين قضاها في طاعة الله ورضوانه، وكانت جنازته كبيرة مشهودة، حضرها الأمراء والقضاء والعلماء والعوام، وشهدها خلقٌ لا يحصون كثرةً، ودفن بالقرافة الصغرى بقرب قبر الإمام الشافعي، الذي انتسب إلى مذهبه، وكان من أئمته وأعلامه.

وصُلي عليه أيضاً صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة بالمسجد الحرام، ونُعي في الحرم المكي، وذكرت محاسنه ومآثره التي لا تعد، كما صُلي عليه صلاة الغائب بالجامع الأموي كذلك، وتأسف الناس عليه تأسفاً شديداً لما كان له من الفضل والمآثر.

ورثاه جماعةُ بقصائد طويلة وكثيرة، من ذلك ما قاله تلميذه الزين عبد اللطيف الديري الأزهري:

قضى زكريا نحبه فتفجّرت … عليه عيون النيل يوم حمامه

ليعلم أن الدهر راح إمامه … وما الدهر يبقى بعد فقد إمامه

العوامل التي أدت إلى صقل شخصيته الفقهية:

أولاً: أنه وهب حياته للعلم، فقد قرأ في جميع فنون الموجودة في عصره، وجد واجتهد في تحصيل المعارف المختلفة، حتى برع في سائر علوم الشريعة وآلاتها: تقسيراً وحديثاً وفقهاً وأصولاً ولغةً ومعانياً وبياناً ومنطقاً وهندسةً وهيئةً ونحو ذلك.

ثانياً: أخذه عن فرسان كل علم من العلوم السابقة، حتى أذن له غير واحدٍ من شيوخه بالإقراء والإفتاء، وشهدوا له بالتقدم، وقد بلغ عدد شيوخه ما يزيد على مائةٍ وخمسين (150) شيخاً، ذكرهم في ثبته.

ثالثاً: توليه المناصب التدريسية والإدارية في عهد المماليك وفي عهد الظاهر خُشقَدم، ثم في عهد الأشرف قايتباي، وكان تصديه للتدريس في حياة شيوخه.

رابعاً: اشتغاله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فترة شبابه، وزجر الأمراء عن الظلم، وعن مخالفة أوامر الشرع، وانتقاده الكبير لهم تعريضاً وتصريحاً، لا سيما الأشرف قايتباي، وقانصوه الغوري.

خامساً: توليه منصب قاضي القضاة في عهد الأشرف قايتباي،و ذلك بعد إلحاح وإصرار من كبار الدولة وأمرائها، مما أتاح له الفرصة في الاجتهاد في النوازل والمسائل المستجدة، واستمر في ذلك المنصب حتى ضعف بصره وكبر سنه، فعزل نفسه حتى لا يقصر عن تحمل أعباء هذه المسؤولية العظيمة.

مكانته في الترجيح في المذهب

 قرر الفقهاء المتأخرين أن قول الشيخ زكريا معتبر مع قول ابن حجر والشمس الرملي والخطيب؛ فكلهم في منزلة متقاربة، فإن اختلفوا فيقدم ما اتفق عليه ابن حجر والرملي في التحفة والنهاية، فإن اختلفا؛ فيخير المفتي بينهما إن لم يكن أهلاً للترجيح، فإن كان أهلاً له فيفتي بالراجح، ثم بعد ذلك شيخ الإسلام في شرحه الصغير على البهجة ثم شرح المنهج، ثم أصحاب الحواشي على تفصيل بينهم، وهذا الكلام قد أشار له غير واحد من المتأخرين من أصحاب الحواشي في الفقه الشافعي، ومنهم البكري في إعانة الطالبين ونقله عن جمع من علماء المذهب.

وينبغي أن  نعلم أن ابن حجر والرملي في الغالب لا يخالفان شيخ الإسلام، وإن خالف أحدهما ترى الآخر يوافقه، وقد اتضح لي هذا الأمر من خلال استقراء بعض كتب المتأخرين التي تعتني بالخلاف بين ابن حجر والشمس الرملي وشيخ الإسلام والخطيب والشهاب الرملي، ككتاب (الحواشي المدنية) للكردي، وسبب اعتماد قول شيخ الإسلام هو سعة اطلاعه على نصوص المذهب، وبراعته في كل علوم الشرع وآلاتها، وبعد نظره ودقة فهمه، وابن حجر لقوة مدركه والشمس الرملي لعنايته بالتحرير والتقرير من كتب المذهب، ويؤكد هذا المعنى الكردي في الفوائد المكية، فيقول: «وإذا اجتمع شيخ الإسلام وابن حجر والرملي والشربيني، فاعتمادهم لذي الرتبة أولى لأن زكريا -رحمه الله تعالى- كان غاية من الاطلاع على المنقول وابن حجر بمعرفته بالمدرك واعتماد ما عليه الشيخان والجمال الرملي بالتحري في النقل وتقرير كتبه من علماء الأئمة أهل مصر ومثله الشربيني لكته كثيرا ما كان يقلد شيخ الإسلام ومثله الشهاب الرملي»  

ثم ذكر نظما في ترتيب الفتوى في المذهب فكان مما ذكر  

وحيث كان الشيخ زكريا   … خالف ذا أو خالف الرمليا  

أو الخطيب قدم الشيخ أبو  … يحيى لفضل فيه يوجب  

وقال في مقدمة كتابه (الحواشي الصغرى): وتعرض كثيرا للخلاف بين المتأخرين كشيخ الإسلام زكريا والخطيب الشربيني والشارح الجمال الرملي إذ هؤلاء قريبو التكافؤ في مذهب الشافعي كما أوضحته في الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من متأخري الأئمة الشافعية.  

وبهذا تتبين مكانة شيخ الإسلام في المذهب واعتماده عند المتأخرين بشكل عام، وهذا يبين مكانة هذا العالم الجليل، وإن الأقرب للصواب أن يُقال: إن شيخ الإسلام زكريا يعد من طبقة مجتهدو الفتوى والترجيح، وهي المرتبة الرابعة من مراتب علماء المذهب، وذلك لأن شروطها تنطبق عليه، وهي:

1-كونه فقيهاً في نفسه؛ فهو العالم الذي لا يُشق له غبار بشهادة علماء عصره، كابن حجر العسقلاني، والكمال بن الهمام، والجلال المحلي، وغيرهم.

2-كونه حافظاً لمذهب إمامه، وعارفاً بأدلته، يظهر ذلك في كتبه الفقهية الأربعة (شرح الروض)، و(شرح البهجة)، و(شرح التحرير)، و(شرح المنهج)، والتي تدل على سعة اطلاعه، وحفظه لعلوم الأقدمين، وإحاطته بالمسائل تحريراً وتنقيحاً، وقد كان مرجع عصره في فقه الشافعية، كما بلغ بعلو إسناده أن انفرد من بين أقرانه في قرب إسناده.

