أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 7 أكتوبر 2021

أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم تصنيف الإمام المُجدِّد: علي بن سلطان القاري الهرويّ المكِّي

أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم

تصنيف الإمام المُجدِّد: 

علي بن سلطان القاري الهرويّ المكِّي

(ت 1014 هـ)

تحقيق: مشهور حسن سلمان

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه مسألة عظيمة، حارت فيها الأفهام، وتاهت في غياهبها الأحلام، وارتجَّت في قبولها النفوس، على الرغم من وفور النصوص ووضوحها، إلا أن الموانع من قبول الحق اعترتها، لا سيما مع كثرة الذين أثاروا الشُّبه فيها، وجعلوها من محالات العقول، لما وقر في نفوسهم من تعظيم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونحنُ إذ نقول بهذا الأمر (من عدم نجاة والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم) فإن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم -في نفوسنا أعظم بكثيرٍ مما يظنُّه خصومنا، غير أننا أخذنا بما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يثبت له مُعارض من آيةٍ أو حديث، بل الأدلة تؤيده، لم يبقى إلا التسليم لأمر الله العزيز الحكيم.

ولا شكَّ أن هذا الأمر يُحزننا، ويملأ كياننا بالألم والشَّجى؛ إذ لا يرضى أحدٌ لوالديه أن يُصابا بشوكةٍ فضلاً عن أن يكونا من أهل النار، ولكن: كان أمر الله قدراً مقدوراً، وكلٌّ في كتابٍ مُبين، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه؛ فلا يسعنا -والحالة هذه -إلا التسليم لإرادة الله وحكمه وقضائه، مع إيماننا العميق بأن الله عز وجل أحكم الحاكمين، لا يظلم مثقال ذرة، فلا إله غيره، ولا ربَّ سواه.

وهذه الرسالة ألفها العلامة القاري رداً على الرسائل التي جمعها الإمام السيوطي -رحمه الله -حول هذه المسألة، في مجموعةٍ من مصنفاته، منها (مسالك الحنفا في والدي المصطفى)، و(الدرج المنيفة في الآباء الشريفة)، و(المقامة السُّندسية في النسبة المصطفوية)، و(التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة)، و(نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين)، و(السبل الجليَّة في الآباء العليَّة).

وبيَّن القاري الحنفي في كتابه معتقد أبي حنفية في والدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو معتقد الأئمة الثلاثة، ومن قبلهم السلف الكرام من الصحابة والتابعين، وبيَّن ضعف أدلة السيوطي، واستناده إلى الأحاديث الموضوعة والواهية، ومعارضه الأحاديث الصحيحة بالأحاديث المنكرة، واستطراده في المجادلات العقلية والطرق الكلامية التي لا تصمد أمام ظاهر النص، وذكر بعض الشُّبهات التي أثارها السهيلي، والرازي، والقرطبي، والسيوطي، الكردي، ومن نحا نحوهم، وردَّها بالأدلة الصحيحة الصريحة، التي ينبغي لمن سمع بها أن يُسلم لها؛ فلله الأمر من قبل ومن بعد.

ونقلت كلام الشيخ مشهور حسن سلمان، ثم مختصر كلام القاري -رحمه الله تعالى.

بين الإمامين السيوطي وعلي القاري

ذهب الإمام السيوطي -رحمه الله تعالى -في رسائله السابقة الي نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم واضطرب فيها اضطراباً واضحاً؛ فهو يُقرر فيها أن آباء جميع الأنبياء موحدون، ثم يذكر أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيان لأنهما من أهل الفترة؛ فلماذا هذا التصنيف ما دام أنهما موحدان، ثم يقول مرة ثالثة ان الله سبحانه أحياهما وآمنا به؛ فما الداعي لهذا ما دام أنهما سيمتحنان.

وردَّ عليه الشيخ علي بن سلطان محمد القاري بأدلة واضحة لائحة، ونصب معه ميداناً جدلياً، وقرر فيه أن معارضة كان عمله "عمل العطارين في تكبير النَّوالة، وتكثير الحوالة" (ص 137).

و "أنه كحاطب ليل وخاطب ويل" (ص 139).

و أنه ذكر فيها "من التطويل الذي لا يفيد التعليل في مقام التحصيل، وإنما هو بيان قال وقيل والله هو الهادي الى سواء السبيل" (ص 139).

 وكشف القارئ رحمه الله تعالى في رسالته هذه أوجه التعارض والتناقض بين كلام السيوطي نفسه؛ فقال بعد كلام: 

"فانظر الى هذه المعارضات الواضحة والمناقصات اللائحة؛ فهل تثبت المسائل الاعتقادية بأمثال هذه الاحتمالات العقلية، فدلَّت تصانيفه في هذه القضية بأانه أقلُّ العطارين بالنسبة الى امام الحكماء المعتبرين -يعني أبا حنيفة" (ص 139 -140).

 ولم يكن الإمام القاري في ردِّه على السيوطي متكبراً، او متعنتاً، بل كان مسلكه قول الصدق، والطريق السوي، المتمثلة بالاخذ بالدليل، مع إجلال أئمه العلم والدين، وما كتب -رحمه الله تعالى -رسالته هذه إلا للرد على التعصب في مسألةٍ وضحت فيها الأدَّلة، وصحَّت، وكثُرت، فأبصر صاحبنا -رحمه الله تعالى -أنوار هذه الأدلة، وكثرتها، وصحتها؛ ففتحت لها بصيرته، وخطت بها يمينه؛ فكتب يقول عن نفسه في تخطئة معارضه:

"وأنا الفقير الحقير من أقل علماء الحنفية بينت خطأه بما أخذته غالبا من الكتب التفسيرية والحديثية ولكن ذلك الفضل من الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفيه الدلالة على أن باب الفيض مفتوح على هذه الأمة، وأنه لا بد في الوجود من يكشف الغُمّة، مما اختلفت فيه الأئمة، ويميز بين الحق والباطل ويبين المزين من العاطل" (ص 140).

القائلون من العلماء بعدم نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم 

نقل الإمام البخاري إجماع السلف والخلف على عدم نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: 

"قد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك من غير إظهار خلاف لما هنالك والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق

والعجب من الشيخ جلال الدين السيوطي مع إحاطته بهذه الآثار التي كادت أن تكون متواترة في الأخبار أنه عدل عن متابعة هذه الحجة وموافقة سائر الأئمة وتبع جماعة من العلماء المتأخرين وأورد أدلة واهية في نظر الفضلاء المعتبرين" (ص 90 -91).

قلتُ: ولا داعي للإطالة في سرد هذه الأدلة، ولا سيما أن المصنف سيذكرها ويناقشها، ولكن يهمني هنا أمران، يبني عليهم القائلون بالنجاة موقفهم وآرائهم المخالفه النصوص النبوية الصحيحة الصريحة؛ هما:

أشهر أدلة القائلين بالنجاة وردها 

الدليل الأول: أن ابوي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة.

قلتُ: وهذا يستلزم الكلام على تعريف أهل الفترة، وحكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين.

* تعريف أهل الفترة:

-أولاً في اللغة:

قال ابن منظور: "الفترة الانكسار والضعف، وفترَهُ شيءٌ، والحرُّ وفلانٌ يفتَرُ ويفتِرُ فتوراً وفِتاراً: سكن بعد حدَّة، ولان بعد شدة" (لسان العرب: 5/ 43).

-ثانياً في الاصطلاح:

هي ما بين كل نبيين.

وبهذا عرفها ابن كثير؛ قال: "هي ما بين كل نبيَّين، كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم" (تفسير ابن كثير: 2/ 35).

وقال السبكي: "هي ما كانت بين رسولين، لم يُرسَل إليه الأول، ولم يُدرِك الثاني" (جمع الجوامع: 1/ 63).

وقد ذكر الآلوسي في تفسيره إجماع المفسرين بأن الفترة: "هي انقطاع ما بين رسولين" (روح المعاني: 6/ 103). 

واختار بعضهم أن اهل الفترة: "هم العرب من من انقطاع رسالة سيدنا إسماعيل عليه السلام إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم" (وهذا اختيار الشربيني في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 63)، وهذا القول فيه تخصيص أهل الفترة بالعرب وهذا التخصيص ليس له دليل يستند إليه.

والحق أن أهل الفترة من كان بين رسولين لم يرسل إليهم الأول ولم يدركوا الثاني، وإنما هناك فترات الفترة التي حصلت بين نوح وإدريس عليهما السلام (السراج المنير: 2/ 289).

 والفترة التي حصلت بين عيسى ومحمد عليهما السلام.

ولذا نرى قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: 15) يؤيد ما ذكرناه من ان الفتره عامة، ولم تخصص بقوم من الاقوام، ولا بزمن من الأزمان، وخصوصاً في هذه الآية، التي تخاطب أهل الكتاب عامة واليهود خاصة في أنها نزلت في المدينة، ولا يوجد في المدينة من أصحاب الكتب السابقة إلا هم. (أهل الفترة ومن في حكمهم،ص 57 وما بعدها، بتصرف يسير).

 وأوضح الفترات وأبرزها هي التي كانت ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.

 (ولم يكن بينهما نبيّ. أخرج البخاري في "الصحيح" (6/ 477 -478) (رقم 3442) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي»

أما ما أخرجه ابن سعد في "طبقاته" (1/ 59) عن ابن عباسٍ؛ قال: «كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ولم تكن بينهما فترة، وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي عليه الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء ...»

فهو موضوع، فيه محمد بن السائب. وكذا ما ورد بشأن خالد بن سنان وغيره، من مثل: "ذلك نبيٌّ ضيَّعه قومه"؛ فلم تصح ألبتَّة. 

انظر " السلسلة الضعيفة" (رقم 279 و 281)).

 ووقع اختلاف بين العلماء في مدتها، والراجح انه كان بينهما ستمائة سنة، وبه قال مقاتل عن ابن عباس، ودليله ما جاء في "صحيح البخاري": 

"إن الفترة بين محمد وعيسى عليهما السلام ستمائة سنة". (أخرجه البخاري في "صحيحه" (7/ 277) (رقم 3948) بسنده موقوفاً على سلمان رضي الله عنه).

* أقسام أهل الفترة وتحرير محل النزاع في حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين:

 ينقسم أهل الفترة الى قسمين:

- القسم الأول: من بلغته الدعوة.

- القسم الثاني: من لم تبلغ الدعوة، وبقي على حين غفلة.

ويشمل القسم الأول نوعين، هما:

أولاً: من بلغته الدعوة ووحَّد، ولم يشرك. 

ثانياً: من بلغته الدعوة، ولكنه غيَّر وأشرك.

فممن وحَّد ولم يُشرك بالله شيئاً: قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابني نُفيل، وورقة بن نوفل، وغيرهم؛ فهذا النوع ليس محلآً لنزاع، وذلك لورود النصوص التي تدلُّ على انهم ماتوا على التوحيد. (انظر خبر قس في "البداية والنهاية" (2/ 230)). 

 أما من بلغته الدعوة، ولكنه أشرك وغيَّر ولم يوحِّد؛ كعمرو بن لحُي، وعبد الله بن جدعان، وصاحب المحجن، وما ورد في حق ابويّ النبي صلى الله عليه وسلم، وعَمِّه، وجدِّه؛ فهذا النوعُ ما ينبغي أن يكون محلاً للنزاع أيضاً؛ لأن النصوص الصحيحه وردت في مصيرهم وحالهم، وهذا يقتضي أن الدعوه قد بلغتهم أيضاً.

وأما القسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة من هذا كله؛ فهو محل النزاع بين العلماء اختلفوا فيه على اقوال والصحيح منها الذي ذهب إليه المحققون أنهم يمتحنون بنارٍ في عرصات يوم القيامة. 

الدليل الثاني أحاديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهما به

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى -: هل صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك؟ فأجاب بقوله مجموع الفتاوى (4/ 324):

"لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث؛ بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق =وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر - يعني الخطيب - في كتابه "السابق واللاحق" وذكره أبو القاسم السهيلي في "شرح السيرة" =بإسناد فيه مجاهيل وذكره أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة" وأمثال هذه المواضع؛ فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذباً كما نصَّ عليه أهل العلم.

وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث؛ لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير -وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين؛ فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين:

1-من جهة إحياء الموتى.

2-ومن جهة الإيمان بعد الموت. 

فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب. 

والخطيب البغدادي هو في كتاب "السابق واللاحق  مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد سواء كان الذي يروونه صدقاً أو كذباً.

وابن شاهين يروي الغث والسمين. 

والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل. 

ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع. قال الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} (النساء: 17). 

فبيَّن الله تعالى: أنه لا توبة لمن مات كافراً. 

وقال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} (غافر: 85).

فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص. انتهى (من "مجموع الفتاوى" (4/ 324) وانظر في وضع الأحاديث الواردة في إحياء أبوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "المقاصد الحسنة" (25)، و "مختصر المقاصد" (51)، و "التمييز" (11)، و "اللآلئ المصنوعة" (1/ 266)، و "تنزيه الشريعة" (1/ 332)، و "تذكرة الموضوعات" (87)، و "الغماز على اللماز" (38)، و "كشف الخفا" (1/ 61)، ومقدمة شيخنا الألباني لـ "بداية السول" (16)).

قلتُ: الأحاديث الواردة في شأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من حيث نجاتهما عموماً واحياؤهما خصوصاً، هي: 

اولاً: حديث عائشة وسيأتي لفظه عند المصنف وتكلمنا عليه هناك (ص 91).