3-كونه صحيح الفهم، فقد كان موافقاً للصواب في المذهب، فهو واضحٌ يث كانت آراؤه واختياراته وتدقيقاته محل اعتبار عند المتأخرين، وعلى رأسهم أئمة الشافعية الأربعة المتأخرون: إماما الفتيا: ابن حجر والرملي، والخطيب والشهاب الرملي.

وكما هو معلوم ومقرر في المذهب: أن ما اجتمع عليه إماما الفتيا أنه المذهب فهو المذهب قطعاً. وغالباً لا يخرج كلام ابن حجر والرملي والخطيب والشهاب الرملي عن كلام شيخ الإسلام، فإن خالف بعضهم لا بد أن يكون الآخر موافقاً له في الغالب، وهذا دليلٌ واضحٌ على صحة فهمه.

4-كونه عارفاً باللغة العربية: وقد كان لشيخ الإسلام قدم راسخة في علوم اللغة، وكان يعتمد على حافظته القوية في ذلك، كما أن مخزونه اللغوي هائل، يظهر ذلك في كتبه الفقهية، حيث كان يُبين معاني الألفاظ وتصريفاتها وقواعدها اللغوية من حفظه.

5-كونه عارفاً بمراتب الترجيح بين الآراء في المذهب.

6-كونه عالماً بدلالات الألفاظ التي هي من مباحث علم أصول الفقه، ولا غنى للفقيه عنها، وقد كان شيخ الإسلام من المتعمقين في أبواب أصول الفقه بجميع مباحثه.

منهج الإمام زكريا الأنصاري في الكتاب

جرى الشيخ زكريا في كتابه هذا على طريقه شيخه الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام"، في ترتيب الأبواب وذكر الأحاديث مع بعض تقدم وتأخير وحذف، فكان كتاب ابن حجر هو أصل مادة هذا الكتاب ومعدنه، الذي استقى منه أحاديثه، كما أن الشيخ زكريا حذف الكتاب الجامع الذي ذكره ابن حجر في آخر كتابه، وجملة أحاديث كتاب "الإعلام" خمسمائة وواحد وسبعين حديثاً، شرحها الشيخ زكريا شرحاً موجزاً، مع إحالته في بعض المواضع على شروحات الفقه المطولة، وكان يضمن بعض الأبواب بعض الآيات الكريمة.

وقد بين الشيخ زكريا الكتب التي اعتمد عليها في شرح هذا الكتاب، وهي: الأم والإملاء والبويطي: للشافعي، وشرح مسلم والأذكار وروضة الطالبين والمجموع وتهذيب الأسماء واللغات: للنووي، وبلوغ المرام لابن حجر، وشرح البهجة وشرح الفصول الكبير كلاهما للشيخ زكريا، والشامل لابن الصباغ.

مصنفاته في الحديث وأصول الفقه

ومن مصنفات شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في الحديث وعلومه، منها:

  1. تحفة الباري شرح على صحيح البخاري. مطبوع.

  2. شرح على صحيح مسلم بن الحجاج.

  3. فتح الباقي بشرح ألفية العراقي، مطبوع.

  4. الإعلام بأحاديث الأحكام.

  5. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام.

  6. مختصر بذل الماعون، وهو مختصر كتاب لابن حجر.

  7. تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين.

  8. مختصر الآداب للبيهقي.

  9. شرح مختصر الآداب للبيهقي.

  10.  شرح الأربعين النووية.

  11.  مرويات الشيخ الإمام الزيني أبي يحيى زكريا الأنصاري.

مصادر الإمام الأنصاري الفقهية

وقد كان من أهم مصادر شيخ الإسلام في (شرح البهجة) هو أصله وهو (البهجة الوردية)، وأصلها «الحاوي الصغير»، وكتابات العلماء وشروحهم على (البهجة)، و(الحاوي الصغير)، ثم كتب الشيخين.  

واعتمد في (شرح الروض) على (الروض لابن المقري)، وأصله (الروضة) (والشرح الكبير) للنووي والرافعي، وكذا كتب ابن المقري الأخرى، وكتب الشيخين الأخرى.  

وفي (شرح المنهج) على أصله المنهج وهو (المنهاج) وأصله (المحرر) للنووي والرافعي وشروحهما كانت من أهم مصادر شيخ الإسلام في التصنيف على الإطلاق.

وفي (شرح التحرير) اعتمد على أصله التحرير للعراقي والمحاملي، وهما في المرتبة الأولى في قائمة المصادر التي اعتمد عليها في شرحه لـ (التحرير). 

ولكن ينبغي ملاحظة الفروق بين مصنفات شيخ الإسلام الأربعة فكتابا (شرح البهجة) (وشرح الروض) يعدان من الكتب المتوسعة في المذهب بخلاف (شرح المنهج) (وشرح التحرير)، فهما من المختصرات، لذا فإن الفرق واضح؛ فالمسألة التي يعرضها شيخ الإسلام في شرح البهجة، أو في شرح الروض» بصفحات تجده يختصرها في شرحي (المنهج والتحرير) في سطور معدودة، فشرحا «المنهج والتحرير» غلب عليها الإيجاز والتدقيق في المسائل والترجيح.

ولكن لا يخلوان من ذكر نقول وفوائد لا غنى لطالب العلم عنها مما يحتاج إليه في تقرير وتحرير المسائل. كما يلاحظ أن وشرح البهجة غلب عليه يسط الخلاف والتوسع فيه وفي ذكر نصوص المذهب والنقول عن أعلام المذهب، بخلاف «شرح الروض حيث تميز بالتوسط في ذلك مع تغليب جانب تعزيز المسائل والتدقيق فيها على جانب التوسم في بط الخلاف المذهبى.  

وفيما يلي نعرض التي اعتمد عليها في شروحه بإيجاز: 

أولاً: المصادر الفقهية:  

 وفيما يلي عرض لأهم مصادر شح الإسلام التي اعتمد عليها في  كتبه، وهي:

1- مصنفات النووي: تأتي مصنفات الإمام النووي في المرتبة الأولى على الإطلاق في سياق ترتيب المصادر التي اعتمد عليها شيخ الإسلام في مصنفاته، ولا يعود السبب في ذلك كون (الروضة) للنووي هي أصل (للروض) لابن المقري، أو أن (المنهاج) هو أصل (المنهج) بل إن مصنفات النووي خاصة تأتي في المرتبة الأولى عند شيخ الإسلام في كل مؤلفاته الفقهية، والنووي مقدم عند شيخ الإسلام على غيره على الإطلاق، والسبب في تقديم شيخ الإسلام للنووي واضح حيث أن النووي والرافعي يعدان شيخا المذهب، فمن الطبيعي أن يسارع علماء المذهب إلى كتبهما في حل مشكلات المذهب.

ومن أهم مصنفات النووي الي اعتمد عليه شيخ الإسلام: «الروضة»، «والمنهاج»، «والمجموع»، «والتحقيق»، «وشرح التنبيه»، «والإيضاح في المناسك»، «والتصحيح»، «ونكت التنبيه»، «وشرح الوسيط».

2- الرافعي: لا شك في أن كتب الشيخين: النووي والرافعي كانت المصدر الرئيسي لشيخ الإسلام في مصنفاته الفقهية، وقد قدمت الكلام على النووي وبعده يأتي الرافعي، ومن أهم كتب الرافعي التي اعتمد عليها شيخ الإسلام: (الشرح الكبير)، (والشرح الصغير)، (والمحرر)، (والتذنيب).

3- إمام الحرمين الجويني: من أهم كتبه التي يتكرر ذكرها في مصنفاته الفقهية الأربعة كتابه المشهور، «نهاية المطلب في دراية المذهب».

4- الإسنوي: من أهم كتب الإسنوي التي اعتمد عليها شيخ الإسلام (المهمات) (والروضة)، وكتاب «مطالع الدقائق»، وكان الإسنوي في مهماته كثير الاعتراض على الشيخين وخاصة على الإمام النووي فتعقب شيخ الإسلام كلام الإسنوي ورد عليه في كثير من المواضع.

5- الزركشي، وكان شيخ الإسلام يكثر من إيراد بحوثه واختياراته، فمرة كان يردها ويخطئها وييين مجانبتها للصواب ومرة كان يقرها ويستدل لها، بل ويفرع عليها المسائل، وكذا كان يعتمد عليه في النقول عن علماء المذهب، وربما يعود ذلك لكثرة التقول والأبحاث التي يوردها الزركشي في كتبه، فكان لزاماً على شيخ الإسلام تحريرها وبيان الموافق منها للمذهب دون المخالف، ولأن الزركشي كانت له كتابات على كتب الشيخين كما أنه تلميذ للإسنوي والأذرعي والسراج البلقيني وغيرهم ممن لهم تحريرات ومراجعات لكتب الشيخين. 

ومن أهم الكتب الي اعتمد عليها شيخ الإسلام وصرح به مصنفاته الفقهية في نقله عن الزركشي: كتاب الزركشي (خادم الشرح والروضة). 

6- الأذرعي: من المصادر المهمة التي شكلت العمود الفقري لشرح الروض مصنفات شهاب الدين الأذرعي، ومن أهمها: (التوسط)، (والفتح بين الروضة والشرح)، (والقوت على المنهاج) وغير ذلك.

7- البغوي: وكان يثقل عنه شيخ الإسلام من «فتاويه»، ومن «الإرشاد»، ومن «التهذيب في الفروع».

8- الماوردي: من تصانيفه التي كان لا غنى لشيخ الإسلام عنها في (شرحه للروضة). «الحاوي الكبير»، وكتاب «الأحكام السلطانية»، و«الإقناع».

9- الروياني: كتاب «البحر في الفروع» كان من مصادر شيخ الإسلام المهمة في مصنفاته الفقهية، وكذا كتابا «الكافي»، و«الحلية».

10- البلقيني: وكانت آراء السراج البلقيني واختياراته وترجيحاته تمثل مصدراً آخر اعتمد عليه الشيخ زكريا، لكنه كان ينقل عنها بواسطة ابن حجر في "الفتح"؛ لأن الفتح مليء بآرائه.

11— الغزالي: من تصانيف الإمام الغزالي المهمة التي كانت تشكل مصدراً مهماً شيخ الإسلام الفقهية: (البسيط) (والوسيط) (والوجيز) (والخلاصة)، (والفتاوى) (والإحياء).

12- السبكي: تقي الدين الكي كان من أهم مصادر شيخ الإسلام الفقهية في مصنفاته، ومن الكتب المهمة لتاج الدين السبكي الي اعتمد عليها شيخ الإسلام في (شرحه للروض)، و(شرح المنهاج) و(الفتاوى).

13— المتولي: (كتاب التتمة) من الكتب التي تكرر ذكرها في مصنفات شيخ الإسلام الفقهية بشكل كبير.

14- القاضي حسين: من الكتب المهمة التي كان يلجأ إليها شيخ الإسلام في تقرير المسائل كتاب (العدة)، (والتلخيص)، و(التعليقة في الفقه)، و(الفتاوى) للقاضي حسين.

15- القفال: كان ينقل عنه من (فتاويه)، وعن (شرح الفروع).  

ثانياً: المصادر الحديثية: 

وكان شيخ الإسلام يخرج الأحاديث وييين حكم المحدثين عليها، وكان يعتمد على المصادر الأصلية في ذلك، وقد أسعفه في ذلك ضلوعه في علم الحديث كيف لا وهو يعد من الحفاظ المحدثين وقد أخذ هذا العلم عن جهابذته كابن حجر العسقلاني وغيره، وقد قرأ الكثير في علم الحديث، ويكفيه أنه قام بشرح (البخاري)، و(مسلم).

ومن أهم الأعلام الذين اعتمد شيخ الإسلام في مصنفاته الفقهية عليها: البخاري، ومسلم، وكان صحيحهما من أهم المصادر الحديثية الأصلية، وكذلك اعتمد شيخ الإسلام على على أصحاب السنن: النسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجه والبيهقي والدارقطني وغيرهم،  والإمام أحمد في مسنده، والإمام مالك في موطأه، والحاكم في المستدرك الحاكم، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، والخطابي في معالم السنن. 

وأما ما يتعلق بعلم مصطلح الحديث والحكم عليه فقد اعتمد على ابن الصلاح، والولي العراقي، والحافظ الشمس القاياتي، وشيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، والبيهقي، والحاكم، وابن عبد البر وغيرهم في ذلك.

ثالثاً: المصادر اللغوية:

وكان يورد نقولاً عن اللغويين إذا اقتضت الحاجة ذلك بما يتناسب مع المقام، وممن كان ينقل عنهم: الزجاجي، والجوهري، والأزهري، وغيرهم. 

عناية شيخ الإسلام زكريا بالاستدلال لأحكام المذهب

لا شك أن تدعيم المذهب بالأدلة والدفاع عنه في وجه الخصوم من أجل الأعمال التي تجب على المنتسبين للمذهب إن توافرت فيهم شروط الناظر في الأدلة، وسأتكلم فيما يلي عن عناية شيخ الإسلام بالاستدلال لأحكام المذهب الشافعي: شيخ الإسلام والاستدلال لأحكام المذهب:

أولاً: كان شيخ الإسلام يحرص على تدعيم أحكام المذهب بالنصوص القرآنية والحديثية في كل حين؛ حتى لا يكون الفقه جافاً، وقد اطرد هذا الأمر في كل مصنفات شيخ الإسلام الفقهية، حتى في كتبه المختصرة كـ«شرحي المنهج» و«التحرير»، وأقول إن استدلاله لأحكام المذهب تميز بعدة مزايا لاحظتها من خلال استقرائي لكتبه الفقهية، أولاً: تخريج الأحاديث والحكم عليها، فقد كان شيخ الإسلام يحرص على تخريج الأحاديث وبيان مصادرها الحديثية الأصلية مع ذكر أقوال العلماء فيها تصحيحاً وتضعيفاً، دون إسهاب بشكل واضح وكثير. 