 ثانياً: حديث ابن عمر وسيأتي لفظه عند المصنف، وتكلمنا عليه هناك (ص 110).

ثالثاً: أخرج الجورقاني في "الأباطيل" (1/ 222 -223)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 283 -284)، من حديث علي بن أبي طالب رفعه، ولفظه: 

"هبط عليَّ جبريل؛ فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: إني حرَّمتُ النار على صُلبٍ أنزلك، وبطنٍ حملك، وحِجرٍ كَفِلك: عبد الله، وآمنة، وعبد المطلب".

وسنده مظلم، ومتنه موضوع؛ كما قال الذهبي في "أحاديث مختارة" (رقم 67)، وكذا قال في "الميزان" (4/ 368).

وقال الجورقاني: "هذا حديث موضوع باطل"، ونحوه عند السيوطي في "الحاوي" (2/ 224)، و "اللآلئ" (2/ 224)، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/ 322) والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (321).

 رابعاً: أخرج الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 161)، والجورقاني في "الأباطيل" (1/ 236 -237)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 284 -285)، من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "شفعتُ في أبي، وعمّي أبي طالب، وأخي في الرضاعة: ليكونوا بعد البعث هباءً".

قال الجورقاني: "هذا حديثٌ باطل لا اصل له، وليث بن ابي سليم ضعيف ضعيف الحديث، ومنصور بن المعتمر لم يسمع من ليث شيئاً، ولا يروى عنه شيئاً لضعفه، ويحيى بن المبارك شاميٌّ، صنعانيٌّ، وهو مجهول، وخطاب بن عبد الدائم ضعيف يُعرَفُ برواية المناكير عن يحيى بن المبارك".

 وأعلَّه الذهبي في "أحاديث مختارة" (رقم 69) بخطَّاب هذا؛ فقال: "خطَّاب واهٍ". 

وأورد هذا الخبر في ترجمته في "الميزان" (1/ 655) وأقرَّه الحافظ ابن حجر في "اللسان" (2/ 400)، وقالا: "روى عنه محمد بن فارس خبراً باطلاً: "شفعتُ…" رواه عن يحيى بن المبارك وثلاثتهم ضعفاء".

 وحكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع، وأقره السيوطي في "اللآلئ" (1/ 269)، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/ 322)، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (322).

 هذه هي الأحاديث في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى على اللبيب بحالها وجه غرابتها؛ فهي ضعيفةٌ باتفاق المحدثين، وموضوعةٌ عند المحققين، ومخالفة لنصوص الكتاب العزيز كما سبق بيانه عن شيخ الاسلام ابن تيمية، ومعارضة لحديث مسلم في "الصحيح". 

(دافع السيوطي عن الحديث الأول منها، وذكر أنه ضعيفٌ فحسب، فقال في "مسالك الحنفاء" (74): "وهذا الحديثُ ضعيفٌ باتفاق المُحدثين، بل قيل: إنه موضوع، لكن الصواب ضعف لا وضعه، وقد ألَّفتُ في بيان ذلك جزءاً مُفرداً"!!

قلتُ: الحديثُ موضوعٌ على التحقيق كما سيأتي موطنه، وبالرغم من كلام السيوطي السَّايف، فإنه لم يُودعه في كتابه "التعُّقبات على الموضوعات" يسَّر الله إتمامه ونشره بمنِّه وكرمه").

والعجبُ ممن زعم أنَّ حديث الإحياء ناسخٌ لما ورد في ابويّ النبي صلى الله عليه وسلم من أنهما في النار، والنسخُ لا يجوز في الأخبار عند العلماء الأعلام، وإنما هو من مختصات الإنشاء والأحكام؛

وإلا فيلزم الخُلفُ في أخباره، وتَوَجُّهِ البداء في آثاره، وهو متعالٍ عن ذلك علواً كبيراً". (ص 96 -97).

 وفي الأحاديث الأخيرة ذكر لأبي طالب وعبد المطلب!! وقد تعلَّق الشيعةُ بهذه الأخبار وأمثالها في نجاتهما، وخصُّوا الأول منهما بالذكر، وصنَّف بعضهم في نجاته، ولا يسلم لهم بذلك (وقد أتوا بأدلة أوهى من بيت العنكبوت).

 وبيانه فيما يلي:

الأحاديث الواردة في إسلام أبي طالب ونجاته والرد على الشيعة القائلين بذلك

ورد في حديث عن أن أبا طالب أسلم، وتلفظ بكلمة الشهادة! وهو في مرض الموت؛ إلا انه منكر، لا تنهض به حجه، ولا يُعَوَّلُ عليه:

أخرج ابن اسحاق في "السيرة"، ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 346) عن العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال:

"لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه؛ قال له: "يا عم! قل لا اله الا الله؛ كلمة استحلُّ لك بها لك الشفاعة يوم القيامة". قال: يا ابن أخي! والله لولا أن تكون سُبَّة عليَّ وعلى أهلي من بعدي؛ يرون أني قُلتها جزعاً من الموت لقلتها؛ لا أقولها إلا لأسُركَ بها!! فلما ثَقُلَ ابو طالب؛ رؤي يُحرك شفتيه، فاصغى إليه العباس؛ فسمع قوله، فرفع رأسه عنه؛ فقال: "قد قال والله الكلمة التي سألته عنها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع"".

 وهذا إسناد ضعيف لأجل المبهم الذي فيه، والحديث منكر بهذا التمام؛ لأن أبا طالب مات كافراً -كما سيأتي -في الأحاديث الصحيحة.

قال ابن كثير في "السيرة النبوية" (2/ 125): 

"إن في السند مبهماً لا يُعرَفُ حاله، وهو قوله: "عن بعض أهله"، وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد". 

وقال البيهقيُّ عقبه: "إسنادٌ منقطع، ولم يكن أسلم العباس في ذلك الوقت".

وقد رواه النسائي في "سننه الكبرى" كتاب "التفسير" (2/ 216) رقم (456)، وكما في "تحفة الأشراف" (4/ 456)، والترمذي "أبواب تفسير القرآن" (باب: ص، ومن سورة ص) (5/ 365 -366) (رقم 3232)، وابن جرير في "التفسير" (23/ 79)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 432)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 345)، و "السنن الكبرى" (9/ 188) من طريقه سفيان، عن الاعمش، حدثنا يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ولم يذكر الزيادة الباطلة فيه - ولفظه، قال: "مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية. قال: كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة قال: يا عم يقولوا: لا إله إلا الله فقالوا: إلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن: {ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق}، إلى قوله: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} (ص : 1 -7)".

قال الترمذي: "هذا حديث حسن". ونقل عنه المزي في "التحفة"، أنه قال فيه: "حسن صحيح"، وقال أيضاً: "وروى يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن الأعمش نحو هذا الحديث، وقال يحيى بن عمارة: حدثنا بندار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان نحوه عن الأعمش".

وأخرجه أحمد في المسند (1/ 362)، وابن جرير في "التفسير" (23/ 79)، والنسائي في "التفسير" (2/ 218)، رقم (457)؛ من طريق أبي أسامة عن الاعمش عن عباد بن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

 قلتُ: وهذا خلافٌ لا يَضرُّ عن الاعمش؛ فقد يكون رواه عن الاثنين.

 إلا انه وقع خلاف في اسم شيخه الأول، فقال عبد الحميد كما عند الترمذي: "يحيى بن عبَّاد"، وجزم البخاري وغيره أنه: يحيى بن عماره.

قلتُ: وهو مجهول، لم يرو عنه غير الاعمش.

ومنه تعلم ما في قول الحاكم في الطريق الأول: "صحيح الإسناد"!! وموافقة الذهبي له في "التلخيص"!! 

إلا أن الحديث الصحيح؛ لمتابعة عبَّاد بن جعفر له.

وثبت هذا الحديث أن أبا طالب لم يقل كلمة الشهادة، ويؤكده زيادة ابن جرير في آخره كما في التفسير (23/ 80 -81) بسند معضل:

"فلما خرجوا؛ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّه إلى قول: لا إله إلا الله، فأبى، وقال: بل على دين الأشياخ! ونزلت: {إنك لا تهدي من أحببتَ} (القصص: 56)".

وقد وردت أحاديث كثيرة، فيها التصريح بموت أبي طالب على الكفر، منها:

أولاً: أخرج البخاري، كتاب التفسير، (باب: {وما كان للنَّبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (8/ 341)، رقم (467)، و (باب: {إنَّك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء} (8/ 506) (رقم 772)، ومسلم، كتاب الإيمان، (باب الدليل على صحة إسلام من حضرة الموت، ما لم يشرع في النَّزع -وهو الغرغرة -ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم، ولا يُنقذه من ذلك شيءٌ من الوسائل)، (1/ 54) (رقم 24)، والنسائي في "السنن الكبرى"، كتاب التفسير (1/ 561)، رقم (250)، و (2/ 144) (رقم 403)، وكما في "تحفة الأشراف" (8/ 387)، و"المجتبى" (4/ 90 -91)، وأبو عوانة في "المسند" (1/ 14 -15)، وأحمد في "المسند" (5/ 433)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3/ 187)، وابن منده في "الإيمان" (رقم 37)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 987 -الإحسان)، وابن جرير في "التفسير (11/ 30  و20/ 59)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 342 -343)، والبغوي في "شرح السُّنة" (5/ 55، 59)، وابن البناء في "فضل التهليل" (رقم 47)، والواحدي في "أسباب النزول" (177)، من طرق عدَّة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبيه -وهو المُسيَّب بن حَزَن -قال:

"لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أُميَّة بن المُغِيرَة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي عمِّ، قُلْ: لا إله إلا الله؛ كلمةً أُحاجُّ لكَ بها عند الله"؛ فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أُميَّة: "يا أبا طالب، أترغبُ عن مِلَّةِ عبدالمطَّلِب؟".

فلم يَزَل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَعرضها عليه، ويُعيدانه بتلك المقالة، حتَّى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: "هو على مِلَّةِ عبدالمطَّلِب"، وأَبَى أن يقول: لا إله إلا الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا والله لأستغفِرَنَّ لكَ، ما لم أُنْهَ عنكَ"؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113).

وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56)".

وهذا لفظ البخاري في الموطن الثاني.

وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 335 -336) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة!!

وقال: "صحيح الإسناد"!!

ووافقه الذَّهبيّ!!

قلتُ: سفيان بن حسين ثقة، إلا في الزهري، وقد خالف من هو أكثر منه عدداً وأوثق منه من أصحاب الزهري، فجعله من مسند أبي هريرة، والصواب أنه من مسند المسيب بن حزن.

نعم، صحَّ الحديث عن أبي هريرة بهذا المعنى، ولكن من طريق أخرى.

ثانياً: أخرج مسلم في "الصحيح" (1/ 55) (رقم 25)، وأبو عوانة في "المسند" (1/ 15)، وأحمد في المسند (2/ 434)، والترمذي في "الجامع" (5/ 341) (رقم 3188)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 6237 -الإحسان)، وابن منده في "الإيمان" (رقم 38 و 39)، وابن جرير في "التفسير" (20/ 58)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 344 -345) من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة"، قال لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررتُ بها عينك؛ فأنزل الله {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56)".

ثالثاً: أخرج البخاري في «الصحيح» (7 / 193) (رقم 3883) و(10/ 592) (رقم 6208) و(11/ 419) (رقم 9572- مختصراً)، ومسلم في «الصحيح» (1 / 194 - 195 و195) (رقم 209)، وأحمد في «المسند» (1 / 206 و 207 و 210)، والحميدي في «المسند» (1/ 219)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13 / 165)، وعبدالرزاق في «المصنف» (6 / 41) (رقم 9939)، وابن منده في «الإيمان» (رقم 958 و961)، وأبو يعلى في «المسند» (12 / 53 و54 و78) (رقم 6694 و 6695 و6715)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»  (105 - عبد الله بن ثُوَب)، والجورقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (1 / 273- 238)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2 / 346)، و«البعث والنشور» (رقم 10 و 11 و 12)، من حديث العباس بن عبد المطلب؛ قال:

 «يا رسول الله! هل نفعت ابا طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (نعم؛ هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار)» .  

وهذا يبين بطلان ما نسب إلى العباس في الرواية السابقة من أنه سمع أبا طالب يقول كلمة التوحيد، فلو كان سمع؛ لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال، وهذا واضح بين جدا.  

قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (4 / 117) معلقاً على حديث العباس هذا:  

«فهذا هو الصحيح، يرد الرواية التي ذكرها ابن إسحاق، إذ لو كان قال كلمة التوحيد؛ ما نهى الله تعالى نبيه عن الاستغفار له، وهذا الجواب أولى من قول من أجاب بأن العباس ما أدى هذه الشهادة وهو مسلماً، وإنما ذكرها قبل أن يُسلم، فلا يعتد بها».  

رابعاً: أخرج البخاري في «الصحيح» (7 / 193) (رقم 3885)  و (11 / 417) (رقم 6564)، ومسلم في «الصحيح» (1 / 195) (رقم 210)، وأحمد في «المسند» (3 / 9 و50 و55)، وابن حبان في «الصحيح» (رقم 9238- الإحسان)، وأبو يعلى في «المسند» (2 / 512) (رقم 1360)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2 / 347) و «البعث والنشور» (رقم 9)، والجورقاني في «الأباطيل» (1 / 238)؛ من حديث أبي سعيد الخدري: 

«أن رسول الله ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه؛ يغلي منه دماغه)» .  