ثانياً: كثرة النصوص التي ينقلها عن علماء المذهب، كما بينت سابقاً أن النصوص والنقول عن أئمة المذهب تشكل أدلة قوية في المذهب، لذا فإن شيخ الإسلام كان يكثر منها لتدعيم مسائل المذهب.

ثالثاً: استدلال شيخ الإسلام بالقواعد الفقهية والأصولية، فلم يكتف شيخ الإسلام بتدعيم أحكام المذهب بذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ونصوص المذهب، بل شرع يستدل على صحة ما ذكره بالقواعد الفقهية والأصولية؛ زيادة في تدعيم المذهب وأحكامه. 

رابعاً: الردّ على أدلة المخالفين من خلال عدة أمور: 

أ- تضعيف الحديث سنداً. 

ب- ردّ الاستدلال بالآية والحديث، أو حمل الاستدلال بهما على وجه آخر، وكثيراً ما كان يفعل هذا شيخ الإسلام. 

ج- بيان معارضة أدلتهم بأدلة أخرى، وفي هذه الحال كان شيخ الإسلام يجمع بين الأدلة، ويؤول أدلتهم.

د- إبداء الفارق بين المسألة محل البحث والمسائل التي يستشهد بها المخالفون.

هـ - الاعتماد على الأدلة العقلية من قياس ومصلحة مرسلة وغيرها.

المقصود بالدليل في هذا المقام:

لا بد لي من بيان المقصود بالدليل هنا، فأقول إن المقصود بالدليل في هذا المقام الأدلة المعروفة، النقلية والعقلية المتفق عليها والمختلف فيها بين المذاهب الأربعة، كما هو مقرر في علم الأصول، ولا داعي لذكرها هنا فهي معروفة مبحوثة في كل كتب أصول الفقه فلتراجع هنالك.

ولكن ما أريد إضافته هنا، أنه بما أننا نتكلم عن عالم متمذهب؛ فبالتالي سيضاف للأدلة السابقة دليل جديد، وهو قواعد المذهب وأصوله والنصوص والنقول عن أئمة المذهب، فهي تشكل دليلاً حاسماً في هذا المقام في تحرير مسائل المذهب والترجيح بينها، وبيان المعتمد في المذهب، فإن العالم المتمذهب يتعامل مع نصوص المذهب كما يتعامل المجتهد المطلق مع نصوص الشرع، مع عدم إغفاله للأدلة الأصلية فإنها تأتي في المقام الأول، ولكن بالنسبة للترجيح في المذهب فإن النقول عن علماء المذهب وقواعده وأصوله لها اعتبارها في هذا المقام -أيضاً-. 

عناية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري بالاختيار والترجيح في المذهب

سأتحدث في هذا المبحث عن جانب مهم من جوانب جهود شيخ الإسلام في خدمة المذهب الشافعي، بل إنه الجانب الأبرز الذي طغى على جهوده الأخرى ألا وهو الاختيار والترجيح بين نصوص المذهب.

شيخ الإسلام والاختيار والترجيح:

من الطبيعي أن يقع الخلاف بين العلماء في المسائل المطروحة، فهذا من طبع البشر المختلفين في قدراتهم ومعارفهم ونظرتهم للمسألة الواحدة، ولا زال العلماء يختلفون منذ عهد الحبيب المصطفى حتى يومنا هذا، وهذا الخلاف من رحمة الله بهذه الأمة حتى تأخذ بالحق الذي يناسب تطورات الأزمان على مر العصور.

ووقوع الخلاف داخل المذاهب الفقهية أمر معتاد كما هو الخلاف بين المذاهب الفقهية، بل إن وجود الخلاف في داخل المذهب دليل بين على صدق العلماء وإخلاصهم في بيان الحق، فلا محاباة لأيٍّ كان، وإن كان إماماً جليلاً، فالحق أحق أن يتبع.

وشيخ الإسلام قد بلغ مرتبة مجتهد الفتوى والترجيح على ما رجحته في التمهيد السابق عند حديثي عن مرتبته الفقهية في المذهب، فكان من البديهي أن يكون من أجل جهوده في إطار خدمة المذهب الترجيح بين الأقوال في المسائل التي وقع فيها خلاف. 

وحقيقةً من أهم ما تميز به شخص شيخ الإسلام كما قدمت في ترجمته أنه كان لا يخشى في الله لومة لائم، فكان لا يحابي أحداً؛ فالهدف هو الوصول إلى الحق في المسألة المبحوثة، وإن خالف ترجيحه قول النووي المقدم عنده، كما سيتبين هذا الأمر بوضوح فيما يأتي من نماذج فقهية.

كما ذكرت فإن جانب الاختيار والترجيح كان الجانب الأبرز من جوانب جهود شيخ الإسلام في إطار خدمة المذهب الشافعي، ولعل بروز هذا الجانب من جهوده على غيره من الجوانب يعود في نظري لعدة أسباب هي:

1- سعة اطلاعه على نصوص المذهب، وخاصة كتب الشيخين الرافعي والنووي، مما منحه المخزون اللازم للترجيح والاختيار، وأضفى على اختياراته وترجيحاته دقةً وموضوعية. 

2- شمولية معرفته، وأعني بها أن شيخ الإسلام قد برع في كل علوم الشرع وآلاتها، وكذا في فقه المذاهب الأخرى، كما بينته بالتفصيل عند حديثي على طلبه للعلم فيما سبق، مما جعله على غرار الأئمة السابقين.

3- إخلاصه وعدم محاباته في الحق، وهو من الأمور المهمة اللازمة لمن يرجح، فلا يرجح قولاً على آخر محاباة لصاحب القول وتعصباً له، بل إنّ الوصول إلى الحق هو الغاية المنشودة من الاختيار والترجيح.

طريقة عرض شيخ الإسلام للخلاف:

يمكنني في هذا المقام أن أعرف القارئ على طريقة شيخ الإسلام في عرضه للخلاف، وأعني بالخلاف هنا الخلاف المذهبي، أي داخل المذهب الشافعي فإنّ شيخ الإسلام لم يكن يتعرض لخلاف المذاهب الأخرى إلا على وجه مختصر في بعض المسائل بذكر قول الأئمة الثلاث الآخرين: الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد -رضي فقط.

وتتلخص مميزات كيفية عرضه للخلاف فيما يلي: 

أولاً: يبدأ شيخ الإسلام ببيان قول المائن، ويشرح المسألة المبحوثة ويبين ضوابطها وقيودها ويصورها كما هو مقرر في المذهب.

ثانياً: شيخ الإسلام في غالب المسائل الخلافية يسارع لكتب الشيخين رضي الله عنهم- أجمعين بعد بيان المسألة في كل كتبهما، وينظر ما الذي حرراه في المسألة، ويعتمد عليهما كثيراً، ويقدم قوليهما، خاصة قول الإمام النووي، إن لم يخالف قواعد المذهب. 

ثالثاً: لم يكن شيخ الإسلام يتسرع بتغليط الماتن، بل يحاول تأويل كلامه وحمله على محمل يصح معه الكلام، فإن كان لابد من تغليطه فبلطف في ردّ كلامه، فلم أر له كلاماً غليظاً إلا في مواضع معدودة على الأصابع في حق الإسنوي والزركشي فقط، لأنهما كان يثقلان الكلام مرات في حق الشيخين الرافعي والنووي. 

رابعاً: لا يعني تمذهب شيخ الإسلام للشافعية، وعدم خروجه على المذهب، واعتماده على أقوال الأئمة السابقين ونصوصهم إغفاله لنصوص القرآن والسنة، بل تجده على اطلاع على الأدلة الأصيلة من القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها، فترجيح شيخ الإسلام كان مبنياً على نصوص الشريعة من قرآن وحديث في المقام الأول، ونصوص المذهب وقواعده؛ فنحن نتكلم على مجتهد فتوى وتفريع فلا يستطيع الترجيح إلا باعتماد نصوص المذهب وقواعده وأصوله الثابتة وأقوال محققيه الأعلام كالشيخين وغيرهما، ولم أر له خروجاً في ترجيحاته على أحكام المذهب قط.

خامساً: قد يتعرض شيخ الإسلام لبعض أدلة المخالفين من داخل المذهب وخارجه ويردّ عليها، كما سيظهر ذلك في النماذج الفقهية؛ لذا احتجت في تلك النماذج لعرض أقوال المذاهب فيها على وجه مختصر؛ ليعلم من هم المخالفون الذين ردّ عليهم شيخ الإسلام. 

سادساً: إن شيخ الإسلام كان كثير الاعتماد على كلام محققي المذهب، وكان مطلعاً على نصوص المذاهب المبحوثة مما جعل ترجيحاته دقيقة ومعتمدة في المذهب عند المتأخرين.

 سابعاً: غالباً ما كان يذكر شيخ الإسلام مدركه في الترجيح، ومما تميز به شيخ الإسلام في هذا المقام أنه كان لا يرجح إن لم يكن لديه دليل بل يكتفي بنقل الأقوال، وأيضاً كان يرجع عن أقوال بان له خطأها إما في نفس الكتاب كما كان يفعل في «شرح الروض» أو في كتاب آخر كما كان يفعل في شرح البهجة»، حيث تراجع مرات عديدة عن اختياراته في شرح البهجة في مصنفه «شرح الروض»، كما بينته سابقاً الأمثلة الواضحة على ذلك عند عرضي لأهم مصنفاته الفقهية في الفصل السابق فلا داعي لتكراره هنا . 

المسائل التي يرجح فيها شيخ الإسلام:

بما أن شيخ الإسلام لم يبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق ولا مرتبة الاجتهاد المقيد ولا مجتهد المذهب، فمن الطبيعي أن يكون نوعية المسائل التي يرجّح فيها هي المسائل التي وقع فيها خلاف في داخل المذهب بين علمائه فلم أر فيما قرأته من كتبه أنه تعرض الأخرى على الإطلاق من حيث الترجيح والاختيار، وإن كان يذكر أحياناً مذاهبهم بإيجاز مع مراعاة خلاف أبي حنيفة طريقاً للترجيح في بعض مسائل المذهب، ويرد على بعض أدلتهم، كما بينته سابقاً في طريقة عرضه للخلاف.

هذا ما كنت أود قوله فيما يتعلق بالمسائل التي يرجّح فيها شيخ الإسلام بشكل عام، ولكن لابد أن أكون أكثر تحديداً في هذا المقام فيما يتعلق بنوعية هذه المسائل بعدما عرفنا أن الإطار العام لها هي: تلك المسائل المختلف فيها بين علماء المذهب، مع استبعاد مسائل الخلاف المذاهب الأخرى، وبعبارة أخرى استبعاد مسائل الفقه المقارن من ترجيحاته، فأقول: إن المسائل التي كان يرجّح فيها شيخ الإسلام محصورة في الآتي: 

1- المسائل التي وقع فيها خلاف بين الشيخين النووي والرافعي، وقد شكلت النصيب الأعظم على الإطلاق، ومما يلاحظ عليه أن شيخ الإسلام كان كثيراً ما يقدم قول النووي بشكل واضح، إلا في مسائل بان فيها مخالفته للدليل أو لقواعد المذهب، فالنووي عنده مقدم على غيره على الإطلاق وحتى على الرافعي، ومع أن ميل شيخ الإسلام كان جلياً للنووي، ولكن ميله لجانب نصرة المذهب كان الأقوى؛ فلو خالف النووي المذهب كان يردّ عليه شيخ الإسلام ويبين خطأه، وما أقوله ليس كلاما نظرياً بل هو واقع ملموس في الفقه والدليل عليه ما سيأتي وخاصة في تعقباته ومناقشاته لعلماء المذهب والتي سأفرد لها مبحثاً مستقلاً.

2- المسائل التي وقع فيها خلاف في أقوال الشيخين سواء في كتب متفرقة، أو في نفس الكتاب في أكثر من موضع وهذه تلتحق بالأولى، فلا يستطيع الناظر إلى كتب شيخ الإسلام إلا أن يلاحظ سعة اطلاع شيخ الإسلام على كتب الشيخين وإلمامه بأقوالهما في غالب المسائل، ومن أجل ما كان يقوم به شيخ الإسلام في كتابته الفقهية هو المقارنة بين أقوال الشيخين في كتبهما، وغالباً ما كان يرجح بينها ويبين المقدم منها.

3- من أهم المسائل التي كان يرجح فيها شيخ الإسلام هي : تلك المسائل التي خالف فيها المتأخرين من أعلام المذهب كالإسنوي والأذرعي والسبكي والزركشي وغيرهم ما ذهب إليه الشيخين. وخاصة تلك المسائل التي كان يردّها الإسنوي والزركشي على النووي، وغالباً ما كان يرجح قول النووي وينتصر له ويرد كلام الإسنوي والزركشي، ولكن هذا لا يعني برد قولهما دائماً، فكثيراً ما اعتمد شيخ الإسلام على الإسنوي والزركشي في تقرير المذهب أنه كان وتحرير مسائله والضابط في ذلك الدليل والحجة والبرهان.