وظهر من حديث العباس السابق وقـوع الترجي الوارد في هذا الحديث، واستشكل ذلك بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر 48). 

وأجيب بأنه خُصَّ، ولذلك عدوُّهُ في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الأية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية: الإخراج من النار، وفي الحديث: المنفعة بالتخفيف .  

خامساً: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (3 / 269 و 347، 12/ 67)، وعبدالرزاق في «المصنف» (6 / 39)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (1 / 124)، وأحمد في «المسند» (1 / 97 و131)، والنسائي في «السنن الكبرى» (1 / 110 و115) و«المجتبى » (1 / 110 و4/ 79 -80)، و «خصائص علي» (رقم 149)، وأبو داود في «السنن» (3 / 214) (رقم 3214)، والطيالسي في «المسند» (رقم 122)، والشافعي في «المسند» (1 / 209 - بدائع المنن)، وابن الجارود في «المنتقى» (رقم 550)، وأبو يعلى في «المسند» (1 / 334- 335) (رقم 423)، وابن خزيمة؛ كما في «الإصابة» (4 / 117)، وابن حزم في «المحلى» (5 /  123)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1 / 110 و 304 و 398) و «دلائل النبوة» (2 / 103)، والخطيب في «تلخيص المتشابه» (2 / 632)، وابن سيد الناس في «عيون الأثر» (1 / 132)؛ من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه؛ قال:  

«لما مات أبو طالب، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات، فقال: «اذهب فواره». فقلت: إنه مات مشركاً. فقال: (اذهب فواره، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينى)»  

قال: «فواريته، ثم أتيته، فأمرني، فاغتسلت، ثم دعا بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء».  

وقد أعلّه بعضهم بعدة علل؛ منها: ضعف ناجية بن كعب.  

وقد ضعفه البيهقي في «السنن الكبرى» (1 / 204) به؛ بما نقله عن ابن المديني أن ناجية لم يرو عنه غير ابي إسحاق!! وأن ناجية لم تثبت عدالته عند صاحبي «الصحيح !! وليس فيه انه غسله!!  

وتبعه النووي في «المجموع» (5 / 144)، وحكم على الحديث بالضعف!  

وربما يقال زيادة على كلام البيهقي: إن أبا إسحاق كان مدلساً، وهو ذلك مختلط، وقد انفرد به!!  

وهذه جميعاً  ليست بعلل، وبيان ذلك :  

أما عن ضعف ناجية؛ فقد قال فيه ابن معين: «صالح» .  

وقال أبو حاتم - كما في «الجرح والتعديل» (4 / 1 / 486)-: «شيخ».

ثم إن ما قاله ابن المديني من تفرد أبي إسحاق بالرواية عنه غير صحيح ؛ لأنه روى عنه أبو حسان الأعرج. ذكر ذلك البخاري في «التاريخ» (4/ 2/ 107)، وكذا روى عنه عمرو بن يونس.  

وقد نقل ابن حجر كلام البيهقي في «التلخيص الحبير» (2 / 114)، ولم يرض به، فقال:  

«ومدار كلامه انه ضعيف، ولا يتبين وجه ضعفها وقد قال الرافعي: إنه ثابت مشهور».  

هذا؛ وقد وثق ناجية: ابن حبان في «ثقاته»، والعجلي في «تاريخ الثقات» (1671).  

أما كون البخاري ومسلم لم يحتجا به؛ فليس هذا بقادح؛ لأنهما لم يلتزما أن يخرجا لكل ثقة .  

أما القول بأن أبا إسحاق مدلس؛ فنعم، ولكنه صرح بالتحديث من جهة، وممن روى عنه شعبة من جهة ثانية، وقد صح عنه -أي : شعبة -أنه قال:  

«كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وقتادة، وأبي إسحاق السبيعي».  

أما القول بأنه قد اختلط؛ فيجاب عنه بأن سفيان الثوري رواه عنه، وكان اوثق الناس فيه، ورواه عنه أيضاً إبراهيم بن طهمان، وكان قديم السماع منه.  

أما القول بأنه تفرد به! فلا يضر تفرده في السند هذا، فكيف إذا  تُوبع؟!  

فقد أخرجه أحمد في «المسند» (1١ / 103)، وابنه عبد الله في «زوائد المسند» (1 / 129)، وأبو يعلى في «المسند» (1 / 335- 336) (رقم 424)، وابن عدي في «الكامل» (2 / 738- 739)، والبزار في «البحر الزخار» (2/ 207) (رقم 592)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 304 و 305)؛ من طريق الحسن بن يزيد الأصم، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّذي عن أبي عبد الرحمن السُّلمي عن علي به؛ إلا البزار؛ فمن طريق: الأصم، عن السدي، عن سعد بن عبيدة، عن علي .  

ونص الدارقطني في «العلل» (رقم 484) أن القول الأول أصح، وأن زيادة «سعد بن عبيدة» وهم .  

وقد صحح شيخنا في «أحكام الجنائز» (134) هذا الإسناد، وهو كما قال.  

بقيت علة لم نتكلم عليها، أوردها البيهقي من طريق ناجية بن كعب السابق؛ قال:  «وليس فيه انه غسله».  

فهو كذلك، ليس في طرق حديث ناجية، وقـد جاء في حديث الشعبي عن علي؛ كما عند: ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 348)، والطيالسي في «المسند» (121)، والنسائي في «خصائص علي» (رقم  150- مختصرا)» بإسناد حسن، وهو مرسل إن لم يكن الشعبي قد سمعه من علي، وإلا فقد سمع منه حرفاً ما سمع غيره؛ كما قال الدارقطني، واخرج له البخاري حديثاً عن علي؛ كما في «النكت الظراف» (7 / 75).  

وقد يُقال: إن أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم علياً بالغسل ليس لغسل الميت؛ لما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 347) عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليِّ: (وذكر الحديث).

وفيه: "فانطلقتُ، فواريتُه، ثم رجعتُ إليه وعليَّ أثر التراب والغبار".

والحديث السابق فيه دلالة صريحةٌ على أن أبا طالب مات كافراً.

سادساً: أخرج أبو يعلى في "المسند" وعمر بن شبَّه في "كتاب مكة"، وأبو بشرٍ سمويه في "فوائده"؛ كما في "الإصابة" (4/ 116)؛ كلهم من طريق محمد بن سلمة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس في قصَّة إسلام أبي قحافة؛ قال:

"فلما مدَّ يده بايعه؛ بكى أبو بكرٍ؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما يُبكيك؟" قال: لأن تكون يدُ عمّك مكان يده، ويُسلمُ، ويقرُّ الله عينك، أحبُّ إليَّ من أن يكون".

قال الحافظ: "وسنده صحيح".

وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 160)، وأبو يعلى في "المسند" (5/ 216 -217) (رقم 2831)، والبزار في "المسند" (3/ 373 -374) (رقم 2981 -كشف الأستار)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1476 -موارد)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 244 -245)، من الطريق المذكورة، واقتصروا على إسلام أبي قحافة، ولم يرد للشاهد ذكرٌ فيه.

قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"!!

ووافقه الذهبيُّ.

وليس كما قالا؛ لأن محمد بن سلمة الباهلي لم يُخرج له البخاريُّ شيئاً، فالحديث على شرط مسلم.

وقال الهيثميُّ في "المجمع" (5/ 159 -160):

"رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح".

قال الحافظ في "الإصابة" (4/ 117):

"وأما قول أبي بكر فمراده لأنا كنت أشدّ فرحا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، أي لو أسلم. ويبين ذلك:

ما أخرجه أبو قرّة موسى بن طارق، عن موسى بن عبيدة، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: جاء أبو بكر بأبي قحافة يقوده يوم فتح مكة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ألا تركت الشّيخ حتّى تأتيه؟» قال أبو بكر: أردتُ أن يأجُرَه اللَّه، والّذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام أبي طالب لو كان أسلم مني بأبي".

وأخرج أحمد في "المسند" (رقم 20 -ط. شاكر)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 273)، وابن البنّاء في "فضل التهليل" (رقم 48)؛ من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنها؛ قال:

"يا رسول الله! ما نجاةُ هذا الأمر الذي نحنُ فيه؟ قال: (من قَبِل منِّي الكلمة التي عرضتها على عمِّي فردَّها عليَّ، فهي له نجاة)".

وهذا حديثٌ حسن، وحول إسناده تعليلٌ مُطوّل لا يتسع المقام لسرده وبيانه، شرحه الدارقطني في "العلل" (1/ 171 -175)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 273) فانظره.

ثم قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (4/ 118):

"ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعا فينجو، لكن ورد في أبي طالب ما يدفع ذلك، وهو ما تقدم من آية براءة، وما ورد في الصحيح… " وساق حديثه، ثم قال:

"فهذا شأن من مات على الكفر، فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلاً، والأحاديث الصحيحة، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك".

وقال في "فتح الباري" (7/ 195):

"وَوَقَفْتُ عَلَى جُزْءٍ جَمَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرَّفْضِ، أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ".

قلتُ: ومما استدلَّ به الرافضيُّ على نجاة أبي طالب قول الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)؛ قال:

"وقد عزَّره أبو طالب بما اشتُهر وعُلم، ونابذ قُريشاً بسببه، مما لا يدفعه أحدٌ من نقلة الأخبار، فيكون من المفلحين. انتهى" !!

وتعقَّبه الحافظ في "الإصابة" (4/ 118)؛ فقال:

"وهذا مبلغهم من العلم، وإنا نسلم أنه نصره وبالغ في ذلك، لكنَّه لم يتبع النّور الّذي أنزل معه، وهو الكتاب العزيز الداعي إلى التوحيد، ولا يحصل الفلاح إلا بحصول ما رتب عليه من الصفات كلها".

وقد حاول عبثاً الشيخ محمد باقر المحمودي دفع تهمة الكفر عن أبي طالب في تعليقه على "خصائص علي" (ص 266 -273)، واستدلَّ بأمورٍ تضحك منها الثكلى، فأتى بروايات لا أزمَّة لها ولا خُطُم، وعارض بها الروايات الصحيحة، وهذا يدلُّ على جهله وقلَّة فهمه، وعلَّق عليه بكلامٍ يُفسَّقُ فيه أبا بكر وعمر، بل ويشتمُّ منه تكفيرهما!!


وصنَّف بعض غلاة الروافض كتاباً سمَّاه "أسنى المطالب في نجاة أبي طالب" ملأه بالحشو والبُهت والافتراء على أهل السُّنة، وردُّه يحتاج إلى كتابٍ مُستقل.

وحاصل ما تقدَّم أن الروايات الصحيحة نصَّت على كفر أبي طالب، وعليه أهل السُّنة. انظر النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة (ص 160).

قال ابن عساكر في "صدر ترجمته":"قيل إنه أسلم!! ولا يصحُّ إسلامه".

وقال الحافظ ابن كثيرٍ في "السيرة" (2/ 132) بعد أن قرَّر أن أبا طالب مات كافراً؛ قال: "ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه".

اعتراض ودفعه  

من اللازم عليَّ أن أشير هنا إلى أمرٍ طالما سمعناه من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنهم يقولون: إن القول بأن ابوي النبي -صلى الله عليه وسلم -في النار إنما فيه سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

والجواب من وجوه:  

أولاً: إن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اتباع أمره، واعتقاد ما أخبر به، وسوء الأدب هو اجتناب هديه، ومصادمة قوله صلى الله عليه وسلم.  

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} (الحجرات: 1)  

وما أحسن ما قاله الشيخ عبد الرحمن اليماني رحمه الله -تعليقاً على حديث إحياء أبـوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورده الشوكاني في «الأحاديث الموضوعة» (ص ٣٢٢)؛ قال في تعليقه عليه:  

«كثيرا ما تجمح المحبة ببعض الناس، فيتخطى الحجة، ويحاربها، ومن وُفِّقَ علم أن ذلك مناف للمحبة المشروعة، والله المستعان» واستحسن شيخنا الألباني هذا الكلام من الشيخ اليماني رحمه الله تعالى في مقدمته لـ «بداية السول» (ص ١٦) للعز بن عبدالسلام.  

ثانياً: إن القول بنجاة والدي النبي صلى الله عليه وسلم هو هدم صريح لقاعدة قواعد الاعتقاد، وهي أن الإيمان هو الشرط الأول لدخول الجنة، وغير ذلك إنما هو من تلبيس الشياطين، فمجرد النسبة العرقية لوالدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها هي مفتاح الجنة: تقول على الله بغير علم، وهدم لقاعدة الاعتقاد التي قدمنا.  

ثالثاً: لقد جرَّ هذا الاعتقاد بعض القائلين به؛ مثل البيجوري وغيره من أمثاله إلى الحكم بنجاة كل أصول النبي صلى الله عليه وسلم: أبويه، وما علا من أجداده من جهة أبيه وأمه، ولذلك قال البيجوري في «الجوهرة» (٢٩):  

«إذا علمت أن اهل الفترة ناجون على الراجح، علمت أن أبويه هو ناجيان؛ لكونهما من أهل الفترة، بل جميع آبائه وأمهاته ناجون، ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر، ولا… ولا… ولا  »!!.

وهذا مردود بحديث المسيب المتقدم قريباً، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب: «يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله). فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟. ..».  

فلو كان عبد المطلب -جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- مؤمناً لسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أن المشركين إنما يطلبون ما يطلب! ولكنه لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض التوحيد على أبي طالب، ويعيد له مقالته بقوله: «قل لا إله إلا الله»، أو كان بيَّنَ لهم أن جده على خلاف ما يعتقد أبو جهل ومن معه، وحينئذ يهتبلها فرصة في دعوة عمه إلى ما كان عليه ابوه، ولكنه لم يفعل"!!

 انظر: الرد الأثري المفيد على البيجوري في شرح جوهرة التوحيد (ص 89). والحديث الوارد في إيمان عبد المطلب موضوعٌ كما تقدم.

وتقدمت الأحاديث الواردة في إيمان عمِّه أبي طالب، وبيان أنه لم يصحَّ منها شيء.

أقوال بعض العلماء في أبويِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

سبق وأن نقلنا عن المصنف إجماع السلف والخلف على عدم نجاة أبويّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإليك أقوال بعض العلماء المحققين، الوارداة في هذا الموضوع:

1-الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، قال في "دلائل النبوة" (1/ 192 -193) بعد أن سرد جملةً من الأحاديث تدلُّ على أنهما في النار:

"وكيف لا يكون أبواه وجده بهذه الصفة في الآخرة، وكانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام وأمرهم لا يقدح في نسب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد، ولا مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الإسلام؟ وبالله التوفيق".

وقال في "السنن الكبرى" (7/ 190): "وأبواه كانا مشركين".

وسرد الأدلة على ذلك، ولم يتعقَّبه ابن التركماني في "الجوهر النَّقي" بشيء.

2- الإمام الطبري: اختار في "تفسيره" قراءة الجمهور في قوله: {ولا تُسألُ عن أصحاب الجحيم} (البقرة: 119) بالمبني للمجهول، بناءً على "استحالة الشكِّ من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم". تفسير الطبري (1/ 516).

فهو رحمه الله يُقرر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يشكَّ في مصير أبويه، وأنهما من أهل الشرك.

3- الإمام ابن تيمية، وتقدَّم كلامه بحروفه.

4- الإمام النووي، قال في شرحه على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبي وأباك في النَّار" ما نصُّه: 

"فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين.

 وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان؛ فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار)، هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة" شرح النووي على مسلم (1/ 79).

موقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أبوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم

قال الإمام علي القاري في أول هذه الرسالة:

"قد قال الإمام الأعظم والهمام الأقدم في كتابه المعتبر المعبر ب الفقه الأكبر ما نصه: ووالدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر" ص 68.

وقال أيضاً: 

"ثم هذه المسألة لو لم تكن في الجملة من المسائل الإعتقادية لما ذكرها الإمام المعظم المعتبر في ختم (فقهه الأكبر)" ص 149.

ونقل أن بعض معاصريه من الحنفية عارضه، وقال:

"ثم من الوقائع الغريبة في الأزمنة القريبة أن بعض علماء الحنفية مع انه بلغ الغاية القصوى في مرتبة الفتوى أفتى تبعاً للسيوطي وجمع من الشافعية مع اطلاعه على عقيدة إمام الملة الحنيفية ولم يرجع عنه…" ص 148.

فهذه نقولٌ صريحةٌ عن الإمام أبي حنيفة، ولكن مع هذا شكَّك بعضهم فيها، فزعم أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى، قال في "الفقه الأكبر": 

"ووالدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ماتا على الكفر". 

بتكرار "ما" مرتين انظر "الإمام علي القاري وأثره في علم الحديث" ص (106 -112).

ويبقى الأمران -على صحة فرض القول الثاني -محتملان، والذي ينبغي الجزم به ما وافق الدليل، وانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال، ليتبين لك حقيقة الحال" انتهى كلام القاري، انظر ص 131. 

رسالة "أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام"

وموقف الإمام علي القاري من أبوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم

قبل أن يكتب الإمام علي بن سلطان محمد القاري رسالته هذه كان قد تعرض لهذه المسالة بكلام موجزٍ لا قطع فيه؛ فقال معلقاً على زياره النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه وقوله: "استاذنت ربي ان استغفر لها فلم ياذن لي واستاذنته في ان ازور قبرها فاذن لي"، قال ما نصُّه:

 "وهذا الحديث الصحيح صريح أيضا في رد ما تشبث به بعضهم بأنهما كانا من أهل الفترة، ولا عذاب عليهما مع اختلاف في المسألة، وقد صنف السيوطي رسائل ثلاثة في نجاة والديه - صلى الله عليه وسلم - وذكر الأدلة من الجانبين، فعليك بها إن أردت بسطها" مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1256).

ففي هذا النص إشارةٌ إلى قبول الإمام القاري لرسائل السيوي، حيث أحال عليها لمن أراد بسط هذه المسألة، ونجده يميلٌ إلى ما فيها في موطنين من شرحه على "الشفا"، قال في الأول منهما:

"وأبو طالب لم يصح اسلامه، وأما اسلام أبويه؛ ففيه أقوالٌ، والأصحُّ اسلامهما على ما اتفق عليه الأجلة من الأمة -كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة" شرح الشفا للقاري (1/ 605).

وقال في الآخر:

"وأما ما ذكروا من احيائه عليه الصلاة والسلام أبويه -فالأصح أنه وقع على ما عليه الجمهور الثقات كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفات" شرح الشفا (1/ 651.

وفي صحة هذين النقلين لديَّ نظر؛ إذ نقل القاري نفسه في رسالته هذه -وهي له باتفاقٍ ويقين -أن الإجماع على عدم إسلامهما، وأنه على ضعف حديث إحيائهما كذلك، فكيف يقول هنا في إسلامهما: "اتفق عليه الأجلَّةُ من الأُمَّة" ؟! ويقول في إحيائهما: "عليه الجمهور الثقات"؟! هذا تناقض واضح.

ويتقوى هذا التشكيك إذا علمنا أن المُحبّي نقل في "خلاصة الأثر" (3/ 186) عن السيد محمد البرزنجي الحسيني في كتابه "سداد الدَّين وسداد الدِّين في إثبات النجاة في الدرجات للوالدين" ملامته للشيخ القاري، ومما نقله عنه: "ثم إنه ما كفاه ذلك حتى ألّف رسالة، وقال في شرحه لـ"الشفا" متبجحاً ومفتخراً بذلك: إني ألفتُ في كفرهما رسالة" وهذا ما يُوافق ما في سائر كتبه، وهو الصحيح.

والأمر ظاهرٌ بالنسبة إلى رأي الإمام القاري في هذه المسألة، فإنه أفردها في هذه الرسالة، فضلاً عن أن مستنده في كلامه السابق على رسائل للسيوطي، فلعله لم ينظر فيها نظرة المحقق المتمعّن، فأحال عليها!

فلما تبيَّن له وهاءها، وأنها لم تُقم إلا على معارضة الأدلة الصريحة الصحيحة، كتب رسالته هذه، فإنه رحمه الله تعالى اعتنى بكلام السيوطي عنايةً خاصَّة، وردَّه فقرةً فقرة، بالحجة والدليل والبرهان، وقال فيه:

وهذا كما لا يخفى معارضة لما ثبت في الكتاب والسنة ومناقضة لما صرح بإشراكهما فيما سبق من صاحب النبَّوة؛ فما ذكره -يعني السيوطي -من تطويل البحث وتكثير الأدلة غير مفيد له في هذه القضية مع ظهور التناقض في كلامه لتحصيل مرامه" (ش، ص 91).

ويقول شارحاً قول الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى -في الفقه الأكبر": "ووالدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر": ما نصُّه:

"هذا رد على من قال بأن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الإيمان، أو ماتا على الكفر، ثم أحياهما الله تعالى، فماتا في مقام الإيقان، وقد أفردتُ  لهذه المسألة رسالةً مُستقلة، ودفعتُ ما ذكره السيوطي في رسائله الثلاث في تقوية هذه المقالة، بالأدلة الجامعة المحققة من الكتاب والسنة والقياس وإجماع الأمة، ومن غريب ما وقع في هذه القضية، إنكار بعض الجهلة من الحنفيَّة عليَّ في بسط الكلام، بل أشار إلى أنه غير لائقٍ بمقام الإمام …" شرح الفقه الأكبر، القاري (ص 130).

وهذا نصٌّ في موقف الإمام علي القاري من هذه المسألة، ولا داعي للإطالة في تقرير الواضحات:

وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ … إذا احتاج النَّهارُ إلى دليل

توثيق نسبة الرسالة لمصنفها  

من النص السابق يتبين لنا أن هذه الرسالة صحيحة النسبة لمصنفها، إذ ذكرها المصنف في كتابه «شرح الفقه الأكبر»، وكذلك ذكرها في «شم العوارض في ذم الروافض»، فقال بعد مقولة أبي حنيفة في «الفقه الأكبر»:  

"إن النبي صلى الله عليه وسلم مات على الإيمان، ووالداه ماتا على الكفر" ما نصه: «وقد بينت المسألتين، وأوضحت المقالتين المشكلتين، في محلهما من الرسالتين المستقلتين، وذكرت فيهما وفي غيرهما من تأليفاتي من «المرقاة شرح المشكاة»، ورسالة «المقدمة السالمة في حسن الخاتمة»، و «ضوء المعالي شرح بدء الأمالي»، و«شرح الشفا في حقوق المصطفى»: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الشرك  السابق والكفر اللاحق؛ كما هو معلوم من الكتاب والسنة، ومنعقدٌ عليه إجماع الأمة" شم العوارض (ص 52 -53).  

وكذلك ذكرها في «المقدمة السالمة في خوف الخاتمة»، فقال معلقاً على مقولة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى:  

"وأما المسالة المتقدمة فقد كتبت فيها رسالة مستقلة.. ." المقدمة السالمة (ص 18).  

وذكرها له غير واحد؛ منهم المحبي في «خلاصة الأثر»؛ قال بعد كلام:  

«وأعجب من ذلك ما نقله عنه السيد محمد بن عبدالرسول البرزنجي الحسيني في كتابه «سداد الدين وسداد الذين في إثبات النجاة في الدرجات للوالدين» أنه شرح «الفقه الأكبر» المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وتعدى فيه طوره في الإساءة في حق الوالدين، ثم  إنه ما كفاه ذلك، حتى ألف فيه رسالة، وقال في «شرحه للشفاء متبجحاً ومفتخراً بذلك: إني ألفت في كفرهما رسالة فليته إذا لم يراع حق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث آذاه بذلك؛ كان استحيى من ذكر ذلك في «شرح الشفا»، لموضوع لبيان شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم»!! خلاصة الأثر (3/ 186).

[في صحة نسبة كتاب "الفقه الأكبر" للإمام أبي حنيفة رحمه الله وقفة؛ لأنه متضمن مسائل م يكن الخوض فيها معروفا في عصره، ولا العصر الذي سبقه، على أن عدداً غير قليل من مسائله يؤيدها ما تناثر في كتب الفقه والتراجم من نقول عن الإمام وقد نسب الكتاب الإمام الذهبي في «العلو» إلى أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة وفقهائهم]

ثم قال :  

"وقد قيض الله تعالى الإمام عبد القادر الطبري للرد على القاري، فألف رسالة أغلظ فيها في الرد عليه، وبالجملة؛ فقد صدر منه أمثال ما ذكر، كان غنياً عن أن تصدر عنه، ولولاها؛ لاشتهرت مؤلفاته، بحيث ملأت الدنيا؛ لكثرة فائدتها، وحسن انسجامها" خلاصة الأثر (3/ 186).

وقد انتقده بذلك أيضا الشيخ محمد المرعشي، المعروف (ساجاقلي زاده) في رسالته «الفرح والسرور»!! [توجد منها نسخة في مكتبة يوسف أغا في مونيا (رقم 5995)، واخرى في مكتبة كوبرلي في (مجموع - رقم 337) من المجموعة الثانية التي وقفها الحاج أحمد باشا].

قلتُ: هذه من جملة المؤاخذات التي أخذت على المصنف رحمه الله تعالى [كما أخذ عليه اعتراضه على الإمام مالك في مسألة إرسال اليدين في الصلاة، وعلى الإمام الشافعي، وانظر ما سنذكره في ترجمة المصنف].  

وكان رحمه الله تعالى: «قامعا للبدع والخرافات، متمسكا بالكتاب والسنة، متبعا لطريقة السلف الصالح، وكان يقول في ضوء الأدلة من الكتاب والسنة، ويرد ما يخالفه ويعترضه مهما كانت منزلة قائله من العلم والعمل، وهذا كان شأنه وعادته فى البحث والتأليف، ولذلك قدحوا فيه، واعترضوا عليه؛ فإنه لم يكن أبداً ليخالف ما يجده خطا؛ تكبرا، أو أنانية، أو طلباً للاشتهار أو الارتزاق، أو تقربا من الأمراء، وذلك لأنه كان عازفاً عن المال والمنصب، وإنما كان يهدف إلى خدمة العلوم الشرعية، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل»" انظر: الإمام علي القاري وأثره في علم الحديث (ص 97 وما بعدها).  

وذكر هذه الرسالة ونسبها للإمام القاري: اللكنوي في «التعليقات السنية على الفوائد البهية» (ص 8 -9)، وخليل إبراهيم قوتلاي في كتابه «الإمام علي القاري وأثره فى الحديث» (ص 120).

الرد على السَّيوطي من كتاب علي القاري

والعجب من الشيخ جلال الدين السيوطي مع إحاطته بهذه الآثار التي كادت أن تكون متواترة في الأخبار، أنه عدل عن متابعة هذه الحجة وموافقة سائر الأئمة، وتبع جماعة من العلماء المتأخرين وأورد أدلةً واهية في نظر الفضلاء المعتبرين.