4- النوع الأخير تلك المسائل التي وقع فيها خلاف بين الشيخين مع المتقدمين من علماء المذهب كالماوردي والروياني والغزالي والبغوي والإمام والقاضي والمتولي وغيرهم، وهي قليلة مقارنة مع الأنواع الثلاث الأولى.

عنايته بالجمع بين المتعارضات من نصوص المذهب

إن العلم بحر واسع جداً، كلما خاض فيها الباحث اكتشف أن علمه قاصر؛ لذا فإن كثيراً من أقوال العلماء تبدو للوهلة الأولى متناقضة، ولكن بعد التدقيق والتأمل يظهر عدم تعارضها وتناقضها، وسأتحدث في هذا المبحث عن هذا الجانب من جهود شيخ الإسلام في خدمة مذهب الشافعية.

(1) أهمية الجمع بين المتعارضات من نصوص المذهب: لا شك أن الجمع بين النصوص المتعارضة الواردة على مسألة واحدة من علماء المذهب الواحد أمر جليل؛ إذ لا يخفى ما له من أهمية بالغة، وقد قال عبد الله بن يحيى باعلوي في (بغية المسترشدين) في ذلك: اعلم أن العبارات الواردة في مسألة واحدة التي ظاهرها التنافي والتخالف: إذا أمكن الجمع بينها من غير تعسف وجب المصير إليه، ويكون الأمر من المتفق عليه، وأن إطلاقات الأئمة إذا تناولت شيئاً، وصرح بعضهم بخلافه فالمعتمد الأخذ بإطلاقهم، كما نص عليه في (التحفة) (والنهاية).

وتتلخص أهمية الجمع بين النصوص المتعارضة في المذهب فيما يلي: أولاً: تحرير المذهب وتقليل الخلاف فيه بين أئمته.

ثانياً: تدعيم معتمد المذهب، عن طريق بيان اتفاق أئمته على حكم المسألة وعدم اختلافهم فيها.

ثالثاً: سلامة كلام الفقيه الواحد من التناقض، ولا شك أن لهذا أهمية عظيمة في صيانة كلام الأئمة عن الخطأ والإهمال، وفيه إعمال لنصوصهم، وهو الأولى بالأخذ.

رابعاً: صيانة المذهب من التناقض، والحد من التنازع والخلاف بين علمائه خاصة المتأخرين منهم.

شروط من يجمع بين النصوص:

لا بد لمن يجمع بين النصوص أن تتوفر فيه شروط معينة؛ وإلا لساغ قول كل أحد في ذلك؛ ولَحْمِلَ كلام ا الأئمة على غير ما يريدون، ولوقع التخبط واللبس؛ ولذا فلا بد من توافر شروط فيمن يجمع بين النصوص، وهي:

 أولاً: سعة الاطلاع على نصوص المذهب، ويشمل ذلك عدة أمور:

أ- الإحاطة بأقوال الشيخين بالمقام الأول على اعتبار كونهما شيخي المذهب المتفق على تقديم كلامهما في تحرير مسائل المذهب.

ب الإحاطة بكلام الأئمة المحررين المتقدمين من أصحاب الوجوه وغيرهم. 

ج- الإحاطة بكلام المتأخرين بعد الشيخين الذين كانت لهم شروح وكتابات على كتب الشيخين من محققي المذهب كالإسنوي والأذرعي والسبكي والزركشي وغيرهم. 

 د - المعرفة الأصولية المتعلقة بأصول وقواعد المذهب وإمامه.

أقول إن توفرت هذه المعرفة فيمن يريد الجمع بين نصوص المذهب لا بد أن يكون جمعه صائباً - إن شاء الله-، وإن تخلف أحدها فإنه يعد محض تعسف وتشه لا غير.

ثانياً: دقة النظر وحسن الفهم ورجاحة العقل، إذا لا يتصور جمع بغيرها، لكون العبارات المتناقضة تحتاج عميق نظر وتأمل؛ لإزالة التعارض بينها، وحتى لا يتوهم وجود تعارض وتناقض حيث لا تعارض ولا تناقض، فيكون فعله نقمة على المذهب لا خدمة له.

عناية شيخ الإسلام الأنصاري بتقييد المطلقات من نصوص المذهب

كثير من المسائل الفقهية لو أخذت وفهمت على إطلاقها لكانت بعيدة كل البعد عن الصواب، ولذا لابد من مراعاة تقييدات الفقهاء للمسائل، وسأتحدث في هذا المبحث عن هذا الجانب من فقه وجهود شيخ الإسلام في إطار خدمته لمذهبه مذهب الشافعية.

إن الناظر لكتب شيخ الإسلام، وخاصة شرح المنهج وشرح التحرير ليلاحظ دقته في العبارة، وفي تحديد قيود المسائل المشروحة وقد عد ذلك من أهم ميزاته، حيث امتدحه بذلك أكثر من واحد ممن ترجم له، ومنهم معاصره السخاوي وقد قدمته عند حديثي على مظاهر من العلماء له. شخصيته ومدح

ومن أهم ما تميز به شيخ الإسلام في هذا السياق هو بيانه للقيود التي زادها على المسائل المبحوثة، فكثيراً ما كان يقول في مصنفاته الفقهية، وهذا القيد من زيادتي، ثم إنه يبين من أين مة الجامعة الأردنية استقى هذا التقييد، فلو كان منقولاً عن أحد علماء المذهب ذكره، وناقشه فيما ذهب إليه، فإن ء السائل الجامعية رأى أنه حق تابعه عليه وإلا رَجّح عدم التقييد به، وإن كان التقييد منه فإنه ينص على ذلك ويبرهن عليه بالأدلة البينة.

عنايته بالتنبيه على الفروق الفقهية في مسائل المذهب المذهب

من أهم جهود شيخ الإسلام في إطار خدمته للمذهب الشافعي عنايته بالتفريق بين المسائل المتشابهة التي يظهر للقارئ للوهلة الأولى أنها متقاربة في المعنى، ولكن لو نظر لها نظرة متخصصة ومدققة ومتفحصة لبان الفرق بينها، وهذا ما سأتكلم عنه في هذا المبحث.

الفروق الفقهية:

يوجد كثير من المسائل الفقهية المتفقة في التصوير المختلفة في العلة والحكم، وإدراك هذه الفروق هو ما يسمى بفن الفروق الفقهية. فن الفروق كما عرفه الإسنوي: «هو ذلك الفن الذي يبحث في المسائل ذات المآخذ المؤتلفة المتفقة والأجوبة المختلفة المتفرقة مما تثير أفكار العلماء»، وعرفه السيوطي قائلاً: «هو ذلك الفن الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويراً ومعنى، المختلفة حكماً وعلة».

فعلم الفروق أو الأشباه المعنى فيه وجود مسائل متشابهة في الصورة، ولكنها مختلفة في الحكم تبعاً لاختلافها في علة ذلك الحكم .