- منها: أن الله سبحانه أحيى به أبويه حتى آمنا به مستدلاً بما أخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" والخطيب البغدادي في "السابق واللاحق" والدارقطني وابن عساكر كلاهما في "غرائب مالك" بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: "حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم ؛فنزل فمكث عني طويلا، ثم عاد إليَّ وهو فرحٌ، فتبسم، فقلتُ له: فقال: ذهبتُ لقبر أمي، فسألتُ الله أن يحييها فآمنت بي وردها الله عز وجل"

وهذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين كما اعترف به السيوطي، وقال ابن كثير: إنه منكر جدا ورواته مجهولون.

(والحديث: أخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 656) ومن طريقه الخطيب البغدادي في "السابق واللاحق" (377 -378)، وعنه الجورقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/ 222)، والدارقطني وابن عساكر كلاهما في "غرائب مالك"؛ كما في "لسان الميزان" (4/ 305)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (283 -284)، وقال:

"هذا حديث موضوع بلا شك … ومحمد بن زياد هو النقاش وليس بثقة وأحمد بن يحيى ومحمد بن يحيى مجهولان وقد كان أقوام يضعون أحاديث ويدسونها في كتب المغفلين فيرويها أولئك. 

وقال شيخنا أبو الفضل بن ناصر: هذا حديث موضوع وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ودفنت هناك وليست بالحجون".

وقال الجورقاني: "هذا حديثٌ باطل".

ثم ذكر أقوال أهل العلم في تضعيف عبد الرحمن بن أبي الزناد، ثم قال: "عبد الوهاب بن موسى هذا متروك، وأحمد بن يحيى، ومحمد بن يحيى مجهولان، ومحمد بن الحسن بن زياد هذا هو أبو بكر النقاش المقرئ، في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة.

وقال الذهبيُّ في "الضعفاء" (3/ 412) في ترجمة عبد الوهاب بن موسى: "عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، نكرة، والخبر: "أحيى الله لي أمي، فآمنت بي" والسند ظُلمة.

وقال في ترجمته في "الميزان" (2/ 684): "لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب، فإن هذا الحديث كذبٌ، مخالفٌ لما صحَّ أنه عليه السلام استأذن ربَّه في الاستغفار، فلم يأذن له".

وتعقبه الحافظ في "اللسان" (4/ 91)؛ فقال: "تكلم الذهبيُّ في هذا الموضوع بالظن، فسكت عن المُتهم بهذا الحديث، وجزم بجح القوي".

وقال: "عبد الوهاب بن موسى ليس به بأس".

وذكر أن محمد بن يحيى معروف، له ترجمةة جيدة في "تاريخ مصر" لابن يونس، والذي رماه الدارقطني هو أبو غزيَّة محمد بن يحيى الزهري، وأما أحمد بن يحيى فلم يظهر من سند النقاش ما يتميَّزُ به".

ونقل في اللسان" (4/ 305) عن ابن عساكر، أنه قال فيه: "هذا حديث منكر من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري المدني عن مالك، والكعبي مجهول، والحلبي صاحب غرائب ولا يُعرف لأبي الزناد رواية عن هشام، وهشام ولم يدرك عائشة فلعله سقط من كتابي عن أبيه انتهى".

"ولم ينبه على عمر بن الربيع ولا على محمد بن يحيى وهما أولى أن يلصق بهما هذا الحديث من الكعبي وغيره".

وقال الذهبيُّ في "أحاديث مختارة من موضوعات الجورقاني وابن الجوزي" (رقم 68): "وبسندٍ وضع على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة… وساقه".

وانظر: اللآلئ المصنوعة" (1/ 266)، و"تنزيه الشريعة" (1/ 332)، و"المقاصد الحسنة" (25)، و"مختصر المقاصد" (51)، و"التمييز" (11)، و"كشف الخفا" (1/ 61)، و"تذكرة الموضوعات" (87)، و"الغماز على اللماز" (28)).

(وقال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/ 167): "والحديث المرويُّ في حياة أبويه عليه السلام، ليس في شيء من الكتب الستة، ولا غيرها، وإسناده ضعيف، والله أعلم".

وذكر في "تفسيره" (2/ 408) أيضاً أن السُّهيلي نقله في "الروض" (1/ 194)، وقال: "بسندٍ فيه جماعةٌ مجهولون"). 

فقول الشيخ ابن حجر المكي في "شرح الهمزية": "هو حديث صحيح، صححه غير واحد من الحفاظ" مردودٌ عليه، بل كذبٌ صريحٌ، وعيبٌ قبيحٌ، مُسقِطٌ للعدالة، ومُوهِنٌ للرواية؛ لأن السيوطي مع جلالته وكمال إحاطته ومبالغته في رسائل متعددة من تصنيفاته ذكر الاتفاق على ضعف هذا الحديث، فلو كان له طريق واحد صحيح لذكره في معرض الترجيح.

ومن المعلوم أن بعده لم يحُدِّث غير واحد من المحدثين الذين يصح كونهم من المصححين ومن ادعى فعليه البيان في معرض الميدان.

هذا؛ وقد قال الحافظ -ابن دحية -كما نقله العماد ابن كثير عنه: إن هذا الحديث موضوع يردُّه القرآن والإجماع؛ قال الله تعالى: {ولا الذين يموتون وهم كفار} (النساء: 18) انتهى

والمعنى: أنه ثبت كفرهما بما سبق من دلالة الآية السابقة، المنضمة إلى رواية السنة المتقوية بإجماع الأمة، مع قوله تعالى {ولا الذين يموتون وهم كفار} (النساء: 18)، أي: ليست التوبة صحيحة ممن مات وهو كافر؛ لأن المعتبر هو الإيمان الغيبي، لقوله تعالى {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: 85).

والحاصل انه لم يثبت إحياؤهما وإيمانهما. 

والدليل على انتفائهما: عدم استشهارهما عند الصحابة، لا سيما والواقعة في حجة الوداع، والخلق الكثير في خدمته بلا نزاع، مع منافاته للقواعد الشرعية من عدم قبول الإيمان بعد مشاهدة الأحوال الغيبية بالإجماع.

ثم دعوى الخصوصية يحتاج إلى إثبات الأدلة القوية؛ فمن ادَّعى هذا الديوان فعليه البيان.

* وأما الاستدلال بالقدرة الإلهية وقابلية الخصوصية للحضرة النبوية:

 فأمرٌ لا ينكره أحد من أهل الملة الحنيفية، وإنما الكلام في إثبات هذا المرام بالأدلة على وجه النظام، لا بالاحتمال، الذي لا يصلح للاستدلال، خصوصاً في معارضة نصوص الأقوال.

وأما قول القرطبي (في التذكرة، ص 25): "فليس إحياؤهم يمتنع عقلاً ولا شرعاً"، فلا شبهة في إمكانه أصلاً وفرعاً، وإنما الكلام في ثبوته أولاً ونفيه ثانياً.

قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (2/ 408) متعقباً القرطبي في قوله السابق: "قلتُ: وهذا كله متوقِّفٌ على صحة الحديث، فإذا صحَّ؛ فلا مانع منه، والله أعلم".

قلتُ (مشهور): وأنَّى له أن يصح!! وقد علمت أقوال الحُفّاظ والعلماء فيه!!.

وبهذا يندفع ما أورده السهيلي في "الروض الأنف" (1/ 194) بسند فيه جماعة مجهولون: (إن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به). ثم قال بعد إيراده: "الله قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهلٌ أن يخصَّه بما شاء من فضله، وأن ينعم بما شاء من كرامته".

قلتُ: ولو صحَّ هذا الإحياء؛ لأظهره صلى الله عليه وسلم -على الأعداء، فضلاً عن الأحباء من أكابر الصحابة، ولم يكتف بذكره لعائشة من بين أحبابه.

على أن رواية عائشة رضي الله عنها -لو صحت لانتشر عنها إلى التابعين وغيرهم وشاعت؛ فإنه لو صح إحياء أبويه وإيمانهما؛ لكان من أظهر معجزاته، وأكبر كراماته صلى الله عليه وسلم.

فتبين من هذا أن هذا من موضوعات الرفضة، وإنما نسبوا الحديث إلى عائشة تبعيداً عن الظن بوضعهم، وتأكيداً للقضية في ثقة إثباتهم.

وأغرب القرطبي حيث قال (في التذكرة، ص 24): "لا تعارض بين حديث الإحياء وحديث النهي عن الاستغفار لهما، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها -أن ذلك كان في حجة الوداع، ولذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذكر من الأخبار" انتهى

ولا يخفى وجه الغرابة؛ فإن الحديث إذا كان ضعيفاً باتفاق المحدثين، وموضوعاً عند المحققين، ومخالفاً للكتاب عند المفسرين؛ كيف يصلح أن يكون معارضاً لحديث مسلم في "الصحيح" ومناقضاً لما سبق، مما كاد أن يكون متواتراً في التصريح.

أو كيف يمكن أن يكون ناسخاً، والنسخُ لا يجوز في الأخبار عند علماء الأعلام وإنما هو من مختصات الإنشاء والأحكام، وإلا فيلزم الخُلف في أخباره، ويتوجه البداء في آثاره وهو متعال عن ذلك علوا كبيراً.

-ومنها قول السيوطي إنهما ماتا قبل البعثة وإنهما كانا من أصحاب الفترة

(ذكر السيوطي هذا في جُل رسائله التي أفردها في هذا الموضوع. انظر -على سبيل المثال -"مسالك الحُنفا" (11)، و"الدرج المنيعة" (88)، و"المقاصد السندسية" (117 -118)، و"التعظيم والمنة" (167)، و"النُّبُل الجليَّة" (225)).
وهذا كما لا يخفى معارضة لما ثبت في الكتاب والسنة، ومناقضةٌ لما صُرِّحَ بإشراكهما فيما سبق من صاحب النبوَّة، فما ذكره من تطويل البحث وتكثير الأدلة غير مفيد له في هذه القضية، مع ظهور التناقض في كلامه لتحصيل مرامه؛ فإنهما لو كانا من أهل الفترة لما احتاج إلى الإحياء والإيمان بالنبوة بناءً على أنهما من أهل النجاة في الفطرة.

ثم هذه المسألة فيها خلاف المعتزلة وأكثر أهل السنة؛ حتى قال بعض المحققين: "لا يوجد صاحب الفترة إلا من ولد في مفازة خالية عن سماع بعثة صاحب النبوة بالكلية، على خلافٍ في أنه: هل هو مكلف بالعقل توحيد الرب وشكر نعمته ووجوب النظر في صنعته أم لا ؟

ومما يتفرع عليه ما ذكره البغوي في "التهذيب": 

"أما من لم تبلغه الدعوة فلا يجوز قتله قبل أن يُدعى إلى الإسلام؛ فإن قتل قبل أن يدعى إلى الإسلام وجب في قتله الدية والكفارة، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجب الضمان بقتله".

وقال الغزالي في "البسيط":

"من لم تبلغه الدعوة يضمن بالدية والكفارة لا بالقصاص على الصحيح؛ لأنه ليس مسلماً على التحقيق، وإنما هو في معنى المسلم، قال ابن الرفعة في "الكفاية": لأنه مولود على الفترة ولم يظهر منه عناد" انتهى (ذكر هذه النقول السيوطي في "مسالك الحنفا" (ص 20)).

ولا يخفى ما فيه من الدلالة على أن أهل الفترة هو الذي يكون على أصل الفطرة من التوحيد، ولم يظهر منه من الكفر ما ينافي التفريد، كما يدل عليه قوله سبحانه {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم: 20).

وكما ورد في حديث: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث (متفق عليه).

وفيه دليل: على أن كل مولود في حال عقله وكمال حالة إذا خُلِّيَ هو من طبعه: اختار التوحيد لله في الذات، والتفريد له في الصفات، كما يدل عليه قصة الميثاق الذي وقع عليه الاتفاق، على ما هو مقرر في محله الأليق.

ولهذا قال الإمام فخر الدين (الرازي):

"من مات مشركاً؛ فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة.

ولم يزل معلوماً من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه في النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متدوالة بين الأمم قرناً بعد قرن؛ فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت وحين.

ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبية، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها.

فالمشركُ مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل، وهو مخلد فيها دائماً كخلود أهل الجنة في الجنة" انتهى.

ولا يخفى أن ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حق بعض أرباب الفترة من التعذيب يدلُّ دلالةً صريحة للرد على ما عليه بعض الشافعية من أن أهل الفترة لا يعذبون مطلقا قال: "وأصله أنه عندهم محجوح عليه بعقله، وعندنا هو غير محجوج عليه قبل بلوغ الدعوة إليه:

- ومنها قول السيوطي: "إنه ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم يمتحنون يوم القيامة بأن ترفع لهم نار فيقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمتنع من دخولها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول تبارك وتعالى إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب".

(وهذا الحديث صحيح… انظر ص 94 -96).

ولا يخفى أن هذا على تقدير صحته وقوته لمعارضة مخالفته، وإنما يكون فيمن مات من أهل الفترة، ولم يعلم حاله من إحداث الشرك أو التوحيد على الفطرة.

وأما من ثبت كفره بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة؛ فلا وجه لإدخاله في أصحاب الامتحان للطاعة؛ كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وغيرهما ممن ثبت توحيدهما ولا نحو صاحب المحجن وغيره ممن ثبت شركهما.

- وأغرب من هذا أنه استدل بقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في بعض كتبه: "الظن بآله صلى الله تعالى عليه وسلم يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له صلى الله عليه وسلم لتقر بهم عينه" انتهى

ووجه الغرابة أن هذه القضية بالطريقة الظنية في أهل الفترة الحقيقية المبهمية لا تفيد في المسألة العينية.