ويعود سبب نشأة الفروق الفقهية إلى أن الفقهاء كثيراً ما يذكرون علل الأحكام في كتبهم الفقهية مستدلين لما يذهبون إليه ومدعمين مذهبهم بذلك، فإن ردّ أحد بقياسها على مسألة أخرى أجاب الفقيه بوجود الفارق والاختلاف بين المسألتين، ومن هنا صار فناً مستقلاً.

والفروق لا تنفصل عن الفقه فهي منتشرة في ثناياه، وقد وجدت بعض المصنفات المستقلة في هذا الفن، ومنها على سبيل المثال : الجمع والفرق لأبي محمد الجويني، و«الفروق» للإسنوي، و«الفروق» للروياني.

أهمية الفروق الفقهية وفائدتها:

إن فن الفروق ذو فائدة عظيمة؛ فبه يستطيع الفقيه فهم المسائل على أكمل وجه ويستطيع أن يقيس ويُخَرَّج المسائل غير المنصوص على حكمها بسهولة:

وتتلخص أهمية هذا الفن في النقاط التالية:

أولاً: ترسيخ فهم الفقيه للمسائل.

ثانياً: تبني في الفقيه ملكة تمكنه من القياس على المسائل المنصوصة بمهارة. 

ثالثاً: تجعل الفقيه يقوم بعملية التخريج بأنواعها بدقة متناهية.

تعود أصل مشروعية هذا العلم إلى كلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه- حين كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه-، فكان مما قال له سيدنا عمر -رضي الله عنه- في هذا الكتاب: ... اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عندك فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى...».

وموطن الشاهد من كلام سيدنا عمر رضي الله عنه - قوله: «فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق..»

فهذا هو المقصود بفن الفروق داع الرسائل الجامعية الفروق التي يبديها الفقيه بين المسائل الفقهية على أنواع: 

أنواع الفروق:

1- الفروق من الحديث.

2- الفروق من جهة القواعد الأصولية.

3- الفروق بذكر العلل وهو الأكثر شيوعاً خاصة في الفقه المذهبي، وهذا هو النوع الذي أكثر منه شيخ الإسلام في كتبه وبعده يأتي التفريق من جهة القواعد الأصولية.

وأما الأول فليس له نصيب من فقه شيخ الإسلام.

ولا بد فيمن يخوض غمار هذا الفن أن يكون لديه سعة اطلاع على نصوص المذهب، ويكون دقيق النظر قوي الإدراك، وشيخ الإسلام كان فارساً في هذا الفن، وكان مرجعاً في الإجابة عما يشكل ويتشابه من مسائل وعمدة عند المتأخرين في التفريق بين المسائل، ليس في المذهب الشافعي بل في المذاهب الأخرى.

عنايته بالمناقشة والتعقب لعلماء المذهب

إن من أكثر الجوانب بروزاً ووضوحاً في إطار جهود شيخ الإسلام في خدمة مذهب الشافعية عنايته بتعقب أقوال علماء المذهب وآرائهم، وفتاويهم، ونقولاتهم، وتحريراتهم، واختياراتهم، واعتراضاتهم ومناقشتهم وإقرار الصواب ورد الخاطئ منها، ولا شك أنه جانب مهم في إطار الحديث عن جهود شيخ الإسلام في خدمة المذهب الشافعي، وهذا ما سأبرزه بوضوح في هذا المبحث.

أهمية التعقب والمناقشة لعلماء المذهب:

من الأخطاء ويحرص لا شك أن كل منتسب لأي مذهب كان يحرص على سلامة مذهبه . على صيانته من نسبة بريء، ومن هنا تنبع أهمية التعقب لعلماء المذهب ومناقشتهم فيما قالوه ونسبوه صيانة للمذهب عن الأخطاء والأغلاط والأقوال الضعيفة والساقطة الاعتبار.

وتنبع أصل مشروعيته قاعدة مجمع عليها بين علماء الإسلام وهي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لدين الله، ولو تتبعنا تاريخ حضارتنا الطويل لوجدنا أنّ عادة السلف الصالح منذ عهد النبي ﷺ وحتى يومنا الحاضر، وكذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، فهذا هو حال السلف الصالح وما أريد أن أقوله أن هذا فيه دليل على قوة الإيمان، والانقياد الله تعالى وحده، وعدم خشية غيره، فلا محاباة في الدين فالحق هو مطلب الجميع وإن خالف قول أعظم الأئمة. هذه هي

ومما يجب على الفقيه المتعقب والمناقش مراعاته في هذا المقام أمور، منها: أولاً: أن يتأدب بآداب الحوار والجدل ويتلطف في بيان الحق وفي تخطئة غيره فلا يشتم ذلك ولا يتفوه بالألفاظ النابية ولا يتهجم على العلماء، فإن من يفعل ذلك لا محالة هالك وفي يقول شيخ الإسلام: «إياكم والطعن في أشياخ زمانكم ولوذوا بهم في الدنيا، ليأخذوا بيدكم في الآخرة، ومن أشقى الناس غير صالح يقع في أعراض الصالحين»، وقال: «إياكم ومخالطة من يقع في أعراض العلماء والصالحين...»

ويقول في هذا -أيضاً- الكردي: «وعليك أن لا تفضل أحداً من الأئمة تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص غيره فإن ذلك يؤدي إلى المقت والخزي فإنّ لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتقصيهم معلومة».

والنص على غلط العلماء فيما ذهبوا إليه من أراء وأفهام لا يعد انتقاصاً لهم بل هو من ميزة هذه الأمة على باقي الأمم، يقول الرافعي: «من لطف الله تعالى- على هذه الأمة وما خصها به من الكمالات أن علماءها تنص على غلط غيرهم وعن بيان حالهم وإن كان المعترض عليه والداً فضلاً عن غيره، ألا ترى إلى قول إمام الحرمين في حق والده أبي محمد الجويني الذي قال الأئمة في ترجمته: لو جاز أن يبعث الله نبياً في زمنه لكان أبو محمد الجويني هو ذلك النبي؛ فإنه كان على طريقة من الزهد والورع والاجتهاد في الطاعة والتخلي عن الأعراض الدنيوية وغير ذلك من الكمالات التي لم يدركها أهل عصره». 

ويقول الكردي: «واعلم أنه ليس من التنقيص المذموم اعتراض بعض العلماء على بعض مقالاتهم فإنّ ذلك أمر ممدوح في الشرع لإظهار الصواب بل ظاهر كلام الشيخ ابن حجر التنقيص إن كان لإظهار الحق فلا بأس به».

ثانياً: ينبغي على الفقيه أن لا يسارع إلى تخطئة كلام غيره، بل إن وجد له محملاً يحمله عليه حمله عليه أو يُخرجه مخرجاً يصح الكلام معه فعل ذلك. 