- وكذا من العجيب ما نسب إلى العسقلاني في قوله: "ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخل طائعا فينجو إلا ابا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن وثبت في الصحيح أنه في ضحضاح من نار" انتهى

(قال الشيخ مشهور: عبارة الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (4/ 118): بعد أن قرَّر أن أبا طالب مات على ملة أبيه عبد المطلب؛ قال: "ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعا فينجو، لكن ورد في أبي طالب ما يدفع ذلك، وهو ما تقدم من آية براءة، وما ورد في الصحيح… " وساق حديثه، ثم قال:

"فهذا شأن من مات على الكفر، فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلاً، والأحاديث الصحيحة، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك").

ولا يخفى أن إدخال عبد المطلب في القصة خارج عن الصحة؛ لما ورد في صحيح "البخاري ومسلم" وغيرهما:

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قائلين أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب: آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فنزل {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56)".

فهذا يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك بلا شك.

ومما يقويه ويؤكده: ما في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها -وقد عزت قوماً من الأنصار عن ميتهم -لعلك بلغت معهم الكدى؛ فقال: لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك". (وهو حديثٌ ضعيفٌ منكر، انظر هامش، ص 100).

وقد أخرجه أبو داود أيضاً، إلا أنه لم يذكر فيه حتى يراها جد أبيك.

وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكبر على مرتكب المعصية ولو كان صاحبها من أعلى أهل بيت النبوة.

- وأما ما ورد (في المتفق عليه) في قوله:

(أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب)

فمحمولٌ على أنه ليس من باب الافتخار في الانتساب بالأباء الكفار، بل لإظهار الجلادة والشجاعة والاشتهار كما بينته في "شرح الشمائل للترمذي".

-وأما ما حكاه ابن سيد الناس: أن الله أحياه بعد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، ثم مات؛ فهو مردودٌ؛ لأنه لا دليل عليه من حديث ضعيف ولا غيره، وإنما حكوه عن بعض الشيعة وخلافهم غير معتبر عند أهل السنة.

وكذا قول القرطبي (في التذكرة، ص 24) على ما ذكره العماد ابن كثير عنه في تفسيره: "إن الله أحيا أبا طالب حتى آمن" باطل موضوع بإجماع أهل الحديث ومخالف لمذهب الحق.

على أنه سبق أنه لا ينفع الإيمان بعد العيان بل أقول لا يتصور هذا البيان إذ قال الله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام: 28) ولا خلف في إخباره سبحانه

- ومنها قول السيوطي: وإن ابن جرير ذكر في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5)، قال: من رضى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار.

وفيه أن هذا قول صحابي من قبل رأيه.

وعلى تسليم صحته ودلالته فأهل بيته لا يتناول أقاربه المتقدمين من الكفار بالإجماع.

نعم، يفيد أن من كان نسبه ثابتاً إلى صاحب النبوة يُرجى له حسن الخاتمة وحصول الشفاعة، أو توفيق التوبة عن المعصية إذا كان من أهل الملة؛ 

لما أخرجه أبو سعيد في "شرف النبوة" والملا في "السيرة"، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي فأعطاني ذلك" (حديث موضوع، انظر ص 104).

على أنه يمكن أن يقال المراد بالنفي دخول الآباء؛ فيكون بشارة إلى موت أهل البيت على الإسلام ودخولهم دار السلام ولو كان بعد مضي الأيام.

وأما ما أخرج تمام الرازي في "فوائده" بسند ضعيف، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية أي بالرضاعة" كما في رواية.

فهو حجة لنا لا علينا لإدراجه أبويه مع عمه أبي طالب المجمع على كفره؛ فالحديث إن ثبت فهو محمول على ما ورد في الصحيح من تخفيف العذاب عنهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم.

- ثم أغرب السيوطي في قوله: "ومما يرشح ما نحن فيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، قال: "سألت ربي أبناء العشرين من أمتي فوهبهم لي" (إسناده واهٍ، انظر ص 105).

ثم قال: "ومما ينضم إلى ذلك -وإن لم يكن صريحاً في الحق -ما أخرجه الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "أول من أشفع يوم القيامة أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب" الحديث (وهو حديث موضوع، انظر ص 106).

فذكر هذا وأمثاله مما لا يناسب حاله إذ الكلام ليس في أهل بيته من أهل الإسلام.

وكذا قال النووي في شرح مسلم عند حديث "إن أبي وأباك في النار"، فيه: "وإن من مات كافراً فهو في النار لا تنفعه قرابة الأقربين، وتعقبه السهيلي (في الروض الأنف: 1/ 194) بما ظاهره من البطلان البديهي"، وهو قوله: 

"ليس لنا أن نقول ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، وقال تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله} (الأحزاب: 57)، ولعله يصح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم: سأل الله سبحانه فأحيى له أبويه ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا ولا يعجز الله سبحانه شيئاً".

ثم أورد قول النووي: "إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل" انتهى

وهو في غاية من البهاء كشمس الضحى وبدر الدجى لكن مع هذا تعقبه بما هو كالهباء في الهواء من المناقشة في العبارة على توهم المناقضة بين كلام النووي معترضا عليه بقوله:

"إن من بلغته الدعوة لا يكون من أهل الفترة"

ورَفْعُهُ -أي التعارض والتناقض -سهلٌ؛ فإن مراد النووي من أهل الفترة من كان قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم المعبر بالجاهلية.

- ومنها قول السيوطي: "إنهما لم يثبت شرك عنهما بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه الصلاة والسلام".

قلتُ: وهذا يعارضه ما صح في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام كما سبق عليه الكلام.

وهذا المسلك ذهبت إليه طائفة منهم الإمام فخر الدين الرازي؛ فقال في كتابه "أسرار التنزيل" ما نصه: "قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء عليهم السلام ما كانوا كفارا، ويدل عليه وجوه منها قوله تعالى {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 218 -219)، قيل: معناه أنه كان ينقل نوره من ساجد إلى ساجد فبهذا التصدير.

فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من الكافرين إنما ذاك عمه.

أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 119) على وجوه أخرى. 

وإذا وردت الرواية بالكل ولا منافاة بينهما وجب حمل الآية على الكل، ومتى صحَّ ذلك ثبت أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من عبدة الأوثان.

ثم قال: "ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين قوله صلى الله عليه وسلم: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات"  (عزاه السيوطي في "الدرج المنيفة" (95) إلى أبي نُعيم) وقال تعالى {إنما المشركون نجس} (التوبة: 28) فوجب أن لا يكون من أجداده مشركاً!!

قال السيوطي:

هذا كلام الإمام فخر الدين بحروفه وناهيك به إمامة وجلالة؛ فهو … الناصر لمذاهب الأشاعرة في عصره … انتهى

ولا يخفى مع معارضة كلامه لما سبق من الكتاب والسنة واتفاق الأئمة وما هو صريح في "صحيح مسلم" من كلام صاحب النبوة أنه قال تعالى في كلامه القديم ما يدل على كفر أبي إبراهيم. 

والأصل في حمل الكلام على الحقيقة ولا يعدل عنه إلى المجاز إلا حال الضرورة عند دليل صريح ونقل صحيح يضطر منه إلى ارتكاب المجاز؛ فبمجرد قول إخباري تاريخي يهودي أو نصراني كما عبر عنه بـ: قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام بل كان عمه كيف يعدل عن آيات مصرحة فيها إثبات الأبوة؟!

منها قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} (الأنعام: 74).

وهو عطف بيان أو بدل بناء على أنه لقب له أو نعت بلسانهم ونحو ذلك.

ومنها قوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} (التوبة: 113 -114) وفي قراءة شاذة (أباه)

ومنها: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {يا أبت} مكرراً (سورة مريم، الآيات: 42 -45).

ومنها قوله تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} (الممتحنة: 4).

وأقول زيادة على ذلك وهو أنه -صلى الله عليه وسلم -كان مُبَيِّناً للكتاب وممهداً الطريق الصواب؛ فلو كان المراد بأبي إبراهيم عمه لبينه، ولو في حديث للأصحاب ليحملوا الأب على عمه بطريق المجاز في هذا الباب.

ثم دعوة أن آباء الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا كفاراً: تحتاج إلى برهان واضح ودليل لائح.

فاستدلاله بقوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 219) بناء على قيل في غاية من السقوط كما يعلم من قول سائر المفسرين في الآية.

فقد ذكر البيضاوي (4/ 111) وغيره -في تفاسيرهم -أن معنى الآية وترددك في تصفح أحوال المتهجدين؛ كما روي: "أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى".

ونقل الإمام أبو حيان في "البحر المحيط" (7/ 47) عند تفسير قوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 219) أن الرافضة هم القائلون إن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} وبقوله عليه الصلاة والسلام لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين الحديث.

الرد على ابن حجر المكي

-وأما قول ابن حجر المكي: فلك رد قول أبي حيان بأن مثله إنما يرجع إليه في علم النحو وما يتعلق به. فظاهر البطلان للإجماع على قبول شهادة النحويين وروايتهم عن المحدثين إذا لم يكن فيه ضعف في الدين.

كيف وله ثلاثة من التفاسير وله في السير كتاب كبير مع أن الشيعة بأجمعهم مقرون بأن هذا قاعدة مذهبهم ؟

وله أن يعارضها ويقول -وأنت فقيه صرف -لم تعرف إلا رؤوس المسائل الفقهية المتعلقة بالخصومات العرفية.

وبهذا يظهر أيضاً بطلان قول ابن حجر، وأما من أخذه كالبيضاوي وغيره فقد تساهل واستروح انتهى

فكيف يصح قول الراوي: إن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين مع حديث مسلم وإجماع جمهور المسلمين!!

- ثم أغرب في قوله: وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من الكافرين انتهى

ولا يخفى أنه لم يثبت به الظن فضلاً عن القطع بل إنما هو في مرتبة الشك أو الوهم.

ثم الاستدلال على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" إلى آخر ما ذكره مردود عليه بما أشرنا إليه، 

وبأن المراد بالحديث ما ورد من طرق متعددة:

منها: ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه:

"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بين أبوين فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم عليه السلام حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا أي روحا وذاتا وخيركم أبا أي نسبا وحسبة" (ضعيف، انظر ص 114 -115).

ومنها: ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً:

"لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل الله عز وجل يتقلبني من الأصلاب الطيبة والأرحام الطاهرة صافيا مهذبا لا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما".

ومنها: ما أورده البيهقي في "سننه":

"ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام" (حديث حسن، انظر ص 115 -118).

- وأما ما ذكر ابن حجر المكي تبعا للسيوطي من أن الأحاديث مصرحة لفظا في أكثره ومعنى في كله أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر؛ لأن الكافر لا يقال في حقه إنه مختار ولا كريم ولا طاهر.

 فمردودٌ عليه؛ إذ ليس في الأحاديث لفظ صريح يشير إليه.

وأما المعنى فكأنه أراد به لفظ المختار والكريم والأطهار وهو لا دلالة فيه على الإيمان أصلاً، وإلا فيلزم منه أن تكون قبيلة قريش كلهم مؤمنين لحديث:

"إن الله اصطفى بني كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة"

ولم يقل به أحد من المسلمين

وكذا حديث: "فاختار منهم العرب".

ولا يصح عموم إيمانهم قطعاً، بل لو استدل بمثل هذا المبنى لزم أن لا يوجد كافر على وجه الأرض لقوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} إلى أن قال {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء: 70).

فتأمل؛ فإنه موضع زلل ومقام خطل واحذر أن تكون ضالا مضلا في الوحل.

- ثم ما أبعد قوله في حديث مسلم "إن أبي وأباك في النار": "وقصد بذلك تطييب خاطر ذلك الرجل خشية أن يرتد إن قرع سمعه أولا أن أباه في النار" انتهى

وهذا -نعوذ بالله -وحاشاه صلى الله عليه وسلم -أن يخبر بغير الواقع ويحكم بكفر والده لأجل تألف واحد يؤمن به او لا يؤمن؛ فهذه زلَّة عظيمة وجرأة جسيمة حفظنا الله عن مثل هذه الجريمة.

عود الرد على السيوطي


- ومنها استدلال السيوطي على إيمان جميع آبائه صلى الله عليه وسلم بما ذكره عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر عن ابن جريح، قال: قال ابن المسيب، قال: علي بن أبي طالب: "لم يزل على وجه الأرض في الدهر سبعة مسلمون فصاعداً، ولولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها". وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!!.

وأطال في ذكر أمثاله من الأخبار والآثار مما ليس له مناسبة في هذا الباب وإنما هو تسويد الكتاب عند من لم يميز بين الخطأ والصواب

- هذا وما أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن ابا ابراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما كان اسمه تارخ!! (وسنده ضعيف، انظر ص 120)

فلا دلالة منه على المدعى؛ لأنا نقول ولو سلم أن اسمه تارخ ولقبه آزر لا يلزم أن أباه لم يكن مشركاً

- وكذا ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بعضها صحيح عن مجاهد قال ليس آزر أبا إبراهيم؟!! (انظر ص 120)

يعني اسمه بل لقبه لما سبق جمعا بين الأدلة، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له اسم أبي إبراهيم آزر فقال: بل اسمه تارخ

يعني ولقبه آزر

وكذا ما أخرجه ابن المنذر -بسند صحيح -عن ابن جريج في قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} (الأنعام: 74).