ثالثاً: أن يكون هدفه بروز نفسه وظهور علمه، بل ظهور الحق، ويكون مخلصاً لله في ذلك، فإن كانت نيته صالحة فإنّه لا محالة مفلح، وإلا والعياذ بالله فإنه يكون أول من تسعر به نار جهنم لأنه يدخل في باب العالم المرائي.

لم يكن شيخ الإسلام مجرد حاطب بليل بل كان يحرر ما ينقله وبين صوابه من خطأه، وبين مكانته من معتمد مذهب الشافعية فهذه صفة مطردة في مصنفات شيخ الإسلام على الإطلاق، لذا فإن الناظر لكتب شيخ الإسلام وخاصة إلى شرح الروض» و«شرح البهجة»؛ ليعلم صحة هذا الكلام ودقته وتعقب شيخ الإسلام لعلماء المذهب كان من عدة وجوه:

أولاً: تعقبهم لمخالفة نصوص المذهب وصرائحه.

ثانياً: تعقبهم لمخالفة مقتضيات نصوص أئمة المذهب.

ثالثاً: تعقبهم لمخالفة مقتضيات قواعد المذهب. 

رابعاً: تعقبهم لضعف المدرك والمنازعة فيه. 

خامساً: تعقبهم لضعف تخريجاتهم وإبداء الفارق بين المسألتين. 

سادساً: تعقبهم لاطلاقاتهم في محل التقييد.

لم يكن شيخ الإسلام يحابي أحداً من علماء المذهب بل إن النووي المقدم عنده على الإطلاق لم يسلم من تعقباته؛ فالحق هو ،مراده، لكن المتأخرين من طبقة الإسنوي ومن بعده من أعلام المذهب الشافعي كالزركشي والسبكي والأذرعي وغيرهم قد حظوا بالنصيب الأكبر من تعقبات شيخ الإسلام ومناقشاته، ويعود ذلك ربما لكون شيخ الإسلام كان يقدم الشيخين على غيرهما، وهؤلاء الأئمة كانت لهم كتابات على كتب الشيخين كما أنهم كانوا قريبي عهد به، لذا كان لا بد له من الوقوف في وجه من يعترض عليهما والبرهان. بل رد عليهم بالدليل في وكما أن شيخ الإسلام كان يتعقب من سبقه من علماء المذهب، فإنّ أقواله لم تسلم من تعقب المتأخرين بل إنه حظي باهتمام لمنزلته في المذهب وللثروة العلمية الضخمة التي تركها وراءه، فهاهم تلاميذه شراح منهاج النووي أئمة المذهب الشافعي ابن حجر الهيتمي، والرمليان والخطيب الشربيني وغيرهم من أئمة المتأخرين كانت لهم تعقبات ومناقشات لأقوال شيخ الإسلام، وإن دل هذا فإنما يدل على مدى حرص هؤلاء الأئمة على بيان الحق.

عنايته بالفتوى والتفريع على المذهب

أعتقد أن الفتوى في المسائل الواقعة هي أنفع ثمرة من ثمار جهد الفقيه، فإن الوقائع تتجدد والمسائل تتعدد والناس ما زالوا بحاجة لحكم الله فيها، وبالتالي كانت الضرورة داعية للإفتاء فيها، وسأتكلم في هذا المبحث على هذا الجانب من فقه شيخ الإسلام وهو جانب الفتوى والتفريع على المذهب.

شيخ الإسلام والفتوى:

يعد شيخ الإسلام من العلماء الراسخين في الفتوى والقضاء وفارس لا يشق له غبار في هذا الميدان كيف لا وهو من تولى أطول مدة في القضاء في عصره حيث امتدت مدة ولايته لقاضي القضاة ما يزيد على العشرين سنة، وهي مدة طويلة جدا لم يتفق لغيره من علماء عصره أن ولي القضاء مثلها، وقد قدمت الكلام على هذا عند الحديث على المناصب التي تولاها شيخ الإسلام. 

الأمر الثاني الذي أبرزه في هذا المقام هو مدى اعتماد فتوى شيخ الإسلام، فكثير من العلماء يفتي ولكن فتواهم يضرب بها عرض الحائط كما نرى في زماننا هذا، أما شيخ الإسلام فإنه كان إذا أفتى في مسألة لا يراجعه بها أحد من أئمة عصره بل ينقادون لها وإن كانوا من غير الشافعية، وربما كان لتوليه القضاء المدة الطويلة أثر في ذلك، والدليل على ذلك لما أصدر فتوى في حق ابن الفارض عندما وقع الغلط والتنازع بين أئمة العصر وعوامه، فلما صدرت فتيا شيخ الإسلام بعد إحجام شديد منه سكت الجميع وانقادوا للفتيا، وقد قدمت الكلام عنه في ما سبق من كلام عند الحديث على تصوفه.

وقد كانت فتياه محل اعتبار حتى خارج المذهب الشافعي، وهذا جلي في عصره، وقد كنت تصفحت بعض كتب الفقه للمذاهب الأخرى فوجدت أن بعض علماء كانوا يسألون شيخ الإسلام ليس بخصوص المذهب الشافعي بل في مسائل داخل مذهبهم، ومن ذلك على وجه التمثيل كتاب الفروع للبهوتي، فقد ظفرت فيه ببعض المواضع ولم أشأ أن أضعها هنا للإيجاز. وكذلك الأمر في حاشية ابن عابدين، وأذكر هنا مثالاً حتى لا يكون الأمر نظرياً؛ وحتى أبرهن على صحة ما أقول، والمثال عليه مسألة وقعت في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة بين الحنفية، وقد كثر فيها الخبط واللغط والمسألة التي وقع فيها الخلاف بين الحنفية هي في باب أحكام الرضاع،

فأفتى فيها ابن الشحنة، ولكن الأمر لم ينته بل ظلت الأمور في أخذ ورد بين فقهاء الحنفية، وبقي بعض معاصريه مخالفاً له، ولم يبت في الأمر حتى بعد أن عقدت المجالس العلمية لذلك بأمر السلطان الأشرف قايتباي، وكان شيخ الإسلام حينئذ قاضياً للقضاة، ولم تهدأ الأمور إلى أن رفع الأمر لشيخ الإسلام وعرضت عليه النقول من نحو أربعين كتاباً على شيخ الإسلام، فأجاب عنها وهدأت الأمور واتفق الجميع على قول شيخ الإسلام.

والأمر الثالث الذي يتوجب عليَّ بيانه هنا أن شيخ الإسلام لم يكن يسارع إلى الفتيا بل كان يحجم عنها فإن وجد غيره من العلماء يفتي توقف فإن كان لا بد تقدم لها مخلصا الله تعالى- في ذلك، ولا يخشى في ذلك لومة لائم. ولشيخ الإسلام مصنف في الفتاوى ذكرته عند عرضي لمصنفاته الفقهية في الفصل الثاني.