وليس آزر بأبيه يعني بل لقبه، وإنما هو إبراهيم بن تيرخ أو تارخ بن شاروخ بن ناحور بن فالخ؟!

هذا؛ ولم يذكر أحد من هؤلاء الأعلام أن آزر عم إبراهيم عليه السلام فثبت أن ذلك القيل من القول العليل.

(قال الطبري في "تفسيره" (7/ 244) بعد أن ذكر أن هناك قولين في آزر، هل هو اسم أبي إبراهيم أم لا؟ ما نصُّه: "فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال:"هو اسم أبيه"، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ". وقال ابن كثير في "تفسيره" (2/ 155) مُعقباً على كلام ابن جرير السابق: "وهذا الذي قاله جيِّدٌ قوي").

وقد أخرج ابن أبي حاتم -بسند صحيح -عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له"

وأخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم، قالوا: "كان يرجو إيمانه في حياته؛ فلما مات على شركه تبرأ منه" (كما في مسالك الحنفا، ص 40) وقد قدمنا هذا المبحث مستوعباً.

- ومنها: استدلاله بقوله تعالى {وجعلها كلمة باقية في عقبه} (الزخرف: 28) حيث قال: أخرج عبد بن حميد في "تفسيره" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال "لا إله إلا الله باقية في عقب إبراهيم عليه السلام".

أقول: أي في ذريته، ولا يلزم منه عمومهم، ويكفي وجوده في بعض منهم؛ إذ الإجماع منعقد على أن جميع ذرية إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق عليهم السلام لم يكونوا مؤمنين .

ولهذا قال قتادة رضي الله عنه: "ولا يزال في ذريته من يقولها من بعده".

وفي رواية: "من يوحد الله عز وجل ويعبده".

وقال ابن جريج: "فلم يزل بعد من ذرية إبراهيم عليه السلام من يقول لا إله إلا الله".

- ومنها استدلاله بقوله تعالى {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم: 35)، حيث قال:

أخرج ابن جرير في "تفسيره"، عن مجاهد في هذه الآية، قال: "فاستجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام دعوته في ولده، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته، واستجاب الله له، وجعل هذا البلد آمناً، ورزق أهله من الثمرات، وجعله إماماً، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة" انتهى

ولا يخفى أنه لا يصح حمل ولده على عموم ذريته؛ للإجماع على أن في أولاد إسماعيل وإسحاق كفرة مشركين من العرب واليهود والنصارى، فيجب حمله على أن المراد بولده أولاد صلبه كما هو ظاهر كلامه تعالى حكاية عنه بقوله {وبني}

قال "البغوي": "فإن قيل: قد كان إبراهيم معصوماً عن عبادة الأصنام، فكيف يستقيم السؤال -وقد عبد كثيرٌ من بنيه الأصنام -فإن الإجابة قبل الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام؛ لزيادة العصمة والتثبيت، وإما دعاؤه لبنيه فأراد بنيه من صلبه، ولم يعبد أحد منهم الصنم، وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه" أي ذريته

وبهذا اندفع ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة: "أنه سئل: هل عبد أحدٌ من ولد إسماعيل الأصنام؟ قال: ألا تسمع قوله تعالى {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم: 35)، قيل: فكيف لم يدخل ولده إسحاق وسائر ولد إبراهيم عليه السلام؟ قال: لأنه دعا لأهل هذه البلد أن لا يعبدوا إذا أسكنهم إلا إياه؛ فقال: {اجعل هذا البلد آمنا} (البقر: 126)، ولم يدع لجميع البلدان بذلك؛ فقال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم: 35)، فيه وقد خص أهله، وقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة} (إبراهيم: 37).

قال السيوطي: فانظر إلى هذا الجواب من سفيان بن عيينة وهو أحد الأئمة المجتهدين وهو شيخ إمامنا الشافعي

قلت انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال؛ ليتبين لك حقيقة الحال؛ فإن الإتفاق على أن العرب من نسل إسماعيل عليه السلام -وهم سكان حول البيت الحرام -وكانوا يعبدون الأصنام في جميع الليالي والأيام، وأن الأوثان داخل البيت وخارجه في مكة كانت في غاية من الكثرة، إلى أن غلب عليهم صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فكسرها وأخرجها قائلا {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء: 81) أي مضمحلاً من نفسه، وفي رواية: "في جميع أوقاته"؛ كقوله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88)، وكقول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل (أخرجه البخاري).

قال البيضاوي: 

"{واجنبني وبني} بعِّدنِي وإياهم أن نعبد الأصنام، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه السلام لم يعبدوا الصنم محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار، ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته" انتهى

وبطلانه ظاهر مما قدمناه كما لا يخفى

- ومنها استدلاله بقوله تعالى {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} (إبراهيم: 40).

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: "فلن يزال من ذرية إبراهيم عليه السلام ناس على الفطرة يعبدون الله" (أخرجه ابن المنذر كما في مسالك الحنفا، ص 46).

قلتُ: هذا كلام صحيح، ودلالته على التبعيض صريح.

- وأما ما ورد عن ابن عباس وغيره من أنه: "كان عدنان ومعد وربيعة مضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير" (أخرجه ابن حبيب في "تاريخه"؛ كما في مسالك الحنفا، ص 47، وفي إسناده نظر!).

فلا دلالة فيه على تقدير صحته إلا على أن هؤلاء كانوا على التوحيد،وإنما أشرك أولادهم من بعدهم بخروجهم عن حيز التوفيق والتأييد

- ومنها: أنه قد ثبت عن جماعة كانوا في زمن الجاهلية أنهم تحنفوا وتدينوا بدين إبراهيم عليه السلام وتركوا الشرك؛ فما المانع من أن يكون أبوا النبي صلى الله عليه وسلم سلكوا سبيلهم في ذلك؟!! (مسالك الحنفا: ص 62).

قلتُ: بعدما كان مستدلاً قاطعاً، رجع فصار مانعاً.

وهذا مسلكه أهون من بيت العنكبوت، ولا يصلح أن يُقال مثل هذا إلا في البيوت؛ إذ حديث مسلم يُنادي على خلاف ذلك.

وبقية ما ذكرنا من الدلالات في الآيات والأحاديث يردُّ احتمال خلاف ما هنالك؛ لأن الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي ذكر في "التلقيح" تسميةَ من رَفَضَ عبادة الأصنام في الجاهلية:

"أبو بكر الصديق، زيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش، عثمان بن الحويرث، ورقة بن نوفل، رياب بن البراء الشمني، أمية بن أبي الصلت، أسعد بن كرب الحميري، قس بن ساعدة الإيادي، أبو قيس بن صرمة" انتهى (تلقيح فهوم أهل الأثر، ص 456).

ولو كانا من هذا القبيل لكان ذكرهما أولى في مقام التعليل.

هذا؛ وقد روى ابن إسحاق وأصلحه في "الصحيح" تعليقاً، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت:

"لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم" (أخرجه البخاري في "صحيحه" تعليقاً، دون قوله: اللهم إني لو أعلم، ووصله ابن إسحاق مع الزيادة في "السيرة"، انظر ص 129).

وهذا يدلُّ على ما حررناه، وفيما تقدم قررناه: من أن جميع ذرية إسماعيل عليه السلام لم يثبتوا على دين إبراهيم عليه السلام من التوحيد.

وأخرج أبو نُعيم في "دلائل النبوة" (210 -211)، عن عمرو بن عبسة السلمي، قال: "رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل يعبدون الحجارة"

وأخرج أبو نعيم والبيهقي؛ كلاهما في "الدلائل" من طريق الشعبي، عن شيخ من جهينة: "أن عمير بن حبيب الجهيني ترك الشرك في الجاهلية، وصلى لله تعالى، وعاش حتى أدرك الإسلام" (إسناده ضعيف، انظر ص 129 -130).

هذا؛ وقد أظهر السيوطي مجادلته مع كلٍّ من الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي في عدولهم من الحديث الصحيح، لما قام عندهم من الدليل الصريح الصارف عن العمل بذلك الحديث والأخذ به، مع أن أدلة كل من المذاهب مذكورة في مؤلفاتهم ومسطورة في مطولاتهم، وليس في قواعدهم أن يتركوا الحديث الصحيح ويأخذوا بالحديث الضعيف في مقام الترجيح.

 على أن الشافعي، قال: "إذا صح الحديث فاتركوا قولي" (ص 130).

نصب ميدان جدلي مع السيوطي رحمه الله تعالى

ثم أقول له بطريق المجادلة -على أسلوب الجدل: هل يعارض حديث مسلم المجمع على صحته الدال على كفر أبويه صلى الله عليه وسلم بحديث إحيائهما وإيمانهما به بعد بعثهما، والحال أنه ضعيف باتفاق المحدثين، بل موضوعٌ باطل لا أصل له عند المحققين، مع أنه مخالف للآيات السابقة والأحاديث اللاحقة ولكلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أكابر هذه الأمة وعلماء أهل السنة والجماعة، وإنما هو على الأصول الباطلة للطائفة الرافضة.

أو نقول: إذا صحَّ الحديث عن الرسول، وتلقته الأمة بالقبول؛ فهل يحل لأحد من أرباب الفضول أن يرد عليه، ويقول: إنهما ماتا في الفترة قبل البعثة أو يمتحنان يوم القيامة؟!!

أفليس هذا معارضة بالتعليل في مقابلة النص من الدليل ما ذكر أرباب الأصول في الحديث والفقه، الجامعون بين المنقول والمعقول: أن الحديث إذا ثبت في "الصحيحين" أو أحدهما، فلا يعارضه حديثٌ غيرهما -ولو صح من طريقهما -وإن كان من بقية صحاح الست ؟!! (يُعترض على تسمية الكتب الستة جميعها بالصحاح، يُنظر: ص 132).

فكيف إذا أخرجه أصحاب الكتب غير المعتبرة من الطرق غير المشهورة، وصرح الحفاظ بضعف طرقه كلها، بل بوضعها. 

والحال أنه لم يقل بهذه الرواية إلا جمعٌ من المقلدين، الذين لم يصلوا إلى مرتبة المجتهدين؛ كابن شاهين، والخطيب البغدادي، والسهيلي، والقرطبي، والمحب الطبري، وابن المنير، وأمثالهم.

وهل يحلُّ لأحدٍ من الحنفية وغيرهم: أن يقلدوا هؤلاء المذكورين، ويتركوا الاقتداء بأئمتهم المعتبرين، مع ظهور أدلة الجمهور من علماء الأمة، لا سيما والمسألة من الاعتقاديات، التي لا بد لها من الأدلة اليقينية لا من الفروع الفقهية التي تغلب مدارها على القواعد الظنية.

انتهى ما تعلق بزبدة كلامه وخلاصة مرامه، وعدلنا عن التعرض لما ذكره من التطويل الذي لا يفيد التعليل في مقام التحصيل، وإنما هو بيان قال وقيل والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

وبهذا يتبين أنه كحاطب ليل، وخاطب ويل، فتارة يقول إنهما مؤمنان من أصلهما فإنهما من أهل الفترة، أو لكونهما من آباء أرباب النبوة، وأخرى يقول إنهما كانا كافرين لكنهما أحياهما الله وآمنا، ومرة يقول ما كانا مؤمنين وما كانا كافرين، بل كانا في مرتبة المجانين جاهلين فيمتحنان يوم القيامة وبالظن يحكم أنهما ناجيان.

فانظر إلى هذه المعارضات الواضحة، والمناقضات اللائحة؛ فهل تثبت المسائل الاعتقادية بأمثال هذه الاحتمالات العقلية.

فدلت تصانيفه -يعني السيوطي -في هذه القضية بأنه أقل العطارين بالنسبة إلى إمام الحكماء المعتبرين؛ فإنه -رحمه الله -أعلم علماء الشافعية في زمانه وتفوق على جميع أقرانه، وأنا الفقير الحقير من أقل علماء الحنفية بيَّنتُ خطأه بما أخذته غالباً من الكتب التفسيرية والحديثية ولكن ذلك الفضل من الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفيه الدلالة: على أن باب الفيض مفتوح على هذه الأمة، وأنه لا بد في الوجود من يكشف الغمة، مما اختلفت فيه الأئمة، ويميز بين الحق والباطل، ويبين المزين من العاطل.

الرد على القائلين بأن ابا إبراهيم عليه السلام لم يكن كافراً

ثم اعلم أن ما اختاره الفخر الرازي، وتبعه السيوطي: في أن أبا إبراهيم عليه السلام لم يكن كافراً: فساد عظيم في الدين، وتشكيكٌ لعقيدة أرباب اليقين.

وإن كان كل واحد منهما يدعي أنه من المجددين، بل يصح أن يُقال: إنهما من المُحدِثِين؛ لما ورد أنه "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" من بين المجتهدين.

وبيانه أن المسلمين من أهل الشرق والغرب أجمعين. يقرؤون القرآن العظيم. ويتلون الفرقان الكريم؛ فإذا رأوا فيه نصاً على انتساب الكفر إلى أبي إبراهيم عليه التحية والتسليم.

 فهم يؤمنون ويعتقدون ذلك؛ حيثُ لم يكن صارف عن حمله على الحقيقة هنالك، ولا يدرون أن إخبارياً يهودياً أو نصرانياً ذكر أن المراد بأبيه عمه، قاصداً بذلك الطعن في دين النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب ربه.

فهل يحكم ببطلان هذا القول الذي هو مخالف لظاهر الكتاب، ومعارضٌ لما قدمناه في هذا الباب؟!

أو بحكم بفساد اعتقاد جميع المسلمين من أهل البر والبحر أجمعين، إلا من اعتقد اعتقاد الرازي والسيوطي مع أنهما قبل وصول هذا القول الباطل إليهما لم يكونا شاكين في أن ابا إبراهيم عليه السلام ما كان على الدين القويم والطريق المستقيم؟!

فلما حققا ذلك، وصنفا بيان ما هنالك، رجعا عن اعتقادهما الباطل على زعمهما إلى الاعتقاد الحق عندهما، حتى قلدهما "ابن حجر المكي"، وبالغ حتى قال: "وهذا هو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال".

والله سبحانه يصلح الأحوال.

- ثم انظر إلى ما قاله السيوطي من "الاستدلال السقوطي"، وهو أنه قد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقاً شائعاً، وإن كان مجازاً؛

ففي التنزيل {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} (البقرة: 133)، صلى الله عليهم.

فأطلق على إسماعيل "لفظ الأب" وهو عم يعقوب عليه السلام، كما أطلق على إبراهيم عليه السلام وهو جده. أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يقول الجد أب ويتلو {نعبد إلهك وإله آبائك} الآية. وأخرج عن أبي العالية في قوله تعالى: {وإله آبائك إبراهيم} عليهما السلام قال: "سمى العمَّ اباً". وأخرج عن محمد بن كعب القرظي، قال: "الخال والد والعم والد" وتلا هذه الآية؛ فهذه أقوال السلف من الصحابة والتابعين في ذلك (الآثار أخرجها ابن أبي حاتم، في "الدر المنثور" (1/ 139))

قلتُ: هذه طنطنةٌ مضريَّة، ليس تحتها فائدة قوية، إذ نفس الآية الشريفة يستفاد منها عند كل عاقل للإنباء، أنه لا يصح إطلاق جمع الآباء حقيقة بالنسبة إلى واحد من الأبناء، لا شرعاً، ولا عرفاً على عموم الجزاء.

بأن يقال المراد بالآباء الأسلاف كما قاله الأئمة الحنفية أو على استعمال اللفظ بالاشتراك بين الحقيقة والمجاز كما اختاره الشافعية

فإذا عرفتَ ذلك فهل ترى أن تكون هذه الآية نظير الآيات الدالة على أن المراد بأبي إبراهيم أبوه حقيقة، ولا يصح أنه أراد عمَّه مجازاً؛ حيث لا دليل من جهة العقل الصريح، ولا من طريقة النقل الصحيح ما يصلح أن يكون مانعاً من إرادة الحقيقة وباعثاً على قصد المجاز.

الرد على رسالة لابن كمال الباشا في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم

ثم رأيتُ رسالةً في هذه المسألة؛ لابن كمال باشا -انظر، ص 137 -فيها ما لا ينبغي من الأشياء:

- منها: قوله: "وإن السلف اختلفوا، والحال أنه لا يصح الخلف إلا في الخلف".

- ومنها: نقله عن الحافظ ابن دحية ما قدمناه أنه قال: "فمن مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة فكيف بعد الإعادة" (ص 94).

وتعقَّبَه بأنه مدفوع بما ورد من: "أن أصحاب الكهف يُبعثون في آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفاً لهم بذلك" أخرجه ابن عساكر في "تاريخه".

وأخرجه ابن مردويه في "تفسيره" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "أصحاب الكهف أعوان المهدي" انتهى (انظر: نشر العلمين المنيفين" للسيوطي، والحديث غير صحيح).

ولا يخفى بطلان هذا التعقب؛ لأن أصحاب الكهف ماتوا مؤمنين بإجماع المسلمين، وإنما الكلام في قبول توبة الأموات من المشركين.

- ثم قال: "ولا بدع أن يكون الله كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم عمراً، ثم قبضهما قبل استيفائه، ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية، وآمنا فيها فيعتد به" انتهى (وهذا نصُّ عبارة السيوطي من العلمين المنيفين، ص 214).

ولا يخفى أن البحث ليس في إمكان القدرة؛ لأنها قابلة للطرفين وشاملة للصنفين، وإنما الكلام في صحة وقوع أي الشقين.

- ثم قال: وأما قوله -يعني ابن دحية -: "بل لو آمن عند المعاينة، فكيف بعد الإعادة"؛ فمردودٌ، بأن الإيمان عند المعاينة إيمانُ بأس، فلا يُقبل بخلاف الإيمان بعد الإعادة. وقد دل على هذا قوله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28).

اقولُ: الكمال لله، وإلا فمثل هذا الفاضل في مقام الأقصى كيف يغفل عن البرهان الأولى؛ فإن الإيمان إذا لم يقبل عند مشاهدة بعض أحوال الآخرة الذي هو عين اليقين، فكيف يقبل بعد خروجه من الدنيا، وتحققه بأمور العقبى، الذي يسمى حق اليقين. 

على أن المطلوب من العبد أن يؤمن بالغيب، الذي هو علم اليقين، مع أن الله تعالى نص على الحالتين بقوله: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} وهو حال الغرغرة (ولا الذين يموتون وهم كفار} (النساء: 18) وهو بعد الإعادة.

- ثم من أعجب العجائب وأغرب الغرائب قوله: "ويبتني على هذا قوله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} فإنه دل عليه صحيحاً".

لكن على رّدِّه صريحا لأنهم إذا عادوا لما نهوا عنه من الكفر والمعصية؛ فلا يتصور منهم وجود الإيمان مع الطاعة.

- وأما ما ذكره ابن الكمال -تبعاً للسيوطي -من أنه سئل القاضي أبو بكر بن العربي -أحد المالكية: عن رجل قال إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؛ فأجاب بأنه ملعون؛ لأن الله تعالى يقول {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} (الأحزاب: 57).

 قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه "إنه في النار" محمول على من قصد أذى النبي عليه الصلاة والسلام بإطلاق هذا الكلام؛ فإنه ملعون، بل كافرٌ مطعون، وأما من أخبره لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، واعتقده كأبي حنيفة وغيره من علماء الأعلام؛ فحاشاهم من نسبة الطعن إليهم، ويحرم اللعن عليهم!!.

ثم نقله -تبعاً له -عن السهيلي (الروض الأنف: 1/ 194): "ليس لنا أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم لقوله عليه السلام: لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات" كما رواه الطبراني. فدفعه ظاهر على من عنده علم باهر وعقل قاهر؟!.

ثم قال ابن الكمال: "وبالجملة هذه المسألة ليست من الاعتقاديات؛ فلا حظ للقلب منها، وأما اللسان فحقه أن يُصان عما يتبادر على دفعه وتداركه".

قلتُ: ما ثبت بالكتاب والسنة يجب اعتقاده مجملاً ومفصلاً.

نعم، لو لم يخطر ببال مؤمن هذا المبحث لا نفياً ولا إثباتاً، لا يضره ككثير من المسائل المذكورة في كتب العقائد المسطورة.

ثم هذه المسألة لو لم تكن في الجملة من المسائل الإعتقادية؛ لما ذكرها الإمام المعظم المعتبر في ختم فقه الأكبر، وكان هذا من علامة ولايته رضي الله عنه حيث كوشف له هذا المعنى أن يقع الاختلاف في هذا المبنى.

ثم؛ لا عبرة بالعوام ...في عقائدهم الفاسدة، … وإنما المراد المراد على كلام الخواص من العلماء الأعلام الذين هم قدوة أهل الإسلام.

تقليد بعض مجتهدي الحنفية للسيوطي 

ومخالفته عقيدة الإمام الأعظم أبا حنيفة

ثم من الوقائع الغريبة في الأزمنة القريبة أن بعض علماء الحنفية مع انه بلغ الغاية القصوى في مرتبة الفتوى أفتى تبعا للسيوطي وجمع من الشافعية -مع اطلاعه على عقيدة إمام الملة الحنيفية -حيث قال:

"المشهور عند العلماء ما ذكره الإمام الأعظم ولم يرجع عنه غير أن العلامة السيوطي أخرج بسنده حديثاً يصلح التمسك به مضمونه أن الله أحيى أبويه فآمنا به!!.

ثم قال في آخره: وهو الذي نعتقده وندين الله به؟!

ثم إنه تعارض حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأمكن الجمع بينهما بأنه مُنِعَ من الاستغفار أولاً -وهو مضمون حديث ابن مسعود -ثم أُذِنَ له ثانياً -وهو مضمون حديث ابن عباس -الذي أخذ به الجلال السيوطي انتهى ملخصاً.

قلتُ: وأنت عرفت أن الحديث الأول الذي تمسك به السيوطي ليس بإسناده ولا يصح بالاتفاق بل هو ضعيف كما اعترف به السيوطي أو موضوع كما صرح به غيره.

وأما ما نسبه إلى ابن عباس فلا أصل له لا عند السيوطي ولا عند غيره والله أعلم. وكان الواجب عليه حيث لا دليل قدامه: أن يقتفي إمامه ولا يعتدي أمامه تصديقاً.

هذا القول لا يُعدُّ طعناً في النسب الشَّريف

- ثم قال ابن الكمال: "لا خفاء في أن إثبات الشرك في أبويه إضلال ظاهر بشرف نسبه الطهر".

قلتُ: هذا القول ليس له دخل في نسبه الطاهر، بل إثبات لما أثبته عليه الصلاة والسلام بنفسه الطاهر.

نعم؛ من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قُتِلَ مسلماً كان أو كافراً -كما قاله الإمام موفق الدين بن قدامة الحنبلي في "المقنع"، ونقله عنه السيوطي.

وإنما خُصَّت الأم بالذكر؛ لثبوت أحاديث دلت على أنه صلى الله عليه وسلم ولد عن أمه نكاحاً غير سفاح؛ فإنكار ما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم كفرٌ؛ فلا يرد أن حكم القاذف الحد المعروف.

ثم قوله: "كافراً" فيه بحث من جهة إطلاقه؛ لأن الحربي لا كلام فيه، والمستأمن لا يجوز قتله، والذمي ظاهره القتل؛ لأن له ما لنا وعليه ما علينا، إلا ما خص بدليل.

- وأما ما ذكره الكردي في "المناقب" (يعني مناقب أبي حنيفة، ص 157) من أنه من مات على الكفر أُبِيحَ لعنُه، إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لثبوت أن الله تعالى أحياهما له حتى آمنا به.

 ففيه ما سبق من التنبيه أنه أثبت كفر والديه، ومنع لعنهما بشبهة الحديث المذكور، ولو لم يصح نقلاً ولا شرعاً، غايته أنه يجوز عقلاً فلا شك أن الأحوط لصاحب الدين أن لا يلعن أحداً فإن الاشتغال بذكر المَولى في كل حال هو الأولى.

ثم ظهر لي وجه آخر في منع اللعن وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات".

فعلى هذا: لا يجوز لعن والدي عمر رضي الله عنه، ولا آباء الصحابة، ولا آباء بقية المسلمين؛ إذ لا فائدة في اللعن.

وقد تتفرع عليه الطُعُن، وينجر إلى الفساد فيما بين العباد على الخصوص، بالنسبة إلى والديه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أب للأمة، وله كمال في الحرمة، ولولا النفي المتضمن لمْنعِنَا من الاستغفار لهما ولأمثالهما في الآية لكُنَّا دعونا لهما بالمغفرة.

فلا يُناسب: أن ندعو عليهما باللعن والطرد من الرحمة، بل ربما يجوز لنا أن ندعو لهما بتخفيف العذاب عنهما، ونُسَلِّمَ الأمر إلى خالقهما -فيما قضى عليهما {وكان أمر الله قدرا مقدورا} (الأحزاب: 38) و {كان ذلك في الكتاب مسطورا} (الإسراء: 58).

وهذه مسألة تحيرت فيها العقول واضطربت فيها النقول، وليس لأحدٍ الوصول إلى حقيقة هذا المحصول إلا أن يقول كما قال تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23).

شُبهةٌ وردُّها

ثم من الواقعة الغريبة في الحال القريبة أن الفاضل العصامي مفتي مذهب الشافعي: أنكر على الحنفية في قولهم: "إن ذا أبٌ مسلم لا يكون كفواً لمن لم يكن له أبٌ مُسلِمٌ" معترضاً: بأنه يلزم منه أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم كفواً لعائشة رضي الله عنها؟!!

وإنما نشأ هذا منه بناء على جهله بالقواعد الحنفية؛ فإنهم قالوا: "قريش بعضهم كفواً لبعض، والعرب كذلك".

وإنما اعتبروا إيمان الآباء فيما عدا العرب من الأعجام والأروام وسائر الأنام في مسألة الأكفاء.

الحكمة من موت أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم على الكفر

هذا؛ وفيه بيان لكمال قدرته في خلقه وأمره، وتبيان لسر قضائه وقدره، ورد على الحكماء والفلاسفة والطبيعية في بناء أمر النبوة والمعرفة على الأمور النسبية، والأحوال الكسبية، لا على المواهب الإلهية السبحانية، والجذبات الربانية الصمدانية، كما أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى في رد ذلك المبنى، بقوله {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} (يونس: 31).

فأخرج الله سبحانه المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ كابن نوح عليه السلام فإنه كافر بإجماع أئمة الإسلام، وكقابيل قاتل هابيل من بني آدم عليه السلام فإنه كافر باتفاق علماء الأعلام.

ولما رأى عليه السلام عكرمة بن أبي جهل بعد الإسلام قرأ {يخرج الحي من الميت}، وفي هذا بيان عظيم إلى أن الإيمان إنعام جسيم لا يصل إليه إلا نبي أو ولي كريم ممن سبقت لهم الحسنى بالوصول إلى المقام الأسنى.